الميزان في تفسير القرآن - ج ٢٠

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٩٩

وقوله « وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً » ورود الترديد في سياق النهي يفيد عموم الحكم فالنهي عن طاعتهما سواء اجتمعا أو افترقا ، والظاهر أن المراد بالإثم المتلبس بالمعصية وبالكفور المبالغ في الكفر فتشمل الآية الكفار والفساق جميعا.

وسبق النهي عن طاعة الإثم والكفور بالأمر بالصبر لحكم ربه يفيد كون النهي مفسرا للأمر فمفاد النهي أن لا تطع منهم آثما إذا دعاك إلى إثمه ولا كفورا إذا دعاك إلى كفره لأن إثم الآثم منهم وكفر الكافر مخالفان لحكم ربك وأما تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلية فإنما يفيد علية الإثم والكفر للنهي عن الطاعة مطلقا لا عليتهما للنهي إذا دعا الآثم إلى خصوص إثمه والكافر إلى خصوص كفره.

قوله تعالى : « وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً » أي داوم على ذكر ربك وهو الصلاة في كل بكرة وأصيل وهما الغدو والعشي.

قوله تعالى : « وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً » من للتبعيض والمراد بالسجود له الصلاة ، ويقبل ما في الآيتين من ذكر اسمه بكرة وأصيلا والسجود له بعض الليل الانطباق على صلاة الصبح والعصر والمغرب والعشاء وهذا يؤيد نزول الآيات بمكة قبل فرض الفرائض الخمس بقوله في آية الإسراء : « أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ » إسراء : ٧٨.

فالآيتان كقوله تعالى : « وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ » هود : ١١٤ ، وقوله « وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ » طه : ١٣٠.

نعم قيل : على أن الأصيل يطلق على ما بعد الزوال فيشمل قوله « وَأَصِيلاً » وقتي صلاتي الظهر والعصر جميعا ، ولا يخلو من وجه.

وقوله : « وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً » أي في ليل طويل ووصف الليل بالطويل توضيحي لا احترازي ، والمراد بالتسبيح صلاة الليل ، واحتمل أن يكون طويلا صفة لمفعول مطلق محذوف ، والتقدير سبحه في الليل تسبيحا طويلا.

قوله تعالى : « إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً » تعليل لما تقدم من الأمر والنهي والإشارة بهؤلاء إلى جمع الإثم والكفور المدلول عليه بوقوع النكرة في

١٤١

سياق النهي ، والمراد بالعاجلة الحياة الدنيا ، وعد اليوم ثقيلا من الاستعارة ، والمراد بثقله شدته كأنه محمول ثقيل يشق حمله ، واليوم يوم القيامة.

وكون اليوم وراءهم تقرره أمامهم لأن وراء تفيد معنى الإحاطة ، أو جعلهم إياه خلفهم ووراء ظهورهم بناء على إفادة « يَذَرُونَ » معنى الإعراض.

والمعنى : فاصبر لحكم ربك وأقم الصلاة ولا تطع الآثمين والكفار منهم لأن هؤلاء الآثمين والكفار يحبون الحياة الدنيا فلا يعملون إلا لها ويتركون أمامهم يوما شديدا أو يعرضون فيجعلون خلفهم يوما شديدا سيلقونه.

قوله تعالى : « نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً » الشد خلاف الفك ، والأسر في الأصل الشد والربط ويطلق على ما يشد ويربط به فمعنى شددنا أسرهم أحكمنا ربط مفاصلهم بالرباطات والأعصاب والعضلات أو الأسر بمعنى المأسور والمعنى أحكمنا ربط أعضائهم المختلفة المشدودة بعضها ببعض حتى صار الواحد منهم بذلك إنسانا واحدا.

وقوله : « وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً » أي إذا شئنا بدلناهم أمثالهم فذهبنا بهم وجئنا بأمثالهم مكانهم وهو أماته قرن وإحياء آخرين ، وقيل المراد به تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة القيامة وهو بعيد من السياق.

والآية في معنى دفع الدخل كان متوهما يتوهم أنهم بحبهم للدنيا وإعراضهم عن الآخرة يعجزونه تعالى ويفسدون عليه إرادته منهم أن يؤمنوا ويطيعوا فأجيب بأنهم مخلوقون لله خلقهم وشد أسرهم وإذا شاء أذهبهم وجاء بآخرين فكيف يعجزونه وخلقهم وأمرهم وحياتهم وموتهم بيده.؟

قوله تعالى : « إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً » تقدم تفسيره في سورة المزمل والإشارة بهذه إلى ما ذكر في السورة.

قوله تعالى : « وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً » الاستثناء من النفي يفيد أن مشية العبد متوقفة في وجودها على مشيته تعالى فلمشيته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلقها بمشية العبد ، وليست متعلقة بفعل العبد مستقلا وبلا واسطة حتى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد وكون الفعل جبريا ولا أن العبد مستقل في إرادة يفعل ما يشاؤه شاء الله أو لم يشأ ، فالفعل اختياري لاستناده إلى اختيار العبد ، وأما

١٤٢

اختيار العبد فليس مستندا إلى اختيار آخر ، وقد تكرر توضيح هذا البحث في مواضع مما تقدم.

