من وحي الإسلام - ج ١

الشيخ حسن طراد

من وحي الإسلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

تحقيق ما يحبون حصوله من الآمال المشروعة والاهداف السامية المحبوبة له سبحانه ـ وذلك بتمهيد السبيل أمامهم وإزالة الحواجز من طريقهم انسجاما مع القاعدة الإيمانية القائلة : إذا اراد الله أمراً هيأ اسبابه ويكون الامر عكس ذلك بالنسبة الى الكافرين والمنافقين.

وقد تجلى ذلك كله بوضوح في قصة الهجرة من بدايتها وفي وسطها الى نهايتها وبلوغها الهدف المرسوم لها والمقصود منها ففي البداية صدر الامر الإلهي بها والاخبار عن الضرورة الموجبة لها ليتحقق العزم والاقدام عليها من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هيأ الله سبحانه للرسول والرسالة المؤازر والناصر في كل المواقف والمواقع وهو شخص الإمام علي عليه‌السلام الذي بدأ نصرته للدعوة منذ بدأ الرسول بها ـ ويأتي مبيتة في فراشه ليكون المصداق الواضح للسبب البارز المساهم في إنجاح الخطة وحصول الهجرة. هذا من الناحية الإيجابية وبالنسبة الى الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبيب الله وحامل لواء دعوته وسراج رسالته.

وأما بالنسبة الى اعدائه فالامر كان على العكس حيث أعمى الله ابصارهم كما عميت بصائرهم فلم يشاهدوا الرسول حين خروجه من بينهم وكذلك قدر للحمامة ان تبني عشها وللعنكبوت ان تبني بيتها وبسرعة خاطفة ليكون ذلك سبب سلامة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومصدر فشل لمؤامرة أعدائه الذين قصدوه بسوء وارادوا به شراً فقلب سبحانه. السحر على الساحر وكان الانتصار للمؤمن الموحد على المشرك الكافر ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.

الدرس الثالث : المستفاد من هذه القصة هو ما توحيه لنا من قوة الاطمئنان بحصول النصر والغلبة في معركة الجهاد والتضحية في سبيل

٨١

نصرة الحق مهما كان العدو كثير العدد وقوي العدد وكان المؤمنون على العكس من ذلك.

وذلك ما يوحي به قوله تعالى :

( ولينصرن اللهُ من ينصره إن الله لقوى عزيز ) (١).

وقوله تعالى :

( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) (٢).

وتأتي معركة بدر لتكون المصداق الواضح لهذه الحقيقة القرآنية ـ كما تأتي قصة اصحاب الفيل والحمامة والعنكبوت مع قصة النبي إبراهيم التي توحي بالاطمئنان بإمكانية تدخل عامل الغيب وسلاحه الفتاك ليقلب الموازين في ساحة المواجهة حينما يجعل الله سبحانه القوي ضعيفا والكثير بحكم القليل والنار برداً وسلاما إذا لزم الامر واقتضت المصلحة وقد اكد الله سبحانه هذه الحقيقة في العديد من الآيات منها قوله تعالى : ( وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) (٣).

وقوله سبحانه : ( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) (٤).

وأما النتائج الحميدة التي ترتبت على هذه الهجرة المباركة فهي واضحة لا تحتاج الى مزيد من البيان لانها تمثل في واقعها انطلاقة موفقة وخطوة مباركة في سبيل تحول الدعوة من مرحلة الضعف والدفاع الى مرحلة القوة والدولة التي اصبحت بعد ذلك بنصر الله وتأييده وثبات

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٤٠.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٤٩.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٢٦.

(٤) سورة الروم ، الآية : ٤٧.

٨٢

الرسول وحكمته قادرة على الابتداء بالهجوم لو ارادت وعلى الدفاع بقوة وصلابة إذا تعرضت لعدوان الكفر وابتداء الظلم كما حصل في معركة بدر وأُحد اولاً وفي حنين اخيراً ـ هذا مضافا الى وضع التشريع الكامل العادل ، وتطبيقه على صعيد الحياة وفي مختلف المجالات الامر الذي ساهم مساهمة فعالة في صنع الامة الرسالية وجعلها خير امة اخرجت للناس تأمر بالمعروف بعد فعله وتنهى عن المنكر بعد تركه.

