الميزان في تفسير القرآن - ج ٢٠

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٩٩

قوله تعالى : « وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ » قيل : كناية عن إصلاح العمل ، ولا يخلو من وجه فإن العمل بمنزلة الثياب للنفس بما لها من الاعتقاد فالظاهر عنوان الباطن ، وكثيرا ما يكنى في كلامهم عن صلاح العمل بطهارة الثياب.

وقيل : كناية عن تزكية النفس وتنزيهها عن الذنوب والمعاصي.

وقيل : المراد تقصير الثياب لأنه أبعد من النجاسة ولو طالت وانجرت على الأرض لم يؤمن أن تتنجس.

وقيل : المراد تطهير الأزواج من الكفر والمعاصي لقوله تعالى : « هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ » البقرة ١٨٧.

وقيل : الكلام على ظاهره والمراد تطهير الثياب من النجاسات للصلاة والأقرب على هذا أن يجعل قوله : « وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ » إشارة إلى تكبير الصلاة وتكون الآيتان مسوقتين لتشريع أصل الصلاة مقارنا للأمر بالدعوة.

ولا يرد عليه ما قيل : إن نزول هذه الآيات كان حيث لا صلاة أصلا وذلك أن تشريع الفرائض الخمس اليومية على ما هي عليها اليوم وإن كان في ليلة المعراج وهي جميعا عشر ركعات ثم زيد عليها سبع ركعات إلا أن أصل الصلاة كان منذ أوائل البعثة كما يشهد به ذكرها في هذه السورة وسورتي العلق والمزمل ، ويدل عليه الروايات.

وقيل : المراد بتطهير الثياب التخلق بالأخلاق الحميدة والملكات الفاضلة.

وفي معنى تطهير الثياب أقوال أخر أغمضنا عن نقلها لإمكان إرجاعها إلى بعض ما تقدم من الوجوه ، وأرجح الوجوه المتقدمة أولها وخامسها.

قوله تعالى : « وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ » قيل : الرجز بضم الراء وكسرها العذاب ، والمراد بهجره هجر سببه وهو الإثم والمعصية ، والمعنى اهجر الإثم والمعصية.

وقيل : الرجز اسم لكل قبيح مستقذر من الأفعال والأخلاق فالأمر بهجره أمر بترك كل ما يكرهه الله ولا يرتضيه مطلقا ، أو أمر بترك خصوص الأخلاق الرذيلة الذميمة على تقدير أن يكون المراد بتطهير الثياب ترك الذنوب والمعاصي.

وقيل : الرجز هو الصنم فهو أمر بترك عبادة الأصنام.

٨١

قوله تعالى : « وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ » الذي يعطيه سياق الآيات ويناسب المقام أن يكون المراد بالمن تكدير الصنيعة بذكرها للمنعم عليه كما في قوله تعالى : « لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى » البقرة : ٢٦٤ ، وقوله : « يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا » الحجرات ١٧ والمراد بالاستكثار رؤية الشيء وحسبانه كثيرا لا طلب الكثرة.

والمعنى : لا تمنن امتثالك لهذه الأوامر وقيامك بالإنذار وتكبيرك ربك وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز حال كونك ترى ذلك كثيرا وتعجبه ـ فإنما أنت عبد لا تملك من نفسك شيئا إلا ما ملكك الله وأقدرك عليه وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك فله الأمر وعليك الامتثال ـ.

وللقوم في الآية وجوه أخر من التفسير لا تلائم السياق تلك الملاءمة فقيل المعنى لا تعط عطية لتعطى أكثر منها.

وقيل : المعنى لا تمنن ما أعطاك الله من النبوة والقرآن على الناس مستكثرا به الأجر.

وقيل : أي لا تمنن إبلاغ الرسالة على أمتك.

وقيل : المعنى لا تضعف في عملك مستكثرا لطاعاتك.

وقيل : المعنى لا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا له.

وقيل : أي إذا أعطيت عطية فأعطها لربك واصبر حتى يكون هو الذي يثيبك.

وقيل : هو نهي عن الربا المحرم أي لا تعط شيئا طالبا أن تعطي أكثر مما أعطيت.

قوله تعالى : « وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ » أي لوجه ربك ، والصبر مطلق يشمل الصبر عند المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية ، والمعنى ولوجه ربك فاصبر عند ما يصيبك من المصيبة والأذى في قيامك بالإنذار وامتثالك هذه الأوامر واصبر على طاعة الله واصبر عن معصيته ، وهذا معنى جامع لمتفرقات ما ذكروه في تفسير الآية كقول بعضهم : إنه أمر بنفس الفعل من غير نظر إلى متعلقه ، وقول بعضهم : إنه الصبر على أذى المشركين ، وقول بعضهم : إنه الصبر على أداء الفرائض ، إلى غير ذلك.

