الميزان في تفسير القرآن - ج ٢٠

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٩٩

فقيل : الإنسان فكونه مذكورا كناية عن كونه موجودا بالفعل فالنفي في قوله : « لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً » متوجه إلى كونه شيئا مذكورا لا إلى أصل كونه شيئا فقد كان شيئا ولم يكن شيئا مذكورا ويؤيده قوله : « إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ » إلخ فقد كان موجودا بمادته ولم يتكون بعد إنسانا بالفعل والآية وما يتلوها من الآيات واقعة في سياق الاحتجاج يبين بها أن الإنسان حادث يحتاج في وجوده إلى صانع يصنعه وخالق يخلقه ، وقد خلقه ربه وجهزه التدبير الربوبي بأدوات الشعور من السمع والبصر يهتدي بها إلى السبيل الحق الذي من الواجب أن يسلكه مدى حياته فإن كفر فمصيره إلى عذاب أليم وإن شكر فإلى نعيم مقيم.

والمعنى هل أتى ـ قد أتى ـ على الإنسان قطعة محدودة من هذا الزمان الممتد ـ غير المحدود والحال أنه لم يكن موجودا بالفعل مذكورا في عداد المذكورات.

قوله تعالى : « إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً » النطفة في الأصل بمعنى الماء القليل غلب استعماله في ماء الذكور من الحيوان الذي يتكون منه مثله ، وأمشاج جمع مشيج أو المشج بفتحتين أو بفتح فكسر بمعنى المختلط الممتزج ، ووصفت بها النطفة باعتبار أجزائها المختلفة أو اختلاط ماء الذكور والإناث.

والابتلاء نقل الشيء من حال إلى حال ومن طور إلى طور كابتلاء الذهب في البوتقة ، وابتلاؤه تعالى الإنسان في خلقه من النطفة هو ما ذكره في مواضع من كلامه أنه يخلق النطفة فيجعلها علقة والعلقة مضغة إلى آخر الأطوار التي تتعاقبها حتى ينشئه خلقا آخر.

وقيل : المراد بابتلائه امتحانه بالتكليف ، ويدفعه تفريع قوله : « فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً » على الابتلاء ولو كان المراد به التكليف كان من الواجب تفريعه على جعله سميعا بصيرا لا بالعكس ، والجواب عنه بأن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير إنا خلقناه من نطفة أمشاج فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه ، لا يصغي إليه.

وقوله : « فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً » سياق الآيات وخاصة قوله : « إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ » إلخ يفيد أن ذكر جعله سميعا بصيرا للتوسل به في التدبير الربوبي إلى غايته وهي أن يرى آيات الله الدالة على المبدإ والمعاد ويسمع كلمة الحق التي تأتيه من جانب ربه بإرسال الرسل وإنزال الكتب فيدعوه البصر والسمع إلى سلوك سبيل الحق والسير في مسير الحياة بالإيمان والعمل الصالح فإن لزم السبيل الذي هدي إليه أداه إلى نعيم الأبد وإلا فإلى عذاب مخلد.

١٢١

وذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير والنكتة فيه تسجيل أنه تعالى هو خالقه ومدبر أمره.

والمعنى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة هي أجزاء مختلطة ممتزجة والحال أنا ننقله من حال إلى حال ومن طور إلى طور فجعلناه سميعا بصيرا ليسمع ما يأتيه من الدعوة الإلهية ، ويبصر الآيات الإلهية الدالة على وحدانيته تعالى والنبوة والمعاد.

قوله تعالى : « إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب والمراد بالسبيل السبيل بحقيقة معنى الكلمة وهو المؤدي إلى الغاية المطلوبة وهو سبيل الحق.

والشكر استعمال النعمة بإظهار كونها من منعمها وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : « وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ » آل عمران : ١٤٤ إن حقيقة كون العبد شاكرا لله كونه مخلصا لربه ، والكفران استعمالها مع ستر كونها من المنعم.

وقوله : « إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » حالان من ضمير « هَدَيْناهُ » لا من « السَّبِيلَ » كما قاله بعضهم ، و « إِمَّا » يفيد التقسيم والتنويع أي إنا هديناه السبيل حال كونه منقسما إلى الشاكر والكفور أي أنه مهدي سواء كان كذا أو كذلك.

والتعبير بقوله : « إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » هو الدليل أولا : على أن المراد بالسبيل السنة والطريقة التي يجب على الإنسان أن يسلكها في حياته الدنيا لتوصله إلى سعادته في الدنيا والآخرة وتسوقه إلى كرامة القرب والزلفى من ربه ومحصله الدين الحق وهو عند الله الإسلام.

وبه يظهر أن تفسير بعضهم السبيل بسبيل الخروج من الرحم غير سديد.

وثانيا : أن السبيل المهدي إليه سبيل اختياري وأن الشكر والكفر اللذين يترتبان على الهداية المذكورة واقعان في مستقر الاختيار للإنسان أن يتلبس بأيهما شاء من غير إكراه وإجبار كما قال تعالى : « ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ » عبس : ٢٠ ، وما في آخر السورة من قوله تعالى : « فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ » إنما يفيد تعلق مشيته تعالى بمشية العبد لا بفعل العبد الذي تعلقت به مشية العبد حتى يفيد نفي تأثير مشية العبد المتعلقة بفعله ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في هذا الكتاب مرارا.

١٢٢

والهداية التي هي نوع إيذان وإعلام منه تعالى للإنسان هداية فطرية هي تنبيه بسبب نوع خلقته وما جهز به وجوده بإلهام من الله سبحانه على حق الاعتقاد وصالح العمل قال تعالى : « وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها » الشمس : ٨ وأوسع مدلولا منه قوله تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ » الروم : ٣٠.