مسك الختام أبيات في مدح الإمام عليه‌السلام :

وحيث ان مبيت علي عليه‌السلام في فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة هجرته المباركة كان الجسر الذي عبرت فوقه الرسالة وانتقلت من السجن والحصار الى التحرر والانطلاق كان من المناسب ان اختم هذه الخطبة بالابيات التالية التي نظمت في يوم القائها وتاريخه والخطاب فيها موجه الى شخص الإمام علي عليه‌السلام :

قدمت نفسك للرسول فــداء

لتنال عمراً خـالداً وبــقاء

وظفرت بالهدف المقدس حينما

أصبحت درعاً للهدى ووقـاء

وسموت قدراً وارتـقيت مكانةً

وحباك رب العالمين ثــناء

قد بعت نفسك للإله ولم يـرد

رب البرية من سواك شـراء

وبذاك قد فقت الملائك رفـعة

إذ لم ينالوا ما كسـبت علاء

لا غرو فالمختارُ نفسك مثـلما

نطق الكتابُ وقـدم الإطـراء

وعليكما منا التحيةُ مــا بدت

شمس وأهدت للحياة ضـياء

آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون الأعزاء ورحمة الله.

٨٣

الخطبة الثامنة (١)

من وحي ميلاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وحفيده الصادق عليه‌السلام

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء والأحباء ورحمة الله وبركاته.

وبعد : إن الاحتفال بالمناسبات الدينية بصورة عامة وبالرموز الرسالية بصورة خاصة ـ يعتبر من اهم الموضوعات الإسلامية الجديرة بالاهتمام من اجل ان يحقق هدفه الرسالي المنشود ومن هذا المنطلق سأتناول الحديث حول هذا الموضوع من عدة جهات.

الأولى : أبين فيها المراد من كلمة الاحتفال لغوياً وعرفيا من اجل التمييز بينهما ومعرفة ما هو الاولى بالرعاية والاهتمام في مقام إحياء

__________________

(١) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) بميلاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفيده الصادق عليه‌السلام ، وذلك في ١٥ ـ ٣ ـ ١٤١٦ هـ الموافق ١١ ـ ٨ ـ ١٩٩٥ م.

٨٤

المناسبات الدينية بعنوان الاحتفال وتعظيم الشعائر.

الثانية : أبين فيها الباعث الموضوعي الذي يفرض كونه المحرك الداعي للقيام بمهمة الاحتفال والاحتفاء.

الثالثة : أبين فيها الاسلوب المطلوب اتباعه من أجل التوصل به الى الهدف الاساسي المقصود من إقامة الاحتفال وإحياء المناسبة.

أما الكلام في الجهة الاولى فحاصله :

أن المراد من كلمة الاحتفال لغويا هو نفس ما يراد من كلمة الاحتفاء وهو الاهتمام والاحترام ورد في المعجم الوسيط الجزء الاول ص ١٨٦ ما حاصله ومضمونه : يقال احتفل بالامر اذا عني به وبفلان اذا اكرمه واهتم به وقال في نفس الصفحة يقال : حفي بفلان حفاوة اذا احتفل به واحترمه.

وقد كثر اطلاق كلمة الاحتفال على الاسلوب العرفي التقليدي المتبع في مقام احياء مناسبة دينية او وطنية ونحوهما ويتمثل هذا الاسلوب بإعلان الزينة وتقديم التبريك والتهنئة ويضم الى ذلك غالباً اقامة مهرجان خطابي تلقى فيه الكلمات والقصائد المشتملة على المدح والثناء لصاحب المناسبة مع بيان ما كان يتجمل به من الفضائل والكمالات وهذا اذا كانت المناسبة مناسبة عيد ميلاد ونحوها من المناسبات المقتضية بطبعها للفرح والابتهاج.

وإذا كانت مناسبة وفاة تكون ظاهرة الاحتفال على العكس من ذلك حيث يرفع شعار الحزن والحداد ويقام الاحتفال للرثاء والتأبين بالقاء

٨٥

الكلمات والقصائد الرثائية المبينة لفضل صاحب المناسبة ومكانته السامية.

