من وحي الإسلام - ج ١

الشيخ حسن طراد

من وحي الإسلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

ويؤكد هذا المعنى مضمون قصة حاصلها ان شخصا اراد ممارسة الحرام مع امرأة فرفضت واشترطت لموافقتها على اجابة طلبه ان يلتزم بالصلاة جماعة مدة محددة من الزمن ـ وقبل انتهاء المدة هداه الله سبحانه وعدل عما كان عازما عليه بالحرام ليوفقه الله بعد ذلك لحصول مراده بالحلال على كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا مضمون قوله تعالى :

( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لايحتسب ) (١).

والوجه في ايصال الصلاة لهذه النتيجة هو ان المصلي اذا تنبه لمعاني اذكار الصلاة واقوالها ومرامي حركاتها وافعالها وتفاعل معها نفسيا وشعوريا بحيث تكون صلة بالله سبحانه وصلاة له بالروح والجسم معا فلا بد ان تسير به في طريق التقوى والاستقامة كما اراد الله سبحانه.

دور الصلاة في تطهير الإنسان نفسا وولداً ومالاً :

وكما ان الصلاة تطهر النفس والقلب بالطهارة المعنوية من نجاسات الذنوب ـ كذلك تطهر المال والولد من الحرام ليصبح المال حلالاً والولد ولد حلال وذلك لان الصلاة كما تقتضي بطبعها النهي والانتهاء عن الفحشاء والمنكر كذلك هي تقتضي من ناحية خارجية تطهير المال الذي يريد ان يشتري به ثوبا للصلاة من الحق الشرعي الذي تعلق به لاشتراط صحتها بذلك كما هو معلوم على حد اشتراطها بطهارة البدن والثوب من النجاسة المادية واما تأثير الصلاة في تولد الولد من الحلال

__________________

(١) سورة الطلاق ، الآيتان : ٢ ، ٣.

٢٤١

فباعتبار دفعها المكلف لتطهير المال من الحرام ومنعها له من اكتسابه من المصدر الحرام وبذلك يكون هذا المال طاهرا وحلالا فيكون الولد المتولد من النطفة المتكونة من الدم الناشىء من الغذاء الحلال ـ ولد حلال ولا يكون ابن حرام متولدا من العلاقة غير الشرعية او من الغذاء الحرام لان الصلاة الصادرة من المؤمن الواعي لاهدافها والمحقق لغاياتها تمنع المصلي من كل نوع من انواع الحرام بمقتضى نهيها وانتهاء المصلي بها عن الفحشاء والمنكر كما سبق.

وهذا بخلاف الشخص الذي يترك الصلاة ويقطع صلته بالله سبحانه ليطلق لنفسه الامارة بالسوء ـ العنان في ميدان الاهواء فلا يلتزم بفعل واجب ولا ترك حرام ـ فقد تكون علاقته الجنسية غير شرعية ولو كانت شرعية ولكنه لا يتورع عن تناول الغذاء الحرام او المشتمل على الحرام ـ وتكون النتيجة ما ذكرناه من تولد ولده بالطريق غير الشرعي او من الغذاء الحرام وكلا السببين يؤديان الى نتيجة سلبية بالنسبة الى هذا الولد حيث يكون ميله الى الشر اقوى من ميله الى الخير ويسبب ذلك صعوبة في تربيته بالنسبة الى من يشرف عليها ويتحمل مسؤوليتها كما يصعب عليه نفسه ان يسيطر عليها ويسير بها في درب التقوى والاستقامة ـ ولهذا ورد في حق ابن الزنا ـ انه لا ينجب الا من رحمه الله وادركته العناية الإلهية وهيأت له من يجاهد في سبيل تربيته والسير به في درب الخير والفضلية والنجابة.

والصوم ايضا حمام روحي آخر يطهر النفس من أدناس الذنوب والمعاصي بماء التقوى باعتبارها الغاية الاساسية المقصودة منه والفائدة الكبيرة المترتبة عليه لقوله تعالى :

٢٤٢

( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (١).

والصوم يطهر الجسم ايضا من الامراض التي يصاب بها وينحصر علاجها به لان الصوم بطبيعته يقوم اولا بدور الوقاية من الاصابة بكثير من الامراض كما يقوم ثانيا بدور العلاج بعد حصول الاصابة وهذا ما اشار اليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : « صوموا تصحوا ».