وهداية قولية من طريق الدعوة يبعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع الإلهية ، ولم يزل التدبير الربوبي تدعم الحياة الإنسانية بالدعوة الدينية القائم بها أنبياؤه ورسله ، ويؤيد بذلك دعوة الفطرة كما قال : « إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ـ إلى أن قال ـ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » النساء : ١٦٥.

ومن الفرق بين الهدايتين أن الهداية الفطرية عامة بالغة لا يستثني منها إنسان لأنها لازم الخلقة الإنسانية وهي في الأفراد بالسوية غير أنها ربما تضعف أو يلغو أثرها لعوامل وأسباب تشغل الإنسان وتصرفه عن التوجه إلى ما يدعو إليه عقله ويهديه إليه فطرته أو ملكات وأحوال رديئة سيئة تمنعه عن إجابة نداء الفطرة كالعناد واللجاج وما يشبه ذلك قال تعالى : « أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ » الجاثية : ٢٣ ، والهداية المنفية في الآية بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون إراءة الطريق بدليل قوله : « وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ ».

وأما الهداية القولية وهي التي تتضمنها الدعوة الدينية فإن من شأنها أن تبلغ المجتمع فتكون في معرض من عقول الجماعة فيرجع إليها من آثر الحق على الباطل وأما بلوغها لكل واحد واحد منهم فإن العلل والأسباب التي يتوسل بها إلى بيان أمثال هذه المقاصد ربما لا تساعد على ذلك على ما في الظروف والأزمنة والبيئات من الاختلاف وكيف يمكن لإنسان أن يدعو كل إنسان إلى ما يريد بنفسه أو بوسائط من نوعه؟ فمن المتعذر ذلك جدا.

وإلى المعنى الأول أشار تعالى بقوله : « وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ » فاطر : ٢٤ ، وإلى الثاني بقوله : « لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ » يس : ٦.

فمن بلغته الدعوة وانكشف له الحق فقد تمت عليه الحجة ومن لم تبلغه الدعوة بلوغا ينكشف به له الحق فقد أدركه الفضل الإلهي بعده مستضعفا أمره إلى الله إن يشأ يغفر

١٢٣

له وإن يشأ يعذبه قال تعالى : « إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً » النساء : ٩٨.

ثم من الدليل على أن الدعوة الإلهية وهي الهداية إلى السبيل حق يجب على الإنسان أن يتبعها فطرة الإنسان وخلقته المجهزة بما يهدي إليها من الاعتقاد والعمل ، ووقوع الدعوة خارجا من طريق النبوة والرسالة فإن سعادة كل موجود وكماله في الآثار والأعمال التي تناسب ذاته وتلائمها بما جهزت به من القوى والأدوات فسعادة الإنسان وكماله في اتباع الدين الإلهي الذي هو سنة الحياة الفطرية وقد حكم به العقل وجاءت به الأنبياء والرسل عليهم السلام.

قوله تعالى : « إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً » الاعتاد التهيئة ، وسلاسل جمع سلسلة وهي القيد الذي يقاد به المجرم ، وأغلال جمع غل بالضم قيل هي القيد الذي يجمع اليدين على العنق ، وقال الراغب : فالغل مختص بما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه. انتهى. والسعير النار المشتعلة ، والمعنى ظاهر.

والآية تشير إلى تبعة الإنسان الكفور المذكور في قوله : « إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » وقدم بيان تبعته على بيان جزاء الإنسان الشاكر لاختصار الكلام فيه.

قوله تعالى : « إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً » الكأس إناء الشراب إذا كان فيه شراب ، والمزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به ، والكافور معروف يضرب به المثل في البرودة وطيب الرائحة ، وقيل : هو اسم عين في الجنة.

والأبرار جمع بر بفتح الباء صفة مشبهة من البر وهو الإحسان ويتحصل معناه في أن يحسن الإنسان في عمله من غير أن يريد به نفعا يرجع إليه من جزاء أو شكور فهو يريد الخير لأنه خير لا لأن فيه نفعا يرجع إلى نفسه وإن كرهت نفسه ذلك فيصبر على مر مخالفة نفسه فيما يريده ويعمل العمل لأنه خير في نفسه كالوفاء بالنذر أو لأن فيه خيرا لغيره كإطعام الطعام للمستحقين من عباد الله.

وإذ لا خير في عمل ولا صلاح إلا بالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر كما قال تعالى : « أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ » الأحزاب : ١٩ إلى غير ذلك من الآيات.

فالأبرار مؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ، وإذ كان إيمانهم إيمان رشد وبصيرة فهم يرون أنفسهم عبيدا مملوكين لربهم ، له خلقهم وأمرهم ، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا

١٢٤

عليهم أن لا يريدوا إلا ما أراده ربهم ولا يفعلوا إلا ما يرتضيه فقدموا إرادته على إرادة أنفسهم وعملوا له فصبروا على مخالفة أنفسهم فيما تهواه وتحبه وكلفة الطاعة ، وعملوا ما عملوه لوجه الله ، فأخلصوا العبودية في مرحلة العمل لله سبحانه.

وهذه الصفات هي التي عرف سبحانه الأبرار بها كما يستفاد من قوله : « يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ » وقوله : « إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ » وقوله : « وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا » وهي المستفادة من قوله في صفتهم : « لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ » الخ : البقرة : ١٧٧ وقد مر بعض الكلام في معنى البر في تفسير الآية وسيأتي بعضه في قوله : « كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ » المطففين : ١٨.

والآية أعني قوله : « إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ » إلخ بما يتبادر من معناها من حيث مقابلتها لقوله : « إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ » إلخ المبين لحال الكافرين في الآخرة ، تبين حال الأبرار في الآخرة في الجنة ، وأنهم يشربون من شراب ممزوج بالكافور باردا طيب الرائحة.

