ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

النجس لملاقاة الماء الطاهر ، بل هو من جهة دلالة الشرع عليه بأنحائها المختلفة من الصراحة والظهور ، منطوقا ومفهوما وسياقا ونحو ذلك ، وعليه يكون ذلك هو الباعث على الأولويّة ، وليس مثله موجودا في جانب العكس ؛ لاعتراف الخصم بأنّ كلّ ما فيه من الأخبار لا يكون إلّا عمومات أو مطلقات ، ولا ريب أنّ الاولى قابلة للتخصيص والثانية للتقييد.

وأمّا ما في العلاوة الاخرى : من أنّ الله تعالى جعل الماء مزيلا للنجاسة ، إن اريد به ما هو الحال في غسل الثياب وغيرها من المتنجّسات القابلة للتطهير ، ففيه : أنّه حكم خاصّ تعبّدي أثبته الدليل في مورده الخاصّ به فلا يقاس عليه غيره ، ما لم يكن هناك مناط معلوم أو أولويّة قطعيّة أو عرفيّة ، وإن اريد به ما يكون كذلك مطلقا حتّى بالقياس إلى المتنازع فيه فهو أوّل المسألة كما لا يخفى ، فيكون التعويل عليه مصادرة بيّنة.

وعن المحدّث الكاشاني الذاهب إلى عدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة الاحتجاج بوجوه :

أوّلها : ما رواه السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الماء يطهّر ولا يطهّر » (١).

حيث قال ـ في الوافي في شرح الحديث ـ : « إنّما لا يطهّر لأنّه إن غلب على النجاسة حتّى استهلكت فيه طهّرها ولم ينجّس حتّى يحتاج إلى التطهير ، وإن غلبت عليه النجاسة حتّى استهلك فيها صار في حكم تلك النجاسة ولم يقبل التطهير إلّا بالاستهلاك في الماء الطاهر ، وحينئذ لم يبق منه شي‌ء » (٢) انتهى.

ومحصّل الاحتجاج : أنّ النفي في السالبة إنّما هو من جهة انتفاء الموضوع ، وذلك من جهة أنّ الماء إمّا يستهلك فلا ماء ، أو يوجب الاستهلاك فلا ينجّس ، فليس له حالة يكون فيها باقيا على صدق اسم المائيّة عليه وهو نجس ، حتّى يحتاج إلى تطهير يصدق عليه أنّه تطهير للماء ، وهذا المعنى ممّا يستفاد من النفي فيكون دليلا على أنّ الماء بما هو ماء لا ينجّس.

وفيه : مع تطرّق القدح في السند كما لا يخفى ، منع دلالته على ما ذكر ، كيف وأنّه

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٥ ـ ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ ٦ ـ الكافي ٣ : ١ / ١ ـ التهذيب ١ : ٢١٥ / ٦١٨ ـ المحاسن : ٥٧ / ٤.

(٢) الوافي ٦ : ١٨.

٢٠١

يفضي إلى إنكار تنجّسه بالتغيّر أيضا ، ودعوى : أنّ التغيّر ممّا لا يتأتّى إلّا باستهلاك الماء في النجاسة ، يدفعها : البداهة القاضية بأنّ الاستهلاك موضوع آخر مغاير لموضوع التغيّر ، فهو حال التغيّر ماء ونجس فيحتاج إلى التطهير ، فحمل الرواية على المعنى المذكور إخراج لها إلى الكذب ، مع أنّه قد سبق منّا (١) في معنى الرواية محامل كثيرة ظاهرة لا معنى معها لتكلّف الحمل على المعنى المذكور ، ولو سلّم عدم ظهورها فلا يسلّم ظهور هذا المعنى أيضا ، ومعه يكون الرواية سبيلها سبيل المجملات فيخرج به عن عداد ما يعتبر في الاستدلالات.

وثانيها : أنّه لو كان معيار نجاسة الماء وطهارته نقصانه عن الكرّ وبلوغه إليه ، لما جاز إزالة الخبث بالقليل منه بوجه من الوجوه مع أنّه جائز بالاتّفاق ؛ وذلك لأنّ كلّ جزء من أجزاء الماء الوارد على المحلّ النجس إذا لاقاه كان متنجّسا بالملاقاة ، خارجا عن الطهوريّة في أوّل آنات اللقاء ، وما لم يلاقه لم يعقل أن يكون مطهّرا ، والفرق بين وروده على النجاسة وورودها عليه ـ مع أنّه مخالف للنصوص ـ لا يجدي ؛ إذ الكلام في ذلك الجزء الملاقي ولزوم تنجّسه ، والقدر المستعلي لكونه دون مبلغ الكرّ لا يقوى على أن يعصمه بالاتّصال عن الانفعال ، فلو كانت الملاقاة مناط التنجيس لزم تنجّس القدر الملاقي لا محالة فلا يحصل التطهير.

وأمّا ما تكلّفه بعضهم من ارتكاب القول بالانفعال هناك من بعد الانفصال عن محلّ النجاسة فمن أبعد التكلّفات ، ومن ذا الّذي يرتضي القول بنجاسة الملاقي للنجاسة بعد مفارقته عنها وطهارته ـ بل طهوريّته ـ حال ملاقاته لها برطوبة.

وفيه : أنّ الأحكام التعبّديّة الثابتة في الشريعة من جهة الضرورة لا تدفع بالاستبعادات العقليّة ، ولا تقابل بالاستغرابات الذوقيّة خصوصا مع ما اشتهر فيما بينهم من أنّ مبنى شرعنا على الجمع بين المختلفات والتفريق بين المتّفقات ، مع إمكان أن يقال : بمنع كون استناد الطهارة إلى نفس الماء وأنّه علّة تامّة له ، بل التطهّر حقيقة يحصل بإخراج أجزاء النجاسة عن المحلّ أو إخراج أثرها عنه ، ولا يتأتّى ذلك إلّا بواسطة الماء ؛ حيث إنّه إذا صبّ على المحلّ ما يحيط منه عليه ويستولي على أجزاء النجاسة

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٥٠.

٢٠٢

الواصلة إليه أوجب إخراجه عنه بالعصر ، وما في معناه فيما لا يقبل العصر ، خروج أجزاء النجاسة عنه فيطهّر ، ولا ينافيه الحكم عليه بكونه مطهّرا ، لأنّه هو الموجب لتحقّق ما هو مناط التطهير في الحقيقة.

وممّا يؤيّد ذلك اعتبار العصر ونحوه في الغسل ، وأنّه لو كان المحلّ ممّا يمكن فيه عزل أجزاء النجاسة عنه بغير توسّط ماء كان طاهرا ، كما لو كان عينا جامدة والنجاسة عينيّة يمكن إلقاؤها مع ما يكتنفها من المحلّ.

هذا مع ما اجيب عنه بالنقض بأحجار الاستنجاء ، فإنّ الأصحاب اوجبوا فيها الطهارة وحكموا بأنّ النجس منها لا يطهّر ، مع أنّها تنجّس حال الاستعمال بمجرّد الملاقاة ، ولم يقل أحد بكون نجاسة هذه مانعة عن حصول طهارة المحلّ بها ، ونحوه الكلام في مسألة تطهير الأرض.