دور فريضة الحج في تطهير نفس المكلف وماله :

وفريضة الحج حمام روحي ايضا يطهر الروح والنفس من اوساخ الذنوب كما يطهر في الغالب المال من الحق الشرعي حيث لا يصح الا بالمال المطهر من حق الغير كما هو واضح ولذلك نرى كثيرين ممن لا يلتزمون بالفريضة المالية خمسها وزكاتها يلتزمون بتطهير مالهم الذي يحجون به لتوقف صحته على ذلك ـ وربما توفق بعضهم للقيام بعملية تطهير شاملة لكل امواله مع الالتزام بإخراج الحق الشرعي سنويا بعد تحديد رأس سنة له على يد أحد وكلاء المرجع الذي يرجع غليه في التقليد ـ وهذا واجب على كل مكلف بقطع النظر عن فريضة الحج واقتضائها تطهير المال من الحق الشرعي لان هذا التطهير واجب مستقل كالصوم والصلاة ـ لذلك يطلب من كل مكلف ان يتنبه لهذه الوظيفة الشرعية الهامة التي تتم بها سائر الفرائض لتوقف صحتها عليها كما تقدم بالنسبة الى الصلاة والحج حيث لا تصح الصلاة بثوب اشتري بمال متعلق للحق الشرعي كما لا يصح الحج بمثل هذا المال ايضا.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨٣.

٢٤٣

ومع فرض صحة هاتين الفريضيتن وعدم توقفهما على اخراج الحق الشرعي كما يتفق ذلك في بعض الفروض ـ ولكن المتأمل في حكمة تشريع العبادات كلها بصورة عامة والصوم والصلاة والحج بصورة خاصة يدرك جيدا ان الغاية الاساسية المقصودة منها هي التقوى المتمثلة بفعل الواجبات وترك المحرمات ومن المعلوم ان تأدية الفريضة المالية بإخراج الخمس وإيتاء الزكاة من اهم الواجبات وتركها من أبرز المحرمات لانه يشتمل على المعصية من ناحيتين.

الأولى : ترجع الى الخالق المشرع.

والثانية : تعود الى المخلوق بسبب غصب حقه وحرمانه منه وبذلك يعرف دور الفريضة المالية في تطهير المال من حق الغير مع تطهيرها النفس من درن الشح ودنس البخل والحرص.

دور التوبة في تطهير الإنسان نفسا ومالاً وولداً :

واذا طهرت الروح وسلم القلب من الامراض المعنوية المذكورة ونحوها من الصفات الذميمة المدمرة يسلم الجسم من الكثير من الامراض المادية التي تنشأ غالباً من تلك الامراض المعنوية المحطمة وعلى هذا يصح ان يقال : الجسم السليم في العقل والقلب السليمين ـ كما يقال في المقابل العقل السليم في الجسم السليم.

وهناك حمام اكبر واوسع من حمام العبادات المذكورة وهو حمام التوبة الذي يطهر النفس والروح من اوساخ الذنوب الحاصلة من ارتكاب المحرمات وترك الواجبات وخصوصا الواجبات العبادية المعهودة التي تقدم انها حمامات روحية تطهر النفس من النجاسات المعنوية فإن ترك

٢٤٤

هذا الواجبات مضافا الى ترك الواجبات الاخرى وفعل المحرمات يؤدي لان يسقط مثل هذا الإنسان في مستنقع من اوساخ الذنوب وادران الخطايا ولا ينقذه منه ويطهره من أقذاره سوى حمام التوبة الكبير القابل لان يزيل عنه ذلك ويعيده الى حالته الاولية من الطهارة والنقاء كما اراد الله سبحانه له بفتح باب التوبة امام المنحرفين عن جادة العبودية وشجعهم على التطهير من الادناس بمائها بأنه سبحانه بعد تنظيفهم لنفوسهم يصبحون محبوبين لديه ومقربين اليه وكأنه لم يحصل منهم شيء من الخطأ والانحراف ـ وهذا ما أراد بيانه لهم بقوله تعالى :

( إن الله يحبُ التوابين ويحب المتطهرين ) (١).

الأمور المحققة للتوبة الواجبة على المكلف :

وحيث ان للتوبة دورها البارز في تنظيف النفس وتطهير الروح من شوائب الخطايا ـ فقد اوجبها الله بالوجوب الفوري والمؤكد وهي لا تتحقق الا بشروط عديدة أهمها ما يلي :

الأول : الندم على ما حصل من المخالفة والانحراف عن جادة العبودية.