والاحتفال بكلتا المناسبتين المذكورتين كان ولا يزال في الغالب ان لم يكن في الدائم ـ مقصورا على اسلوبه التقليدي العرفي المذكور ـ ومن الواضح ان الاحتفال بهذا الاسلوب وهذه الطريقة وان كان افضل من العدم المطلق ـ ولكن المتوقع ان يحصل تطور في الاسلوب بعد الرجوع بكلمة الاحتفال الى معناها اللغوي الاصيل ومعرفة نوع الباعث الذي ينبغي ان يكون هو المحرك لإقامة الاحتفال وإحياء المناسبة وهذا ما وعدت ببيانه في الجهة الثانية فأقول :

إن الباعث الموضوعي المفروض في حق مقيم الاحتفال ان ينطلق منه هو إبراز العوامل والاسباب الذاتية والموضوعية التي ساهمت في بناء شخصيته من اجل رعاية وتنمية ما يكون موجودا منها فعلا وتحصيل ما يكون مفقودا.

وبذلك يعرف حاضر الاحتفال والمطلع على ما القي فيه الاسلوب الذي يساعده على بناء كيانه وجعله صورة اخرى عن شخصية المحتفى به او شبيها بها كما قال الشاعر :

وتشبهو إن لم تكونوا مثلهم

إن التشبه بالكرام فلاح

ما الجهة الثالثة : فحاصل ما أريد بيانه فيها هو أننا إذا عرفنا المعنى الاصلي لكلمة الاحتفال في اللغة وادركنا انه هو الذي يطلب تحقيقه من اجل ان يكون الاحتفال واقعيا وعمليا مستمرا لا يقف عند زمان المناسبة وتاريخها ، يتعين في حقنا بعد ذلك مراعاة الاسلوب الواقعي العملي للاحتفال والاحتفاء وهو يتمثل اولا بالتعرف على شخصية صاحب المناسبة والاسباب التي ساهمت في بنائها من اجل ان

٨٦

يصوغ كل شخص غير بالغ درجة شخصيته على مثالها من خلال بنائها على نفس الاسس والمنطلقات التي صنعت ذاته وبنت شخصيته وبعد هذا يتخذ من شخص صاحب المناسبة قدوة رائدة واسوة حسنة وذلك بترسم خطاه والسير على ضوء هداه في كل التصرفات وفي مختلف المجالات وبذلك يتحقق الاحتفال الحقيقي والاحتفاء الكامل العملي الذي يريده منا الله ورسوله والمؤمنون الواعون.

واما الاسلوب العرفي الذي كان ولا يزال متبعا في مقام احياء مناسبة الولادة او الشهادة ونحوهما وقد مرت الاشارة اليه فهو وان كان افضل من العدم المطلق كما تقدم ولكن يطلب منا ان نتجاوزه ولا نقتصر عليه في عصرنا الحاضر بعد القاء الحجة واشراق نور الوعي والصحوة الى الاسلوب العملي الذي يستمر معنا ويحصل منا في كل زمان ومكان نقتدي فيه بصاحب الذكرى ليكون حاضراً بيننا بسيرته المتبعة القويمة وشخصيته القيادية العظيمة.

وهذا ما اراد الله سبحانه ان ينبهنا عليه ويلفت نظرنا اليه بقوله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا ) (١).

وما يقال في حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال في كل واحد من أهل بيته الائمة المعصومين والقادة العدول السائرين على نهجهم لان كل واحد منهم يعتبر قرآنا ناطقا وإسلاماً عملياً متحركاً على صعيد الحياة والاحتفال الحقيقي المطلوب لله سبحانه ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأولي الأمر

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية : ٢١.

٨٧

المعصومين والتابعين لهم بإحسان إنما يكون بتطبيق تعاليم القرآن ومناهج الإسلام كما طبقوا وعملوا ولا يكون بمجرد إعلان الزينة المادية المعهودة إذا لم يقترن بإعلان زينة الاخلاق الفاضلة والتقوى والعمل الصالح كما لا يكون بمجرد المدح والثناء او التأبين والرثاء إذا تجرد ذلك عن المتابعة والاقتداء كما هو واضح.