وثالثها : أنّ اشتراط الكرّ مثار الوسواس ، ولأجله شقّ الأمر على الناس ، يعرفه من يجرّبه ويتأمّله ، وممّا لا شكّ فيه أنّ ذلك لو كان شرطا لكان أولى المواضع بتعذّر الطهارة مكّة والمدينة المشرّفتين ؛ إذ لا يكثر فيها المياه الجارية ولا الراكد الكثير ، ومن أوّل عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى آخر عصر الصحابة لم ينقل واقعة في الطهارات ، ولا سؤال عن كيفيّة حفظ المياه عن النجاسات ، وكانت أواني مياههم تتعاطاها الصبيان والإماء الّذين لا يتحرّزون من النجاسات ، بل الكفّار كما هو معلوم لمن تتبّع.

وفيه : أنّ هذا ممّا لا يفهم معناه ، فإن اريد به أنّ إناطة حفظ الماء عن الانفعال بالكرّيّة ممّا يوجب الأمرين لما يكثر في المياه من الشكّ في الكرّيّة ، ففيه : مع أنّه منقوض بكافّة الموازين الشرعيّة الّتي انيط بها الأحكام الكلّيّة ، كإناطة حلّية اللحوم وحرمتها بالتذكية والعدم ، وإناطة حلّ الأموال وحرمتها بالملكيّة والعدم ، وإناطة الملكيّة بأسبابها المعهودة إلى غير ذلك ممّا لا يحصى عددا ، أنّ هذا الشكّ وما يترتّب عليه من الأمرين بعد تسليم الملازمة يرتفع بملاحظة الضوابط الكلّيّة ، والقواعد المقرّرة في الشريعة مرجعا للمكلّف في مظانّ الشكّ والشبهة من الاصول العمليّة والاجتهاديّة ، فإنّ هذا الشكّ غير خال عن كونه ابتدائيّا أو مسبوقا بمعلوميّة الكرّيّة أو معلوميّة القلّة ، ولا إشكال في شي‌ء من الصور.

أمّا الاولى : فلتعيّن الرجوع حينئذ إلى الأصل العامّ المستفاد عن عمومات الطهارة ،

٢٠٣

وخصوص الخبر المستفيض « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (١) كما أسّسناه وشيّدناه ، وبالغنا في إحكامه بتتميم الاحتجاج عليه ، وعلى الأخيرتين : يرجع إلى الاستصحاب الجاري فيهما ، هذا كلّه لو اريد بالوسواس ما يحصل للمعتدلين من المكلّفين ، وأمّا غيرهم فوسواسهم إنّما ينشأ من قبل الشيطان فلا يكون منشأ للأثر.

وإن اريد به أنّ من الأناسي طوائف لا يتمكّنون عن الكرّيّة ، ولا ما هو بمنزلتها لعدم وجود المياه الجارية ولا الراكدة الكثيرة عندهم ، فيشقّ عليهم الأمر في حفظ المياه القليلة عن الانفعال ، ومعه يشكل ويعسر عليهم الأمر في سائر معايشهم.

ففيه : بعد تسليم مثل هذا الفرض ، إنّا لا نعقل إشكالا ولا عسرا في حفظ المياه حينئذ عن الانفعال ، كما أنّهم يحفظون المآكل والملابس وغيرها عنه ، ومعه لا مجال للوسواس أصلا ، سيّما بعد ملاحظة ما أوسع الله عليهم من إناطة النجاسة بالعلم بها واكتفائه في طهارة كلّ شي‌ء بمجرّد عدم العلم بالقذارة ، مع أنّ لزوم محذور في بعض الفروض النادرة لا يقضي بنقض القاعدة الكلّيّة ، المنوطة بمصالح عامّة ملحوظة فيها حال الغالب أو الأغلب ، وإلّا فكم من هذا القبيل ، فيلزم حينئذ هدم جميع القواعد والضوابط الشرعيّة ، مع أنّ ذلك لو صلح نقضا لكان وروده على المستدلّ أوضح ، وقضى بعدم اعتبار الكرّيّة بالكلّيّة ، وستعرف عنه فيما يأتي من تأويله لأخبار الكرّ أنّه يعتبرها ميزانا لمعرفة التغيّر وعدمه بالنجاسة المعتادة حيثما لم يكن ظاهرا عند الحسّ.

وأنت خبير : بأنّ ذلك أكثر إثارة للوسواس ، وأشدّ مدخليّة في صعوبة الأمر على الناس ، لكثرة ما يتّفق لهم من الشكّ في التغيّر عند عدم ظهوره للحسّ ، فيكون نتيجة كلامه إنكارا لما ثبت بضرورة من المذهب ـ بل الدين ـ نظرا إلى أنّ اعتبار الكثرة في الماء في الجملة ممّا اتّفق عليه الفريقان ، غاية الأمر وقوع الخلاف بينهما في تقدير تلك الكثرة ، حيث إنّ الأصحاب رضوان الله عليهم قدّروها بالكرّيّة أخذا برواياتهم المستفيضة ، وغيرهم يقدّرونها بطرق اخر ممّا تقدّم إليها الإشارة.

وأمّا ما ذكره في تأييد هذا الكلام : « من أنّه لم ينقل من أوّل عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى آخر الصحابة واقعة في الطهارات ، ولا سؤال عن كيفيّة حفظ المياه من النجاسات » ، فهو

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٤ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ ـ ٦٢١.

٢٠٤

من أعجب ما يذكر في هذا المقام ، كيف وكم من هذا القبيل فيما بين الأحكام الثابتة في الشريعة ، ولا سيّما ما اختصّ منها بالفرقة المحقّة ، وأيّ ملازمة بين ثبوت حكم كلّي ثمّة ونقل واقعة أو وقائع في مراعاة ذلك الحكم إلينا ، فإنّ أمثال هذه الوقائع كثيرا ما لا تنقل اقتناعا ببداهة الحكم فيها ، كما أنّها قد لا تنقل لمعاندة المعاندين ومكايدة أعداء الدين ، الّذين كان هممهم مصروفة في إخفاء الشريعة المطهّرة ، وهدم أساس القوانين النبويّة ، كما هو معلوم من طريقتهم في مواضع متكثّرة ، مع أنّ العبرة بنقل أصل الحكم بعنوانه الكلّي ، وقد نقل بلسان أئمّتنا سلام الله عليهم الّذي هو لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنّ كلّ واقعة لو فرض نقلها لتطرّق إليها التأويل ، كما تطرّق إلى نقل أصل الحكم المتحقّق بما تقدّم من وجوه البيان.

ورابعها : أنّ ما يدلّ على المشهور إنّما يدلّ بالمفهوم ، والمفهوم لا يعارض المنطوق ولا الظاهر النصّ ، مع أنّ أقصى ما يدلّ عليه هذا المفهوم وتنجّس ما دون الكرّ بملاقاة شي‌ء ما ، لا كلّ نجاسة فيحمل على المستولية جمعا ، فيكون المراد ما لم يستول عليه شي‌ء ، أي لم يظهر فيه النجاسة ، فيكون تحديدا للقدر الّذي لا يتغيّر بها في الأغلب ، ثمّ عنه : « أنّه حمل الأخبار المتضمّنة للنهي عن الشرب والوضوء ممّا لاقته النجاسة على التنزّه والاستحباب ».