الثاني : العزم والإصرار على عدم العودة الى المخالفة.

الثالث : ايصال الحقوق التي غصبت بسبب المخالفة والإنحراف عن الجادة.

وبعد التأمل بمضمون كل واحد من هذه الامور يعرف انها مقومة

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٢.

٢٤٥

لحقيقة التوبة على حد تقوم الصلاة بأجزائها المعهودة وخصوصا الركنية منها وليست شروطا خارجة عن طبيعتها ودخيلة في صحتها وترتب الاثر عليها كما هو المفهوم من كلمة الشرط.

وتوضيح ذلك : ان التوبة معناها الرجوع الى جادة الاطاعة عمليا والعدول عما كان عليه ومن المعلوم ان هذا لا يتحقق الا بعد الشعور بالخطأ والندم على ما سلف وهذا لا بد ان يكون بمرتبة قوية بحيث تسبب عند التائب ردة فعل وحالة انقباض فكري وعاطفي تجاه المخالفة السالفة لان ذلك هو الذي يحقق الامر الثاني المتمم للأول ـ وهو ـ اي الثاني الإصرار على عدم الرجوع الى ما كان عليه لان الإصرار على العودة يدل على عدم الندم والتردد في العودة واحتمال حصولها يدل على ضعف الندم او عدمه.

اشتراط تحقق التوبة بارجاع كل حق الى صاحبه :

وبذلك يعرف الوجه في اعتبار الامر الثالث في تحقق التوبة وهو ارجاع كل حق اغتصبه بالمعصية ـ الى صاحبه وذلك لان التوبة في واقعها عملية تطهير من دنس المخالفة ومن المعلوم ان ازالة هذا الدنس لا يكون الا بازالة السبب المؤدي له لأن بقاء السبب واستمراره يقتضي بقاء ما نشأ منه وترتب عليه وحيث ان المخالفة ادت الى غصب حق الإطاعة لله سبحانه وقد يقترن ذلك باغتصاب حق بعض الناس ـ ففي هذا الفرض اذا كان حق الله سبحانه واجب القضاء والتدارك كالصلاة والصوم والزكاة والخمس والحج ـ اذا تركها المكلف وجب عليه قضاؤها ويفترق الواجبان الاولان والخامس (١) عن الواجبين الماليين ـ وهما الخمس

__________________

(١) والخامس وهو الحج.

٢٤٦

والزكاة ـ بأن الماليين يثبت فيهما حقان احدهما معنوي وهو حق الإطاعة لله بالقضاء والثاني حق مادي وهو نفس الحق الشرعي الذي تعلق بمال العاصي لمستحقه وأما غير هذين الواجبين من الفروض الثلاثة المذكورة وهي الصلاة والصوم والحج فليس فيها سوى حق واحد وهو حق القضاء وهو بديل عن حق الاداء الذي كان ثابتا قبل حصول المخالفة المفوته.

والحاصل : أن المعصية اذا أدت الى غصب حق معنوي لله سبحانه ـ وحده او مع غصب حق مادي للغير وكان واجب القضاء فالتوبة لا تتحقق الا بقضاء ما وجب عليه قضاؤه لصاحبه لانه مع عدم القضاء يكون واقعا في معصية اخرى وراء المعصية الاولى ـ وهي نجاسة معنوية ثانية تضاف الى سابقتها ومع ذلك لا يعقل حصول التوبة بمعنى الطهارة والنظافة من دنس المعصية كما هو واضح ـ من أجل هذا وذاك اشترطوا لتحقق التوبة إرجاع كل حق غصب بالمخالفة السابقة ـ الى صاحبه والله سبحانه هو المسؤول ان يوفقنا جميعا لما فيه رضاه وسعادتنا في الدنيا والآخرة.

والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء أولاً وآخراً ورحمة الله وبركاته.

٢٤٧

الخطبة الثالثة والعشرون (١)

من وحي عيد الاضحى

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

والسلام عليكم أيها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته.

وبعد : إن عيدي الفطر والاضحى عيدان إسلاميان عظيمان قد اهتم بهما الاسلام واحتفل المسلمون سابقا ولا يزالون يحتفون بهما لاحقاً والله سبحانه عندما شرع هذين العيدين فقد استهدف بذلك حكمة بالغة ومصلحة عامة هامة كما هو الشأن في جميع ما شرعه من احكام فهو الحكيم الذي لا يشرع حكما الا لحكمة فيه ومصلحة تترتب عليه وتعود على الانسان فرداً ومجتمعا.

