من وحي الإسلام - ج ١

الشيخ حسن طراد

من وحي الإسلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

إلا في سبيل مرضاته سبحانه ، ولذلك عبر عن المال بالخير في قوله تعالى :

( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيراً الوصيةُ للوالدين والأقربين ) (١).

وقوله تعالى : ( وإنه لحب الخير لشديد ) (٢).

دور العامل الاقتصادي في تحرر وعزة الفرد والمجتمع :

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « نعم المال الصالح للرجل الصالح ، وقد اشار الشاعر الى دور المال والاكتفاء الذاتي في المجال المادي في حفظ هيبة صاحبه ومساعدته على تحقيق اهدافه الحياتية بعزة وقوة وذلك بقوله :

إن الدراهم في المواطن كلها

تكسو الرجال مهابة وجلالا

فهي اللسان لمن أراد تكلـما

وهي السنانُ لمن أراد قتالا


وحيث ان الإسلام دين العزة والكرامة والقوة والمنعة فقد اراد للناس اجمعين وخصوصا المسلمين ـ ان يكونوا اقوياء اغنياء أعزاء ولذلك حث على كل ما يعود عليهم بالقوة والثروة والعزة وحيث ان العامل الاقتصادي والاكتفاء الذاتي للفرد والمجتمع يساهم مساهمة فعالة في صنع القوة الذاتية ويصون العزة النفسية ويمكن صاحبه من التحرر الثقافي والسياسي والاقتصادي فقد حث الاسلام على الكسب المادي بكل وسائله المشروعة واعتبره من أفضل العبادات التي تقرب من الله

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨٠.

(٢) سورة العاديات ، الآية : ٨.

١٨١

زلفى كما اعتبر العامل افضل من العابد الذي يتفرغ للعبادة المستحبة كالصلاة والصوم وذلك لان العامل ينفع بعمله وهو نوع من العبادة ، نفسه وغيره ـ بينما لا ينفع العابد سوى نفسه وقيمة كل عمل في الميزان الاخروي بقدر ما يترتب عليه من النفع المشروع للآخرين لذلك ورد الحديث المشهور لبيان هذا المعنى ومضمونه : الخلق عيال الله واحبهم اليه انفعهم لعياله ، والآيات والروايات الواردة في هذا المجال عديدة ، من الاولى قوله تعالى :

( هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فأمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) (١).

وقوله تعالى :

( وابتغ فيما اتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ) (٢).

ومن الروايات ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله :

« ليس منا من ترك آخرته لدنياه ولا من ترك دنياه لآخرته » وما روي عن الإمامين علي وولده الحسن عليهم‌السلام من قولهما : « اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ».

كل ذلك من أجل ان يعيش المجتمع المسلم بعزة وقوة وحرية واستقلال لا يخضع إلا لله سبحانه ولا يذل بين يدي الله تعالى باعتبار ان القوة الاقتصادية والاكتفاء الذاتي يجعل الإنسان فردا ومجتمعا ـ يعيش مع الآخرين على اساس الاستقلال والطرف المقابل الذي يتعامل مع غيره

__________________

(١) سورة الملك ، الآية : ١٥.

(٢) سورة القصص ، الآية : ٧٧.

١٨٢

على اساس التكامل والتعاون على تحقيق المصلحة المشتركة لا على اساس الاحتياج والتبعية المنافية لكرامة الاسلام وعزة الإيمان وحرية الإنسان التي أرادها الله له عندما أمره بعبادته وحده لا شريك له ـ لانه سبحانه لم يرد بذلك الا تحرير عبده المؤمن من كل انواع العبودية والخضوع لغيره لذلك فرض عليه ان يكرر في صلاته اكثر من مرة في كل يوم قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعينُ ) (١).

لان تقديم الكاف المفعول على فعله ـ يفيد حصر العبادة بالله وقصر الاستعانة عليه تعالى.

ومن المعلوم ان المجتمع الاسلامي لا يكون بمجموعه عزيزا ومكتفيا الا اذا كان كل افراده كذلك كما اراد الله له ان يكون.