ولا يخفى ما في كلّ هذه الكلمات ، فإنّ دلالة المفهوم من الدلالات المعتبرة في العرف والشرع ، والمناقشة فيها بأنّ أقصاها اقتضاء التنجّس بشي‌ء ما لا كلّ شي‌ء ، قد عرفت ما فيها سابقا ممّا بيّنّا إجمالا ، ودعوى : أنّ المفهوم لا يعارض المنطوق واضحة الفساد ، بعد ملاحظة أنّ المفهوم كثيرا ما يعارض المنطوق ويقدّم عليه ، ولا سيّما المقام الّذي وقع فيه التعارض بين ظاهر العامّ والجملة الشرطيّة ، ومن المقرّر في محلّه أنّ الجملة الشرطيّة أظهر في اعتبار المفهوم من العامّ في إرادة العموم ، فيخصّص به العامّ جدّا.

هذا على فرض تسليم ما ادّعى دلالته على عدم الانفعال عموما ، وإلّا فيتّجه المناقشة في أصل الدلالة بالنسبة إلى أكثرها ، أو كونها على جهة العموم ، فلا منطوق لأكثر تلك الأخبار بحيث يكون منافيا لمفهوم أخبار الانفعال ، مع توجّه المنع إلى دعوى انحصار تلك الأخبار في كون دلالتها مفهوميّة ؛ لما عرفت من أنّ أكثرها يدلّ

٢٠٥

على الانفعال منطوقا بعنوان الصراحة أو الظهور ، والعذر في توجيه ما اشتمل منها على الأوامر أو النواهي بحملهما على التنزّه والاستحباب قد عرفت ما فيه ، من أنّهما محمولان من جهة قرينة المقام على معنى آخر غير الوجوب والتحريم والاستحباب والكراهة وهو الإرشاد ، ومعه يثبت المطلب.

هذا مع ما في دعوى كون أخبار المقابل دالّة على عدم الانفعال من باب المنطوق على الإطلاق من المنع الواضح ، لما سيتّضح من أنّ جملة من ذلك إنّما يدلّ على الحكم مفهوما ، وقضيّة ذلك ـ مضافا إلى ما سبق ـ مقابلة مناطيق تلك الأخبار لمناطيق أخبار الانفعال ومقابلة مفاهيمها لمفاهيمها ، ولا ريب أنّ أخبار الانفعال في مناطيقها ومفاهيمها معا مقدّمة سندا ومتنا على ما يقابلها منطوقا ومفهوما.

أمّا تقدّمها سندا : فبحكم أنّ الموهون منها بالضعف والإرسال يتقوّى بالعمل ، فضلا عمّا هو المعتبر منها بالصحّة والموثّقيّة والحسن ، كما أنّ المعتبر من الطرف المقابل يتوهّن بالإعراض ، ويسقط به عن درجة الاعتبار ، فكيف بما هو غير معتبر منه في حدّ ذاته.

وأمّا تقدّمها متنا : فبحكم المرجّحات الداخليّة من جهة الدلالة وغيرها ، والخارجيّة باعتبار المضمون وجهة الصدور ، وتوضيح ذلك يحتاج إلى ذكر تلك الأخبار مفصّلة والتكلّم عليها دلالة وغيرها ، فنقول : إنّها تشتمل على طوائف :

الطائفة الاولى : ما يدلّ بمنطوقه على المطلب في الماء والنجاسة بعنوانهما الكلّي كالنبويّ المتقدّم ، المدّعى تواتره « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء ، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (١) والخبر المستفيض المرويّ في الكتب الأربعة بطرق متعدّدة « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (٢) وصحيحة محمّد بن حمران وجميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ الواردة في باب التيمّم من زيادات التهذيب ـ أنّهما سألاه عن إمام قوم أصابته في سفر جنابة وليس معه من الماء ما يكفيه في الغسل أيتوضّأ ويصلّي بهم؟ قال : « لا ولكن يتيمّم ويصلّي ، فإنّ الله تعالى جعل التراب طهورا ، كما جعل الماء

__________________

(١) عوالي اللآلي ٣ : ٩ ح ٦.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ الكافي ٣ : ١ / ٣ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢١.

٢٠٦

طهورا » (١) وصحيحة داود بن فرقد ـ في باب استنجاء زيادات التهذيب ـ المرويّة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة من البول ـ إلى قوله عليه‌السلام ـ : وجعل لكم الماء طهورا إلخ » (٢).

والجواب عن هذه الجملة تارة على الجملة ، واخرى على التفصيل.

أمّا الأوّل : فأيّ عاقل يرضى بالعمل على تلك الأخبار الّتي هي أعمّ عمومات ما ورد في الماء ، ورفع اليد عن أوّل أنواع ما تقدّم من أخبار الانفعال الّذي تضمّن نصوصا صريحة لا سبيل إلى إبداء احتمال الخلاف فيها ، وإن اختصّ بموارد خاصّة من النجاسات كالكلب والنبيذ ، وهل هذا إلّا الخروج عن جادّة الإنصاف ، والتشبّث بذريعة الاعتساف ، بل هو في الحقيقة يرجع إلى التعمّد على مخالفة الحجّة ، على ما هو دأب أهل الخلاف الملتزمين بإبداء القول على خلاف قول الحجّة.

وأمّا الثاني : فلمنع دلالة أخبار هذه الجملة على خلاف ما يقتضيه أخبار الانفعال ، أمّا في الخبرين الأخيرين فلوضوح كون الإطلاق فيهما مسوقا لبيان حكم آخر وهو قيام وصف المطهّريّة بالماء بحسب خلقته الأصليّة ، وأمّا عدم قبوله الانفعال لعارض فلا تعرّض فيهما لبيانه أصلا ، ولذا نقول : إنّه لا تنافي بينهما وبين أخبار التغيّر الموجب للانفعال ، نعم لو ثبت أنّهما يدلّان على أنّ الطبيعة المائيّة علّة تامّة للمطهّريّة اتّجه القول بالدلالة على الحكم المذكور ، ولكنّه يدفعه : منع الدلالة أوّلا ، بل غاية ما فيه الدلالة على أنّها مقتضية لها فلا ينافيه مجامعة المانع الرافع لما هو مقتضاها ، وكونها منقوضة ثانيا بالتغيّر الموجب لزوال الوصف عنه المانع عن حصوله ما دام باقيا ، فلو سلّمنا فيها الدلالة ظاهرا فكشف عن خلافها القاطع المثبت للتغيّر عنوانا مقتضيا للتنجّس المنافي للوصف المذكور.

وأمّا في الثاني : فلعدم تعرّض فيه أيضا لبيان حكم الانفعال وعدمه.

وتوضيح ذلك : أنّ الطهارة في قوله : « كلّ ماء طاهر » إن اريد بها الحكم الواقعي الإلهي المجعول لطبيعة الماء ، أو الثابت فيه بحسب الواقع فهو لا يغيّا بالعلم بالقذارة ؛ لأنّها من الأحكام الّتي لا يدخل فيها العلم والجهل ، بل هي ثابتة لموضوعها في نفس

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٠٤ / ١٢٦٤.

(٢) التهذيب ١ : ٣٥٦ / ١٠٦٤.