والآية مسوقة لدفع توهم أنهم مستقلون في مشيتهم منقطعون من مشية ربهم ، ولعل تسجيل هذا التنبيه عليهم هو الوجه في الالتفات إلى الخطاب في قوله « وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ » كما أن الوجه في الالتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله : « يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ » هو الإشارة إلى علة الحكم فإن مسمى هذا الاسم الجليل يبتدئ منه كل شيء وينتهي إليه كل شيء فلا تكون مشية إلا بمشيته ولا تؤثر مشية إلا بإذنه.

وقوله : « إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً » توطئة لبيان مضمون الآية التالية.

قوله تعالى : « يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً » مفعول « يَشاءُ » محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير يدخل في رحمته من يشاء دخوله في رحمته ، ولا يشاء إلا دخول من آمن واتقى ، وأما غيرهم وهم أهل الإثم والكفر فبين حالهم بقوله : « وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ».

والآية تبين سنته تعالى الجارية في عباده من حيث السعادة والشقاء ، وقد علل ذلك بما في ذيل الآية السابقة من قوله « إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً » فأفاد به أن سنته تعالى ليست سنة جزافية مبنية على الجهالة بل هو يعامل كلا من الطائفتين بما هو أهل له وسينبئهم حقيقة ما كانوا يعملون.

( بحث روائي )

وفي الدر المنثور ، أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : « وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً » قال : حدثنا أنها نزلت في عدو الله أبي جهل.

أقول : وهو أشبه بالتطبيق.

وفي المجمع : في قوله تعالى « وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً » روي عن الرضا عليه‌السلام : أنه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية وقال : ما ذلك التسبيح؟ قال : صلاة الليل.

وفي الخرائج والجرائح ، عن القائم عليه‌السلام : في حديث يقول لكامل بن إبراهيم المدني : وجئت تسأل عن مقالة المفوضة ـ كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشية الله عز وجل ـ فإذا شاء شئنا ، والله يقول « وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ».

١٤٣

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبي هريرة* أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول إذا خطب : كل ما هو آت قريب ، لا بعد لما يأتي ، ولا يعجل الله لعجلة أحد ، ما شاء الله لا ما شاء الناس ، يريد الناس أمرا ويريد الله أمرا ، ما شاء الله كان ولو كره الناس ، لا مباعد لما قرب الله ، ولا مقرب لما باعد الله ، لا يكون شيء إلا بإذن الله.

أقول : وفي بعض الروايات من طرق أهل البيت عليه‌السلام تطبيق الحكم في قوله : « فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ » والرحمة في قوله : « يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ » على الولاية وهو من الجري أو البطن وليس من التفسير في شيء.

* * *

( سورة المرسلات مكية وهي خمسون آية )

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) ).

( بيان )

تذكر السورة يوم الفصل وهو يوم القيامة وتؤكد الإخبار بوقوعه وتشفعه بالوعيد الشديد للمكذبين به والإنذار والتبشير لغيرهم ويربو فيها جانب الوعيد على غيره فقد كرر فيها قوله : « وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ » عشر مرات.

١٤٤

والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى : « وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً » الآية وما يتلوها إلى تمام ست آيات إقسام منه تعالى بأمور يعبر عنها بالمرسلات فالعاصفات والناشرات فالفارقات فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا ، والأوليان أعني المرسلات عرفا والعاصفات عصفا لا تخلوان لو خليتا ونفسهما مع الغض عن السياق من ظهور ما في الرياح المتعاقبة الشديدة الهبوب لكن الأخيرة أعني الملقيات ذكرا عذرا أو نذرا كالصريحة في الملائكة النازلين على الرسل الحاملين لوحي الرسالة الملقين له إليهم إتماما للحجة أو إنذارا وبقية الصفات لا تأبى الحمل على ما يناسب هذا المعنى.

وحمل جميع الصفات الخمس على إرادة الرياح كما هو ظاهر المرسلات والعاصفات ـ على ما عرفت ـ يحتاج إلى تكلف شديد في توجيه الصفات الثلاث الباقية وخاصة في الصفة الأخيرة.

وكذا حمل المرسلات والعاصفات على إرادة الرياح وحمل الثلاث الباقية أو الأخيرتين أو الأخيرة فحسب على ملائكة الوحي إذ لا تناسب ظاهرا بين الرياح وبين ملائكة الوحي حتى يقارن بينها في الأقسام وينظم الجميع في سلك واحد ، وما وجهوه من مختلف التوجيهات معان بعيدة عن الذهن لا ينتقل إليها في مفتتح الكلام من غير تنبيه سابق.

فالوجه هو الغض عن هذه الأقاويل وهي كثيرة جدا لا تكاد تنضبط ، وحمل المذكورات على إرادة ملائكة الوحي كنظيرتها في مفتتح سورة الصافات « وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً » وفي معناها قوله تعالى : « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ » الجن : ٢٨.