قوله تعالى. « عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً » « عَيْناً » منصوب بنزع الخافض والتقدير من عين أو بالاختصاص والتقدير أخص عينا ، والشرب ـ على ما قيل ـ يتعدى بنفسه وبالباء فشرب بها وشربها واحد ، والتعبير عنهم بعباد الله للإشارة إلى تحليهم بحلية العبودية وقيامهم بلوازمها على ما يفيده سياق المدح.

وتفجير العين شق الأرض لإجرائها ، وينبغي أن يحمل تفجيرهم العين على إرادتهم جريانها لأن نعم الجنة لا تحتاج في تحققها والتنعم بها إلى أزيد من مشية أهلها قال تعالى : « لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها » ق : ٣٥.

والآيتان ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ تصفان تنعم الأبرار بشراب الجنة في الآخرة ، وبذلك فسرت الآيتان.

ولا يبعد أن تكون الآيتان مسوقتين على مسلك تجسم الأعمال تصفان حقيقة عملهم الصالح من الإيفاء بالنذر وإطعام الطعام لوجه الله ، وأن أعمالهم المذكورة بحسب باطنها شرب من كأس مزاجها كافور من عين لا يزالون يفجرونها بأعمالهم الصالحة وستظهر لهم بحقيقتها في جنة الخلد وإن كانت في الدنيا في صورة الأعمال فتكون الآيتان في مجرى أمثال قوله تعالى : « إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ » يس : ٨.

١٢٥

ويؤيد ذلك ظاهر قوله « يَشْرَبُونَ » و « يَشْرَبُ بِها » ولم يقل : سيشربون وسيشرب بها ، ووقوع قوله : يشربون ويوفون ويخافون ويطعمون متعاقبة في سياق واحد ، وذكر التفجير في قوله : « يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً » الظاهر في استخراج العين وإجرائها بالتوسل بالأسباب.

ولهم في مفردات الآيتين وإعرابها أقاويل كثيرة مختلفة مذكورة في المطولات فليراجعها من أراد الوقوف عليها.

قوله تعالى : « يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً » المستطير اسم فاعل من استطار إذا فشا وانتشر في الأقطار غاية الانتشار وهو أبلغ من طار كما قيل : يقال : استطار الحريق واستطار الفجر إذا اتسعا غايته ، والمراد باستطارة شر اليوم وهو يوم القيامة بلوغ شدائده وأهواله وما فيه من العذاب غايته.

والمراد بالإيفاء بالنذر ما هو ظاهره المعروف من معناه ، وقول القائل : إن المراد به ما عقدوا عليه قلوبهم من العمل بالواجبات أو ما عقدوا عليه القلوب من اتباع الشارع في جميع ما شرعه خلاف ظاهر اللفظ من غير دليل يدل عليه.

قوله تعالى : « وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً » ضمير « عَلى حُبِّهِ » للطعام على ما هو الظاهر ، والمراد بحبه توقان النفس إليه لشدة الحاجة ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : « لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ » آل عمران : ٩٢.

وقيل : الضمير لله سبحانه أي يطعمون الطعام حبا لله لا طمعا في الثواب ، ويدفعه أن قوله تعالى حكاية منهم : « إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ » يغني عنه.

ويليه في الضعف ما قيل : إن الضمير للإطعام المفهوم من قوله : « وَيُطْعِمُونَ » وجه الضعف أنه إن أريد بحب الإطعام حقيقة معناه فليس في حب الإطعام في نفسه فضل حتى يمدحوا به ، وإن أريد به كون الإطعام بطيب النفس وعدم التكلف فهو خلاف الظاهر ، ورجوع الضمير إلى الطعام هو الظاهر.

والمراد بالمسكين واليتيم معلوم ، والمراد بالأسير ما هو الظاهر منه وهو المأخوذ من أهل دار الحرب.

وقول بعضهم : إن المراد به أسارى بدر أو الأسير من أهل القبلة في دار الحرب

١٢٦

بأيدي الكفار أو المحبوس أو المملوك من العبيد أو الزوجة كل ذلك تكلف من غير دليل يدل عليه.

والذي يجب أن يتنبه له أن سياق هذه الآيات سياق الاقتصاص تذكر قوما من المؤمنين تسميهم الأبرار وتكشف عن بعض أعمالهم وهو الإيفاء بالنذر وإطعام مسكين ويتيم وأسير وتمدحهم وتعدهم الوعد الجميل.

فما تشير إليه من القصة سبب النزول ، وليس سياقها سياق فرض موضوع وذكر آثارها الجميلة ، ثم الوعد الجميل عليها ، ثم إن عد الأسير فيمن أطعمه هؤلاء الأبرار نعم الشاهد على كون الآيات مدنية فإن الأسر إنما كان بعد هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وظهور الإسلام على الكفر والشرك لا قبلها.

قوله تعالى : « إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً » وجه الشيء هو ما يستقبل به غيره ، ووجهه تعالى صفاته الفعلية الكريمة التي يفيض بها الخير على خلقه من الخلق والتدبير والرزق وبالجملة الرحمة العامة التي بها قيام كل شيء ، ومعنى كون العمل لوجه الله على هذا كون الغاية في العمل هي الاستفاضة من رحمة الله وطلب مرضاته بالاقتصار على ذلك والإعراض عما عند غيره من الجزاء المطلوب ، ولذا ذيلوا قولهم : « إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ » بقولهم « لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً ».

ووراء ذلك صفاته الذاتية الكريمة التي هي المبدأ لصفاته الفعلية ولما يترتب عليها من الخير في العالم ، ومرجع كون العمل لوجه الله على هذا هو الإتيان بالعمل حبا لله لأنه الجميل على الإطلاق ، وإن شئت فقل : عبادته تعالى لأنه أهل للعبادة.