__________________

(١) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) في ١٥ ـ ٨ ـ ١٩٨٦ م الموافق ١٠ ـ ١٢ ـ ١٤٠٧ هـ.

٢٤٨

واذا نظرنا بعين البصيرة الى الحكمة المستهدفة من جعل اليوم الاول من شهر شوال عيداً عاماً للمسلمين ويسمى بعيد الفطر ـ ندرك ان الحكمة في ذلك والغاية المتوخاة منه هي الاحتفاء والاحتفال بإقامة مهرجان تكريمي بمناسبة تخرج مجموعة من أبطال العقيدة من مدرسة التدريب الروحي باعتبار ان صوم شهر رمضان المبارك يعتبر دورة تدريبية سنوية يتدرب فيها الصائمون على ما يقوي ارواحهم واجسامهم ويجعل منهم ابطالا شجعانا يتحملون المشاق ويقتحمون المعارك في سبيل نصرة المبدأ والدفاع عن الوطن وتحريره وبعد انتهاء فترة الدورة يكون التخرج والاحتفال بهذه المناسبة كما جرت العادة على ذلك بمناسبة تخرج مجموعة من الضباط والجنود الابطال من المدرسة الحربية بنجاح وتفوق من اجل تكريمهم وتوزيع الجوائز التكريمية عليهم.

وهكذا الاحتفال بيوم عيد الفطر إنما كان لهذه الغاية وتلك الحكمة.

عيد الفطر لا يشمل المفطرين بدون عذر :

وبذلك يعرف ان هذا العيد مقصور على خصوص الصائمين الناجحين في مدرسة الصيام بامتثالهم امر الله سبحانه وقيامهم بهذه الدورة التدريبية ـ ولا يشمل بوجه من الوجوه اولئك الذين أفطروا في شهر رمضان المبارك وخالفوا تعاليم الرحمن فهم خارجون عن هذا العيد وهم انفسهم يشعرون بخروجهم عنه كما خرجوا عن جادة الطاعة في شهر الرحمة والمغفرة.

والذي يتوقع حصوله لهم هو خجلهم من أنفسهم ومن الآخرين في

٢٤٩

هذا اليوم الذي يقدم فيه المؤمن الملتزم لاخيه المشابه له بالالتزام التهنئة بما وفقه الله له من الانتصار على الذات وعدم الانجراف بتيار الاهواء والشهوات كما حصل لغير الملتزم الذي انهزم في معركة الجهاد الاكبر واصبح يعيش ذل الهزيمة وهوانها في الوقت الذي يعيش فيه اخوه الصائم بهجة الانتصار وعزة الفخار ـ وما يحصل لكل واحد من الصائم الملتزم ـ من الفرحة والبهجة المعجلة ـ وما يحصل للمفطر المنهزم من ألم النفس ووخز الضمير والشعور بالسقوط والرسوب في امتحان التكليف.

أجل : إن ما يحصل للأول من نعيم الفرحة ونشوة العزة وللثاني من وهن الهزيمة وألم الكآبة ـ يعتبر جزاء معجلاً على ما قدمه من خير وشر انطلاقا من قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يرهُ * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يرهُ ) (١).

ويبقى الجزاء الاوفى والاعظم مؤجلا ليوم الجزاء الخالد بالسعادة الدائمة او الشقاوة المستمرة ( ولايظلم ربك أحداً ) (٢).

ثم إن الرسوب في مدرسة الصيام نوعان :

الأول : الرسوب الواضح وهو الحاصل بترك الصيام من الاساس.

والثاني : هو الحاصل بعدم تحقيق الغاية المقصودة من الصوم بعد الإتيان به وهي الالتزام بمنهج التقوى ـ كما يستفاد ذلك من صريح قوله تعالى :

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآيتان : ٧ ، ٨.

(٢) سورة الكهف ، الآية : ٤٩.

٢٥٠

( يايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (١).

عيد الفطر مختص بالصائمين المتقين :

فالصائم الذي أتى بالصوم مقتصرا فيه على ترك مفطراته المعهودة المعدودة وأكثرها مباحات وغير متورع عن ارتكاب المحرمات الشرعية ـ لا يكون ناجحا في مدرسة الصيام بل هو راسب برسوب غير واضح لدى الكثيرين ممن يتوهمون ان الصيام المطلوب من المكلف وجوبا او استحبابا يتحقق بمجرد الإمساك عن تلك المفطرات ضمن ايام معدودات.