بيان الاحتفال الحقيقي المحقق للهدف المقصود :

ولذلك أمرنا الله سبحانه بمودة أهل البيت عليهم‌السلام المتمثلة بالمحبة المقترنة بالإطاعة والمتابعة ولم يكتف منا بالمحبة المجردة عن ذلك لان هذه محبة ناقصة كما ان الاحتفال الذي لا يقترن فيه قول المدح والثناء او التأبين والرثاء ـ بعمل المتابعة والاقتداء يكون ناقصا والله الكامل لا يرضى منا الا بالعمل الصالح الكامل والى هذا المعنى اشرت بالمقطوعة الشعرية التالية التي نظمت بمناسبة ميلاد الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقيت اكثر من مرة في اكثر من احتفال يتعلق بهذه المناسبة المباركة :

إن رمت تكريم الـنبي مـحمد

والاحتفال بيوم عيد المـولـد

فانهج سبيل الصالحات مـطبقاً

قانونه السامي بـدون تـردد

إن الرسول هو الرسالةُ قد أتت

من أجل إصلاح وهدي مرشد

فإذا أخذت بها ونلت عـطاءها

بتــدبر وتقـيد وتعــبــد

أحييت ذكرى المرسلين جميعهم

وبني الإمامة من سلالـة أحمد

فالكل نـور واحـد متألــق

يجـلو دياجير الضلال المـفسد

وبعد أن عرفنا الاسلوب العملي للاحتفال الحقيقي بكل مناسبة

٨٨

تتعلق برموزنا الدينية وخصوصا المعصومين منهم يسهل علينا معرفة كيفية تطبيق هذا الاسلوب في حياتنا العملية.

وسأذكر مثالاً لذلك من شخصية الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتبار كونها موضوع هذا الحديث بمناسبة ميلاده الشريف :

فأقول : إن الصفة البارزة التي لمعت في حياة هذا الشخص العظيم وعرف بها قبل بعثته هي كونه صادقا وامينا وهاتان الصفتان متلازمتان في حياة الشخص الرسالي. والظاهر من كلمة الصدق وان كان هو بعض اقسامه وهو الصدق في القول ولكن اذا نظرنا الى معناه بعين التدبر وادركنا انه عبارة عن المطابقة للحقيقة والواقع ندرك انه غير محصور ومقصور على ذلك المعنى الخاص المتبادر من كلمة الصدق عند اطلاقها بل يشمل انواعا اخرى هي افراد لذلك المعنى العام وهي الصدق في العقيدة والصدق في النظام والشريعته والصدق في العمل والممارسة

بيان المراد من الصدق بمعناه العام :

أما الأول : فيتحقق عندما تكون العقيدة مطابقة للواقع على ضوء البرهان القاطع ومثاله الواضح الايمان بأصول الدين المعهودة.

وأما الثاني : فمثاله الجلي الشريعة الإسلامية المنبثقة من تلك الاصول والقائمة على اساسها وبذلك يعرف ان كل نظام لا يكون قائما على تلك الاسس الوطيدة وراجعا الى مصدر الكون والحياة وهو الله سبحانه لا يكون نظاما صادقا ومطابقا لمصلحة الشعب في الواقع ومحققا لاهدافه وتطلعاته كما يوحي بذلك قوله تعالى :

٨٩

( إن الدين عند الله الإسلام ) (١).

( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين ) (٢).

ومن المعلوم ان كل نظام يكون مسببا للخسران في الآخرة يكون مطبقه من الخاسرين في الدنيا ايضا.

واما الصدق في العمل والممارسة فيتمثل بمطابقة اعمال المكلف لاحكام شريعة الصادقة المنبثقة عن عقيدته الصحيحة وذلك عندما يتقيد بنظامها ويتحرك في فلكها فلا يصدر منه تصرف او موقف ايجابي او سلبي الا اذا كان مبررا في شريعته وهذا النوع من الصدق هو المكمل للنوعين الاولين كما انه مكمل لشخصية الإنسان الملتزم بخط السماء عقيدة ونظاما ـ وذلك لان الإيمان بأصول الدين والالتزام العقيدي بما يتفرع عنها من الاحكام والقوانين لا يحقق للإنسان الظفر بالسعادة والسلامة من الخسران الا اذا اقترن ايمانه بالاصول والفروع بالعمل بمقتضاها والسير على ضوء هداها ـ وقد نبه الله سبحانه على هذه الحقيقة الموضوعية بقوله تعالى : ( والعصر * إن الإنسان لفي خُسر * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (٣).