٨٢

( بحث روائي )

في الدر المنثور ، أخرج الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن الأنباري في المصاحف عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ـ فقال : يا أيها المدثر قلت : يقولون : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ )؟ فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، قلت له مثل ما قلت. قال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال : جاورت بحراء فلما قضيت جواري نوديت ـ فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ـ ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ـ فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء ـ جالس على كرسي بين السماء والأرض ـ فجثت منه رعبا فرجعت فقلت : دثروني دثروني ـ فنزلت : « يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ـ إلى قوله ـ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ».

أقول : الحديث معارض بالأحاديث الآخر الدالة على كون سورة اقرأ أول ما نزل من القرآن ويؤيدها سياق سورة اقرأ ، على أن قوله : « فإذا الملك الذي جاءني بحراء » يشعر بنزول الوحي عليه قبلا.

وفيه ، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة : قلنا : يا رسول الله كيف نقول إذا دخلنا في الصلاة؟ فأنزل الله « وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ » فأمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن نفتتح الصلاة بالتكبير.

أقول : وفي الرواية شيء فأبو هريرة ممن آمن بعد الهجرة بكثير والسورة مما نزل في أول البعثة فأين كان أبو هريرة أو الصحابة يومئذ؟.

وفي الخصال ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث الأربعمائة : تشمير الثياب طهور لها قال الله تبارك وتعالى : « وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ » يعني فشمر.

أقول : وفي المعنى عدة أخبار مروية في الكافي ، والمجمع ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن عليه‌السلام.

وفي الدر المنثور ، أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ » برفع الراء ، وقال : هي الأوثان.

٨٣

أقول : وقوله : « هي الأوثان » من كلام جابر أو غيره من رجال السند.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ » وفي رواية أبي الجارود يقول : لا تعط تلتمس أكثر منها.

* * *

( فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) ).

٨٤

( بيان )

في الآيات وعيد شديد للطاعنين في القرآن الرامين له بأنه سحر والمستهزءين لبعض ما فيه من الحقائق.

قوله تعالى : « فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ » النقر القرع والناقور ما ينقر فيه للتصويت ، والنقر في الناقور كالنفخ في الصور كناية عن بعث الموتى وإحضارهم لفصل القضاء يوم القيامة والجملة شرطية جزاؤها قوله « فذلك » إلخ.

قوله تعالى : « فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ » الإشارة بقوله « فَذلِكَ » إلى زمان نقر الناقور ولا يبعد أن يكون المراد بيومئذ يوم إذ يرجعون إلى الله للحساب والجزاء أو يوم إذ يرجع الخلائق إلى الله فيكون ظرفا ليوم نقر الناقور فمن الجائز أن تعتبر قطعة من الزمان ظرفا لبعض أجزائه كالسنة تجعل ظرفا للشهر والشهر يجعل ظرفا لليوم لنوع من العناية أو يعتبر زمان متعددا مختلفا باختلاف صفاته أو الحوادث الواقعة فيه ثم يجعل باعتبار بعض صفاته ظرفا لنفسه باعتبار صفة أخرى.

والمعنى فزمان نقر الناقور الواقع في يوم رجوع الخلائق إلى الله زمان عسير على الكافرين أو زمان نقر الناقور زمان عسير على الكافرين في يوم الرجوع ـ بناء على كون قوله : « يَوْمَئِذٍ » قيدا لقوله : « فَذلِكَ » أو لقوله : « يَوْمٌ ».

وقال في الكشاف : فإن قلت : بم انتصب إذا وكيف صح أن يقع يومئذ ظرفا ليوم عسير؟ قلت : انتصب إذا بما دل عليه الجزاء لأن المعنى إذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين ، والذي أجاز وقوع يومئذ ظرفا ليوم عسير أن المعنى فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور. انتهى.

وقال : ويجوز أن يكون يومئذ مبنيا مرفوع المحل بدلا من ذلك ، ويوم عسير خبر كأنه قيل : فيوم النقر يوم عسير. انتهى.

وقوله : « غَيْرُ يَسِيرٍ » وصف آخر ليوم مؤكد لعسره ويفيد أنه عسير من كل وجه من وجه دون وجه.

قوله تعالى : « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً » كلمة تهديد وقد استفاض النقل أن الآية

٨٥

وما يتلوها إلى تمام عشرين آية نزلت في الوليد بن المغيرة ، وستأتي قصته في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

وقوله : « وَحِيداً » حال من فاعل « خَلَقْتُ » ومحصل المعنى : دعني ومن خلقته حال كوني وحيدا لا يشاركني في خلقه أحد ثم دبرت أمره أحسن التدبير ، ولا تحل بيني وبينه فأنا أكفيه.

