من وحي الإسلام - ج ١

الشيخ حسن طراد

من وحي الإسلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

للاخوان المقترضين بأن يجعلوا اقتراضهم حسنا ايضا ـ وذلك بصدق القول وأداء الامانة وتسديد الاقساط المتفق عليها مقدارا وزمانا ـ في وقتها بدون تسويف ومماطلة مهما كانت الظروف صعبة ولو بان يقترض مقدار القسط من مصدر آخر ليؤكد بذلك مصداقية إيمانه ووفائه بوعده وخصوصا اذا كان المقرض محتاجا للمبلغ المقترض. وفائدة الوفاء بذلك تعود على شخص المقترض ماديا ومعنويا اما الفائدة المعنوية فواضحة حيث يكتسب صفة الوفاء بالوعد مع صدق القول وأداء الامانة واما المادية فلأن وفاءه بذلك يمكنه من طلب الاقراض مرة اخرى لنفسه او لغيره بكفالته وتعهده وتكون النتيجة على العكس من ذلك في صورة حصول العكس وهو المماطلة وعدم الوفاء بالوعد وتزداد الصورة قبحا وتشويها عندما يحصل خلاف المتفق عليه مع الاعراض الكلي والغياب عن ساحة المسؤولية الامر الذي يحطم كرامته ويسد باب الخير في وجهه ووجه الآخرين بعد ان تذهب الثقة ويفقد الاطمئنان بحصول الصدق من الآخرين بسبب عدم صدقه ووفائه بوعده ، وكان مطلوب منه ان يبدل الاعراض والهروب من ساحة المسؤولية والصدق والوفاء ، بالحضور الى الشخص الذي اقترض منه او كفله ليقدم الاعتذار مما حصل من التأخر ويبدي الاهتمام بالوفاء وان الذي حصل منه كان لظروف ضاغطة اضطرته لذلك.

نصيحة الموسر بالإقراض الحسن والمعسر بالإقتراض الحسن :

وخلاصة النصيحة و ( الدين النصيحة ) للاخوان الموسرين ان لا يحرموا انفسهم من ذلك الثواب العظيم الذي يعطيه الله سبحانه لمن اقرض اخاه في الاسلام او في الانسانية لان الاسلام جاء رحمة للعالمين وهناك ثواب آخر مترتب على الاقراض بعنوان آخر غير عنوانه الاولي

٢٢١

وهو عنوان إدخال السرور وكشف الكربة وقضاء الحاجة وكل واحد من هذه العناوين موضع للاجر العظيم والثواب الجسيم.

ونصيحتي لاخواني المعسرين ان يبذلوا اقصى الجهد في سبيل الوفاء بالوعد ليكون ذلك مشجعا للمقرض على إقراضه فيرغب في الاستمرار على هذه الخدمة الانسانية لهم وللآخرين.

ومن جملة الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها لقضاء حاجة المضطر الملهوف ـ مساعدته من الحق الشرعي الخمس ونحوه بعد احراز حاجته والتزامه الديني بالاطلاع الشخصي المباشر او بواسطة التعريف من قبل من يوثق بقوله ويترجح مراجعة الحاكم الشرعي او وكليه في صرف الحق الشرعي من اجل تحصيل الرخصة وتحديد الكمية ليحرز دافع الحق الشرعي براءة ذمته منه ـ كما يمكن مساعدة المحتاج المعسر عن طريق التصدق والتبرع من الشخص مباشرة او بالسعي لتحصيل المساعدة له من الاخرين والساعي بالخير كفاعله من حيث استحقاق الاجر والثواب.

بيان أفضلية صرف المال لقضاء حاجة المضطر

من صرفه في العبادات المستحبة :

وبالمناسبة احب ان الفت نظر الاخوان الاعزاء والمؤمنين الصالحين الذين التزموا بالذهاب الى مكة المكرمة كل عام لتأدية الحج المستحب وللعمرة المستحبة وربما تكرر ذلك في العام الواحد كما التزموا بالذهاب لزيارة المشاهد المقدسة وقد يتكرر ذلك في العام الواحد فأقول لهؤلاء الاخوان الاحباء : اذا كان المقصود من ذلك تحصيل الاجر والثواب فلماذا لا تصرف هذه الاموال التي تصرف في طريق هذه المستحبات ـ في سبيل إغاثة الملهوفين وكشف كرب

٢٢٢

المكروبين وانقاذ الكثيرين من المعسرين الذين تصل بهم الازمة الاقتصادية الى درجة فوق التحمل والطاقة لينالوا بذلك ثواباً اعظم وأجراً أجسم يصح ان نحدده بثواب احياء النفس المحترمة الذي اعتبره الله إحياء للناس جميعا لاهميته وذلك بقوله سبحانه :

( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) (١).