بيان الاحتفال الحقيقي المطلوب :

إذا أدركنا هذه الحقيقة وعرفنا ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكل واحد من أهل بيته الائمة المعصومين عليهم‌السلام يمثل كل واحد منهم الإسلام العملي

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٩.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٨٥.

(٣) سورة العصر ، الآيات : ١ ، ٢ ، ٣.

٩٠

بحيث يصح ان يقال في حقه إنه القرآن الناطق والاسلام المتحرك على صعيد الحياة وعرفنا ايضا على ضوء ما تقدم ان الاحتفال بمعناه اللغوي يراد به الاحترام والاهتمام ، ندرك جيدا على ضوء ذلك كله ان الاحتفال الحقيقي والاحترام الواقعي لا يكون بالاحتفال بأسلوبه التقليدي المتعارف وإنما يكون بالاقتداء والمتابعة ليكون كل واحد منا صورة مصغرة عن كل واحد منهم بصورة عامة وفي حياة جدهم الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بصورة خاصة هي صفة الصدق والامانة ، فإن الاحتفاء بهم والاحترام لهم حقيقة وواقعا يكون بالاتصاف بهذه الصفة بكلا عنوانيها المتلازمين ليصبحا بحكم الصفة الواحدة وبذلك ندرك ان كل شخص يحقق في نفسه صفة الصدق في العقيدة إيماناً وفي الشريعة التزاما وفي السلوك استقامة وتقوى.

ويضم الى ذلك بطبيعة حاله الإيمانية ان يكون امينا على نفسه وعلى كل واحد من افراد اسرته الواقعين تحت رعايته ورحمته وعلى كل ما يعتبر امانة لديه سواء كانت امانة مالكية او شرعية مادية او معنوية.

أجل : إن كل شخص يكون هكذا يكون محتفلا واقعا وفي كل زمان ومكان بكل شخصية رسالية تأثر بها فكريا وعاطفيا واقتدى بها في حياته عمليا وهذا النوع من الاحتفال هو الذي يطلب منا القيام به ليتحقق الهدف الاساسي من الاحتفال الذي يباركه الله سبحانه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون ويرونه بعين الرضا والقبول حيث يكون من اوضح مصاديق العمل الصالح الذي طلب من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمرنا به بقوله تعالى :

( وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملكم ورسوله والمؤمنون ) (١).

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ١٠٥.

٩١

ختام الخطبة بأبيات من وحي المناسبة :

ويسرني أخيراً ان اجعل ختام المسك ومسك الختام الابيات التالية التي افتتحت بها هذه الخطبة في السنة المنصرمة وبوحي من مناسبة عيد ميلاد الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفيده الصادق عليه افضل الصلاة وازكى التسليم :

بدران قد سطعا بأفق المــولد

وتـألقا بسنا العلى والسـؤدد

وهما الرسول المصطفى وحفيده

السامي مقاماً جعفر بن محمد

طلعا على أفق الوجود لـيكشفا

بسنا الرشاد ظلام غي مـفسد

والاحتفال بذاك ليس بــزينة

وبقول شعر بالثناء مـــردد

الاحتفال الحق إيــمان بــه

نمضي على نـهج التقى بتوحد

ونطبق الشــرع المقدس بيننا

دوماً ونطرد جيش خصم معتدي

وبذاك يغدو كل يــوم مشرق

بهدى الرسالة ـ يوم عيد المولد

والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء أولاً وآخراً ورحمة الله وبركاته

٩٢

الخطبة التاسعة (١)

ذكر الله سبحانه ودوره في

تقدم الإنسان وسلامة مسيرته

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

السلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته.

وبعد : قال الله سبحانه في محكم كتابه المجيد : ( الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب ) (٢).

وقال سبحانه : ( والذاكرين الله كثيراً والذاكرات اعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيما ) (٣).