ومن المحتمل أن يكون حالا من مفعول « ذَرْنِي ». وقيل : حال من مفعول خلقت المحذوف وهو ضمير عائد إلى الموصول ، ومحصل المعنى دعني ومن خلقته حال كونه وحيدا لا مال له ولا بنون ، واحتمل أيضا أن يكون « وَحِيداً » منصوبا بتقدير « أذم » وأحسن الوجوه أولها.

قوله تعالى : « وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً » أي مبسوطا كثيرا أو ممدودا بمدد النماء.

قوله تعالى : « وَبَنِينَ شُهُوداً » أي حضورا يشاهدهم ويتأيد بهم ، وهو عطف على قوله : « مالاً ».

قوله تعالى : « وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً » التمهيد التهيئة ويتجوز به عن بسطة المال والجاه وانتظام الأمور.

قوله تعالى : « ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً » أي ثم يطمع أن أزيد فيما جعلت له من المال والبنين ومهدت له من التمهيد.

وقوله : « كَلَّا » ردع له ، وقوله : « إِنَّهُ كانَ » إلخ تعليل المردع ، والعنيد المعاند المباهي بما عنده ، قيل ، ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك.

قوله تعالى : « سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً » الإرهاق الغشيان بالعنف ، والصعود عقبة الجبل التي يشق مصعدها شبه ما سيناله من سوء الجزاء ومر العذاب بغشيانه عقبة وعر صعبة الصعود.

قوله تعالى : « إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ » التفكير معروف ، والتقدير عن تفكير نظم معان وأوصاف في الذهن بالتقديم والتأخير والوضع والرفع لاستنتاج غرض مطلوب ، وقد كان الرجل يهوى أن يقول في أمر القرآن شيئا يبطل به

٨٦

دعوته ويرضي به قومه المعاندين ففكر فيه أيقول : شعر أو كهانة أو هذرة جنون أو أسطورة فقدر أن يقول : سحر من كلام البشر لأنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه.

وقوله : « فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ » دعا عليه على ما يعطيه السياق نظير قوله : « قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ » التوبة ٣٠.

وقوله : « ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ » تكرار للدعاء تأكيدا.

قوله تعالى : « ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ » تمثيل لحاله بعد التكفير والتقدير وهو من ألطف التمثيل وأبلغه.

فقوله : « ثُمَّ نَظَرَ » أي ثم نظر بعد التفكير والتقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر سئل أن ينظر فيه ـ على ما يعطيه سياق التمثيل ـ.

وقوله : « ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ » العبوس تقطيب الوجه ، قال في المجمع : وعبس يعبس عبوسا إذا قبض وجهه والعبوس والتكليح والتقطيب نظائر وضدها الطلاقة والبشاشة ، وقال : والبسور بدء التكره في الوجه انتهى ، فالمعنى ثم قبض وجهه وأبدا التكره في وجهه بعد ما نظر.

وقوله : « ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ » الإدبار عن شيء الإعراض عنه ، والاستكبار الامتناع كبرا وعتوا ، والأمران أعني الإدبار والاستكبار من الأحوال الروحية ، وإنما رتبا في التمثيل على النظر والعبوس والبسور وهي أحوال صورية محسوسة لظهورهما بقوله : « إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ » إلخ ، ولذا عطف قوله : « فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ » بالفاء دون « ثُمَ ».

وقوله : « فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ » أي أظهر إدباره واستكباره بقوله مفرعا عليه : « إِنْ هذا ـ أي القرآن ـ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ » أي يروي ويتعلم من السحرة.

وقوله : « إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ » أي ليس بكلام الله كما يدعيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قيل : إن هذه الآية كالتأكيد للآية السابقة وإن اختلفتا معنى لأن المقصود منهما نفي كونه قرآنا من كلام الله ، وباعتبار الاتحاد في المقصود لم تعطف الجملة على الجملة.

قوله تعالى : « سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ » أي سأدخله سقر وسقر من أسماء جهنم في القرآن أو دركة من دركاتها ، وجملة

٨٧

« سَأُصْلِيهِ سَقَرَ » بيان أو بدل من قوله : « سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ».

وقوله : « وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ » تفخيم لأمرها وتهويل.

وقوله : « لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ » قضية إطلاق النفي أن يكون المراد أنها لا تبقي شيئا ممن نالته إلا أحرقته ، ولا تدع أحدا ممن ألقي فيها إلا نالته بخلاف نار الدنيا التي ربما تركت بعض ما ألقي فيها ولم تحرقه ، وإذا نالت إنسانا مثلا نالت جسمه وصفاته الجسمية ولم تنل شيئا من روحه وصفاته الروحية ، وأما سقر فلا تدع أحدا ممن ألقي فيها إلا نالته قال تعالى : « تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى » المعارج ١٧ ، وإذا نالته لم تبق منه شيئا من روح أو جسم إلا أحرقته قال تعالى : « نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ » الهمزة ٧.