فقوله : « وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً » إقسام منه تعالى بها والعرف بالضم فالسكون الشعر النابت على عنق الفرس ويشبه به الأمور إذا تتابعت يقال : جاءوا كعرف الفرس ، ويستعار فيقال : جاء القطا عرفا أي متتابعة وجاءوا إليه عرفا واحدا أي متتابعين ، والعرف أيضا المعروف من الأمر والنهي و « عُرْفاً » حال بالمعنى الأول مفعول له بالمعنى الثاني ، والإرسال خلاف الإمساك ، وتأنيث المرسلات باعتبار الجماعات أو باعتبار الروح التي

١٤٥

تنزل بها الملائكة قال تعالى : « يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ » النحل : ٢ وقال « يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ » المؤمن : ١٥.

والمعنى أقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي.

وقيل : المراد بالمرسلات عرفا الرياح المتتابعة المرسلة وقد تقدمت الإشارة إلى ضعفه ، ومثله في الضعف القول بأن المراد بها الأنبياء عليهم‌السلام فلا يلائمه ما يتلوها.

قوله تعالى : « فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً » عطف على المرسلات والمراد بالعصف سرعة السير استعارة من عصف الرياح أي سرعة هبوبها إشارة إلى سرعة سيرها إلى ما أرسلت إليه ، والمعنى أقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة.

قوله تعالى : « وَالنَّاشِراتِ نَشْراً » إقسام آخر ، ونشر الصحيفة والكتاب والثوب ونحوها : بسطه ، والمراد بالنشر نشر صحف الوحي كما يشير إليه قوله تعالى « كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ » عبس : ١٦ والمعنى وأقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوبة عليها الوحي للنبي ليتلقاه.

وقيل : المراد بها الرياح ينشرها الله تعالى بين يدي رحمته وقيل : الرياح الناشرة للسحاب ، وقيل : الملائكة الناشرين لصحائف الأعمال ، وقيل : الملائكة نشروا أجنحتهم حين النزول وقيل : غير ذلك.

قوله تعالى « فَالْفارِقاتِ فَرْقاً » المراد به الفرق بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام ، والفرق المذكور صفة متفرعة على النشر المذكور.

قوله تعالى : « فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً » المراد بالذكر القرآن يقرءونه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو مطلق الوحي النازل على الأنبياء المقرو عليهم.

والصفات الثلاث أعني النشر والفرق وإلقاء الذكر مترتبة فإن الفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام يتحقق بنشر الصحف وإلقاء الذكر فبالنشر يشرع الفرق في التحقق وبالتلاوة يتم تحققه فالنشر يترتب عليه مرتبة من وجود الفرق ويترتب عليها تمام وجوده بالإلقاء.

١٤٦

وقوله : « عُذْراً أَوْ نُذْراً » هما من المفعول له و « أَوْ » للتنويع قيل : هما مصدران بمعنى الإعذار والإنذار ، والإعذار الإتيان بما يصير به معذورا والمعنى أنهم يلقون الذكر لتكون عذرا لعباده المؤمنين بالذكر وتخويفا لغيرهم.

وقيل : ليكون عذرا يعتذر به الله إلى عباده في العقاب أنه لم يكن إلا على وجه الحكمة ، ويئول إلى إتمام الحجة ، فمحصل المعنى عليه أنهم يلقون الذكر ليكون إتماما للحجة على المكذبين وتخويفا لغيرهم ، وهو معنى حسن.

قوله تعالى : « إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ » جواب القسم ، وما موصولة والخطاب لعامة البشر ، والمراد بما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب والثواب والواقع أبلغ من الكائن لما فيه من شائبة الاستقرار ، والمعنى أن الذي وعدكم الله به من البعث والعقاب والثواب سيتحقق لا محالة.

( كلام في إقسامه تعالى في القرآن )

من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الست أنها مع ما تتضمن الإقسام لتأكيد الخبر الذي في الجواب تتضمن الحجة على مضمون الجواب وهو وقوع الجزاء الموعود فإن التدبير الربوبي الذي يشير إليه القسم أعني إرسال المرسلات العاصفات ونشرها الصحف وفرقها وإلقاءها الذكر للنبي تدبير لا يتم إلا مع وجود التكليف الإلهي والتكليف لا يتم إلا مع تحتم وجود يوم معد للجزاء يجازى فيه العاصي والمطيع من المكلفين.

فالذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هو بعينه حجة على وقوعه كأنه قيل : أقسم بهذه الحجة أن مدلولها واقع.

وإذا تأملت الموارد التي أورد فيها القسم في كلامه تعالى وأمعنت فيها وجدت المقسم به فيها حجة دالة على حقية الجواب كقوله تعالى في الرزق : « فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ » الذاريات : ٢٣ فإن ربوبية السماء والأرض هي المبدأ لرزق المرزوقين ، وقوله : « لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ » الحجر : ٧٢ فإن حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الطاهرة المصونة بعصمة من الله دالة على سكرهم وعمههم ، وقوله : « وَالشَّمْسِ وَضُحاها ـ إلى أن قال ـ وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ

١٤٧

دَسَّاها » الشمس : ١٠ فإن هذا النظام المتقن المنتهي إلى النفس الملهمة المميزة لفجورها وتقواها هو الدليل على فلاح من زكاها وخيبة من دساها.

وعلى هذا النسق سائر ما ورد من القسم في كلامه تعالى وإن كان بعضها لا يخلو من خفاء يحوج إلى إمعان من النظر كقوله : « وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ » التين : ٢ وعليك بالتدبر فيها.