وذلك لان قيمة كل عمل في الميزان الاخروي بقدر ما يترتب عليه من المنفعة لخلق الله باعتبار انهم عياله واحب الناس اليه انفعهم لعياله كما ورد في الحديث ـ ومن المعلوم ان فائدة المستحبات العبادية المتمثلة بالحج والعمرة والزيارة ونحوها مقصورة على صاحبها وبالقدر المحدود من الثواب.

وهذا بخلاف المستحبات الاجتماعية وربما اصبحت واجبة بالعنوان الثانوي ـ فهي تفيد صاحبها الذي يقوم بها في الدنيا حبا واحتراما وسعة رزق وطول عمر ودفع بلاء وقد أبرم إبراما كما ورد في الاحاديث وقد مرت الاشارة الى ذلك كله بصورة مفصلة في بعض الخطب السابقة التي تحدثت فيها حول موضوع الانفاق في سبيل الله تعالى.

ويسرني ان اختم الحديث حول موضوع التجارة مع الله سبحانه بذكر قصة تناسب المقام وحاصلها ان شخصا توجه الى تأدية الحج المستحب وفي طريقه شاهد امرأة تنتف طيراً ميتاً فأخبرها بحرمة أكل لحم الميتة وردت على اخباره لها بذلك بأنها عالمة بهذا الحكم وعالمة ايضا بجواز أكل مثل ذلك للضرورة القاسية انطلاقا من القاعدة

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٣٢.

٢٢٣

المشهورة ( الضرورات تبيح المحذورات ) وحينئذ رق لها بعد ان اطلع على واقعها المر ، وانها أرملة تعيل أيتاما ولا يوجد لديها ما تدفع به الجوع المؤلم عن نفسها واطفالها سوى هذا الطير الميت ونتج عن انفعاله العاطفي بمأساتها وتفاعله مع حاجتها القاسية ـ ان دفع لها المال الذي كان حاملا له ليصرفه في سبيل تأدية الحج المستحب ـ وتذكر القصة ان الله سبحانه كافأه على ذلك بأن بعث ملكا بصورته ليحج عنه تلك السنة وينال ثواب ما كان عازما عليه من حيث النية لان الاعمال بالنيات ومن حيث النيابة التي اراد الله بها ان يظهر له تقدير هذا العمل واحترامه به مضافا الى الثواب العظيم الذي احرزه بقضاء حاجة هذه المسكينة واطفالها الجائعين البائسين.

مع الاخذ بعين الاعتبار ثبوت الاجر العظيم لهذا الانسان على ضوء الروايات الكثيرة الدالة على اهمية قضاء حاجة المضطر وكشف كربته وإدخال السرور على قلبه ـ وما يترتب على ذلك من الثواب الجسيم والاجر العظيم ـ بغض النظر عن القصة المذكورة المشهورة والذي يساعد الانسان المؤمن على الاهتمام بصنع الخير للآخرين وقضاء حوائجهم التفاته التفصيلي وتذكره لما يترتب على ذلك من المنافع الدنيوية المادية والمعنوية المعجلة مضافا الى الفوائد الاعظم والادوم التي ينالها هناك يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم وعمل صالح وزاد من التقوى نافع ورافع ولذلك امرنا الله بإعداده في الكثير من آيات كتابه حيث قال سبحانه :

( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أُولي الالباب ) (١).

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩٧.

٢٢٤

دور التقوى في سعادة الدارين :

ومن الواضح في نظر المؤمن الواعي ان فائدة التقوى غير مقصورة على الاخرة ونعيمها بل هي تحصل لصاحبها معجلا في الدنيا قبل اليوم الاخر ـ وذلك لانها عبارة عن فعل الواجبات وكلها فوائد مع ترك المحرمات وكلها مفاسد والمؤمن التقي عندما يأتي بالاولى ويجني فوائدها ويترك الثانية ويتجنب مفاسدها ـ يدخل جنة الدنيا ومنها ينتقل الى جنة الاخرة قال سبحانه :

( ولو أن اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ) (١).