وابتغاء وجه الله بجعله غاية داعية في الأعمال مذكور في مواضع من كلامه تعالى كقوله : « وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ » الكهف : ٢٨ ، وقوله : « وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ » البقرة : ٢٧٢ ، وفي هذا المعنى قوله : « وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ » البينة : ٥ ، وقوله : « فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ » المؤمن : ٦٥ ، وقوله : « أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ » الزمر : ٣.

وقوله : « لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً » الجزاء مقابلة العمل بما يعادله إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا ، ويعم الفعل والقول لكن المراد به في الآية بقرينة مقابلته الشكور مقابلة إطعامهم عملا لا لسانا.

١٢٧

والشكر والشكور ذكر النعمة وإظهارها قلبا أو لسانا أو عملا ، والمراد به في الآية وقد قوبل بالجزاء الثناء الجميل لسانا.

والآية أعني قوله : « إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ » إلخ خطاب منهم لمن أطعموه من المسكين واليتيم والأسير إما بلسان المقال فهي حكاية قولهم أو بتقدير القول وكيف كان فقد أرادوا به تطييب قلوبهم أن يأمنوا المن والأذى ، وإما بلسان الحال وهو ثناء من الله عليهم لما يعلم من الإخلاص في قلوبهم.

قوله تعالى : « إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً » عد اليوم وهو يوم القيامة عبوسا من الاستعارة ، والمراد بعبوسه ظهوره على المجرمين بكمال شدته ، والقمطرير الصعب الشديد على ما قيل.

والآية في مقام التعليل لقولهم المحكي : « إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ » إلخ ينبهون بقولهم هذا أن قصرهم العمل في ابتغاء وجه الله تعالى إخلاصا للعبودية لمخافتهم ذاك اليوم الشديد ، ولم يكتفوا بنسبة المخافة إلى اليوم حتى نسبوه نحوا من النسبة إلى ربهم فقالوا : « نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً » إلخ لأنهم لما لم يريدوا إلا وجه ربهم فهم لا يخافون غيره كما لا يرجون غيره وإنما يخافون ويرجون ربهم فلا يخافون يوم القيامة إلا لأنه من ربهم يحاسب فيه عباده على أعمالهم فيجزيهم بها.

وأما قوله قبلا : « وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً » حيث نسب خوفهم إلى اليوم فإن الواصف فيه هو الله سبحانه وقد نسب اليوم بشدائده إلى نفسه قبلا حيث قال : « إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ » إلخ.

وبالجملة ما ذكروه من الخوف مخافة في مقام العمل لما يحاسب العبد على عمله فالعبودية لازمة للإنسان لا تفارقه وإن بلغ ما بلغ قال تعالى : « إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ » الغاشية : ٢٦.

قوله تعالى : « فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً » الوقاية الحفظ والمنع من الأذى ولقي بكذا يلقيه أي استقبله به والنضرة البهجة وحسن اللون والسرور مقابل المساءة والحزن.

والمعنى : فحفظهم الله ومنع عنهم شر ذلك اليوم واستقبلهم بالنضرة والسرور ، فهم ناضرة الوجوه مسرورون يومئذ كما قال : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ » القيامة : ٢٢.

١٢٨

قوله تعالى : « وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً » المراد بالصبر صبرهم عند المصيبة وعلى الطاعة وعن المعصية فإنهم ابتغوا في الدنيا وجه ربهم وقدموا إرادته على إرادتهم فصبروا على ما قضى به فيهم وأراده من المحن ومصائب الدنيا في حقهم ، وصبروا على امتثال ما أمرهم به وصبروا على ترك ما نهاهم عنه وإن كان مخالفا لأهواء أنفسهم فبدل الله ما لقوه من المشقة والكلفة نعمة وراحة.

قوله تعالى : « مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً » الأرائك جمع أريكة وهو ما يتكأ عليه ، والزمهرير البرد الشديد ، والمعنى حال كونهم متكئين في الجنة على الأرائك لا يرون فيها شمسا حتى يتأذوا بحرها ولا زمهريرا حتى يتأذوا ببرده.

قوله تعالى : « وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً » الظلال جمع ظل ، ودنو الظلال عليهم قربها منهم بحيث تنبسط عليهم فكان الدنو مضمن معنى الانبساط وقطوف جمع قطف بالكسر فالسكون وهو الثمرة المقطوفة المجتناة ، وتذليل القطوف لهم جعلها مسخرة لهم يقطفونها كيف شاءوا من غير مانع أو كلفة.

قوله تعالى : « وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا » الآنية جمع إناء كأكسية جمع كساء وهو الوعاء ، وأكواب جمع كوب وهو إناء الشراب الذي لا عروة له ولا خرطوم والمراد طواف الولدان المخلدين عليهم بالآنية وأكواب الشراب كما سيأتي في قوله : « وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ » الآية.

قوله تعالى : « قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً » بدل من قوارير في الآية السابقة ، وكون القوارير من فضة مبني على التشبيه البليغ أي إنها في صفاء الفضة وإن لم تكن منها حقيقة ، كذا قيل. واحتمل أن يكون بحذف مضاف والتقدير من صفاء الفضة.

وضمير الفاعل في « قَدَّرُوها » للأبرار والمراد بتقديرهم الآنية والأكواب كونها على ما شاءوا من القدر ترويهم بحيث لا تزيد ولا تنقص كما قال تعالى : « لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها » ق : ٣٥ وقد قال تعالى قبل : « يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ».

ويحتمل رجوع الضمير إلى الطائفين المفهوم من قوله : « يُطافُ عَلَيْهِمْ » والمراد بتقديرهم الآنية والأكواب إتيانهم بها على قدر ما أرادوا محتوية على ما اشتهوا قدر ما اشتهوا.