* * *

قوله تعالى : « فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ـ إلى قوله ـ أُقِّتَتْ » بيان لليوم الموعود الذي أخبر بوقوعه في قوله : « إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ » وجواب إذا محذوف يدل عليه قوله : « لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ـ إلى قوله ـ لِلْمُكَذِّبِينَ ».

وقد عرف سبحانه اليوم الموعود بذكر حوادث واقعة تلازم انقراض العالم الإنساني وانقطاع النظام الدنيوي كانطماس النجوم وانشقاق الأرض واندكاك الجبال وتحول النظام إلى نظام آخر يغايره ، وقد تكرر ذلك في كثير من السور القرآنية وخاصة السور القصار كسورة النبإ والنازعات والتكوير والانفطار والانشقاق والفجر والزلزال والقارعة ، وغيرها ، وقد عدت الأمور المذكورة فيها في الأخبار من أشراط الساعة.

ومن المعلوم بالضرورة من بيانات الكتاب والسنة أن نظام الحياة في جميع شئونها في الآخرة غير نظامها في الدنيا فالدار الآخرة دار أبدية فيها محض السعادة لساكنيها لهم فيها ما يشاءون أو محض الشقاء وليس لهم فيها إلا ما يكرهون والدار الدنيا دار فناء وزوال لا يحكم فيها إلا الأسباب والعوامل الخارجية الظاهرية مخلوط فيها الموت بالحياة ، والفقدان بالوجدان ، والشقاء بالسعادة ، والتعب بالراحة ، والمساءة بالسرور ، والآخرة دار جزاء ولا عمل والدنيا دار عمل ولا جزاء ، وبالجملة النشأة غير النشأة.

فتعريفه تعالى نشأة البعث والجزاء بأشراطها التي فيها انطواء بساط الدنيا بخراب بنيان أرضها وانتساف جبالها وانشقاق سمائها وانطماس نجومها إلى غير ذلك من قبيل تحديد نشأة بسقوط النظام الحاكم في نشأة أخرى قال تعالى : « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ » الواقعة : ٦٢.

١٤٨

فقوله : « فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ » أي محي أثرها من النور وغيره ، والطمس إزالة الأثر بالمحو قال تعالى : « وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ » التكوير : ٢.

وقوله : « وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ » أي انشقت ، والفرج والفرجة الشق بين الشيئين قال تعالى : « إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ » الانشقاق : ١.

وقوله : « وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ » أي قلعت وأزيلت من قولهم : نسفت الريح الشيء أي اقتلعته وأزالته قال تعالى : « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً » طه : ١٠٥.

وقوله : « وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ » أي عين لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم أو بلغت الوقت الذي تنتظره لأداء شهادتها على الأمم من التأقيت بمعنى التوقيت ، قال تعالى : « فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ » الأعراف : ٦ ، وقال : « يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ » المائدة : ١٠٩.

قوله تعالى : « لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ـ إلى قوله ـ لِلْمُكَذِّبِينَ » الأجل المدة المضروبة للشيء ، والتأجيل جعل الأجل للشيء ، ويستعمل في لازمه وهو التأخير كقولهم : دين مؤجل أي له مدة بخلاف الحال وهذا المعنى هو الأنسب للآية ، والضمير في « أُجِّلَتْ » للأمور المذكورة قبلا من طمس النجوم وفرج السماء ونسف الجبال وتأقيت الرسل ، والمعنى لأي يوم أخرت يوم أخرت هذه الأمور.

واحتمل أن يكون « أُجِّلَتْ » بمعنى ضرب الأجل للشيء وأن يكون الضمير المقدر فيه راجعا إلى الرسل ، أو إلى ما يشعر به الكلام من الأمور المتعلقة بالرسل مما أخبروا به من أحوال الآخرة وأهوالها وتعذيب الكافرين وتنعيم المؤمنين فيها ، ولا يخلو كل ذلك من خفاء.

وقد سيقت الآية والتي بعدها أعني قوله : « لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ » في صورة الاستفهام وجوابه للتعظيم والتهويل والتعجيب وأصل المعنى أخرت هذه الأمور ليوم الفصل.

وهذا النوع من الجمل الاستفهامية في معنى تقدير القول ، والمعنى أن من عظمة هذا اليوم وهوله وكونه عجبا أنه يسأل فيقال : لأي يوم أخرت هذه الأمور العظيمة الهائلة العجيبة فيجاب : ليوم الفصل.

وقوله : « لِيَوْمِ الْفَصْلِ » هو يوم الجزاء الذي فيه فصل القضاء قال تعالى : « إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ » الحج : ١٧.

١٤٩

وقوله : « وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ » تعظيم لليوم وتفخيم لأمره.

وقوله : « وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ » الويل الهلاك ، والمراد بالمكذبين المكذبون بيوم الفصل الذي فيه ما يوعدون فإن الآيات مسوقة لبيان وقوعه وقد أقسم على أنه واقع.

وفي الآية دعاء على المكذبين ، وقد استغنى به عن ذكر جواب إذا في قوله : « فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ » إلخ والتقدير فإذا كان كذا وكذا وقع ما توعدون من العذاب على التكذيب أو التقدير فإذا كان كذا وكذا كان يوم الفصل وهلك المكذبون به.