وقال سبحانه : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ) (٢).

وفي الختام : نسأل الله سبحانه ان يوفقنا جميعا للتجارة معه بالايمان الصادق والعمل الصالح الذي ينفعنا في دنيانا ويصحبنا الى آخرتنا ليكون زادنا النافع ومجدنا الرافع وما ذلك على رحمته تعالى بعزيز والسلام عليكم جميعا اولا وآخرا ورحمة الله وبركاته.

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية : ٩٦.

(٢) سورة الطلاق ، الآيتان : ٢ ، ٣.

٢٢٥

الخطبة الواحد والعشرون (١)

التوكل على الله سبحانه

ودوره في نجاح الإنسان وتقدمه

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الصلاة والسلام على اشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

والسلام عليكم ايها الإخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته.

وبعد : قال الله سبحانه في محكم كتابه المجيد : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل اللهُ لكل شيء قدراً ) (٢).

وقال سبحانه : ( فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) (٣).

__________________

(١) القيت هذه الخطبة في مسجد الامام المهدي ( عج ) في ١٨ ـ ١١ ـ ١٩٩١ م الموافق ٢ ـ ٥ ـ ١٤١٢ هـ.

(٢) سورة الطلاق ، الآية : ٣.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩.

٢٢٦

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « من انقطع الى الله كفاه الله كل مؤنه ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع الى الدنيا وكله الله إليها ».

وروي عن الصادق قوله عليه‌السلام : من أُعطي ثلاثا لم يمنع ثلاثا.

من اعطي الدعاء اعطي الاجابة ومن اعطي الشكر اعطي الزيادة ومن اعطي التوكل اعطي الكفاية.

وقد استوحى الامام عليه‌السلام ذلك من قوله تعالى :

(ادعوني أستجب لكم) (١).

ومن قوله تعالى : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) (٢).

وقوله سبحانه : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه )(٣).

وروي عن الامام علي عليه‌السلام قوله في نهج البلاغة في وصيته لولده الحسن عليه‌السلام : وألجيء نفسك في الامور كلها الى إلهك فإنك تلجئها الى كهف حريز ومانع عزيز.

من مجموع ما ورد في مدح التوكل والمتوكلين على الله سبحانه في الآيات والروايات ـ نستفيد أهمية التوكل وانه صفة سامية تعطي صاحبها مرتبة عالية وتعود عليه بالخير العميم في الدنيا والآخرة.

وهذا يقتضي ان نعرف المراد منها ـ والفائدة المترتبة عليها بصورة تفصيلية فنقول : المراد من التوكل المحمود الممدوح في الإسلام هو اعتماد الانسان المؤمن على الله سبحانه في نجاح سعيه وإدراك مطلوبه

__________________

(١) سورة غافر ، الآية : ٦٠.

(٢) سورة إبراهيم ، الآية : ٧.

(٣) سورة الطلاق ، الآية : ٣.

٢٢٧

المشروع سواء كان جلب محبوب ام دفع مكروه بعد ايجاد الوسائل العادية والاسباب المادية التي جرت العادة على التوصل بها الى الهدف المقصود.

بيان حقيقة التوكل في الإسلام :

وذلك لعلم الانسان المؤمن المتوكل على الله سبحانه بأن الاسباب وحدها غير كافية لإيصاله الى مطلوبه ما لم تباركها الارادة السماوية والعناية الإلهية وعلى هذا يكون التوكل متقوما بمجموع أمرين :

الأول : عمل خارجي يتمثل بإعداد السبب الخارجي العادي المادي.

والثاني : معنوي باطني يتمثل بالاعتماد على الله سبحانه في نجاح سعيه وحصول مراده ـ وبعد توفر هذين الامرين تكون النتيجة الحاصلة في النهاية راجعة الى إرادة الله سبحانه وحكمته فإذا أراد للسبب ان يؤثر وللسعي ان ينجح حصل المراد وقابل المؤمن المتوكل ذلك بالشكر قائلا بلسان الحال او المقال : ( هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم اكفر ) (١).

ولا يكرر ما قاله قارون : ( إنما أُوتيته على علم عندي ) (٢).

وإذا لم يرد الله سبحانه نجاح السعي وحصول المطلوب المعجل للإنسان المتوكل ـ بقي كل شيء على حاله ورضي بما قدره الله له قائلا بلسان الحال او المقال ما قاله الامام عليه‌السلام في الدعاء :

ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الامور. وبما

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٤٠.