لذلك وصفه الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشبهه بالجسد الواحد الذي اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وتداعي سائر الاعضاء كناية عن تأثرهم نفسيا بالحالة الطارئة على احد اعضاء هذا الجسد وهذا بطبيعته يقتضي ان تتحرك الاعضاء المتداعية المتفاعلة ـ في سبيل إزالة تلك الحالة الطارئة عن ذلك العضو ليسلم منها ويسلم الباقي من الاعضاء مما حصل له نتيجة التفاعل والانفعال بتلك الحالة.

دعوة الإسلام الى البذل والتكافل الاجتماعي :

وبذلك تدرك فلسفة تشريع الفرائض المالية كالزكاة والخمس والكفارات ورد المظالم ونحوها مضافاً الى الحث المؤكد على التصدق وكفالة الايتام مع الحث على البذل والعطاء والكرم والسخاء بصورة

__________________

(١) سورة الفاتحة ، الآية : ٥.

١٨٣

عامة وقد تقدم الحديث عن ذلك في الخطبة الرابعة عشرة بصورة مفصلة.

ويأتي في هذا السياق الحديث المشهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليس منا من بات شبعان وجاره جائع » ، لقد كان للقيام بهذه الفريضة المالية مع الصدقة المستحبة ـ دور طليعي بارز في إشاعة الغنى والاكتفاء الذاتي بين افراد المجتمع الاسلامي كما حصل في التاريخ الذي يحدثنا عن مضمون رسالة قدمها احد ولاة بعض الخلفاء يقوله له فيها : لقد أغنت الزكاة القطر الذي أنا فيه ولم يبق فيه أحد محتاج لها فماذا اصنع بها.

أجل : هذا ما صنعه التكافل الاسلامي والتضامن الاجتماعي في الاسلام سابقا ـ وما امس حاجتنا لان نعود اليه في عصرنا الحاضر ليعود لنا استقلالنا وترجع قوتنا التي تمكننا من التحرر وتقرير المصير بعزة وكرامة واكتفاء بثرواتنا الطبيعية التي اودعها الله سبحانه في بلادنا وطلب منا ان نعتمد على أنفسنا ونتعاون على البر والتقوى باستثمار طاقتنا التي نحصل بها الاستغناء عن الآخرين ويصبحوا محتاجين لنا بدل ان نبقى محتاجين لهم ومأسورين بهذا الاحتياج لإرادتهم ـ كما قال الإمام علي عليه‌السلام : « احتج الى من شئت تكن أسيره ».

لاتحرر ولاعزة وقوة للأمة الا بالعودة الى الرسالة :

وهذا الاسر هو الذي دفع بحكامنا لان يوافقوا على مصالحة اسرائيل وتوقيع وثيقة السلم معها والبعض منهم سارع الى ذلك ومهد السبيل لغيره وسوف تبقى الامة على هذا الاسر وذلك الضعف وتلك الحاجة والتبعية ما دامت بعيدة عن مصدر تحررها وقوتها واستقلالها وهو الاسلام الذي جعل منها في التاريخ خير امة أخرجت للناس بعد ان

١٨٤

كانت على ما كانت عليه ـ واليوم حيث تركت رسالة السماء وطبقت قوانين الارض عادت الى سابق عهدها الذي كانت عليه كما قال الشاعر :

والناس عادت إليهم جاهليتهم

كأن من شرع الإسلام قد أفكا

ولذلك نقدم لهم النصيحة بلسان الاخلاص والحرص على مصحلتهم وعزتهم بأن يعودوا الى الله سبحانه الرحمن الرحيم ، وشرعه القويم ، وصراطه المستقيم ، الذي يوصلهم الى القوة بعد الضعف والاكتفاء بعد الفقر والعزة بعد الذل والتحرر بعد الاحتلال والاستقلال والوحدة بعد الشرذمة والفرقة ـ وبذلك تعود وتصبح من جديد ـ خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف بعد فعله وتنهى عن المنكر بعد تركه وصدق الله سبحانه حيث قال :

( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم جميعا اولاً وآخراً ورحمة الله وبركاته.