ويمكن أن يراد أنها لا تبقيهم أحياء ولا تتركهم يموتون فيكون في معنى قوله تعالى : « الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى » الأعلى : ١٣.

وقيل : المعنى لا تبقي شيئا يلقى فيها إلا أهلكته ، وإذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد فيعذب ثانيا.

وقيل : المراد أنها لا تبقي لهم لحما ولا تذر عظما ، وقيل غير ذلك.

قوله تعالى : « لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ » اللواحة من التلويح بمعنى تغيير اللون إلى السواد وقيل : إلى الحمرة ، والبشر جمع بشرة بمعنى ظاهر الجلد.

قوله تعالى : « عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ » يتولون أمر عذاب المجرمين وقد أبهم ولم يصرح أنهم من الملائكة أو غيرهم غير أن المستفاد من آيات القيامة ـ وتصرح به الآية التالية ـ أنهم من الملائكة.

وقد استظهر بعضهم أن مميز قوله : « تِسْعَةَ عَشَرَ » ملكا ثم قال : ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روي عن ابن عباس : أنها لما نزلت « عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ » قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ـ أسمع ابن أبي كبشة يخبركم ـ أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ـ أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأسد بن أسيد بن كلدة الجمحي ـ وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين انتهى ، وأنت ترى أن لا دليل في كلامه على ما يدعيه. على أنه سمي الواحد من الخزنة رجلا ولا يطلق الرجل على الملك البتة ولا سيما عند المشركين الذين قال تعالى فيهم :

٨٨

« وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً » الزخرف : ١٩.

قوله تعالى : « وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً » إلى آخر الآية. سياق الآية يشهد على أنهم تكلموا فيما ذكر في الآية من عدد خزان النار فنزلت هذه الآية ، ويتأيد بذلك ما ورد من سبب النزول وسيوافيك في البحث الروائي التالي.

فقوله : « وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً » المراد بأصحاب النار خزنتها الموكلون عليها المتولون لتعذيب المجرمين فيها كما يفيده قوله : « عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ » ويشهد بذلك قوله بعد : « وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً » إلخ.

ومحصل المعنى : أنا جعلناهم ملائكة يقدرون على ما أمروا به كما قال : « عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ » التحريم ٦ ، فليسوا من البشر حتى يرجوا المجرمون أن يقاوموهم ويطيقوهم.

وقوله : « وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا » الفتنة المحنة والاختبار. ذكروا أن المراد بالجعل الجعل بحسب الإخبار دون الجعل بحسب التكوين فالمعنى وما أخبرنا عن عدتهم أنها تسعة عشر إلا ليكون فتنة للذين كفروا ، ويؤيده ذيل الكلام : « لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » إلخ.

وقوله : « لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » الاستيقان وجدان اليقين في النفس أي ليوقن أهل الكتاب بأن القرآن النازل عليك حق حيث يجدون ما أخبرنا به من عدة أصحاب النار موافقا لما ذكر فيما عندهم من الكتاب.

وقوله : « وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً » أي بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك.

وقوله : « وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً » اللام في « لِيَقُولَ » للعاقبة بخلاف اللام في « لِيَسْتَيْقِنَ » فللتعليل بالغاية ، والفرق أن قولهم : « ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً » تحقير وتهكم وهو كفر لا يعد غاية لفعله سبحانه إلا بالعرض بخلاف الاستيقان الذي هو من الإيمان ، ولعل اختلاف المعنيين هو الموجب لإعادة اللام في قوله : « وَلِيَقُولَ ».

وقد فسروا « الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ » بالشك والجحود بالمنافقين وفسروا الكافرين

٨٩

بالمتظاهرين بالكفر من المشركين وغيرهم.

وقولهم : « ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً » أرادوا به التحقير والتهكم يشيرون بهذا إلى قوله تعالى : « عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ » والمثل الوصف ، والمعنى ما الذي يعنيه من وصف الخزنة بأنهم تسعة عشر؟ فهذه العدة القليلة كيف تقوى على تعذيب أكثر الثقلين من الجن والإنس.

( ذنابة لما تقدم من الكلام في النفاق )

ذكر بعضهم أن قوله تعالى : « وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ » الآية ـ بناء على أن السورة بتمامها مكية ، وأن النفاق إنما حدث بالمدينة ـ إخبار عما سيحدث من المغيبات بعد الهجرة انتهى.

أما كون السورة بتمامها مكية فهو المتعين من طريق النقل وقد ادعي عليه إجماع المفسرين ، وما نقل عن مقاتل أن قوله : « وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً » الآية مدني لم يثبت من طريق النقل ، وعلى فرض الثبوت هو قول نظري مبني على حدوث النفاق بالمدينة والآية تخبر عنه.