(٢) سورة القصص ، الآية : ٧٨.

٢٢٨

ذكرناه في بيان المراد من التوكل نعرف ان اعداد الاسباب المناسبة للمطلوب ـ لا ينافي حصوله من المؤمن بل هو محقق له بمعناه الواقعي ـ لان توقع حصول المطالب الحياتية ونحوها بدون ايجاد اسبابها المادية العادية يعتبر تواكلا مذموما وليس توكلا محمودا ويؤكد ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك الاعرابي الذي اراد ان يترك ناقته امام باب المسجد بدون عقال يحفظها من الشرود والضياع بانيا على ان ذلك من موارد التوكل الذي وعد الله صاحبه بمساعدته على تحصيل مطلوبه بقوله تعالى :

( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) (١).

أجل : يوضح المراد من التوكل المحمود قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا الاعرابي : إعقل وتوكل.

ولذلك امر الله سبحانه مريم العذراء بهز النخلة لتجني منا الرطب انطلاقا من الحكمة الإلهية العامة المقتضية للتوصل الى المطلوب بواسطة اسبابه الطبيعية ولو اراد سبحانه حصول الرطب لها بدون عملية الهز لحصل ذلك كما شاءت رحمته سبحانه ان ينزل لها طعامها من السماء عندما اقتضت الحكمة ذلك وهو مستفاد من قوله تعالى :

( يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب ) (٢).

والمراد من الآية التي ورد الامر فيها لمريم بهز النخلة قوله تعالى :

__________________

(١) سورة الطلاق ، الآية : ٤٣.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٣٧.

٢٢٩

( وهزي إليكِ بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ) (١).

والى ذلك اشار الشاعر بقوله :

ألم تر أن الله قال لمــــريم

وهزي اليك الجذع يساقط الرطب

ولو شاء أن تجنيه من غير هزه

جنته ولكن كل شيء له ســبب

العناية الإلهية قد تساعد على حصول السبب بدون الأسباب العادية :

هذا كله بلحاظ الوضع العام للمتوكل وهو إعداد العامل الخارجي وضمه الى العامل الباطني وهو الانقطاع الى الله سبحانه والاعتماد عليه لإنجاح السعي وترتب المسبب على سعيه العادي وقد يطرأ على هذا الوضع العام بعض الاستثناءات في الموارد التي تقتضي الإرادة الإلهية والرحمة السماوية حصول المطلوب للمؤمن المتوكل على الله بدون اعداده السبب العادي لذلك الامر المطلوب له ـ اما لخروجه عن نطاق قدرته كما في قصة النبي زكريا الذي رزقه الله ولده يحيى رغم الشيخوخة الحاصلة له ولزوجته ـ وهي مانع طبيعي من الانجاب ومن المعلوم ان إزالتها والعودة الى العمر الذي يساعد على ذلك غير مقدور لزكريا وزوجته ـ ولذلك اكتفى الله سبحانه بحصول العنصر الثاني الباطني منهما وهو الانقطاع له واللجوء اليه بالتضرع والدعاء.

وتشبه قصة النبي زكريا قصة اخرى حصلت لبعض المؤمنين الصالحين العابدين المتوكلين وابنته الطفلة العاقلة التي ارتفعت بنضج عقلها وذكائها الى مستوى المؤمنين الكبار وتحقق التشابه بين هاتين القصتين بلحاظ الجزء الاول من قصة هذا العابد وطفلته ـ حيث ان الله

__________________

(١) سورة مريم ، الآية : ٢٥.

٢٣٠

سبحانه استجاب دعاءها وحقق لها مطلوبها ورجاءها بمجرد الدعاء والانقطاع اليه لعدم قدرتها وهي في حالة الطفولة البريئة الضعيفة على ايجاد سبب من اسباب الرزق كما كان زكريا وزوجته عاجزين عن توفير السبب الطبيعي للإنجاب.

قصة فيها درس في التوكل وعبره :

وقد تقتضي الرحمة الإلهية حصول المطلوب للمؤمن المتوكل لمجرد الانقطاع والتوكل مع تمكنه من القيام بدور ايجابي بأي نحو من انحاء السعي نحو الهدف المطلوب وذلك فيما اذا كان هذا المؤمن مشغولا بعمل محبوب لله سبحانه وبدرجة عالية من المحبوبية تقتضي ان يحقق له مطلوبه ولو بدون السعي واعداد السبب الممكن له ولو بدرجة من درجاته وهذا يتجلى بوضوح في الجزء الثاني من قصة ذلك العابد وهو ما يتعلق به ويرجع اليه من هذه القصة.