المراد بالذكر الذي مدح الله به عباده المؤمنين وبين انه السبب في اطمئنان قلوبهم وتعلقها بربهم ـ هو التذكر لعظمة الله سبحانه وجلاله

__________________

(١) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة في مسجد الإمام المهدي عليه‌السلام في ١٨ ـ ١٠ ـ ١٩٨٥ م.

(٢) سورة الرعد ، الآية : ٢٨.

(٣) سورة الأحزاب ، الآية : ٣٥.

٩٣

واستحضار هذه العظمة في الذهن والاحساس الشعوري الباطني ليظل الذاكر له بهذا المعنى على ارتباط به واقبال عليه في كل احواله واوضاعه.

وهذا ما يوحي به قوله تعالى :

( إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولى الالباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) (١).

فقد بين الله سبحانه ان المراد بذكر الله تعالى الذي يحصل من المؤمنين العقلاء في هذه الاحوال الثلاثة هو التفكر في خلق السماوات والارض بقرينة عطف قوله : ويتفكرون في خلق السماوات إلخ ، على قوله : ( يذكرون الله ) عطف تفسير كما هو الظاهر بدليل انه حصل لهم بهذا التفكر ايمانهم بحكمته تعالى وانه لم يخلق هذا الكون بما فيه ومن فيه عبثا وباطلا بلا هدف وحكمة ـ بل خلق الكون لخدمة الإنسان كما صرح بذلك في الكثير من آيات كتابه الكريم.

منها قوله تعالى : ( وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منهُ ) (٢).

وقوله تعالى : ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الارض ) (٣).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآيتان : ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) سورة الجاثية ، الآية : ١٣.

(٣) سورة لقمان ، الآية : ٢٠.

٩٤

وخلق الإنسان لعبادته وحده لا شريك له كما صرح بذلك في قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (١).

ومن الواضح ان الوصول الى هذه النتيجة لا يكون بمجرد الذكر اللساني الخالي من التفكر القلبي والتدبر العقلي.

وهذا ما ورد النص عليه في الكثير من الروايات وبيان الكثيرين من المفسرين.

وبعد معرفة هذه الحقيقة وان الذكر الذي مدح الله عباده المؤمنين به هو التفكر واستحضار عظمة الله سبحانه وجلاله وانه الكامل بالكمال المطلق الذي اوجد الكون بقدرته الجبارة وسيره لخدمة الإنسان بحكمته البالغة وانه مصدر الخير كله والملجأ الامين لدفع الشر والسلامة منه وانه لم يكلف عباده بالعبادة الا ليتوصلوا بها الى الكمال والسعادة.

أجل : بعد معرفة ذلك كله والاطلاع عليه بوعي وتدبر يأتي دور بيان الفوائد المترتبة على هذه العبادة الباطنية التي هي روح العبادة الظاهرية كما يوحي بذلك بعض الروايات القائلة ما حاصله : لا يكتب للإنسان من صلاته الا ما اقبل به على ربه.

فأقول : الذكر بالمعنى المذكور يكون حاضرا لدى الإنسان المؤمن الذاكر الملتفت إما تفصيلا او اجمالا وارتكازا في كل احواله واوضاعه وسأقتصر على ذكر فائدة حصوله عند اهم الاوضاع التي يكون لوجوده فيها أثر بالغ ودور بارز في حياة الإنسان وتصرفاته وهي ما يلي :

حالتا النعمة والمصيبة وحالتا الاطاعة والمعصية فعلا او الاقدام عليها وحالتا الرضا والغضب وهناك احوال اخرى لم اذكرها اما لرجوعها

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ٥٦.

٩٥

الى ما ذكر كحالتي الغنى والفقر ـ لانهما ترجعان الى حالتي النعمة والمصيبة ببعض الاعتبارات او لامكان الاستغناء عن ذكرها بالخصوص لامكانية معرفة دور الذكر فيها من معرفة فائدته فيما ذكر.

اما فائدة ذكر الله سبحانه حال النعمة فواضحة بسبب ما يوحي به تذكر الله سبحانه حال التمتع بنعمه التي لا تحصى من كونه المصدر الحقيقي لكل ما ظفر به وحصل له من النعم وقد نص على ذلك بقوله تعالى : ( ومابكم من نعمة فمن الله ) (١).

واكد ذلك بقوله سبحانه : ( وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها ) (٢).