وأما المؤمنون الواعون المدركون لغاية الصوم وفلسفته فهم يرون ان هذا الصائم بحكم ذلك المفطر التارك للصوم بالكلية من حيث النتيجة.

وقد اشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى هذا المعنى بقوله المشهور : رب صائم ليس له من صومه الا الجوع والعطش.

وحاصل ما تقدم ان عيد الفطر بما يحمل في طيه من معان إيجابية مشرقة ـ مختص بمن ادى فريضة الصوم وحقق غايتها وهي التقوى والى هذا المعنى اشار بعض الحكماء بقوله :

ليس العيد لمن لبس الجديد ولكن العيد لمن أمن عذاب الوعيد لأن الآمن من ذلك هو الذي أدى ما أوجب الله عليه على وجهه الصحيح وحقق غايته المقصودة منه وتأتي فريضة الصيام لتكون في الطليعة من بين

____________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨٣.

٢٥١

الواجبات التي تثمر الالتزام بفعل سائر الواجبات وترك جميع المحرمات كما هو مقتضى التقوى المقصودة من هذه الفريضة ـ اي فريضة الصوم.

واما عيد الاضحى فهو كعيد الفطر مقصور ايضا على طبقة خاصة من المكلفين وهي التي ضحت بشهواتها ومنافعها المادية الدنيوية الزائلة في سبيل منافعها الاخروية الباقية ويدخل في ذلك التضحية بالمنفعة الخاصة في سبيل المصلحة العامة التي تنعش المجتمع وتعود عليه بالخير العميم وعلى هذا الاساس يكون المضحي بما ذكرنا في سبيل الهدف الاسمى هو الذي يكون عيد الاضحى عيدا واقعيا له وأما غيره فليس له فيه من نصيب بميزان الحقيقة ومنطق الواقع وان توهم هو وغيره ممن يكون على شاكلته انه مشمول لهذا العيد ومستحق لان تقدم له التهنئة به كما تقدم للمؤمن المجاهد المضحي ـ ولكن الوهم لا يغني عن الحق والواقع شيئا لانه من نوع السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جاءه عرف حقيقته وبقي على ظمأ.

عيد الاضحى مختص بالمضحين في سبيل الله تعالى :

وقد توفق لهذا العيد في التاريخ أولئك المؤمنون المجاهدون المخلصون الذين ضحوا مع الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بداية الدعوة الاسلامية في سبيل تأسيس دولة الحق والدفاع عنها بعد قيامها وشاركهم في مجد هذا العيد وفرحه المبدئي الثابت من سار على نهجهم وترسم خطاهم في معركة التحرير والتطهير القائمة فعلا بين المستضعفين والمستكبرين في العالم بصورة عامة وفي منطقة الشرق الاوسط بصورة خاصة.

واذا عمقنا النظر في التضحية وادركنا مفهومها العام ادركنا انها لا

٢٥٢

يخلو منها أحد يكون له هدف في هذه الحياة ويسعى في سبيل تحقيقه وخصوصا اذا كان هدفا كبيرا له وزنه الذاتي والاجتماعي ولا يفرق في ذلك بين كونه هدفا ماديا يراد به تحصيل المال او معنويا يتمثل بتحصيل العلوم والمعارف ونحوها من الاهداف المعنوية ـ لان كل شخص يرسم لنفسه هدفا ويحدد غاية يحتاج لان يضحي براحته ويبذل ما يتناسب معها من الجهد والطاقة وبقدر ما يكون الهدف كبيرا يكون الجهد الذي يحتاجه من اجله كثيرا والى هذا المعنى اشار الشاعر بقوله :

واذا كانت النفوس كباراً

تعبت في مرادها الأجسام

ولا يخفى ان هذا البيان ناظر الى طبيعة الاهداف والغايات في ذاتها بقطع النظر عن نوعيتها من حيث المشروعة وعدمها ـ واما اذا نظرنا الى الموضوع من هذه الزاوية فهنا تبدو وتبرز الخصوصيات المميزة بين الهدف المشروع وغيره وبين الانسان المؤمن الملتزم بخط الشرع في مقام تحديد الهدف واختيار الوسيلة الموصلة له والانسان الآخر المتحلل من نظام السماء والمنطلق مع الاطماع والاهواء.