وأما حديث حدوث النفاق بالمدينة فقد أصر عليه بعضهم محتجا عليه بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين لم يكونوا قبل الهجرة من القوة ونفوذ الأمر وسعة الطول بحيث يهابهم الناس أو يرجى منهم خير حتى يتقوهم ويظهروا لهم الإيمان ويلحقوا بجمعهم مع إبطان الكفر وهذا بخلاف حالهم بالمدينة بعد الهجرة.

والحجة غير تامة ـ كما أشرنا إليه في تفسير سورة المنافقون في كلام حول النفاق فإن علل النفاق ليست تنحصر في المخافة والاتقاء أو الاستدرار من خير معجل فمن علله الطمع ولو في نفع مؤجل ومنها العصبية والحمية ومنها استقرار العادة ومنها غير ذلك.

ولا دليل على انتفاء جميع هذه العلل عن جميع من آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة قبل الهجرة وقد نقل عن بعضهم أنه آمن ثم رجع أو آمن عن ريب ثم صلح.

على أنه تعالى يقول : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي

٩٠

صُدُورِ الْعالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ » العنكبوت : ١١.

والآيتان في سورة مكية وهي سورة العنكبوت ، وهما ناطقتان بوجود النفاق فيها ومع الغض عن كون السورة مكية فاشتمال الآية على حديث الإيذاء في الله والفتنة أصدق شاهد على نزول الآيتين بمكة فلم يكن بالمدينة إيذاء في الله وفتنة ، واشتمال الآية على قوله : « وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ » إلخ لا يدل على النزول بالمدينة فللنصر مصاديق أخرى غير الفتح المعجل.

واحتمال أن يكون المراد بالفتنة ما وقعت بمكة بعد الهجرة غير ضائر فإن هؤلاء المفتونين بمكة بعد الهجرة إنما كانوا من الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الهجرة وإن أوذوا بعدها.

وعلى مثل ذلك ينبغي أن يحمل قوله تعالى : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ » الحج : ١١ إن كان المراد بالفتنة العذاب وإن كانت السورة مدنية.

* * *

وقوله : « كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ » الإشارة بذلك إلى مضمون قوله : « وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً » إلخ.

وقوله : « وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ » علق تعالى العلم المنفي بالجنود ـ وهي الجموع الغليظة التي خلقهم وسائط لإجراء أوامره ـ لا بخصوص عدتهم فأفاد بإطلاقه أن العلم بحقيقتهم وخصوصيات خلقتهم وعدتهم وما يعملونه من عمل ودقائق الحكمة في جميع ذلك يختص به تعالى لا يشاركه فيه أحد ، فليس لأحد أن يستقل عدتهم أو يستكثر أو يطعن في شيء مما يرجع إلى صفاتهم وهو جاهل بها.

وقوله : « وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ » الضمير راجع إلى ما تقدم من قوله : « عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ » وتأنيثه لتأنيث الخبر ، والمعنى أن البشر لا سبيل لهم إلى العلم بجنود ربك وإنما أخبرنا عن خزنة النار أن عدتهم تسعة عشر ليكون ذكرى لهم يتعظون بها.

وقيل : الضمير للجنود ، وقيل : لسقر ، وقيل للسورة ، وقيل : لنار الدنيا وهو

٩١

أسخف الأقوال.

وفي الآية دلالة على أن الخطابات القرآنية لعامة البشر.

( بحث روائي )

في تفسير القمي في قوله تعالى : « فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ـ إلى قوله ـ وَحِيداً » فإنها نزلت في الوليد بن المغيرة ـ وكان شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب ، وكان من المستهزءين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقعد في الحجر ويقرأ القرآن ـ فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة ـ فقالوا : يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد؟ أشعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال دعوني أسمع كلامه ـ فدنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمد أنشدني من شعرك ـ قال : ما هو شعر ولكنه كلام الله ـ الذي ارتضاه لملائكته وأنبيائه ورسله ـ فقال : اتل علي منه شيئا!

فقرأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حم السجدة ـ فلما بلغ قوله : « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً ـ مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ » قال : فاقشعر الوليد وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته ، ومر إلى بيته ولم يرجع إلى قريش من ذلك.

فمشوا إلى أبي جهل فقالوا : يا أبا الحكم ـ إن أبا عبد شمس صبا إلى دين محمد أما تراه لم يرجع إلينا ـ فغدا أبو جهل إلى الوليد فقال : يا عم ـ نكست رءوسنا وفضحتنا وأشمت بنا عدونا ـ وصبوت إلى دين محمد ، فقال : ما صبوت إلى دينه ـ ولكني سمعت كلاما صعبا تقشعر منه الجلود ـ فقال له أبو جهل : أخطب هو؟ قال : لا إن الخطب كلام متصل وهذا كلام منثور ـ ولا يشبه بعضه بعضا. قال : أفشعر هو؟ قال : لا ـ أما إني لقد سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ـ ورملها ورجزها وما هو بشعر. قال : فما هو؟ قال : دعني أفكر فيه.