مع الالتفات التفصيلي ببركة هذا التذكر الى انه سبحانه لم يتفضل عليه بهذه النعمة الا ليستعين بها على تحقيق الغاية الكبرى التي خلقه من اجلها وهي عبادته وحده لاشريك له وانه إذا صرفها في هذا السبيل كان شاكرا الله عليها بالشكر العملي الذي يقتضي بطبعه زيادة النعمة وبقاءها عند صاحبها الشاكر مع توفيقه لطول البقاء والسلامة من البلاء لما هو المعروف المشهور من ان الصدقة الواجبة او المستحبة تطول الاعمار وتعمر الديار وتدفع البلاء وقد أبرم إبراماً.

أجل : إن تذكر الله المنعم من قبل صاحب النعمة يؤدي الى صرفها في سبيل إطاعته سبحانه وذلك يؤدي الى هذه النتائج الايجابية المباركة والفوائد العديدة.

وقد اشار سبحانه الى ما يترتب على شكر النعمة الناشىء عن ذكر

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ٥٣.

(٢) سورة النحل ، الآية ١٨.

٩٦

المنعم بها والتفكر فيما يستحقه من الشكر وما يترتب عليه من الزيادة والخير والبركة بقوله تعالى :

( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) (١).

وإذا كان الذاكر لله سبحانه واعيا وملتفتا ببركة تذكره الواعي الى ان العذاب المترتب على الكفر بنعمة الله سبحانه ليس مقصورا على العذاب الاخروي بل هو شامل للعذاب الدنيوي المعجل الذي يتحقق بسلب النعمة عن الكافر بها الصارف لها في غير اطاعة الله سبحانه ، فإن تذكره هذا والتفاته الى هذه النتيجة السلبية الخطيرة يدفعه ويحتم عليه صرف نعمة الله في سبيل اطاعته ليحصل تلك الفوائد العظيمة ويسلم من نتائج الكفر العقيمة الجسيمة.

وقد ذكر الله سبحانه في كتابه المجيد نموذجا للمؤمن الشاكر الذاكر وبين نتيجة شكره لله على نعمه الكثيرة والكبيرة وهي اعطاؤه ملكا واسعا لم يحصل لغيره من الحكام في هذه الدنيا.

وكان موضوع هذا الحديث السماوي القرآني هو النبي سليمان الذي ملك الدنيا بتوفيق الله وفضله ولكنها لم تملكه ولم تؤثر على موقعه العبودي من المنعم بها عليه ـ ولم يزده إقبالها عليه من جميع الجهات الا اقبالا على الله سبحانه بالشكر القلبي الذي ابرزه بالشكر اللساني عندما قال : ( هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر ام اكفر ) (٢).

وتوج كلا الشكرين القلبي بمعرفة مصدر هذا الملك العظيم واللساني بالاعتراف بأنه من فضل الله.

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٧.

(٢) سورة النمل ، الآية : ٤٠.

٩٧

أجل : توج هذين النوعين من الشكر بالشكر العملي الذي تمثل بصرف هذه النعمة الواسعة في سبيل مرضاته تعالى وحصل بذلك دوامها مع تحصيله حياة الخلود في هذه الدنيا ـ بالذكر العاطر الذي سجله الله له على صفحات كتابه الكريم بحروف من نور ( والذكر للإنسان عمر ثاني ).

كما ذكر سبحانه نموذجا آخر هو على العكس من الاول وهو قارون الذي اعطاه الله سبحانه المال الكثير الذي عبر عن كثرته بقوله :

( وءاتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأُ بالعصبة اولى القوة ) (١).

حيث انه قابل نعمة الله سبحانه بالكفر القلبي بإنكاره وجود تدخل للإرادة الإلهية في حصول هذه النعمة له وترجم هذا الانكار بحصر سبب حصولها له بعلمه ومهارته حيث قال : ( إنما أُوتيته على علم عندي ) (٢).