( بحث روائي )

في الخصال ، عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : أسرع الشيب إليك يا رسول الله قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون.

وفي الدر المنثور ، أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال : بينما نحن مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في غار بمنى ـ إذ نزلت عليه سورة والمرسلات عرفا ـ فإنه يتلوها وإني لألقاها من فيه ـ وإن فاه لرطب بها إذ وثبت عليه حية ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : اقتلوها فابتدرناها فذهبت ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقيت شركم كما وقيتم شرها.

أقول : ورواها أيضا بطريقين آخرين.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً » قال : آيات تتبع بعضها بعضا.

وفي المجمع : في الآية وقيل : إنها الملائكة أرسلت بالمعروف ـ من أمر الله ونهيه. في رواية الهروي عن ابن مسعود ، وعن أبي حمزة الثمالي عن أصحاب علي عنه عليه‌السلام.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ » قال : يذهب نورها وتسقط.

وفيه ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله : « فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ » فطمسها ذهاب ضوئها « وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ » قال : تفرج وتنشق « وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ » قال : بعثت في أوقات مختلفة.

وفي المجمع قال الصادق عليه‌السلام : « أُقِّتَتْ » أي بعثت في أوقات مختلفة.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ » قال : أخرت.

١٥٠

* * *

( أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧)

١٥١

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠) ).

( بيان )

حجج دالة على توحد الربوبية تقضي بوجود يوم الفصل الذي فيه جزاء المكذبين به ، وإشارة إلى ما فيه من الجزاء المعد لهم الذي كانوا يكذبون به ، وإلى ما فيه من النعمة والكرامة للمتقين ، وتختتم بتوبيخهم وذمهم على استكبارهم عن عبادته تعالى والإيمان بكلامه.

قوله تعالى : « أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ » الاستفهام للإنكار ، والمراد بالأولين أمثال قوم نوح وعاد وثمود من الأمم القديمة عهدا ، وبالآخرين الملحقون بهم من الأمم الغابرة ، والإتباع جعل الشيء أثر الشيء.

وقوله : « ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ » برفع نتبع على الاستيناف وليس بمعطوف على « نُهْلِكِ » وإلا لجزم.

والمعنى قد أهلكنا المكذبين من الأمم الأولين ثم إنا نهلك الأمم الآخرين على أثرهم.

وقوله : « كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ » في موضع التعليل لما تقدمه ولذا أورد بالفصل من غير عطف كان قائلا قال : لما ذا أهلكوا؟ فقيل : كذلك نفعل بالمجرمين. والآيات ـ كما ترى ـ إنذار وإرجاع للبيان إلى الأصل المضروب في السورة أعني قوله : « وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ » وهي بعينها حجة على توحد الربوبية فإن إهلاك المجرمين من الإنسان تصرف في العالم الإنساني وتدبير ، وإذ ليس المهلك إلا الله ـ وقد اعترف به المشركون ـ فهو الرب لا رب سواه ولا إله غيره.

على أنها تدل على وجود يوم الفصل لأن إهلاك قوم لإجرامهم لا يتم إلا بعد توجه تكليف إليهم يعصونه ولا معنى للتكليف إلا مع مجازاة المطيع بالثواب والعاصي بالعقاب فهناك يوم يفصل فيه القضاء فيثاب فيه المطيع ويعاقب فيه العاصي وليس هو الثواب والعقاب الدنيويين لأنهما لا يستوعبان في هذه الدار فهناك يوم يجازى فيه كل بما عمل ، وهو يوم الفصل ذلك يوم مجموع له الناس.

١٥٢

قوله تعالى : « أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ـ إلى قوله ـ فَنِعْمَ الْقادِرُونَ » الاستفهام للإنكار والماء المهين الحقير قليل الغناء والمراد به النطفة ، والمراد بالقرار المكين الرحم وبقوله : « قَدَرٍ مَعْلُومٍ » مدة الحمل.

وقوله : « فَقَدَرْنا » من القدر بمعنى التقدير ، والفاء لتفريع القدر على الخلق أي خلقناكم فقدرنا ما سيجري عليكم من الحوادث وما يستقبلكم من الأوصاف والأحوال من طول العمر وقصره وهيئة وجمال وصحة ومرض ورزق إلى غير ذلك.

واحتمل أن يكون « فَقَدَرْنا » من القدرة مقابل العجز والمراد فقدرنا على جميع ذلك ، وما تقدم أوجه.

والمعنى : قد خلقناكم من ماء حقير هو النطفة فجعلنا ذلك الماء في قرار مكين هي الرحم إلى مدة معلومة هي مدة الحمل فقدرنا جميع ما يتعلق بوجودكم من الحوادث والصفات والأحوال فنعم المقدرون نحن.

ويجري في كون مضمون هذه الآيات حجة على توحد الربوبية نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة ، وكذا في كونه حجة على تحقق يوم الفصل فإن الربوبية تستوجب خضوع المربوبين لساحتها وهو الدين المتضمن للتكليف ، ولا يتم التكليف إلا بجعل جزاء على الطاعة والعصيان ، واليوم الذي يجازى فيه بالأعمال هو يوم الفصل.