وحاصلها ان شخصا مؤمنا عابداً زاهداٌ يدعى حاتم الاصم عزم على الذهاب الى مكة لتأدية فريضة الحج المقدسة رغم فقره وعدم توفر ما يحتاج اليه من النفقة لنفسه ولافراد اسرته لذلك عارضوه ولم يوافقوه على رأيه باستثناء طفلة له كانت انضجهم عقلاً وأقواهم إيمانا وثقة بالله سبحانه لذلك وافقت على سفره في هذا السبيل وقالت لبقية أفراد العائلة :

ماذا عليكم لو أذنتم له ولا يهمكم ذلك دعوه يذهب حيث يشاء فإنه مناول للرزق وليس برازق فاقتنعوا بقولها ووافقوا على سفره وانطلق في سبيل غايته ولكنهم ندموا على موافقتهم وسماحهم له بذلك واخذوا يوجهون اللوم الى تلك الطفلة لانها كانت السبب في سفره وهم بأمس الحاجة اليه ولم يكن منها سوى التضرع لله سبحانه بالدعاء قائلة :

٢٣١

إلهي وسيدي ومولاي عودت القوم بفضلك وانت لا تضيعهم فلا تخيبهم ولا تخجلني معهم فبينما هم على هذه الحالة اذ خرج أمير البلد للصيد مع جماعة من اتباعه وانقطع عن عسكره فحصل لهم عطش شديد ثم اجتاز ببيت الرجل الصالح وقرع الباب واستسقى منهم الماء فقالوا : من أنت فقال : الامير ببابكم يستسقيكم الماء فرفعت زوجة حاتم رأسها الى السماء وقالت :

إلهي وسيدي سبحانك البارحة بتنا جياعاً واليوم يقف الامير على بابنا يستسقينا. ثم انها اخذت كوزا جديدا وملأته ماء وقالت للمتناول منها اعذرونا فأخذ الامير الكوز وشرب منه فاستطاب الشرب من ذلك الماء فقال : هذا الدار لامير؟.

فقالوا : لا والله بل لعبد من عباد الله الصالحين يعرف بحاتم الاصم فقال الامير : لقد سمعت به وقال الوزير :

لقد سمعت يا سيدي انه الليلة البارحة سافر الى الحج ولم يترك لعياله شيئا واخبرت انهم الليلة البارحة باتوا جياعا فقال الأمير ؛ ونحن ايضا قد ثقلنا عليهم اليوم وليس من المروءة ان يثقل مثلنا على مثلهم ثم حل الأمير منطقته من وسطه ورمى بها في الدار ثم قال لاصحابه : من أحبني فليلق منطقته فحل جميع اصحابه مناطقهم ورموا بها اليهم ثم انصرفوا وقال الوزير : السلام عليكم يا أهل هذه الدار لأتينكم الساعة بثمن هذه المناطق فلما نزل الأمير رجع اليهم الوزير ودفع لهم ثمن المناطق مالاً جزيلاً واستردها منهم فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاء شديداً فقالوا : ما هذا البكاء إنما يجب ان تفرحي فإن الله قد وسع علينا فقالت : يا أماه والله إنما بكائي كيف الليلة البارحة بتنا جياعا فنظر الينا مخلوق نظرة واحدة فأغنانا بعد فقر فالكريم الخالق اذا نظر الينا لا

٢٣٢

يكلنا الى أحد طرفة عين ـ اللهم انظر الى أبينا وبره بأحسن التدبير.

قصة وعبرة تقوي العقيدة :

هذا حاصل ما كان من امر عيال حاتم هذا ـ واما ما كان من أمره فهو عندما خرج في طريقه الى الحج ولحق بالقوم توجع أمير الركب فطلبوا له طبيباً فلم يجدوا فقال : هل من عبد صالح؟ فدل على حاتم فلما دخل عليه وكلمه ودعا له عوفي في وقته فأمر له بما يركب وما يأكل وما يشرب فنام تلك الليلة مفكرا في أمر عياله واكثر الثناء على الله سبحانه ـ ولما قضى حجه ورجع تلقته اولاده وعانق الصبية الصغيرة وبكى ثم قال :

صغار قوم كبار قوم آخرين إن الله لا ينظر الى اكبركم ولكن ينظر الى اعرفكم به فعليكم بمعرفته والاتكال عليه فإنه من توكل على الله فهو حسبه.