٢٠٧

الأمر سواء علم بها أو بخلافها المكلّف أو لم يعلم بهما ، فتعليق خلافها على العلم بالقذارة قرينة واضحة على عدم إرادة هذا المعنى جزما ، ولو اريد بها إعطاء حكم ظاهري فمن شأنه التعليق على العلم بالخلاف ، وهو الظاهر من الخبر فحينئذ يخرج عن إفادة عدم الانفعال رأسا ، لكونه في صدد بيان حكم لصورة الاشتباه ، وإفادة أنّ النجاسة إنّما يحكم بها مع العلم بها خاصّة ، فيكون جاريا مجرى أدلّة البراءة المعلّقة على العلم بالتكليف ، وهو ممّا لا دخل فيه لعدم الانفعال بالعارض بحسب الواقع أصلا.

فإن قلت : قضيّة ذلك دخول القليل الملاقي للنجاسة في موضوع هذا الحكم وهو الاشتباه ، ومعه يحكم عليه بالطهارة وهو المطلوب.

قلت : مع أنّه لا يلائم أصل المسألة المفروضة لمعرفة الحكم الواقعي ، يدفعه : أنّه إنّما يتّجه مع عدم قيام ما يرفع الاشتباه في خصوص المورد ، والأخبار المقامة على الانفعال من النصوص والظواهر رافعة له ، وواردة على هذا الخبر باقتضائها الخروج عن الموضوع ، فلا معارضة بينه وبينها على ما هو الحال في سائر الأدلّة المعلّقة على الجهل والاشتباه في مقابلة الاجتهاديّات الواردة عليها.

مع أنّه لو سلّمنا أنّ الخبر ورد في مقام إعطاء الحكم الواقعي ، فمفاده لا يزيد على كون الطبيعة المائيّة ملزومة للطهارة من باب المقتضي ، وهو لا ينافي مصادفة ما يوجب ارتفاعها كما يرشد إليه تعليق القذارة على العلم بها ، ولو لا الماء بطبعه قابلا لعروض النجاسة لعرى ذلك عن الفائدة بالمرّة ، وبطل به قاعدة التغيّر القائمة على حكم النجاسة.

فنقول حينئذ : إنّ القذارة المستندة إلى العلم بها لا بدّ لها من مورد والقليل الملاقي للنجاسة منه بحكم الأخبار الواردة فيه ، كما أنّ منه المتغيّر بالنجاسة ، ولا ينافيه كونها في الخبر معلّقة على العلم ، لأنّ الأخبار المذكورة علم شرعي.

لا يقال : إنّ العلم حقيقة في الواقعي ، فلا يشمل ما ذكر لكونه معنى مجازيّا للعلم.

لأنّ ذلك إنّما في موضع عدم نهوض ما يصرفه عن ظاهره من القرائن ، ولا ريب أنّ أدلّة حجّيّة أخبار الآحاد صارفة له عن ذلك ، وحاكمة على هذا الخبر بكشفها عن كون المراد بالعلم ما يعمّ الشرعي ، وإلّا أشكل الحال بالقياس إلى التغيّر ، حيث إنّ أدلّته ليست إلّا الأخبار ، ودعوى : أنّ أخبار التغيّر مفيدة للعلم الواقعي لكثرتها والإجماع على

٢٠٨

العمل بها ، يعارضها : أنّ أخبار القليل الملاقي أيضا كذلك لكثرتها ، وصراحة دلالة جملة منها ، وقيام العمل بها مع شذوذ المخالف وضعف المعارض.

وأمّا في الأوّل : فلأنّ النظر في الاستدلال إن كان إلى إطلاق الماء فهو قابل للتقييد فيقيّد بما دون القليل جمعا ، وإن كان إلى عموم النكرة المنفيّة فهي قابلة للتخصيص بمتّصل ومنفصل ، وكما أنّها مخصّصة بما معها من المتّصل ـ وفاقا من الخصم ـ فكذلك تخصّص بالمنفصل جمعا بضرورة من العرف واللغة ، ومعه لا يبقى فيه دلالة أصلا.

الطائفة الثانية : روايات وردت في موارد خاصّة من الماء أو النجس أو هما معا تدلّ بمنطوقها أو مفهومها على المطلب عموما ، كحسنة محمّد بن ميسّر ـ المرويّة في الكافي والتهذيب ـ قال : سألت أبا عبد الله عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ، ويريد أن يغتسل منه ، وليس معه إناء يغترف به ، ويداه قذرتان؟ قال : « يضع يده ويتوضّأ ويغتسل ، هذا ممّا قال الله عزوجل : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) (٢).

وصحيحة أبي خالد القمّاط ، أنّه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ، في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيع فيه الميتة الجيفة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضّأ منه ، وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ » (٣).

ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، إنّه سئل عن الماء النقيح تبول فيه الدوابّ؟ فقال : « إن تغيّر الماء فلا تتوضّأ منه ، وإن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه ، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه » (٤).

وصحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم فلا توضّأ ولا تشرب » (٥).

وموثّقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يمرّ بالماء

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٢ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٢ التهذيب ١ : ١٤٩ / ٤٢٥.

(٢) الحج : ٧٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٨ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١١٢.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٨ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١١١ ـ الاستبصار ١ : ٩ / ٩.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ٦ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥ و ٦٢٤.

٢٠٩

وفيه دابّة ميتة قد أنتنت؟ قال : « إن كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضّأ ولا تشرب » (١). وصحيحة شهاب بن عبد ربّه ، قال : أتيت أبا عبد الله عليه‌السلام أسأله فابتدأني فقال : « إن شئت يا شهاب فسل ، وإن شئت أخبرتك ، قال : قلت أخبرني ، قال : جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة أتوضّأ أو لا؟ قلت : نعم ، قال : فتوضّأ من الجانب الآخر إلّا أن يغلب الماء الريح فينتن ، وجئت لتسأل عن الماء الراكد من البئر ، قال : فما لم يكن فيه تغيّر أو ريح ، قلت : فما التغيّر؟ قال عليه‌السلام : الصفرة ، فتوضّأ منه وكلّما غلب كثرة الماء فهو طاهر » (٢).

وصحيحة عبد الله بن سنان قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام ـ وأنا جالس ـ عن غدير أتوه وفيه جيفة؟ فقال عليه‌السلام : « إذا كان الماء قاهرا ولا يوجد فيه الريح فتوضّأ » (٣).

وصحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير ، يستقى به الماء من البئر ، أيتوضّأ من ذلك الماء؟ قال : « لا بأس » (٤).

وصحيحة هشام بن سالم إنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن السطح يبال عليه : فيكفّ فيصيب الثوب؟ فقال : « لا بأس به ، ما أصابه من الماء أكثر منه » (٥) ، بناء على حجّيّة العلّة المنصوصة المقتضية لاطّراد الحكم في جميع موارد جريانها ، واعتبار الأكثريّة في موضع النصّ بالعلّيّة.

وموثّقة سماعة قال : سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء؟ قال : « يتوضّأ من الناحية الّتي ليس فيها الميتة » (٦).