قوله تعالى : « أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً ـ إلى قوله ـ فُراتاً » الكفت والكفات بمعنى الضم والجمع أي ألم نجعل الأرض كفاتا يجمع العباد أحياء وأمواتا ، وقيل : الكفات جمع كفت بمعنى الوعاء ، والمعنى ألم نجعل الأرض أوعية تجمع الأحياء والأموات.

وقوله : « وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ » الرواسي الثابتات من الجبال ، والشامخات العاليات ، وكان في ذكر الرواسي توطئة لقوله : « وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً » لأن الأنهار والعيون الطبيعية تنفجر من الجبال فتجري على السهول ، والفرات الماء العذب.

ويجري في حجية الآيات نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة.

قوله تعالى : « انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ » حكاية لما يقال لهم يوم الفصل والقائل هو الله سبحانه بقرينة قوله في آخر الآيات : « فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ » والمراد بما كانوا

١٥٣

به يكذبون : جهنم ، والانطلاق الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث ، والمعنى يقال لهم : انتقلوا من المحشر من غير مكث إلى النار التي كنتم تكذبون به.

قوله تعالى : « انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ » ذكروا أن المراد بهذا الظل ظل دخان نار جهنم قال تعالى : « وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ » الواقعة : ٤٣.

وذكروا أن في ذكر انشعابه إلى ثلاث شعب إشارة إلى عظم الدخان فإن الدخان العظيم يتفرق تفرق الذوائب.

قوله تعالى : « لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ » الظل الظليل هو المانع من الحر والأذى بستره على المستظل فكون الظل غير ظليل كونه لا يمنع ذلك ، واللهب ما يعلو على النار من أحمر وأصفر وأخضر.

قوله تعالى : « إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ » ضمير أنها للنار المعلومة من السياق ، والشرر ما يتطاير من النار ، والقصر معروف ، والجمالة جمع جمل وهو البعير. والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ » الإشارة إلى يوم الفصل ، والمراد بالإذن الإذن في النطق أو في الاعتذار.

وقوله : « فَيَعْتَذِرُونَ » معطوف على « يُؤْذَنُ » منتظم معه في سلك النفي ، والمعنى هذا اليوم يوم لا ينطقون فيه أي أهل المحشر من الناس ولا يؤذن لهم في النطق أو في الاعتذار فلا يعتذرون ، ولا ينافي نفي النطق هاهنا إثباته في آيات أخر لأن اليوم ذو مواقف كثيرة مختلفة يسألون في بعضها فينطقون ويختم على أفواههم في آخر فلا ينطقون.

وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : « يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » هود : ١٠٥ فليراجع.

قوله تعالى : « هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ » سمي يوم الفصل لما أن الله تعالى يفصل ويميز فيه بين أهل الحق وأهل الباطل بالقضاء بينهم قال تعالى : « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » السجدة : ٢٥ ، وقال : « إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » يونس : ٩٣.

والخطاب في قوله : « جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ » لمكذبي هذه الأمة بما أنهم من الآخرين ولذا قوبلوا بالأولين قال تعالى : « ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ » هود : ١٠٣ وقال « وَحَشَرْناهُمْ

١٥٤

فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً » الكهف : ٦٧.

وقوله : « فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ » أي إن كانت لكم حيلة تحتالون بي في دفع عذابي عن أنفسكم فاحتالوا ، وهذا خطاب تعجيزي منبئ عن انسلاب القوة والقدرة عنهم يومئذ بالكلية بظهور أن لا قوة إلا لله عز اسمه قال تعالى : « وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ » البقرة : ١٦٦.

والآية أعني قوله : « فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ » أوسع مدلولا من قوله : « يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ » الرحمن : ٣٣ لاختصاصه بنفي القدرة على الفرار بخلاف الآية التي نحن فيها وفي قوله : « فَكِيدُونِ » التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده والنكتة فيه أن متعلق هذا الأمر التعجيزي إنما هو الكيد لمن له القوة والقدرة فحسب وهو الله وحده ولو قيل : فكيدونا فأت الإشعار بالتوحد.

قوله تعالى : « إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ـ إلى قوله ـ الْمُحْسِنِينَ » الظلال والعيون ظلال الجنة وعيونها التي يتنعمون بالاستظلال بها وشربها ، والفواكه جمع فاكهة وهي الثمرة.

وقوله : « كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » مفاده الإذن والإباحة ، وكان الأكل والشرب كناية عن مطلق التنعم بنعم الجنة والتصرف فيها وإن لم يكن بالأكل والشرب ، وهو شائع كما يطلق أكل المال على مطلق التصرف فيه.

وقوله : « إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ » تسجيل لسعادتهم.

قوله تعالى : « كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ » الخطاب من قبيل قولهم : افعل ما شئت فإنه لا ينفعك ، وهذا النوع من الأمر إياس للمخاطب أن ينتفع بما يأتي به من الفعل للحصول على ما يريده ، ومنه قوله : « فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا » طه : ٧٢ ، وقوله : « اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » حم السجدة : ٤٠.

فقوله : « كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً » أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا إياس لهم من أن ينتفعوا بمثل الأكل والتمتع في دفع العذاب عن أنفسهم فليأكلوا وليتمتعوا قليلا فليس يدفع عنهم شيئا.