قد لاحظنا مدى العناية الإلهية التي ادركت هذه العائلة ومعيلها فجعلت لهم مخرجا مما كانوا عليه من الحاجة والفقر ورزقتهم من حيث لا يحتسبون نتيجة انقطاع والد هذه العائلة وصغيرته وتوكلهما عليه سبحانه من دون ان يحصل اي سعي وتحرك ايجابي في طريق تحصيل الرزق ـ وكان هذا لخصوصية اقتضت هذه العناية الإلهية الفائقة ـ وهي ما اشرت إليه قبل نقل هذه القصة من عجر الصغيرة عن السعي لذلك لا تكلف به كما هو الوضع العام في ظل الاحوال العادية للإنسان ـ وكذلك رزق والدها لتوجهه في طريق أمر محبوب لله وهو زيارة بيته الحرام لذلك قدم له هدية وجائزة تكريمية حيث هيأ له السبب الذي انتج الرزق والمساعدة له من حيث لا يحتسب.

٢٣٣

قصة أخرى تبين فائدة التوكل :

وهناك قصة أخرى ذكرت في نفس المصدر الذي نقلت منه القصة السابقة ـ وهو الجزء الاول من كتاب المستظرف في كل فن مستطرف صفحة ٦٤٤ وقصة حاتم في صفحة ٦٥ من هذا الكتاب وحاصلها :

انه حصل في عهد أحد خلفاء بني العباس ـ غلاء سعر وضيق حال حتى اشتد الكرب على الناس اشتداداً عظيما فأمر الخليفة بكثرة الدعاء والبكاء وبكسر آلات الطرب وفي بعض الايام رؤي عبد يصفق ويرقص فحمل الى الخليفة فسأله عن سبب فعله ذلك من دون الناس فقال : إن سيدي عنده خزانة بُر وأنا متوكل عليه ان يطعمني منها ولذلك ان لا أبالي ـ وعند ذلك اعتبر الخليفة بقوله واستفاد منه درسا في التوكل الحقيقي وقال :

اذا كان هذا قد توكل على مخلوق مثله فالتوكل على الله اولى ثم سلم للناس احوالهم وأمرهم بالتوكل على الله سبحانه وقد ذكرت هذه القصة بعد تلك.

أولاً : لاستفادة العظة والعبرة منها.

وثانياً : لبيان الفرق بين التوكل والاعتماد على المخلوق لحصول محبوب ودفع مكروه في هذه الحياة كما هو مضمون القصة الثانية والتوكل على الله سبحانه والانقطاع اليه وحده كما هو مضمون القصة الاولى.

وحاصل هذا الفرق هو انه اذا كان التوكل على المخلوق ـ كان الهدف المطلوب بالرجوع اليه محدودا بخصوص الغاية المحددة والفائدة

٢٣٤

المقيدة في هذه الحياة الدنيا وهي تكون غير معلومة التحقق غالبا لعدم احرازه قدرة الذي توكل عليه وتمكنه من تحقيق مطلوبه على كل حال وهذا بخلاف التوكل على الإله الخالق ـ فهو غير محدود الفائدة في الحاضر المعجل بل يشمل الفائدة الاخروية التي يرتبها الله سبحانه ويعطيها لمن توكل عليه ، ولذلك يكون التوكل عليه سبحانه مضمون النجاح ومعلوم الحصول اما عاجلا اذا اقتضت الحكمة الإلهية ذلك وإما آجلا وفي الدار الآخرة المعدة لتحصيل الفوائد واستلام الجوائز.

فائدة التوكل في الدنيا والآخرة :

وتتمثل الفائدة الاخروية بالثواب العظيم والنعيم الخالد الذي يعطيه الله سبحانه لعبده المتوكل عليه والمنقطع إليه باعتبار ان نفس هذا الانقطاع عبادة لله سبحانه وعمل باطني راجح يقرب من الله زلفى ـ وحيث ان الاستخارة نوع من التوكل على الله سبحانه واللجوء اليه لبيان ما هو الصالح لعبده المستخير ـ قال الامام الصادق عليه‌السلام على ما روي عنه :

لا أبالي بعد ان استخرت على اي جنب وقعت وذلك لان المستخير اذا لم ينل مطلوبه المعجل الذي اقدم على تحصيله اعتمادا على استخارة الله واستشارته فهو ينال عوضه في الآخرة ما هو خير وابقى له مما فاته من العرض الزائل والى هذا المضمون اشار الامام عليه‌السلام في دعائه : « ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الامور ».