فلما كان من الغد قالوا له : يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال : قولوا : هو سحر فإنه آخذ بقلوب الناس ـ فأنزل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك : « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ».

وإنما سمي وحيدا لأنه قال لقريش : أنا أتوحد لكسوة البيت سنة وعليكم في جماعتكم

٩٢

سنة ، وكان له مال كثير وحدائق ، وكان له عشر بنين بمكة ، وكان له عشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها ـ وتلك القنطار في ذلك الزمان ، ويقال : إن القنطار جلد ثور مملوء ذهبا.

وفي الدر المنثور ، أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له ـ فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجعلوا لك مالا ليعطوه لك ـ فإنك أتيت محمدا لتصيب مما عنده. قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا.

قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك ـ إنك منكر أو إنك كاره له ، قال : وما ذا أقول ـ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ـ ولا بقصيده ولا بأشعار الجن ـ والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، وو الله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، ومغدق أسفله ، وإنه ليعلو ولا يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته.

قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ـ قال : دعني حتى أفكر فلما فكر قال ـ ما هو إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره ـ فنزلت : « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ».

وفي المجمع روى العياشي بإسناده عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله وأبي جعفر عليه‌السلام أن الوحيد ولد الزنا. قال زرارة : ذكر لأبي جعفر عليه‌السلام عن أحد بني هشام أنه قال في خطبته : أنا ابن الوحيد ـ فقال : ويله لو علم ما الوحيد ما فخر بها فقلنا له ، وما هو؟ قال ، من لا يعرف له أب.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد وابن المنذر والترمذي وابن أبي الدنيا في صفة النار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حيان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال ، الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا ـ ثم يهوي وهو كذلك فيه أبدا.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى ، « ثُمَّ عَبَسَ » قال ، عبس وجهه « وَبَسَرَ » قال ، ألقى شدقه (١).

__________________

(١) زاوية الفم.

٩٣

* * *

( كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) ).

( بيان )

في الآيات تنزيه للقرآن الكريم عما رموه به ، وتسجيل أنه إحدى الآيات الإلهية الكبرى فيه إنذار البشر كافة وفي اتباعه فك نفوسهم عن رهانة أعمالهم التي تسوقهم إلى سقر.

قوله تعالى : « كَلَّا » ردع وإنكار لما تقدم قال في الكشاف : إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون ، أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيرا. انتهى. فعلى الأول إنكار لما تقدم وعلى الثاني ردع لما سيأتي ، وهناك وجه آخر سيوافيك.

قوله تعالى : « وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ » قسم بعد قسم ، وإدبار الليل مقابل إقباله ، وإسفار الصبح انجلاؤه وانكشافه.

قوله تعالى : « إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ » ذكروا أن الضمير لسقر ، والكبر جمع كبري ،

٩٤

والمراد بكون سقر إحدى الكبر أنها إحدى الدواهي الكبر لا يعادلها غيرها من الدواهي كما يقال : هو أحد الرجال أي لا نظير له بينهم ، والجملة جواب للقسم.

والمعنى أقسم بكذا وكذا أن سقر لإحدى الدواهي الكبر ـ أكبرها ـ إنذارا للبشر.

ولا يبعد أن يكون « كَلَّا » ردعا لقوله في القرآن : « إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ » ويكون ضمير « إِنَّها » للقرآن بما أنه آيات أو من باب مطابقة اسم إن لخبرها.

والمعنى : ليس كما قال أقسم بكذا وكذا أن القرآن ـ آياته ـ لإحدى الآيات الإلهية الكبرى إنذارا للبشر.

وقيل : الجملة « إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ » تعليل للردع ، والقسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدر يدل عليه كلا.

قوله تعالى : « نَذِيراً لِلْبَشَرِ » مصدر بمعنى الإنذار منصوب للتمييز ، وقيل : حال مما يفهم من سياق قوله : « إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ » أي كبرت وعظمت حالكونها إنذارا أي منذرة.

وقيل فيه وجوه أخر لا يعبأ بها كقول بعضهم : أنه صفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والآية متصلة بأول السورة والتقدير قم نذيرا للبشر فأنذر ، وقول بعضهم : صفة له تعالى.

قوله تعالى : « لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ » تعميم للإنذار و « لِمَنْ شاءَ » بدل من البشر ، و « أَنْ يَتَقَدَّمَ » إلخ مفعول « شاءَ » والمراد بالتقدم والتأخر : الاتباع للحق ومصداقه الإيمان والطاعة ، وعدم الاتباع ومصداقه الكفر والمعصية.

والمعنى : نذيرا لمن اتبع منكم الحق ولمن لم يتبع أي لجميعكم من غير استثناء.