١٢٩

قوله تعالى : « وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً » قيل : إنهم كانوا يستطيبون الزنجبيل في الشراب فوعد الأبرار بذلك وزنجبيل الجنة أطيب وألذ.

قوله تعالى : « عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً » أي من عين أو التقدير أعني أو أخص عينا. قال الراغب : وقوله : « سَلْسَبِيلاً » أي سهلا لذيذا سلسا حديد الجرية.

قوله تعالى : « وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً » أي ولدان دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء وصباحة المنظر ، وقيل : أي مقرطون بخلدة وهي ضرب من القرط.

والمراد بحسبانهم لؤلؤا منثورا أنهم في صفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانعكاس أشعة بعضهم على بعض وانبثاثهم في مجالسهم كاللؤلؤ المنثور.

قوله تعالى : « وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً » « ثَمَ » ظرف مكان ممحض في الظرفية ، ولذا قيل : إن معنى « رَأَيْتَ » الأول : رميت ببصرك ، والمعنى وإذا رميت ببصرك ثم يعني الجنة رأيت نعيما لا يوصف وملكا كبيرا لا يقدر قدره.

وقيل : « ثَمَ » صلة محذوفة الموصول والتقدير وإذا رأيت ما ثم من النعيم والملك ، وهو كقوله : « لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ » الأنعام : ٩٤ والكوفيون من النحاة يجوزون حذف الموصول وإبقاء الصلة وإن منعه البصريون منهم.

قوله تعالى : « عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ » إلخ الظاهر أن « عالِيَهُمْ » حال من الأبرار الراجعة إليه الضمائر و « ثِيابُ » فاعله ، والسندس ـ كما قيل ـ ما رق نسجه من الحرير ، والخضر صفة ثياب والإستبرق ما غلظ نسجه من ثياب الحرير ، وهو معرب كالسندس.

وقوله : « وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ » التحلية التزيين ، وأساور جمع سوار وهو معروف ، وقال الراغب : هو معرب دستواره.

وقوله : « وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً » أي بالغا في التطهير لا تدع قذارة إلا أزالها ومن القذارة قذارة الغفلة عن الله سبحانه والاحتجاب عن التوجه إليه فهم غير محجوبين عن ربهم ولذا كان لهم أن يحمدوا ربهم كما قال : « وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » يونس : ١٠ وقد تقدم في تفسير سورة الحمد إن الحمد وصف لا يصلح له إلا المخلصون من عباد الله تعالى لقوله : « سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ » الصافات : ١٦٠.

١٣٠

وقد أسقط تعالى في قوله : « وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ » الوسائط كلها ونسب سقيهم إلى نفسه ، وهذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم الموهوب لهم في الجنة ، ولعله من المزيد المذكور في قوله : « لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ » ق : ٣٥.

قوله تعالى : « إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً » حكاية ما يخاطبون به من عنده تعالى عند توفيته أجرهم أو بحذف القول والتقدير ويقال لهم : إن هذا كان لكم جزاء « إلخ ».

وقوله : « وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً » إنشاء شكر لمساعيهم المرضية وأعمالهم المقبولة ، ويا لها من كلمة طيبة تطيب بها نفوسهم.

واعلم أنه تعالى لم يذكر فيما ذكر من نعيم الجنة في هذه الآيات نساء الجنة من الحور العين وهي من أهم ما يذكره عند وصف نعم الجنة في سائر كلامه ويمكن أن يستظهر منه أنه كانت بين هؤلاء الأبرار الذين نزلت فيهم الآيات من هي من النساء.

وقال في روح المعاني : ومن اللطائف على القول بنزول السورة فيهم يعني في أهل البيت إنه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين وإنما صرح عز وجل بولدان مخلدين رعاية لحرمة البتول وقرة عين الرسول ، انتهى.

( بحث روائي )

في إتقان السيوطي ، عن البيهقي في دلائل النبوة بإسناده عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن قالا : أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك ون والمزمل ـ إلى أن قالا ـ وما نزل بالمدينة ويل للمطففين ، والبقرة ، وآل عمران ، والأنفال ، والأحزاب ، والمائدة ، والممتحنة ، والنساء ، وإذا زلزلت ، والحديد ، ومحمد ، والرعد ، والرحمن ، وهل أتى على الإنسان. الحديث.

وفيه ، عن ابن الضريس في فضائل القرآن بإسناده عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس قال : كان إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ـ ثم يزيد الله فيها ما شاء.

وكان أول ما أنزل من القرآن اقرأ باسم ربك ، ثم ن ، ثم يا أيها المزمل ـ إلى أن قال ـ

١٣١

ثم أنزل بالمدينة سورة البقرة ثم الأنفال ـ ثم آل عمران ثم الأحزاب ثم الممتحنة ثم النساء ـ ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم القتال ثم الرعد ـ ثم الرحمن ثم الإنسان. الحديث.

وفيه ، عن البيهقي في الدلائل بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال : إن أول ما أنزل الله على نبيه من القرآن ـ اقرأ باسم ربك ، وذكر مثل حديث عكرمة والحسين ـ وفيه ذكر ثلاث من السور المكية التي سقطت من روايتهما ـ وهي الفاتحة والأعراف وكهيعص. وفي الدر المنثور ، أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الإنسان بالمدينة.

وفيه ، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى : « وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ » الآية ـ قال : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب ـ وفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أقول : الآية تشارك سائر آيات صدر السورة مما تقدم عليها أو تأخر عنها في سياق واحد متصل فنزولها فيهما عليه‌السلام لا ينفك نزولها جميعا بالمدينة.

وفي الكشاف : وعن ابن عباس : أن الحسن والحسين مرضا ـ فعادهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ناس معه فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك ( ولديك ظ ) فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما ـ إن برءا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام ـ فشفيا وما معهم شيء.

فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ـ ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعا ـ واختبزت خمسة أقراص على عددهم ـ فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل وقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ـ مسكين من مساكين المسلمين ـ أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ـ فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما.

فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم ـ وقف عليهم يتيم فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.

فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين ـ وأقبلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع ـ قال : ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم ـ فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها ـ قد التصق ظهرها (١) ببطنها وغارت عيناها ـ فساءه ذلك فنزل جبريل وقال : خذها يا محمد ـ هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.

__________________

(١) بطنها بظهرها ظ.

١٣٢

أقول : الرواية مروية بغير واحد من الطرق عن عطاء عن ابن عباس ونقلها البحراني في غاية المرام ، عن أبي المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب فضائل أمير المؤمنين بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس ، وعنه بإسناد آخر عن الضحاك عن ابن عباس وعن الحمويني في كتاب فرائد السمطين بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس ، وعن الثعلبي بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس ، ورواه في المجمع ، عن الواحدي في تفسيره.

وفي المجمع ، بإسناده عن الحاكم بإسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب أنه قال سألت النبي عن ثواب القرآن : فأخبرني بثواب سورة سورة ـ على نحو ما نزلت من السماء.

فأول ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب ـ ثم اقرأ باسم ربك ، ثم ن ـ إلى أن قال ـ وأول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ثم الأنفال ـ ثم آل عمران ثم الأحزاب ثم الممتحنة ثم النساء ـ ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم سورة محمد ثم الرعد ـ ثم سورة الرحمن ثم هل أتى. الحديث.

وفيه ، عن أبي حمزة الثمالي في تفسيره قال : حدثني الحسن بن الحسن أبو عبد الله بن الحسن : أنها مدنية نزلت في علي وفاطمة السورة كلها.

وفي تفسير القمي ، عن أبيه عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان عند فاطمة عليه‌السلام شعير فجعلوه عصيدة (١) فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال : مسكين رحمكم الله فقام علي عليه‌السلام فأعطاه ثلثا ـ فلم يلبث أن جاء يتيم فقال : اليتيم رحمكم الله ـ فقام علي عليه‌السلام فأعطاه الثلث ثم جاء أسير فقال : الأسير رحمكم الله فأعطاه علي عليه‌السلام الثلث ـ وما ذاقوها فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم ـ وهي جارية في كل مؤمن فعل ذلك لله عز وجل.

أقول : القصة كما ترى ملخصة في الرواية وروى ذلك البحراني في غاية المرام ، عن المفيد في الاختصاص ، مسندا وعن ابن بابويه في الأمالي ، بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس ، وبإسناده عن سلمة بن خالد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه‌السلام ، وعن محمد بن العباس بن ماهيار في تفسيره بإسناده عن أبي كثير الزبيري عن عبد الله بن عباس ، وفي المناقب ، أنه مروي عن الأصبغ بن نباتة.

__________________

(١) العصيدة : شعير يلت بالسمن ويطبخ.

١٣٣

وفي الاحتجاج ، عن علي عليه‌السلام : في حديث يقول فيه للقوم بعد موت عمر بن الخطاب : نشدتكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه وفي ولده « إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً » إلى آخر السورة غيري؟ قالوا : لا.

وفي كتاب الخصال ، في احتجاج علي على أبي بكر قال : أنشدك بالله أنا صاحب الآية ـ « يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً » أم أنت؟ قال : بل أنت.

وفي الدر المنثور ، أخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سل واستفهم ـ فقال : يا رسول الله فضلتم علينا ـ بالألوان والصور والنبوة ـ أفرأيت إن آمنت بما آمنت به ـ وعملت بمثل ما عملت به إني لكائن معك في الجنة؟ قال : نعم والذي نفسي بيده ـ إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام. ثم قال : من قال لا إله إلا الله كان له عهد عند الله ـ ومن قال : سبحان الله وبحمده كتبت له مائة ألف حسنة ـ وأربعة وعشرون ألف حسنة ـ ونزلت عليه السورة ( هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) إلى قوله : ( مُلْكاً كَبِيراً ).

فقال الحبشي : وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة؟ قال : نعم فاشتكى حتى فاضت نفسه. قال عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدليه في حفرته بيده.

وفيه ، أخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال : حدثني الثقة : أن رجلا أسود كان يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن التسبيح والتهليل ـ فقال له عمر بن الخطاب : مه أكثرت على رسول الله ـ فقال : مه يا عمر وأنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ » حتى إذا أتى على ذكر الجنة ـ زفر الأسود زفرة خرجت نفسه ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : مات شوقا إلى الجنة.

وفيه ، أخرج ابن وهب عن ابن زيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ هذه السورة ـ ( هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) ـ وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود ـ فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة.

أقول : وهذه الروايات الثلاث على تقدير صحتها لا تدل على أزيد من كون نزول السورة مقارنا لقصة الرجل وأما كونها سببا للنزول فلا ، وهذا المعنى في الرواية الأخيرة أظهر وبالجملة لا تنافي الروايات الثلاث نزول السورة في أهل البيت عليه‌السلام.

١٣٤

على أن رواية ابن عمر للقصة الظاهرة في حضوره القصة وقد هاجر إلى المدينة وهو ابن إحدى عشرة سنة من شواهد وقوع القصة بالمدينة.

وفي الدر المنثور ، أيضا أخرج النحاس عن ابن عباس قال : نزلت سورة الإنسان بمكة.

أقول : هو تلخيص حديث طويل أورده النحاس في كتاب الناسخ والمنسوخ ، وقد نقله في الإتقان وهو معارض لما تقدم نقله مستفيضا عن ابن عباس من نزول السورة بالمدينة وأنها نزلت في أهل البيت عليه‌السلام.