ومن مجموع ما تقدم يعرف ان اهم فائدة يحصلها المؤمن المتوكل على الله سبحانه هي راحة النفس واطمئنان القلب لسلامة المصير وحسن العاقبة المترتبة على اللجوء الى كنف الإله وعطفه وهي تتمثل بإحدى

٢٣٥

الحسنيين وقد تتمثل بكلتيهما حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية والرحمة السماوية وهما حصول الفائدة المطلوبة معجلا وما يترتب على نفس الرجوع الى الله سبحانه وتسليم الامر اليه ـ من الثواب الاخروي العظيم وقد لاحظنا حالة الفرح والاطمئنان التي كان عليها ذلك العبد نتيجة اعتماده على سيده ومالكه وهو مخلوق ضعيف مثله لا يجلب له نفعا ولا يدفع عنه ضررا الا بحول من الله سبحانه وعونه.

الفرق بين التوكل على الخالق والتوكل على المخلوق :

وهذا بخلاف الاعتماد على المالك والسيد الحقيقي القادر على كل شيء فإن الاعتماد عليه واللجوء اليه يكون اعتمادا على ركن وثيق لا يخيب آمله ولا يرد سائله الا بما يفيده حاضرا ومستقبلا دنيا وآخرة او في الآخرة لانها خير وأبقى ـ والتنبه لهذه الحقيقة الإيمانية هو الذي حرك في قلب الخليفة باعث الرجوع الى المرجع الحقيقي والملجأ الواقعي بالاعتماد عليه وايكال الامر اليه ونتج عن ذلك إزالة ظاهرة الحزن والكآبة وعودة الناس الى الوضع الطبيعي وحيث ان للتوكل على الله سبحانه بكل اقسامه المتقدمة دوره البارز في زرع الثقة والاطمئنان في نفس المؤمن المتوكل فقد ورد التنويه بشأنه والثناء على المتصفين به في العديد من الآيات والكثير من الروايات كما ورد ذلك في كلام بعض الحكماء وشعر الشعراء.

وقد مر ذكر بعض الآيات والروايات في صدر الحديث ويسرني ان اختمه برواية واردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض الحكم والابيات الشعرية الواردة حول موضوع التوكل.

روي عن ابن عباس انه قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لي : إني

٢٣٦

أعلمك كلمات : إحفظ الله يحفظك اذا سألت فاسأل الله واذا استعنت فاستعن بالله واعلم ان الامة لو اجتمعت على ان تنفعك بشيء لا ينفعوك الا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعت على ان تضرك بشيء لا يضرونك الا بشيء قد كتبه الله عليك.

ومن كلام لبعض الحكماء في بيان فائدة التوكل على الله سبحانه وتسليم الامر اليه :

من ايقن ان الرزق الذي قسم له لا يفوته تعجل الراحة ومن ايقن ان الذي قضي به عليه لم يكن ليخطئه فقد استراح من الجزع ومن علم ان مولاه خير له من العباد فقصده كفاه همه وجمع شمله.

وقال الشاعر :

وما ثم إلا الله في كل حـالة

فلا تتكل يوماً على غير لطفه

فكم حالة تأتي ويكرهها الفتى

وخيرته فيها على رغم أنـفه

وقال آخر :

توكل على الرحمن في الأمر كله

فما خاب حقاً من عليه توكلا

وكن واثقاً بالله واصبر لحــكمه

تفز بالذي ترجوه منه تفضلا

وقال بعض الأعلام :

كن عن همومك معرضا

وكل الامور الى القـضا

فلرب أمـر مــسخط

لك في عواقبه رضــا

ولربما اتسع المضـيق

وربما ضـاق الفــضا

الله عـودك الجــميل

فقس على ما قـد مضى

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ايها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء اولا وآخراً ـ ورحمة الله وبركاته.

٢٣٧

الخطبة الثانية والعشرون (١)

العبادات والتوبة خاصة حمامات روحية

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

والسلام عليكم أيها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته.