وقيل : « أَنْ يَتَقَدَّمَ » في موضع الرفع على الابتداء و « لِمَنْ شاءَ » خبره كقولك لمن توضأ أن يصلي ، والمعنى مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر ، وهو كقوله. « فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ » والمراد بالتقدم والتأخر السبق إلى الخير والتخلف عنه انتهى.

قوله تعالى : « كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ » الباء بمعنى مع أو للسببية أو للمقابلة و « رَهِينَةٌ »

٩٥

بمعنى الرهن على ما ذكره الزمخشري قال في الكشاف : رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله : « كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ » لتأنيث النفس لأنه لو قصدت لقيل : رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهن. انتهى.

وكان العناية في عد كل نفس رهينة أن لله عليها حق العبودية بالإيمان والعمل الصالح فهي رهينة محفوظة محبوسة عند الله حتى توفي دينه وتؤدي حقه تعالى فإن آمنت وصلحت فكت وأطلقت ، وإن كفرت وأجرمت وماتت على ذلك كانت رهينة محبوسة دائما ، وهذا غير كونها رهين عملها ملازمة لما اكتسبت من خير وشر كما تقدم في قوله تعالى : « كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ » الطور ٢١.

والآية في مقام بيان وجه التعميم المستفاد من قوله : « نَذِيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ » فإن كون النفس الإنسانية رهينة بما كسبت يوجب على كل نفس أن تتقي النار التي ستحبس فيها إن أجرمت ولم تتبع الحق.

قوله تعالى : « إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ » هم الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يوم الحساب وهم أصحاب العقائد الحقة والأعمال الصالحة من متوسطي المؤمنين ، وقد تكرر ذكرهم وتسميتهم بأصحاب اليمين في مواضع من كلامه تعالى ، وعلى هذا فالاستثناء متصل.

والمتحصل من مجموع المستثنى منه والمستثنى انقسام النفوس ذوات الكسب إلى نفوس رهينة بما كسبت وهي نفوس المجرمين ، ونفوس مفكوكة من الرهن مطلقة وهي نفوس أصحاب اليمين ، وأما السابقون المقربون وهم الذين ذكرهم الله في مواضع من كلامه وعدهم ثالثة الطائفتين وغيرهما كما في قوله تعالى : « وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ـ إلى أن قال ـ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ » الواقعة : ١١ ، فهؤلاء قد استقروا في مستقر العبودية لا يملكون نفسا ولا عمل نفس فنفوسهم لله وكذلك أعمالهم فلا يحضرون ولا يحاسبون قال تعالى : « فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ » الصافات : ١٢٨ ، فهم خارجون عن المقسم رأسا.

وعن بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالملائكة ، وعن بعضهم التفسير بأطفال المسلمين وعن بعضهم أنهم الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق ، وعن بعضهم أنهم الذين سبقت

٩٦

لهم من الله الحسنى ، وهي وجوه ضعيفة غير خفية الضعف.

قوله تعالى : « فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ » « فِي جَنَّاتٍ » خبر لمبتدإ محذوف وتنوين جنات للتعظيم ، والتقدير هم في جنات لا يدرك وصفها ، ويمكن أن يكون حالا من أصحاب اليمين.

وقوله : « يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ » أي يتساءل جمعهم عن جمع المجرمين.

وقوله : « ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ » أي ما أدخلكم في سقر بيان لتساؤلهم من بيان الجملة بالجملة ، أو بتقدير القول أي قائلين ما سلككم في سقر.

قوله تعالى : « قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ » ضمير الجمع للمجرمين ، والمراد بالصلاة التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه فلا يضره اختلاف الصلاة كما وكيفا باختلاف الشرائع السماوية الحقة.

قوله تعالى : « وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ » المراد بإطعام المسكين الإنفاق على فقراء المجتمع بما يقوم به صلبهم ويرتفع به حاجتهم ، وإطعام المسكين إشارة إلى حق الناس عملا كما أن الصلاة إشارة إلى حق الله كذلك.

قوله تعالى : « وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ » المراد بالخوض الاشتغال بالباطل قولا أو فعلا والغور فيه.

قوله تعالى : « وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ » وهو يوم الجزاء فهذه خصال أربع من طبع المجرم أن يبتلي بها كلا أو بعضا ، ولما كان المجيب عن التساؤل جمع المجرمين صحت نسبة الجميع إلى الجميع وإن كان بعضهم مبتلى ببعضها دون بعض.

قوله تعالى : « حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ » قيد للتكذيب ، وفسروا اليقين بالموت لكونه مما لا شك فيه فالمعنى وكنا في الدنيا نكذب بيوم الجزاء حتى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنا نكذب به ما دامت الحياة.

وقيل : المراد به اليقين الحاصل بحقية يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة ومعاينة الحياة البرزخية حين الموت وبعده ، وهو معنى حسن.