وموثّقة أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إنّا نسافر فربّما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية ، فيكون فيه العذرة ، ويبول فيه الصبيّ ، وتبول فيه الدابّة وتروث؟ فقال : « إن عرض في قلبك شي‌ء فقل هكذا ـ يعني افرج الماء بيدك ـ ثمّ توضّأ ، فإنّ الدين ليس بمضيّق ، وإنّ الله تعالى يقول : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ٦ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥ و ٦٢٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٦١ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ بصائر الدرجات ٢٥٨ / ١٣.

(٣) الوسائل ١ : ١٤١ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٤.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٠ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٩.

(٥) الوسائل ١ : ١٤٤ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الفقيه ١ : ٧ / ٤.

(٦) الوسائل ١ : ١٤٤ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٥.

٢١٠

حَرَجٍ) » (١) (٢).

ورواية العلاء بن الفضيل قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض يبال فيها؟ قال : « لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (٣).

ورواية عليّ بن حمزة قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الساكن والاستنجاء منه؟ قال : « توضّأ من الجانب الأخر ، ولا توضّأ من جانب الجيفة » (٤).

ورواية عثمان بن زياد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أكون في السفر فآتي الماء النقيع ويدي قذرة فأغمسها في الماء؟ قال : « لا بأس » (٥).

ورواية إسماعيل بن مسلم عن جعفر عن أبيه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى الماء فأتاه أهل الماء ، فقالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ حياضنا هذه تردها السباع والكلاب والبهائم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لها ما أخذت بأفواهها ، ولكم سائر ذلك » (٦).

وما رواه الصدوق مرسلا عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن غدير فيه جيفة؟ فقال عليه‌السلام : « إن كان الماء قاهرا لها لا يوجد الريح منه فتوضّأ منه واغتسل » (٧).

ورواية محمّد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لو أنّ ميزابين سالا ميزاب ببول وميزاب بماء ، فاختلطا ثمّ أصابك ما كان به بأس » (٨).

ورواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت رواية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة ميتة : قال : « إذا تفسّخت فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضّأ وصبّها ، وإن كان غير متفسّخ فاشرب منه وتوضّأ واطرح الميتة إذا أخرجتها طريّة ، وكذلك الجرّة ، وحبّ الماء ، والقربة ، وأشباه ذلك من أوعية الماء ».

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٣ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٦.

(٢) الحج : ٧٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣١١.

(٤) الوسائل ١ : ١٦٢ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٤.

(٥) الوسائل ١ : ١٦٣ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٦ ـ التهذيب ١ : ٣٩ / ١٠٤ و ٤١٦ / ١٣١٤.

(٦) الوسائل ١ : ١٦١ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٧.

(٧) الوسائل ١ : ١٤١ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١٣ ـ الفقيه ١ : ١٢ / ٢٢.

(٨) الوسائل ١ : ١٤٤ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٤١١ / ١٢٩٦.

٢١١

قال : وقال أبو جعفر عليه‌السلام : « إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي‌ء تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ إلّا أن يجي‌ء له ريح يغلب على ريح الماء » (١).

ورواية الأحول ـ المحكيّة عن الصدوق في العلل ـ قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : سل عمّا شئت فارتجّت عليّ المسائل فقال لي : « سل عمّا بدا لك ، فقلت : جعلت فداك الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الّذي استنجى به؟ فقال : لا بأس ، فسكت فقال : أو تدري ولم صار لا بأس به؟ فقلت : لا والله جعلت فداك ، فقال : إنّ الماء أكثر من القذر » (٢).

بناء على ما تقدّم إليه الإشارة من حجّيّة العلّة المنصوصة المقتضية للعموم.

والرواية المحكيّة عن كتاب دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام إنّه قال : « إذا مرّ الجنب في الماء وفيه الجيفة أو الميتة ، فإن كان قد تغيّر لذلك طعمه أو ريحه أو لونه فلا يشرب منه ، ولا يتوضّأ ولا يتطهّر منه » (٣).

ولا يخفى أنّ دفع هذه الأخبار هيّن بعد المراجعة إلى أخبار الانفعال ، لكونها عمومات قابلة للتخصيص أو غيره من أنواع التأويل ، فلو قابلناها بالنوع الأوّل من أخبار الانفعال فلا ينبغي التأمّل في تعيّن تخصيصها بها ، لدلالتها الصريحة على الانفعال فيما دون الكرّ بالخصوص ، حيث تضمّنت فضل الكلب كما في خبر الفضل بن أبي العبّاس ، أو سؤره كما في خبر معاوية بن شريح ، الظاهرين بل الصريحين فيما دون الكرّ ، أو حبّ من الماء كما في خبر أبي بصير ، نظرا إلى أنّ الحبّ لا يكون إلّا أنّه يسع ما دون الكرّ أو الغالب فيه هو ذلك ، ونظيره الكلام فيما لو قابلناها من أخبار النوع الثالث بما تضمّن قوله « إذا كان الماء قدر كرّ ينجّسه شي‌ء » كما في أربعة أو خمسة من أخبار هذا النوع.

ودعوى : أنّ ذلك مفهوم وهو لا يصلح معارضا للمنطوق ، قد عرفت ما فيه من صلوحه لذلك ، وتقدّمه فيما بين الظواهر على ظاهر العامّ أو المطلق حيثما وردا في كلامين منفصلين ، مع اعتضاد المفهوم هنا بوجوه من الخارج كالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع ، ونقل الإجماعات في حدّ الاستفاضة ، الّتي منها : ما في محكيّ الفاضل

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٨.

(٢) علل الشرائع ١ : ٢٨٧.

(٣) دعائم الإسلام ١ : ١١٢.

٢١٢

الهندي في شرح القواعد (١) عن الناصريّات (٢) والانتصار (٣) والغنية (٤) والخلاف (٥) ، وقوّة احتمال التقيّة فيما يقابله من المناطيق لموافقته مذهب أكثر العامّة كما عرفت في صدر المسألة ، مع ما عرفت من أنّ جملة من الأخبار المقابلة إنّما تدلّ على مطلب الخصم مفهوما ، كما في موثّقة سماعة ورواية دعائم الإسلام ، فالمعارضة حينئذ وإن كانت بين المفهومين إلّا أنّ الأوّل يقدّم لكونه خاصّا فيخصّص به الثاني لكونه عامّا كما لا يخفى.

وأمّا لو قابلناها بالنوع الأوّل والبواقي من مفاهيم النوع الثالث ، فطريق العلاج من وجوه :

أحدها : أن يقال : إنّ أكثر أخبار هذين النوعين بين صريحة وظاهرة فيما دون الكرّ ، فيخصّص بها ما يعمّه والكرّ أيضا ، ولا يتطرّق إليها المناقشة المذكورة وأمّا المناقشة في دلالة الأوامر والنواهي الواردة فيها قد عرفت ما فيها ، مع ما عرفت في طيّ الاستدلال بها من قيام الدلالة بها من غير هذه الجهة ، مضافا إلى ما عرفت في جملة منها من الأمر بالتيمّم الّذي لا يصحّ بإجماع الفرقة إلّا مع تعذّر المائيّة عقلا أو شرعا ، مع أنّ الأمر بناء على ابتناء تماميّة الدلالة على كونهما مرادا بهما الوجوب والتحريم ـ كما هو المشهور في وجه الاستدلال ، واعترف به الخصم أيضا ـ دائر بين المجاز والتخصيص ، أو التقييد ، ومن المقرّر في محلّه أولويّة الأخيرين.