المؤمن الملتزم ناجح ورابح في السراء والضراء :

ويظهر الفرق بين الطرفين في مجالين ـ الاول مجال البداية بلحاظ النتيجة المعجلة ، والثاني مجال النهاية بلحاظ النتيجة المؤجلة ، وبذلك تظهر لنا قيمة الالتزام الديني ودوره الإيجابي الفعال في نجاح الإنسان الملتزم وسعادته في دنياه وآخرته.

وتفصيل ذلك ان الإنسان الرسالي الملتزم بخط السماء في كل تصرفاته انسجاما مع الغاية التي خلق الله الانسان من اجلها وهي عبادته وحده لا شريك له ـ يتقيد بالشرع ابتداء في مقام تحديد الهدف ـ فهو لا

٢٥٣

يختار الا ما كان مشروعا منه كما لا يختار الا الوسيلة المشروعة اذا كان تحصيله متوقفا على مقدمة تساعد عليه ونتيجة هذا التقيد هو التوفيق لنيل امنيته المشروعة المعجلة ـ لان تقيده بحكم الله سبحانه وعدم تجاوزه الى غير المشروع يعتبر من مصاديق التقوى التي وعد الله سبحانه صاحبها بالتوفيق والمساعدة على تحصيل الغاية المطلوبة له حيث قال سبحانه :

( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيثُ لايحتسبُ ) (١).

وهو ايضا نوع من التوكل على الله وإيكال النتيجة الى توفيقه وهو سبحانه وعد المتوكل عليه بالتأييد والمساعدة حيث قال تعالى :

( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) (٢).

التوكل والتقوى اساس النجاح والفلاح :

واذا اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة السماوية عدم ترتب الغاية المقصودة المشروعة على الوسيلة المعدة والسعي المشروع فالمؤمن لا يصاب بالإحباط ولا يناله يأس وبؤس بل يسلم أمره الى الله ويرضى بقضائه قائلا بلسان الحال او المقال ما ذكره الامام عليه‌السلام في دعائه :

ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الامور ، وذلك لان المؤمن كما ذكرنا يتقيد بنظام الله سبحانه ويتحرك في إطاره في كل تصرفاته وينتج عن ذلك اختياره الهدف المشروع المرضي من قبل الله سبحانه ويسعى الى تحقيقه في الطريق المشروع والوسيلة الجائزة ويترك

__________________

(١) سورة الطلاق ، الآيتان : ٢ ـ ٣.

(٢) سورة الطلاق ، الآية : ٣.

٢٥٤

النتيجة الى تقدير الله سبحانه ويتوكل عليه في نجاح سعيه راضيا بكل ما يقدره ويقرره له في النهاية فإذا تحقق النجاح وحصلت الفائدة المعجلة شكر الله سبحانه على توفيقه له مردداً قول النبي سليمان عليه‌السلام.

( هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكرُ أم اكفر ) (١).

وبذلك ينال ثواب الشكر معجلا بزيادة النعمة ودوامها ومؤجلا بنعيم الجنة الخالد يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم. ولا يقول ما حكاه القرآن الكريم عن قارون من قوله :

( قال إنما أُوتيته على علم عندي ) (٢).

واذا شاءت الحكمة الإلهية عدم حصول الفائدة المعجلة رغم مشروعية الهدف والوسيلة ـ رضي بما قدره الله سبحانه له وصبر عليه منتظرا حصول فائدة الرضا والتسليم يوم الجزاء العادل الذي لا يضيع فيه عمل عامل من ذكر او انثى.

وبهذا وذاك يكون المؤمن المتوكل على الله رابحا وناجحا في سعيه اما لنيله كلتا الفائدتين المعجلة في الحاضر والمؤجلة في مستقبل الآخرة ـ او لنيله فائدة الآخرة المؤجلة.

وأما غير المؤمن فهو على العكس من ذلك غالبا ان لم يكن دائما لانه اذا رسم لنفسه هدفا فهو لا يتقيد بالمشروع منه واذا احتاج الى مقدمة ووسيلة فلا يتقيد بالمشروع منها وينتج عن ذلك عدم توفيقه لنيل غايته المعجلة بسبب حرمتها وبعدها وابعادها له عن توفيق الله سبحانه.

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٤٠.

(٢) سورة القصص ، الآية : ٧٨.