على أن سياق آياتها وخاصة قوله ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) و ( يُطْعِمُونَ الطَّعامَ ) إلخ سياق قصة واقعة وذكر الأسير فيمن أطعموهم نعم الشاهد على نزول الآيات بالمدينة إذ لم يكن للمسلمين أسير بمكة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.

قال بعضهم ما ملخصه : أن الروايات مختلفة في مكية هذه السورة ومدنيتها والأرجح أنها مكية بل الظاهر من سياقها أنها من عتائق السور القرآنية النازلة بمكة في أوائل البعثة يؤيد ذلك ما ورد فيها من صور النعم الحسية المفصلة الطويلة وصور العذاب الغليظ كما يؤيده ما ورد فيها من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصبر لحكم ربه وأن لا يطيع منهم آثما أو كفورا ويثبت على ما نزل عليه من الحق ولا يداهن المشركين من الأوامر التي كانت تنزل بمكة عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها بمكة كما في سورة القلم والمزمل والمدثر فلا عبرة باحتمال مدنية السورة.

وهو فاسد أما ما ذكره من اشتمال السورة على صور النعم الحسية المفصلة الطويلة وصور العذاب الغليظ فليس ذلك مما يختص بالسور المكية حتى يقضى بها على كون السورة مكية فهذه سورة الرحمن وسورة الحج مدنيتان على ما تقدمت في الروايات المشتملة على ترتيب نزول السور القرآنية وقد اشتملتا من صور النعم الحسية المفصلة الطويلة وصور العذاب الغليظ على ما يربو ويزيد على هذه السورة بكثير.

وأما ما ذكره من اشتمال السورة على أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصبر وأن لا يطيع منهم آثما أو كفورا ولا يداهنهم ويثبت على ما نزل عليه من الحق ففيه أن هذه الأوامر واقعة في الفصل الثاني من آيات السورة وهو قوله : « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً » إلى آخر السورة ومن المحتمل جدا أن يكون هذا الفصل من الآيات ـ وهو ذو سياق تام مستقل

١٣٥

ـ نازلا بمكة ، ويؤيده ما في كثير من الروايات المتقدمة أن الذي نزل في أهل البيت بالمدينة هو الفصل الأول من الآيات ، وعلى هذا أول السورة مدني وآخرها مكي.

ولو سلم نزولها دفعة واحدة فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصبر لا اختصاص له بالسور المكية فقد ورد في قوله : « وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً » الكهف : ٢٨ والآية ـ على ما روي ـ مدنية والآية ـ كما ترى ـ متحدة المعنى مع قوله : « فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ » إلخ وهي في سياق شبيه جدا بسياق هذه الآيات فراجع وتأمل.

ثم الذي كان يلقاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أذى المنافقين والذين في قلوبهم مرض والجفاة من ضعفاء الإيمان لم يكن بأهون من أذى المشركين بمكة يشهد بذلك أخبار سيرته.

ولا دليل أيضا على انحصار الإثم والكفور في مشركي مكة فهناك غيرهم من الكفار وقد أثبت القرآن الإثم لجمع من المسلمين في موارد كقوله : « لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ » النور : ١١ ، وقوله : « وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً » النساء : ١١٢.

وفي المجمع ، وروى العياشي بإسناده عن عبد الله بن بكير عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قوله : « لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً » قال : كان شيئا ولم يكن مذكورا.

أقول : وروي فيه ، أيضا عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله عليه‌السلام : مثله.

وفيه ، أيضا عن العياشي بإسناده عن سعيد الحذاء عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان مذكورا في العلم ولم يكن مذكورا في الخلق.

أقول : يعني أنه كان له ثبوت في علم الله ثم خلق بالفعل فصار مذكورا فيمن خلق.

وفي الكافي ، بإسناده عن مالك الجهني عن أبي عبد الله عليه‌السلام * في الآية قال : كان مقدرا غير مذكور.

أقول : هو في معنى الحديث السابق.

وفي تفسير القمي : في الآية قال : لم يكن في العلم ولا في الذكر ، وفي حديث آخر : كان في العلم ولم يكن في الذكر.

١٣٦

أقول : معنى الحديث الأول أنه لم يكن في علم الناس ولا فيمن يذكرونه فيما بينهم ، ومعنى الثاني أنه كان في علم الله ولم يكن مذكورا عند الناس.

وفي تفسير القمي ، أيضا في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى « أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ » قال : ماء الرجل والمرأة اختلطا جميعا.

وفي الكافي ، بإسناده عن حمران بن أعين قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله عز وجل ، « إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » قال : إما آخذ فهو شاكر وإما تارك فهو كافر.

أقول : ورواه القمي في تفسيره ، بإسناده عن ابن أبي عمير عن أبي جعفر عليه‌السلام * مثله. وفي التوحيد ، بإسناده إلى حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ما يقرب منه ولفظه : عرفناه إما آخذا وإما تاركا.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد وابن المنذر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه ـ فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا ـ والله تعالى أعلم.

وفي أمالي الصدوق ، بإسناده عن الصادق عن أبيه عليه‌السلام في حديث : « عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً » قال : هي عين في دار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين « يُوفُونَ بِالنَّذْرِ » يعني عليا وفاطمة ـ والحسن والحسين عليه‌السلام وجاريتهم « وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً » يقول عابسا كلوحا « وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ » يقول : على شهوتهم للطعام وإيثارهم له « مِسْكِيناً » من مساكين المسلمين ـ « وَيَتِيماً » من يتامى المسلمين « وَأَسِيراً » من أسارى المشركين.