وثانيها : أن يقال : إنّ النسبة بين الطرفين من الأخبار هو التباين ، بناء على الإغماض عمّا قرّرناه في الوجه السابق ، فيرجّح أخبار الانفعال ، إمّا لأنّها أظهر دلالة ـ كما يساعد عليه الإنصاف ـ أو اعتضادها من المرجّحات الخارجيّة بما يكشف عن اعتبار دلالتها من الشهرة ونقل الإجماع وعدم تطرّق احتمال التقيّة أو ضعفه فيها ، أو لأنّها لمّا دلّت بعمومها على انفعال الكرّ أيضا بمجرّد الملاقاة فتخصّص بما دونه بالإجماع ، ومنطوق « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » الوارد في المستفيض من الأخبار ، فيرجع التعارض إلى تعارض العامّ والخاصّ المطلقين ، وقضيّة ذلك نهوض تلك الأخبار مخصّصة لأخبار الطرف المقابل ، فيحمل الحكم الوارد فيها على الكرّ ويخرج عنها ما دونه.

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٢٦٩.

(٢) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٤).

(٣) الانتصار : ٨٤.

(٤) غنية النزوع : (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٣٧٩).

(٥) الخلاف ١ : ١٩٢ ذيل المسألة ١٤٧.

٢١٣

وثالثها : أنّه بعد فرض فقد المرجّح والعجز عن الجمع يصير المسألة من باب التعادل ، وأقلّ مراتبه البناء على التساقط ، أو التوقّف والرجوع إلى الخارج من أصل ونحوه ، ولا ريب أنّ المرجع حينئذ النوع الأوّل من أخبار الانفعال ، والقسم الأوّل من مفاهيم أخبار النوع الثالث ، لبقائها سليمة عن المعارض.

وليس لأحد أن يقول : باختصاص بعض الأخبار الدالّة على عدم الانفعال بالقليل ، كحسنة محمّد بن ميسّر المشتملة على الماء القليل ، لمنع كونه مرادا به ما هو موضوع المسألة ، إذ لم يثبت فيه للشارع ولا للأئمّة عليهم‌السلام ولا أهل زمانهم اصطلاح بالقياس إليه في المعنى المعهود عند الفقهاء ، فيحمل على ما يساعده عليه العرف فيعمّ الكرّ وما زاد عليه ، وعلى فرض تسليمه أمكن دعوى ظهوره في الجاري ، كما يومئ إليه تمسّكهم في بحث الجاري بتلك الرواية على عدم انفعال القليل منه بالملاقاة ، فلو سلّم عدم الظهور فأقلّ المراتب كونه أعمّ من الجاري والراكد ، قابلا للتخصيص بالجاري ، فينتهض الأخبار المقامة على الانفعال مخصّصة لها ، لظهور أكثرها في قليل الراكد ، مع توجّه المنع إلى أصل الدلالة في جملة منها وإمكان القدح فيها ، كما في صحيحة زرارة الواردة في الحبل من شعر الخنزير ، وصحيحة هشام الواردة في إصابة الثوب ممّا يكفّ عن السطح الّذي يبال عليه ، وروايتي العلاء بن الفضيل وإسماعيل بن مسلم الواردتين في الحياض.

أمّا الاولى : فلمنع دلالتها على أنّ الماء الّذي يتوضّأ هو الّذي يستقى بالحبل المفروض ، فتكون الرواية من أدلّة عدم انفعال البئر بالملاقاة ، وعلى فرضه فيتّجه المنع إلى كون الماء المستقى ممّا لاقاه ذلك الحبل ، أو تقاطر منه فيه شي‌ء ، ولعلّ السؤال ورد لاحتمال ذلك فأجاب المعصوم عليه‌السلام بما دلّه على أنّ الاحتمال ممّا لا يوجب المنع ، وعلى فرضه فورودها مورد التقيّة احتمال ظاهر.

وأمّا الأخيرتان فلظهورهما في الكرّيّة ، لأنّ الغالب في الحياض الّتي يتّخذها الناس كونها ممّا يسع الكرّ وما زاد ، سيّما في البلاد الّتي ليس عند أهلها مياه جارية ولا غيرها ، فإنّ ديدنهم في مثل ذلك اتّخاذ الحياض لحفظ الكرّ ، الّذي يرجع إليه في تطهير النجاسات ونحوه.

وأمّا صحيحة هشام فأصل الحكم الوارد فيها ممّا لا إشكال فيه ، بل هو في مورد

٢١٤

هو خارج عن المتنازع ، لظهور السياق وكيفيّة السؤال في نزول المطهر وهو مطهّر غير منفعل ولو قليلا ، وأمّا التعليل الّذي هو محلّ الاستدلال فالإنصاف إنّا لا نفهم معناه ، ونظيره الكلام في رواية الأحوال الواردة في الاستنجاء ، فإنّ أصل الحكم فيها ممّا لا إشكال فيه ، لكون ماء الاستنجاء من مستثنيات القاعدة ، وتعليله بأكثريّة الماء من القذر غير مفهوم المعنى ، ولعلّ المراد بها فيهما الأكثريّة المعنويّة أي الزيادة في القوّة العاصمة ، أو أنّها حكم مخصوص بالمورد كما قيل به في المطر ، وسيلحقك زيادة بيان وتوضيح لذلك في بحث الغسالة ، عند دفع الاحتجاج بتلك الرواية على طهارة الغسالة ، وكيف كان فلو استفدنا منه شيئا ظاهرا فنحن نقول به حيث عاضده العمل ، وإلّا لا ينفكّ عن الوهن المانع عن العمل.

الطائفة الثانية : روايات وردت في موارد خاصّة بين ظاهرة في المطلب خصوصا ، وغير دالّة عليه نفيا وإثباتا ، وظاهرة في خلافه عند التحقيق في ثالثة.

منها : صحيحة ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الوضوء ممّا ولغ الكلب فيه والسنّور أو شرب منه جمل أو دابّة أو غير ذلك ، أيتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال عليه‌السلام : « نعم إلّا أن تجد غيره فتنزّه عنه » (١).

وفيه : أنّ التفصيل في التنزّه وعدمه بين وجدان الغير وعدمه ، وإن كان لا يلائم الانفعال ، ويقتضي كون الأمر بالتنزّه استحبابيّا مقتضيا لكراهة التوضّي ولكنّه لا يلائم تشريك الجمل والدابّة مطلقا بل السنّور في التنزّه أيضا ، ولو فرضناه مستحبّا ملازما لكراهة خلافه فالرواية بعضها يعارض بعضا ، فيضطرب معه الدلالة واعتبارها ، فتسقط عن صلاحية المعارضة لنصوص الانفعال وظواهره.

وبالجملة : فلو أخذنا منها بحكم الجواز المعلّق على عدم وجدان المقتضي للطهارة ، كانت معارضة بموثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال فيها : « ولا يشرب سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه » (٢).

ومن هنا حملها الشيخ في التهذيب (٣) على ما بلغ الكرّ جمعا ، ولو أخذنا منها

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٨ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٤٩.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٥٠.