١٨٥

الخطبة الثامنة عشر (١)

دروس تربوية من سيرة السجاد عليه‌السلام

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته وبعد :

لقد ذكرت في حديث سابق كان من وحي شهادة الامام زين العابدين عليه‌السلام ان السبب في تلقيبه بهذا اللقب ( السجاد ) هو كثرة سجوده لانه ما ذكر نعمة من نعم الله تعالى الا وسجد وما تلا آية فيها سجود الا وسجد وما دفع الله عنه ضررا او كيد ظالم الا وسجد وما توفق للإصلاح بين متخاصمين الا وسجد وهكذا.

واحب ان اقف امام كل واحدة من هذه الامور والحوادث التي

__________________

(١) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في ٣١ ـ ٧ ـ ١٩٩٢ م.

١٨٦

كانت تدفع الامام عليه‌السلام للسجود من اجل ان نستوحي منها العظة والدرس التربوي الذي يعمق ايماننا ويسدد خطانا على درب التقوى والعمل الصالح.

درس تربوي من سجود السجاد عليه‌السلام عند تذكره لنعمة من نعم الله تعالى :

الأمر الأول : الذي كان يدعو الامام للسجود هو تذكره لنعمة من نعم الله التي تفضل بها عليه وأحسن اليه.

والوجه في ذلك هو علم الامام عليه‌السلام بأن أية نعمة من النعم التي تحصل للإنسان يكون مصدرها الواقعي وسببها الحقيقي هو الله سبحانه وان كل الاسباب التي يوفرها الإنسان ليتوصل بها الى نيل محبوب او دفع مكروه ـ مجرد وسائل وادوات خاضعة في تأثيرها وايصالها للهدف المطلوب ـ لإرادة الله سبحانه لأنه سبب الاسباب ورب الارباب فإن شاء للسبب ان ينجح ترتب عليه أثره وإذا لم يشأ ذلك بطل دوره ولم يترتب أثره وكان بحكم العدم وقد نقل لنا القرآن الكريم حديثا عن لسان النبي شعيب يشير الى هذا المعنى وهو قوله عليه‌السلام :

( وما أُريد أن أُخالفكم الى ما أنهاكم عنه إن أُريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب ) (١).

وقوله تعالى : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) (٢).

نص على هذه الحقيقة الإيمانية والإمام عليه‌السلام كان يعبر عن شكره لله على هذه النعمة بالسجود الذي كان يمثله بوضع جبهته الشريفة على

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ٨٨.

(٢) سورة النحل ، الآية : ٥٣.

١٨٧

ما يصح السجود عليه ويسمى ذلك سجود الشكر ويمكن تقسيم شكر النعمة الى قسمين.

الاول : الشكر العملي الواقعي.

والثاني : هو الشكر الظاهري الذي يتمثل بكلمة الشكر او السجود لله شكرا.

والظاهري بكلا قسميه القولي والعملي المقصور على سجود الشكر وان كان وجوده افضل من العدم لكنه ناقص بالنسبة الى الشكر العملي الكامل وذلك لان مجرد ان تنطق بكلمة الشكر لله على النعمة او تسجد لله شكرا عليها ـ لا يحقق ذلك الهدف المطلوب من الشكر لله تعالى لان الله عندما تفضل عليك بنعمة فقد بذل لك وقدم إحسانا عمليا ومن المعلوم ان الشكر على النعمة العملية لا يتم الا بالشكر العملي وذلك بأن تصرف نعمة الله في سبيل مرضاته اما على نفسك او على غيرك وجوبا او استحبابا ـ وهذا النوع من الشكر هو الذي يريده الله منا ـ وشكر كل نعمة يكون بحسبها فشكر نعمة العلم يكون بصرفه في سبيل تعليم الجاهلين وإرشاد الضالين والدعوة الى سلوك درب الحق في العقيدة الصحيحة وبتطبيق ما يتفرع عليها من النظم والقوانين وهكذا.

وشكر نعمة الجاه يكون باستخدامه في تحصيل المنفعة للآخرين ودفع الضرر عنهم ونحو ذلك من الخدمات الاجتماعية وشكر نعمة المال يكون بصرفه في المصارف الراجحة المطلوبة لله تعالى وجوبا او استحبابا.

والى الشكر العملي بأنواعه كلها أشار الله سبحانه في أول سورة البقرة في مقام وصف المتقين ومدحهم بقوله تعالى :

١٨٨

( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )(١).