قوله تعالى : « فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ » تقدم في بحث الشفاعة أن في الآية دلالة

٩٧

على أن هناك شافعين يشفعون فيشفعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنهم محرومون من نيلها.

وقد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.

* * *

( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦) ).

( بيان )

في معنى الاستنتاج مما تقدم من الوعيد والوعد أورد في صورة التعجب من إعراضهم عن تذكرة القرآن وتنفرهم عن الحق الصريح كأنه قيل : فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحق ويتذكروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلا بل لا يؤمنون بالرسالة ويريد كل امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من الله. كلا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد.

ثم يعرض عليهم التذكرة عرضا فهم على خيرة من القبول والرد فإن شاءوا قبلوا وإن شاءوا ردوا ، لكن عليهم أن يعلموا أنهم غير مستقلين في مشيتهم وليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلا أن يشاء الله ، وحكم القدر جار فيهم البتة.

قوله تعالى : « فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ » تفريع على ما تقدم من التذكرة والموعظة ، والاستفهام للتعجيب ، و « لَهُمْ » متعلق بمحذوف والتقدير فما كان لهم : و « مُعْرِضِينَ » حال من ضمير « لَهُمْ » و « عَنِ التَّذْكِرَةِ » متعلق بمعرضين.

٩٨

والمعنى : فإذا كان كذلك فأي شيء كان ـ عرض ـ للمشركين الذين يكذبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدقوا ويؤمنوا لكنهم أعرضوا عنها وهو من العجب.

قوله تعالى : « كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ » تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة ، والحمر جمع حمار ، والمراد الحمر الوحشية والاستنفار بمعنى النفرة والقسورة الأسد والصائد ، وقد فسر بكل من المعنيين.

والمعنى : معرضين عن التذكرة كأنهم حمر وحشية نفرت من أسد أو من الصائد.

قوله تعالى : « بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً » المراد بالصحف المنشرة الكتاب السماوي المشتمل على الدعوة الحقة.

وفي الكلام إضراب عما ذكر من إعراضهم ، والمعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرد النفرة بل يريد كل امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن.

وهذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنهم إنما يقبلون دعوته ولا يردونها لو دعا كل واحد منهم بإنزال كتاب سماوي إليه مستقلا وأما الدعوة من طريق الرسالة فليسوا يستجيبونها وإن كانت حقة مؤيدة بالآيات البينة.

فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم : « لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ » الأنعام ١٢٤ ، وفي معنى قول الأمم لرسلهم : « إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا » على ما قررنا من حجتهم على نفي رسالة الرسل.

وقيل : إن الآية في معنى قولهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي حكاه الله في قوله : « وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ » إسراء ٩٣.

ويدفعه أن مدلول الآية أن ينزل على كل واحد منهم صحف منشرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء.

وقيل : المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقيل : المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب وإسباغ النعمة حتى

٩٩

يؤمنوا وإلا بقوا على كفرهم وقيل غير ذلك.

وهي جميعا معان بعيدة من السياق والتعويل على ما تقدم.

قوله تعالى : « كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ » ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماوي على كل واحد منهم فإن دعوة الرسالة مؤيدة بآيات بينة وحجج قاطعة لا تدع ريبا لمرتاب فالحجة تامة قائمة على الرسول وغيره على حد سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كل واحد من الناس المدعوين صحفا منشرة.

على أن الرسالة تحتاج من طهارة الذات وصلاحية النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم : « لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ » بقوله : « اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ».

وقوله : « بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ » إضراب عن قوله : « يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ » إلخ ، والمراد أن اقتراحهم نزول كتاب على كل امرئ منهم قول ظاهري منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم ، والسبب الحقيقي لكفرهم وتكذيبهم بالدعوة أنهم لا يخافون الآخرة ، ولو خافوها لآمنوا ولم يقترحوا آية بعد قيام الحجة بظهور الآيات البينات.

قوله تعالى : « كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ » ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماوي لكل امرئ منهم ، والمعنى لا ننزل كتابا كذلك أن القرآن تذكرة وموعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك ، وأثر ذلك ما أعد للمطيع والعاصي عندنا من الجزاء.

قوله تعالى : « فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ » أي فمن شاء اتعظ به فإنما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه.

قوله تعالى : « وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ » دفع لما يمكن أن يتوهموه من قوله تعالى : « فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ » أن الأمر إليهم وأنهم مستقلون في إرادتهم وما يترتب عليها من أفعالهم فإن لم يشاءوا الذكر ولم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد وأعجزوه فيما شاء من ذكرهم.

والمحصل من الدفع أن حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث ، وتذكرهم إن تذكروا وإن كان فعلا اختياريا صادرا عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشية الإلهية متعلقة به بما هو اختياري بمعنى أن الله تعالى يريد بإرادة تكوينية أن يفعل الإنسان

١٠٠