(٣) التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٤٩ حيث قال في ذيل الخبر : « فليس في هذا الخبر رخصة فيما ولغ ـ

٢١٥

بالأمر بالتنزّه المعلّق بوجدان الغير سواء كان إيجابيّا أو ندبيّا ، كانت معارضة بما ورد من الروايات في فضل السنّور وسؤر الدوابّ والغنم دالّا على عدم المنع بل المرجوحيّة أيضا (١) ، مع ما فيها من عدم صلوحها لمعارضة ما سبق من الصحاح ، وغيرها المعتضدة بالعمل وغيره ، مع ما قيل فيها ـ كما عن المصابيح (٢) ـ من المناقشة في سندها من حيث اشتماله على محمّد بن سنان الّذي ضعّفه الأكثر ، مع تصريح علماء الرجال بأنّ عبد الله بن مسكان لم يرو عن أبي عبد الله عليه‌السلام إلّا حديث « من أدرك المشعر فقد أدرك الحجّ » (٣) فتكون الرواية مرسلة ، ولا جابر لها في إرسالها ، فيكون عدم صلوحها للمعارضة أوضح.

ومنها : صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال : كتبت إلى من يسأله عن الغدير تجتمع فيه ماء السماء ، ويستقى فيه من بئر ، فيستنجي فيه الإنسان من بول ، أو يغتسل فيه الجنب ، ما حدّه الّذي لا يجوز؟ قال : « فكتب : لا تتوضّأ من مثل هذا إلّا من ضرورة إليه » (٤).

وفيه : مع ما فيها من الإضمار الموجب لإجمال الضمير ، لتردّده بين كونه للمسئول أو المكتوب إليه السائل ، مع تردّد المسئول بين الحجّة وغيره ، أنّه استدلال بما هو خارج عن المتنازع ، لما يأتي من استثناء ماء الاستنجاء من قاعدة الانفعال ، فالسؤال إنّما وقع عن جواز التطهير بمثله ، وبما يغتسل فيه الجنب والجواب مطابق له ، ولا منافاة في المنع عن التطهير بما لا يكون نجسا تعبّدا من الشارع ، مع إمكان حمل الضرورة على التقيّة ، واحتماله احتمالا غير خفيّ فلا ينافي التفصيل بينها وبين غيرها للانفعال لو قلنا به في ماء الاستنجاء.

ومنها : صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : وسأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال عليه‌السلام : « لا ، إلّا أن يضطرّ إليه » (٥).

وفيه : أنّه على القول بنجاسة أهل الكتاب كان حملها على التقيّة احتمالا ظاهرا ،

__________________

ـ فيه الكلب ، لأنّ المراد به إذا زاد على الكرّ الّذي لا يقبل النجاسة » الخ.

(١) راجع الوسائل ١ : ٢٢٧ أحاديث ب ٢ من أبواب الأسآر ح وأيضا أحاديث ب ٥ من تلك الأبواب.

(٢) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة ٣٣.

(٣) الوسائل ١٤ : ٤١ ب ٢٣ من أبواب الوقوف بالمشعر ح ١٣ ـ ١٤.

(٤) الوسائل ١ : ١٦٣ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٥ ـ التهذيب ١ : ١٥٠ / ٤٢٧.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٢١ ب ١٤ من أبواب النجاسات ح ٩ ـ التهذيب ١ : ٢٢٣ / ٦٤٠.

٢١٦

كما يرشد إليه التفصيل بين الاضطرار وغيره ، بناء على إرادة التقيّة منه بقرينة أنّه لولاه مع فرض عدم الانفعال لما كان لمنعه عن التوضّي في صورة عدم الاضطرار وجه ، سواء كان تحريميّا أو تنزيهيّا كما لا يخفى.

وعلى القول بطهارتهم كانت الرواية من أدلّته فكانت خارجة عن المتنازع.

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول؟ قال عليه‌السلام : « اغسله في المركن مرّتين ، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » (١) ، و « المركن » على ما عن الجوهري الإجانة الّتي تغسل فيها الثياب.

وفيه أوّلا : منع تعرّض الرواية لبيان حكم الماء من حيث إنّه ينفعل أو لا ينفعل ، وإنّما هي مسوقة لبيان حكم البول من حيث الاكتفاء بغسل الثوب عنه مرّة واحدة إذا غسل في الجاري ولزوم التعدّد إذا غسل في غيره ، وذكر « المركن » إنّما هو من باب المثال فتكون حينئذ من أدلّة القول بعدم اشتراط ورود الماء في إزالة النجاسة كما عن جماعة ، ولا ينافيه دلالتها التزاما ـ من باب الإشارة ـ على عدم الانفعال ، لجواز كونه حكما خاصّا بالمورد أثبته الشارع تعبّدا ، فتكون من أدلّة القول بعدم نجاسة الغسالة كما عليه غير واحد.

مع اتّجاه المنع إلى الدلالة على ذلك رأسا ، لجواز انفعاله وطهر المغسول بالانفصال على ما وجّهناه سابقا ، مع ورود النقض بذلك في كافّة أنواع إزالة الخبث إذا كانت بالقليل ، فلو لا الحكم تعبّديّا ـ على القول بانفعال القليل بالملاقاة ـ لشقّ الأمر على العباد في تطهير المتنجّسات ، مع إمكان القول بأنّ أقصاها الدلالة على أنّ ملاقاة المتنجّس لا توجب الانفعال ، ولعلّ القائل بانفعاله بالنجاسة لا يقول به في المتنجّس ، وعلى فرضه يكون الدليل أخصّ من المدّعى.

وثانيا : أنّها لا تقاوم ما قدّمناه من النصوص والظواهر المعتبرة المعتضدة بأنواع المرجّحات.

ومنها : الرواية المرويّة عن الفقيه عن الصادق عليه‌السلام عن جلود الميتة ، يجعل فيها اللبن والماء والسمن ما ترى فيه؟ فقال : « لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٩٧ ب ٢ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٥٠ / ٧١٧.

٢١٧

سمن ، وتوضّأ منه وتشرب ، ولكن لا تشرب فيها » (١).

وفيه : ـ بعد عدم مقاومتها لما تقدّم ـ ما لا يخفى من أمارات الكذب والتقيّة ، فإنّها مبنيّة على ما صارت إليه العامّة من طهر جلود الميتة بالدباغ ، فتكون خارجة مخرج التقيّة ، كما يشهد به السياق الجامع للماء واللبن والسمن ، مع أنّه لا خلاف في انفعال غير الماء بالنجاسة.

ومنها : رواية عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن رجل رعف فامتخط ، فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا ، فأصاب إناءه هل يصلح له الوضوء منه؟

فقال عليه‌السلام : « إن لم يكن شي‌ء يستبين فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا يتوضّأ منه » (٢).

وفيه : مع أنّ النهي في الشقّ الثاني ممّا يكشف عن الانفعال فتكون من أدلّة القول به في الجملة ، منع الدلالة على المطلب لما قدّمناه في بحث التغيّر من أنّ أقصى ما فيه الدلالة على إصابة الدم الإناء وهو غير إصابته الماء ، ولعلّ السؤال وارد لاستعلام أنّ ذلك هل يصلح أمارة على إصابته الماء فيترتّب عليها الحكم عليه بالانفعال المانع عن الوضوء؟ فخرج الجواب مخرج التفصيل الموافق لمفاد قولهم : « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٣) ، فالاستبانة وعدمها كنايتان عن العلم بالإصابة وعدمه ، ويعطيان إناطة الحكم بالنجاسة بالعلم دون غيره.