٢٥٥

التقوى والتوكل مصدر السعادة في الدنيا والآخرة :

وإذا قدر له ان ينجح في سعيه المادي الدنيوي المحرم فذلك هو نصيبه في هذه الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب وبهذه المقارنة الموضوعية نعرف ان المؤمن رابح في تجارته وناجح في دنياه وآخرته على كل حال من احوال هذه الحياة لانه اذا حصلت له نعمة شكر الله عليها فكانت خيراً له في ذاتها وبما يترتب على الشكر عليها من الثواب العظيم ـ وإذا طرأت عليه مصيبة رضي بها وصبر عليها فكانت خيراً له ايضا بلحاظ ما يترتب على الرضا بها والصبر عليها من الثواب العظيم والاجر الجسيم ولهذا نقل عن بعض الحكماء قوله :

عجبت لامر المؤمن اذا حصلت له نعمة شكر الله عليها فكانت خيراً له واذا طرأت عليه مصيبة صبر عليها فكانت خيرا له فيكون كل ما يحصل له من نعمة ويطرأ عليه من مصيبة ـ خيرا له وذلك ببركة إيمانه الذي يدفعه الى الشكر في الرخاء والصبر في البلاء ـ والى ذلك اشار احد الشعراء بقوله:

إذا كان شكري نعمة الله نعمة

علي له في مثلها يجب الشــكر

فكيف بلوغ الشكر الا بفضـله

وإن طالت الأيام واتصل العـمر

فإن مس بالسراء عم سرورها

وإن مس بالضراء أعقبها الاجـر

فما منهما الا له فيه نـعمـة

تضيق بها الاوهام والسر والجـهر

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الاخوان الاعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله.

٢٥٦

الخطبة الرابعة والعشرون (١)

نصر الحسين الشهيد والمهدي

الحفيد يتحقق بنصر الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

والسلام عليكم ايها الاخوان الاعزاء الابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته.

وبعد : مرة اخرى اعود للتحدث حول موضوع يتعلق بالإمامين العظيمين الحسين الشهيد وحفيده المهدي المجيد سلام الله عليهما من اجل توضيح امر غامض لدى الكثيرين الذي يتمنون لو كانوا في عصر الاول ليكونوا من انصاره المستشهدين بين يديه في معركة الطف كما يدعون الله دائما بأن يعجل فرج الثاني ويسهل مخرجه في المستقبل

__________________

(١) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الامام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في ٢٨ ـ ٢ ـ ١٩٩٢ م.

٢٥٧

القريب ليكونوا من أعوانه المجاهدين معه في سبيل نصر الحق على الباطل والعدل على الظلم.

والامر الذي اريد توضيحه هو ان التمني الذي يبديه اولئك لبيان رغبتهم الجامحة في نصرة الحسين لو كانوا موجودين في عصره ، هذا التمني غير صحيح على ضوء ما ذكره علماء البلاغة من ان التمني انما يصح النطق بعبارته المعهودة فيما اذا كان الامر المرغوب المتمنى متعذرا او متعسرا بحيث يصعب حصوله ولا يكون في متناول قدرة الشخص المتمني له ـ كما في قول الشاعر :

الا ليت الشباب يعود يوماً

فأخبره بما فعل المشيبُ

فعود الشباب الى الشيخ الذي طرأ عليه الشيب لكبره وتقدمه في العمر ـ ممتنع عادة فيصح لغويا وبلاغيا تمنيه.

واما نصرة الحسين عليه‌السلام فليست كذلك حتى يصح تمني الوجود في عصره من اجل القيام بواجب نصرته.

وتوضيح ذلك ان الصراع الذي وقع في التاريخ لم يقع بين الحسين وانصاره من جهة ويزيد واعوانه من جهة اخرى كأفراد حتى ينتهي الصراع الذي وقع بينهم بانتهائهم وانما كان صراعا بين مبدأ الحق الذي حمله الحسين وجاهد في سبيله ومن معه ومبدأ الباطل الذي حمله يزيد ومن معه ودافعوا عنه ومن المعلوم ان الصراع بين هذين المبدأين وقع في التاريخ بين افراد اول مجتمع وجد على صعيد هذه الحياة وما وقع بين هابيل واخيه قابيل مظهر واحد من مظاهر هذا الصراع المبدئي الذي استمر بعد ذلك الى زمان بعثة الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبلغ ذروته بعده في عصب سبطه الحسين الشهيد واستمر بعد ذلك الى زماننا هذا حيث

٢٥٨

يتكرر هذا الصراع ويستمر باستمرار سببه الى ان يرث الله الارض ومن ما عليها.