ويقولون إذا أطعموهم : « إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ـ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً » قال : والله ما قالوا هذا لهم ـ ولكنهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله بإضمارهم ـ يقولون : لا نريد جزاء تكافئوننا به ـ ولا شكورا تثنون علينا به ، ولكنا إنما أطعمناكم لوجه الله وطلب ثوابه.

وفي الدر المنثور ، أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن مردويه عن الحسن قال : كان الأسارى مشركين يوم نزلت هذه الآية « وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ».

١٣٧

أقول : مدلول الرواية نزول الآية بالمدينة ، ونظيرها ما رواه فيه عن عبد بن حميد عن قتادة ، وما رواه عن ابن المنذر عن ابن جريح ، وما رواه عن عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس.

وفيه ، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : « يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً » قال : يقبض ما بين الأبصار.

وفي روضة الكافي ، بإسناده عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر عليه‌السلام في صفة الجنة قال : والثمار دانية منهم ـ وهو قوله عز وجل : « وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها ـ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً » من قربها منهم يتناول المؤمن ـ من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه وهو متكئ ـ وإن الأنواع من الفاكهة ليقلن لولي الله : يا ولي الله كلمني قبل أن تأكل هذه قبلي.

وفي تفسير القمي : في قوله : « وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ » قال : مسورون.

وفي المعاني ، بإسناده عن عباس بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام وكنت عنده ذات يوم : أخبرني عن قول الله عز وجل : « وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً » ما هذا الملك الذي كبر الله عز وجل حتى سماه كبيرا؟ قال : إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة ـ أرسل رسولا إلى ولي من أوليائه فيجد الحجبة على بابه ـ فتقول له : قف حتى نستأذن لك ، فما يصل إليه رسول ربه إلا بإذن فهو قوله عز وجل : « وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ».

وفي المجمع « وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً » لا يزول ولا يفنى : عن الصادق عليه‌السلام.

وفيه : « عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ » وروي عن الصادق عليه‌السلام في معناه : تعلوهم الثياب فيلبسونها.

( كلام في هوية الإنسان على ما يفيده القرآن )

لا ريب أن في هذا الهيكل المحسوس الذي نسميه إنسانا مبدأ للحياة ينتسب إليه الشعور والإرادة ، وقد عبر تعالى عنه في الكلام في خلق الإنسان ـ آدم ـ بالروح وفي سائر المواضع من كلامه بالنفس قال تعالى : « فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ

١٣٨

ساجِدِينَ » الحجر : ٢٩ ص : ٧٢ ، وقال : « ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ » الم السجدة : ٩.

والذي يسبق من الآيتين إلى النظر البادئ أن الروح والبدن حقيقتان اثنتان متفارقتان نظير العجين المركب من الماء والدقيق والإنسان مجموع الحقيقتين فإذا قارنت الروح الجسد كان إنسانا حيا وإذا فارقت فهو الموت.

لكن يفسرها قوله تعالى : « قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ » الم السجدة : ١١ حيث يفيد أن الروح التي يتوفاها ويأخذها قابض الأرواح هي التي يعبر عنها بلفظة « كم » وهو الإنسان بتمام حقيقته لا جزء من مجموع فالمراد بنفخ الروح في الجسد جعل الجسد بعينه إنسانا لا ضم واحد إلى واحد آخر يغايره في ذاته وآثار ذاته فالإنسان حقيقة واحدة حين تعلق روحه ببدنه وبعد مفارقة روحه البدن.

ويفيد هذا المعنى قوله تعالى : « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » المؤمنون : ١٤ فالذي أنشأه الله خلقا آخر هو النطفة التي تكونت علقة ثم مضغة ثم عظاما بعينها.

وفي معناها قوله تعالى : « هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً » فتقييد الشيء المنفي بالمذكور يعطي أنه كان شيئا لكن لم يكن مذكورا فقد كان أرضا أو نطفة مثلا لكن لم يكن مذكورا أنه الإنسان الفلاني ثم صار هو هو.

فمفاد كلامه تعالى أن الإنسان واحد حقيقي هو المبدأ الوحيد لجميع آثار البدن الطبيعية والآثار الروحية كما أنه مجرد في نفسه عن المادة كما يفيده أمثال قوله تعالى : « قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ » وقوله : « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها » الزمر : ٤٢ وقوله : « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » وقد تقدم بيانه.

* * *

( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً

١٣٩

(٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١) ).

( بيان )

لما وصف جزاء الأبرار وما قدر لهم من النعيم المقيم والملك العظيم بما صبروا في جنب الله وجه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره بالصبر لحكم ربه وأن لا يطيع هؤلاء الآثمين والكفار المحبين للعاجلة المتعلقين بها المعرضين عن الآخرة من المشركين وسائر الكفار والمنافقين وأهل الأهواء ، وأن يذكر اسم ربه ويسجد له ويسبحه مستمرا عليه ثم عمم الحكم لأمته بقوله : « إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ».

فهذا وجه اتصال الآيات بما قبلها وسياقها مع ذلك لا يخلو من شبه بالسياقات المكية وعلى تقدير مكيتها فصدر السورة مدني وذيلها مكي.

قوله تعالى : « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً » تصدير الكلام بأن وتكرار ضمير المتكلم مع الغير والإتيان بالمفعول المطلق كل ذلك للتأكيد ، ولتسجيل أن الذي نزل من القرآن نجوما متفرقة هو من الله سبحانه لم يداخله نفث شيطاني ولا هو نفساني.

قوله تعالى : « فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً » تفريع على ما هو لازم مضمون الآية السابقة فإن لازم كون الله سبحانه هو الذي نزل القرآن عليه أن يكون ما في القرآن من الحكم حكم ربه يجب أن يطاع فالمعنى إذا كان تنزيله منا فما فيه من الحكم حكم ربك فيجب عليك أن تصبر له فاصبر لحكم ربك.

١٤٠