وممّا يفصح عن ذلك ورود السؤال بعد ذلك عن صورة العلم بالإصابة بقوله : وسألته عن رجل رعف وهو يتوضّأ ، فقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال : « لا » ، وعلى فرض تسليم الدلالة ينهض دليلا على ما فصّله الشيخ لا على عدم الانفعال مطلقا ، ومع الغضّ عن جميع ذلك فعدم مقاومته لما تقدّم كما سبق.

ومنها : مرسلة ابن أبي عمير عمّن رواه عن أبي عبد الله عليه‌السلام في عجين عجن وخبز ، ثمّ علم أنّ الماء كانت فيه ميتة؟ قال : « لا بأس ، أكلت النار ما فيه » (٤) ؛ فإنّ السؤال بإطلاقه يتناول القليل الراكد أيضا ، وإطلاق نفي البأس يدلّ على عدم انفعاله ، ولا ينافيه

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٣ ب ٣٥ من أبواب النجاسات ح٥ ـ الفقيه ١ : ٩ / ١٥ وفيه :«ولكن لا تصلّي فيها».

(٢) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الكافي ٣ : ٧٤ / ١٦ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٥ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٨ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٤.

٢١٨

التعليل بقوله : « أكلت النار ما فيه » لعدم تحقّق الاستحالة ، وقد قام الإجماع على أنّ النار (١) إنّما تطهّر ما أحالته دون غيره ، فكان ذلك دفعا للاستخباث والاستقذار.

وفيه أوّلا : احتمال ابتناء الجواب على إبداء احتمال كون وقوع الميتة في الماء الّذي أخذ منه للعجين مسبوقا بالأخذ ، وثانيا : صلوح إطلاقه للتقييد ، وثالثا : وروده في مقام ضرب من التقيّة ، ورابعا : عدم صلوحه لمعارضة ما تقدّم.

ومنها : رواية عليّ بن أبي حمزة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الساكن والاستنجاء منه؟ فقال عليه‌السلام : « توضّأ من الجانب الآخر ، ولا توضّأ من جانب الجيفة » (٢) ، ورواها الصدوق أيضا مرسلة (٣).

وفيه : أنّ طريق الجواب يقضي بكون الماء المسئول عنه بمحضر من الإمام ومرئى منه ، حيث إنّه تعرّض لذكر الجيفة وفصّل بين جانبي الماء وهي غير مذكورة في السؤال ، وقضيّة ذلك أن لا يكون للماء المسئول عنه إطلاق يصلح للاستناد إليه ؛ لقوّة احتمال كونه كرّا وما زاد ، وقد علم به الإمام بالمشاهدة.

ومع الغضّ عن هذا الاحتمال فليست الرواية إلّا من باب حكايات الأحوال ، فترمى بالإجمال ويخرج عن صلاحية الاستدلال ، ويجري هذا المجرى في جميع ما ذكرناه موثّقة سماعة قال : سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء؟ قال : « يتوضّأ من الناحية الّتي ليس فيها الميتة » (٤) ، وعلى الإطلاق فيهما فهو قابل للتقييد بما تقدّم.

ومنها : رواية محمّد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لو أنّ ميزابين سالا ، ميزاب ببول وميزاب بماء ، فاختلطا ، ثمّ أصابك ما كان به بأس » (٥).

وفيه : أنّ ظاهر الرواية ورودها في ماء المطر وهو خارج عن المتنازع ، ولو كان فيها إطلاق بالقياس إلى حال التقاطر وعدمها فليحمل عليها جمعا ، مع ما فيها من قصور السند وعدم صلاحية المعارضة لما سبق.

__________________

(١) وفي الأصل : « الماء » والصواب ما أثبتناه في المتن.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٢ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٤.

(٣) الفقيه ١ : ١٢ / ٢١.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٤ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٤ / ١٢٥٨.

(٥) الوسائل ١ : ١٤٤ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ الكافي ٣ : ١٢ / ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١١ / ١٢٩٦.

٢١٩

ومنها : رواية زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء؟ قال : « لا بأس » (١).

وفيه : مع احتمال ورودها تقيّة احتمالا ظاهرا ، إمكان حملها على ما ليس من الاستعمالات [المشروطة] بالطهارة كسقي الدوابّ والبساتين والمزارع ، أو ورودها استعلاما لحكم البئر فتكون من أدلّة عدم انفعالها ، وهي موضوع آخر خارج عن المتنازع ، ومع الغضّ عن جميع ذلك فغير صالحة للمعارضة.

ومنها : رواية أبي مريم الأنصاري ، قال : « كنت مع أبي عبد الله عليه‌السلام في حائط فحضرت الصلاة فنزح دلوا للوضوء من ركيّ له ، فخرج عليه قطعة عذرة يابسة فأكفأ (٢) رأسه وتوضّأ بالباقي » (٣).

واجيب عنها أوّلا : بقصور السند ، لجهالة « عبد الرحمن » ، واشتراك « بشير » بين مجاهيل ، وثانيا : بقصورها دلالة لعدم ظهورها في وصول العذرة إلى الماء ، لعود الضمير إلى الدلو ، ولا يمتنع استقرار العذرة عليه من دون أن تصل إلى الماء ، فأكفأ رأسه لسقوط العذرة وغسل محلّها ، كما يشعر به الحكم عليها باليبوسة ، إذ لو كانت في الماء لما بقيت يابسة ، مع احتمال كون المراد بالعذرة السرقين كما حكي احتماله عن المصابيح قائلا : « بأنّ ما ادّعاه بعض الفضلاء من اختصاصها لغة وعرفا بفضلة الإنسان استنادا إلى ما يظهر من كلام الهروي ، حيث قال : إنّ العذرة في أصل اللغة فناء الدار ، وسمّيت عذرة الإنسان بهذه لأنّها كانت تلقى في الأفنية فكنّي عنها باسم الفناء ، فيتوجّه عليه : أنّ المفهوم من الصحاح والقاموس أنّها أعمّ منها ، حيث فسّر الخرء فيهما بالعذرة ، ولا ريب أنّه أعمّ » (٤).

ويرشد إليه صحيحة ابن بزيع قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن عليه‌السلام عن البئر يسقط فيها شي‌ء من العذرة كالبعرة ونحوها » ، الحديث (٥) ، وصحيحة عبد الرحمن ابن أبي عبد الله قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي وفي ثوبه عذرة من إنسان ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٥ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٦ ـ الفقيه ١ : ٩ / ١٤ التهذيب ١ : ٤١٣ / ١٣٠١.

(٢) أكفأ الشي‌ء : أماله (لسان العرب ١ : ١٤١).

(٣) الوسائل ١ : ١٥٤ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٦ / ١٣١٣.

(٤) مصابيح الأحكام ـ كتاب طهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٣٥ ، ٣٦.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢١ ـ الكافي ٣ : ٥ / ١ ـ التهذيب ١ : ٢٤٤ / ٧٠٥.

٢٢٠