١٥٥

وإنما ذكر الأكل والتمتع لأن منكري المعاد لا يرون من السعادة إلا سعادة الحياة الدنيا ولا يرون لها من السعادة إلا الفوز بالأكل والتمتع كالحيوان العجم قال تعالى : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ » سورة محمد : ١٢.

وقوله : « إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ » تعليل لما يستفاد من الجملة السابقة المشتملة على الأمر أي لا ينفعكم الأكل والتمتع قليلا لأنكم مجرمون بتكذيبكم بيوم الفصل وجزاء المكذبين به النار لا محالة.

قوله تعالى : « وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ » المراد بالركوع الصلاة كما قيل ولعل ذلك باعتبار اشتمالها على الركوع.

وقيل : المراد بالركوع المأمور به الخشوع والخضوع والتواضع له تعالى باستجابة دعوته وقبول كلامه واتباع دينه ، وعبادته.

وقيل : المراد بالركوع ما يؤمرون بالسجود يوم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى « وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ » القلم : ٤٢ والوجهان لا يخلوان من بعد.

ووجه اتصال الآية بما قبلها أن الكلام كان مسوقا لتهديد المكذبين بيوم الفصل وبيان تبعة تكذيبهم به وتمم ذلك في هذه الآية بأنهم لا يعبدون الله إذا دعوا إلى عبادته كما ينكرون ذلك اليوم فلا معنى للعبادة مع نفي الجزاء ، وليكون كالتوطئة لقوله الآتي : « فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ».

ونسب إلى الزمخشري أن الآية متصلة بقوله في الآية السابقة : « لِلْمُكَذِّبِينَ » كأنه قيل : ويل يومئذ للذين كذبوا والذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.

وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله : « وَإِذا قِيلَ لَهُمُ » إلخ وجهه الإعراض عن مخاطبتهم بعد تركهم وأنفسهم يفعلون ما يشاءون بقوله : « كُلُوا وَتَمَتَّعُوا ».

قوله تعالى : « فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ » أي إذا لم يؤمنوا بالقرآن وهو آية معجزة إلهية ، وقد بين لهم أن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأن أمامهم يوم الفصل بأوضح البيان وساطع البرهان فبأي كلام بعد القرآن يؤمنون.

وهذا إيئاس من إيمانهم بالله ورسوله واليوم الآخر وكالتنبيه على أن رفع اليد عن دعوتهم إلى الإيمان بإلقاء قوله : « كُلُوا وَتَمَتَّعُوا » إليهم في محله فليسوا بمؤمنين ولا فائدة في دعوتهم غير أن فيها إتماما للحجة.

١٥٦

( بحث روائي )

في تفسير القمي ، وقوله : « أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ » قال : منتن « فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ » قال : في الرحم ـ وأما قوله : « إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ » يقول : منتهى الأجل.

أقول : وفي أصول الكافي ، في رواية عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام : تطبيق قوله : « أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ » على مكذبي الرسل في طاعة الأوصياء ، وقوله : « ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ » على من أجرم إلى آل محمد عليه‌السلام. على اضطراب في متن الخبر ، وهو من الجري دون التفسير.

وفيه : وقوله « أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً » قال الكفات المساكن وقال : نظر أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجوعه من صفين إلى المقابر ـ فقال : هذه كفات الأموات أي مساكنهم ـ ثم نظر إلى بيوت الكوفة فقال : هذه كفات الأحياء. ثم تلا قوله : « أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً ».

أقول : وروي في المعاني ، بإسناده عن حماد عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه نظر إلى المقابر. وذكر مثل الحديث السابق.

وفيه : وقوله « وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ » قال : جبال مرتفعة.

وفيه : وقوله « انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ » قال فيه ثلاث شعب من النار ـ وقوله : « إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ » قال : شر النار مثل القصور والجبال.

وفيه : وقوله « إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ » قال : في ظلال من نور أنور من الشمس.

وفي المجمع في قوله : « وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ » قال مقاتل : نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصلاة ـ فقالوا : لا ننحني. والرواية لا نحني فإن ذلك سبة علينا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود.

أقول : وفي انطباق القصة ـ وقد وقعت بعد الهجرة ـ على الآية خفاء.

وفي تفسير القمي في الآية السابقة قال : وإذا قيل لهم « تولوا الإمام لم يتولوه ».

أقول : وهو من الجري دون التفسير.

١٥٧

( سورة النبإ مكية وهي أربعون آية )

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) ).

( بيان )

تتضمن السورة الإخبار بمجيء يوم الفصل وصفته والاحتجاج على أنه حق لا ريب فيه ، فقد افتتحت بذكر تساؤلهم عن نبئه ثم ذكر في سياق الجواب ولحن التهديد أنهم سيعلمون ثم احتج على ثبوته بالإشارة إلى النظام المشهود في الكون بما فيه من التدبير الحكيم الدال بأوضح الدلالة على أن وراء هذه النشأة المتغيرة الدائرة نشأة ثابتة باقية ، وأن عقيب هذه الدار التي فيها عمل ولا جزاء دارا فيها جزاء ولا عمل فهناك يوم يفصح عنه هذا النظام.