وبعد : كان المنطلق للحديث حول موضوع العبادات والتوبة خاصة ودورها في نظافة الروح والنفس من أوساخ الذنوب والخطايا.

أجل : كان المنطلق لهذا الحديث هو إعادة صبغ المسجد الذي القيت فيه هذه الخطبة ـ وهو مسجد الامام المهدي عليه‌السلام وذلك بتشبيه النفس البشرية بالامور المادية التي تعرض عليها النظافة بعد التوسيخ والجمال بعد التشويه.

__________________

(١) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في ٨ ـ ٨ ـ ١٩٨٦ م.

٢٣٨

وحاصل ما ذكرته حول هذا الموضوع في هذه الخطبة التي دارت حوله وتحركت في فلكه هو ان النفس البشرية تولد نظيفة من كل الاوساخ المعنوية وطاهرة من جميع النجاسات الروحية وانما يطرأ عليها بعد ذلك ما يطرأ من الاوساخ المعنوية نتيجة الاخطاء والذنوب التي تحصل منها عندما تدخل في سلك التكليف وتنطلق في طريق المسؤولية وتتغلب فيها عوامل الانحراف على بواعث الاستقامة بسبب عدم العصمة.

وحيث ان الله ارحم الراحمين فهو يقدر الصعوبة والمعاناة التي تتحملها النفس البشرية عندما تخوض معركة الصراع في ميدان الحياة وتضغط عليها غرائزها الجامحة الى درجة تؤدي بها الى السقوط في ساحة هذا الصراع والله سبحانه برحمته الواسعة لا يريد لها البقاء على سقوطها ورسوبها في الامتحان الصعب لذلك يطلب منها ان تنهض من كبوتها وتقلع عن خطيئتها وتعود الى جادة الاستقامة من جديد وهيأ لها الوسائل التكوينية الفطرية التي اودعها فيها لتدفعها نحو التوبة والعودة الى منهج الشرع القويم وصراطه المستقيم واهم الوسائل التكوينية غريزة الندم التي تثير وخزا في الضمير وألماً في النفس الامر الذي يدفع بها الى واحة الرضوان الإلهي لتتفيأ ظلاله الوارفة وتتقي حرارة الشعور بالخطيئة.

الوسيلة التكوينية والتشريعية لحصول التوبة :

كما هيأ لها الوسيلة التشريعية المؤكدة لتلك الوسائل التكوينية وتأتي العبادات المعهودة في الطليعة من بين الوسائل التشريعية التي تساهم مساهمة فعالة في مرحلتين :

٢٣٩

الأولى : مرحلة الوقاية من الوقوع في الانحراف بسبب ربطها للمخلوق بخالقه بسلك التقوى والاستقامة في جادة العبودية.

والثانية : مرحلة العلاج بعد الإصابة وحصول المخالفة.

ودور التوبة منحصر في المرحلة الثانية لانها مطلوبة من العبد لتكون عملية تطهير وتنظيف للنفس من اوساخ الذنوب كما هو واضح.

دور الصلاة في تحقق الطهارة الروحية والجسمية :

والآن نلقي نظرة خاطفة خلال وقفة تأمل في دور كل واحدة من العبادات في مجال الوقاية والعلاج ولنبدأ بأهمها وهو الصلاة لكونها عمود الدين كما المعروف فنقول :

ان الصلاة حمام روحي وجسمي لاقتضائها بطبيعتها تنظيف الجسم والثوب مع اقتضائها ايضا نظافة الروح والنفس والضمير مما يعلق بها اثناء انطلاقها في درب الحياة من اوساخ الخطايا باعتبار انها في واقعها صلة النفس البشرية وارتباطها المعنوي بالمبدأ الاعلى فكريا وروحيا وهذا يقتضي بطبعه قربها من الحق والهدى والخير وبعدها في المقابل عن الباطل والضلال والشر ـ وهذا هو الوجه في اقتضاء الصلاة النهي والانتهاء عن الفحشاء والمنكر كما هو مضمون الآية الكريمة وبهذا الاعتبار شبهها الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحوض الذي يكون في دار الشخص فكما انه اذا اغتسل ونظف جسمه به خمس مرات في اليوم لا يبقى على جسمه شيء من الوسخ المادي ـ كذلك الصلاة التي يلتزم المؤمن بالاتيان بها يوميا خمس مرات لا تبقي على روحه ونفسه شيئا من اوساخ الذنوب.

٢٤٠