واذا دققنا النظر في مصدر هذا الانكار والكفر القلبي واللساني وما ترتب على ذلك من الكفر العملي حيث امتنع عن دفع الحق الشرعي الذي تعلق بثورته لمستحقه نرى ان مصدر ذلك هو الغفلة المطبقة وعدم تفكره وتذكره للمصدر الحقيقي لكل النعم التي تحصل للإنسان في هذه الحياة ـ ولذلك أخذه الغرور والطغيان الذي ادى به الى تلك النتيجة السلبية التي ترتبت على طغيانه هذا وهي خسف الله به وبداره الارض كما تحدث بذلك القرآن الكريم حيث قال سبحانه مبينا مصيره المؤلم المظلم :

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٧٦.

(٢) سورة القصص ، الآية : ٧٨.

٩٨

( فخسفنا به وبداره الارض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ) (١).

وقد ذكر الله سبحانه هذين النموذجين من الناس من اجل ان نستوحي الدرس والعبرة ونبقى دائما وابدا على حالة ذكر لله وتذكر والتفات الى كونه هو المصدر الحقيقي لجميع الآلاء والنعم التي يتمتع بها الإنسان في هذه الحياة وقد اكد هذه الحقيقة الفطرية بقوله سبحانه :

( ومابكم من نعمة فمن الله ) (٢).

وقوله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها ) (٣).

كما بين لنا نتيجة ذكره وشكره وهي زيادة النعمة ودوامها ونتيجة الغفلة والتنكر لمصدر النعمة ـ وهي سلب هذه النعمة وما يترتب عليه من العذاب النفسي وذلك بقوله تعالى :

( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) (٤).

وقد مر بيان ذلك مفصلا في أواخر صفحة ٦٥.

فائدة ذكر الله سبحانه حال الابتلاء بالمصيبة :

وأما الفائدة المترتبة على ذكر الله سبحانه حال ابتلاء الانسان بالمصيبة فهي تختلف باختلاف مصدرها فإذا كانت حاصلة له بسبب معصيته ومخالفته لمناهج السماء تكون فائدة ذكره لله سبحانه والتفاته الى

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٨١.

(٢) سورة النحل ، الآية : ٥٣.

(٣) سورة النحل ، الآية : ١٨.

(٤) سورة إبراهيم ، الآية : ٧.

٩٩

أن معصيته له كانت السبب في إصابته بتلك المصيبة هي التوبة والرجوع الى منهج الاستقامة لينال ثواب التوبة ويسلم من تلك المصيبة وبذلك تكون الإصابة بالمصيبة على أثر حصول المعصية ، درسا تربويا وعقوبة معجلة من الله الرحيم ليردع بها الإنسان عن انحرافه ويعيده الى جادة عبوديته له ويسلمه من التمادي في الإنحراف وما يترتب عليه من المضاعفات السلبية الخطيرة كما يسلمه من العذاب الاكبر والاطول يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم وسلوك مستقيم وقد اشار ذلك الشاعر الحكيم الى هذا المعنى بقوله :

وقسا ليزدجروا ومن يك راحما

فليقس احيانا على من يرحم

وإذا كانت المصيبة حاصلة له من ظلم الغير تكون فائدة ذكر الله سبحانه واللجوء اليه بالتضرع هي الاستعانة بالقوة العادلة من اجل دفع الظلم عنه وارجاع الحق اليه.

وإذا اقتضت الحكمة الإلهية تأخير الانتصار لهذا المظلوم الى المستقبل القريب في الدنيا او البعيد في الآخرة فإن ذكره سبحانه وتذكره عدله وانه لا بد ان يحكم بينه وبين ظالمه بالعدل عاجلا ام آجلا يجعله في حالة تطلع وترقب لإشراق فجر العدل عليه بنور الانتصار له ودفع الظلم عنه ـ فلا يغرق في ظلام ليل اليأس المظلم المؤلم ـ وهذه اعظم فائدة واطيب ثمرة يقطفها المؤمن من شجرة ذكره لله وتذكره عدله ورحمته بصورة تفصيلية تزيل عنه الم اليأس من الفرج.

وإذا كانت المصيبة حاصلة له بالقدر والقضاء بدون تدخل عامل اختياري بشري ذاتي أو غيري فإن فائدة التذكر لعدل الله سبحانه الشامل ورحمته الواسعة وانه لا يقدر لعبده المصيبة الا ليكفر سيئاته ويضاعف حسناته اذا رضي بها وصبر عليها ويدخله بعد ذلك الجنة بغير حساب.

١٠٠