ثم تصف اليوم بما يقع فيه من إحضار الناس وحضورهم وانقلاب الطاغين إلى عذاب أليم والمتقين إلى نعيم مقيم ويختم الكلام بكلمة في الإنذار ، والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى : « عَمَّ يَتَساءَلُونَ » « عَمَ » أصله عما وما استفهامية تحذف الألف منها

١٥٨

اطرادا إذا دخل عليها حرف الجر نحو لم ومم وعلى م وإلى م ، والتساؤل سؤال القوم بعضهم بعضا عن أمر أو سؤال بعضهم بعد بعض عن أمر وإن كان المسئول غيرهم ، فهم كان يسأل بعضهم بعضا عن أمر أو كان بعضهم بعد بعض يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أمر وحيث كان سياق السورة سياق جواب يغلب فيه الإنذار والوعيد تأيد به أن المتسائلين هم كفار مكة من المشركين النافين للنبوة والمعاد دون المؤمنين ودون الكفار والمؤمنين جميعا.

فالتساؤل من المشركين والإخبار عنه في صورة الاستفهام للإشعار بهوانه وحقارته لظهور الجواب عنه ظهورا ما كان ينبغي معه أن يتساءلوا عنه.

قوله تعالى : « عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ » جواب عن الاستفهام السابق أي يتساءلون عن النبإ العظيم ، ولا يخفى ما في توصيف النبإ المتسائل عنه بالعظيم من تعظيمه وتفخيم أمره.

والمراد بالنبإ العظيم نبأ البعث والقيامة الذي يهتم به القرآن العظيم في سورة المكية ولا سيما في العتائق النازلة في أوائل البعثة كل الاهتمام.

ويؤيد ذلك سياق آيات السورة بما فيه من الاقتصار على ذكر صفة يوم الفصل وما تقدم عليها من الحجة على أنه حق واقع.

وقيل : المراد به نبأ القرآن العظيم ، ويدفعه كون السياق بحسب مصبه أجنبيا عنه وإن كان الكلام لا يخلو من إشارة إليه استلزاما.

وقيل : النبأ العظيم ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصانع وصفاته والملائكة والرسل والبعث والجنة والنار وغيرها ، وكان القائل به اعتبر فيه ما في السورة من الإشارة إلى حقية جميع ذلك مما تتضمنه الدعوة الحقة الإسلامية.

ويدفعه أن الإشارة إلى ذلك كله من لوازم صفة البعث المتضمنة لجزاء الاعتقاد الحق والعمل الصالح والكفر والاجرام ، وقد دخل فيما في السورة من صفة يوم الفصل تبعا وبالقصد الثاني.

على أن المراد بهؤلاء المتسائلين ـ كما تقدم ـ المشركون وهم يثبتون الصانع والملائكة وينفون ما وراء ذلك مما ذكر.

وقوله : « الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ » إنما اختلفوا في نحو إنكاره وهم متفقون في نفيه

١٥٩

فمنهم من كان يرى استحالته فينكره كما هو ظاهر قولهم على ما حكاه الله : « هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ » سبأ : ٧ ، ومنهم من كان يستبعده فينكره وهو قولهم : « أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ » المؤمنون : ٣٦ ، ومنهم من كان يشك فيه فينكره قال تعالى : « بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها » النمل ٦٦ ، ومنهم من كان يوقن به لكنه لا يؤمن عنادا فينكره كما كان لا يؤمن بالتوحيد والنبوة وسائر فروع الدين بعد تمام الحجة عنادا قال تعالى : « بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ » الملك : ٢١.

والمحصل من سياق الآيات الثلاث وما يتلوها أنهم لما سمعوا ما ينذرهم به القرآن من أمر البعث والجزاء يوم الفصل ثقل عليهم ذلك فغدوا يسأل بعضهم بعضا عن شأن هذا النبإ العجيب الذي لم يكن مما قرع أسماعهم حتى اليوم ، وربما راجعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين وسألوهم عن صفة اليوم وأنه متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وربما كانوا يراجعون في بعض ما قرع سمعهم من حقائق القرآن واحتوته دعوته الجديدة أهل الكتاب وخاصة اليهود ويستمدونهم في فهمه.

وقد أشار تعالى في هذه السورة إلى قصة تساؤلهم في صورة السؤال والجواب فقال : « عَمَّ يَتَساءَلُونَ » وهو سؤال عما يتساءلون عنه. ثم قال : « عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ » وهو جواب السؤال عما يتساءلون عنه. ثم قال : « كَلَّا سَيَعْلَمُونَ » إلخ ، وهو جواب عن تساؤلهم.

وللمفسرين في مفردات الآيات الثلاث وتقرير معانيها وجوه كثيرة تركناها لعدم ملاءمتها السياق والذي أوردناه هو الذي يعطيه السياق.

قوله تعالى : « كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ » ردع عن تساؤلهم عنه بانين ذلك على الاختلاف في النفي أي ليرتدعوا عن التساؤل لأنه سينكشف لهم الأمر بوقوع هذا النبإ فيعلمونه ، وفي هذا التعبير تهديد كما في قوله : « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ » الشعراء : ٢٢٧.

وقوله : « ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ » تأكيد للردع والتهديد السابقين ولحن التهديد هو القرينة على أن المتسائلين هم المشركون النافون للبعث والجزاء دون المؤمنين ودون المشركين والمؤمنين جميعا.

١٦٠