الصراع بين الحسين عليه‌السلام وخصومه صراع بين مبادىء لا الاشخاص:

واذا ادركنا على ضوء ما تقدم من الخطب السابقة ـ ان الحسين عليه‌السلام وبقية المعصومين من أهل البيت الطاهرين ـ هو قرآن ناطق واسلام عملي حي متحرك وان نصر هذا القرآن المجيد والاسلام الحميد يتحقق بتعلم احكامه وتطبيق نظامه والدفاع عنه فكريا وعسكريا ـ ندرك جيدا اننا قادرون الان وفي عصرنا الحاضر ان نكون من انصار حسين المبدأ والخط والهدف السامي وذلك بتعلمنا لاحكام الاسلام وتطبيق تعاليم القرآن في مختلف مجالات حياتنا ـ ومع تمكننا من ذلك وقدرتنا عليه لا يصح منا التعبير بجملة التمني المعهودة مخاطبين الحسين وأتباعه بقولنا :

يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما لما تقدم من ان التمني لا يصح لغويا وبلاغيا الا في المورد الذي يكون المطلب المتمنى غير مقدور وبعد بيان قدرتنا فعلا على نصرة الحسين عليه‌السلام بنصر الاسلام بما ذكرنا يتضح عدم واقعية هذا التمني على ضوء ما بيناه ولذلك بدل بعض الخطباء البلغاء العبارة المذكورة المشهورة على لسان الكثيرين من الخطباء ـ بعبارة اخرى تتضمن الدعاء بالتوفيق للاستمرار على نهج الحسين والتضحية في سبيل نصرته والدفاع عنه ـ هذا كله بالنسبة الى عبارة التمني المعهودة وقد عرفنا عدم الحاجة الى تكرارها ما دمنا قادرين على تحقيق أمنية نصر سيد الشهداء في اكثر من كربلاء واكثر من عاشوراء لان كربلاء بمعناها الرمزي تشمل كل مكان يتصارع فوقه الحق

٢٥٩

والباطل كما ان عاشوراء بمعناها المبدئي تشمل كل يوم يقع فيه هذا الصراع ـ وهذا ما اشار اليه الامام الصادق عليه‌السلام بقوله : كل ارض كربلاء وكل يوم عاشوراء.

نستطيع ان نكون من أنصار المهدي ( عج ) قبل ظهوره :

وأما عبارة الدعاء التي يدعو بها الكثيرون من المؤمنين للإمام المهدي ( عج ) بأن يعجل الله فرجه ويسهل مخرجه من اجل ان يكونوا من انصاره والمستشهدين بين يديه ، اما هذه العبارة فحكمها من حيث عدم الاحتياج اليها هو حكم العبارة السابقة وذلك لنفس الوجه الذي ذكرناه لعدم الاحتياج للأولى وهو وجود القدرة فعلا لان نكون من انصار الحسين عليه‌السلام وهذا الوجه نفسه يجعلنا بغنى عن عبارة الدعاء المشهورة ـ وذلك لان الدعاء والتضرع الى الله به انما يكون في المورد الذي يكون مطلوب الداعي صعب المنال لخروجه عن نطاق ارادته واختياره مثل عودة الصحة والشفاء للمريض من الداء الخطير وحصول الربح بالمقدار الذي يحقق رغبة التاجر والنجاح في الامتحان بالدرجة التي تشبع طموح الطالب والانتصار على الاعداء مع عدم حصول التكافؤ بالعدد والعدة وهكذا ففي هذه الموارد حيث ان العامل المادي والمقدمات العادية المقدروة للإنسان غير كافية وحدها لحصول الغرض المطلوب ـ يلجأ حينئذ الى الله سبحانه بالتضرع اليه والانقطاع والتوكل عليه على أمل ان يضم العنصر الغيبي والإمداد الإلهي الى العنصر المادي العادي فيتحقق الهدف المنشود كما تحقق في معركة بدر.

وأما المورد الذي يكون الهدف المطلوب فيه مقدوراً للشخص فلا يكون هناك معنى للدعاء وطلب الإعانة كما اذا دعا الله سبحانه ان يوفقه

٢٦٠