من فوائد الشكر العملي لنعمة الله زيادتها :

ولهذا الشكر العملي فوائد معجلة عديدة منها زيادة النعمة لقوله تعالى : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) (٢).

وقوله تعالى : ( من جاء بالحسنة فلهُ عشرُ أمثالها ) (٣).

ويدخل في زيادة النعمة دوامها كما يدخل فيها ايضا وضع البركة فيها ليغني قليلها عن كثيرها بعناية الله سبحانه وتوفيقه ومن فوائد الشكر العملي حصول المحبة والتقدير للشخص الشاكر للنعمة من قبل الشخص او الجماعة التي كان شكر الله عمليا حاصلا بصرف النعمة في سبيل مصلحتهم ـ وتترجم المحبة للشخص وتقديره بالقيام بما ينفعه وبدفع المكروه عنه ـ غالبا انطلاقا من قوله تعالى :

( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) (٤).

والى ذلك اشار الشاعر بقوله :

أحسن الى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسانُ

والإحسان الى الآخرين بالكلمة الطيبة والقول الحسن لا يقل تأثيرا وفاعلية عن الإحسان بالعمل والصنع الجميل واليه اشار الشاعر بقوله :

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٣.

(٢) سورة إبراهيم ، الآية : ٧.

(٣) سورة الانعام ، الآية : ١٦٠.

(٤) سورة الرحمن ، الآية : ٦٠.

١٨٩

عجبت لمن يشري العبيد بماله

ولا يشتري حراً بلين مقاله

وأما الفائدة المؤجلة وهي الاهم والاعظم ـ فهي ما وعد الله به المؤمنين الصالحين العاملين من جنة عرضها السماوات والارض اعدت للمتقين ، وحيث ان هذه الفائدة هي الحقيقية الخالدة فالمؤمن الواعي يحرص كل الحرص ويبذل اقصى ما لديه من جهد في سبيل حصولها حتى وان لم تحصل له أية فائدة معجلة في هذه الحياة.

قال سبحانه : ( والآخرة خير وابقى ) (١).

وقال تعالى : ( ما عندكم ينفد وما عند الله باق ) (٢).

درس تربوي من سجود السجاد عليه‌السلام عند تلاوته آية مشتملة على السجود :

ومن جملة الاسباب التي كانت تدعو الامام زين العابدين عليه‌السلام للسجود هو تلاوته آية مشتملة على كلمة السجود.

ويمكن تقسيم السجود ـ كما قسمنا الشكر ـ الى قسمين :

الاول : السجود العملي الحقيقي.

والثاني : السجود العملي الظاهري وهو الذي يتمثل بوضع الجبهة على ما يصح السجود عليه غالبا.

واما العملي الحقيقي فهو الذي يتحقق بملاحظة المعنى المراد من كلمة السجود وهو الخضوع لله سبحانه الذي يكون السجود له ـ وهذا

__________________

(١) سورة الأعلى ، الآية : ١٧.

(٢) سورة النحل ، الآية : ٩٦.

١٩٠

لا يتحقق بمجرد السجود والخضوع الجسمي وإنما يتحقق في مرتبة سابقة على ذلك بالخضوع الفكري والقلبي لارادة الله سبحانه.

فالانسان عندما يتفكر في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار من اجل ان يتوصل بتفكره في الايات الكونية المنتشرة في صفحات هذا الكون وهو الكتاب التكويني الفسيح مع تدبره في آيات الكتاب التشريعي الفصيح من اجل ان يتوصل بهذا التفكر والتدبر الى الايمان الجازم بوجود الخالق ووحدانيته وعدله وضرورة ارساله الانبياء وتعيينه الاوصياء وحشره للناس غدا يوم الجزاء ـ فهو بذلك يكون قد سجد لله بعقله وخضع بقلبه لإرادة الله سبحانه حيث اراد منه هذا التفكر ليتوصل به الى تحصيل الايمان بالعقائد الصحيحة المذكورة المعبر عنها بأصول الدين الخمسة وهذا السجود الباطني المتمثل بخضوع العقل بالتفكير والقلب بالايمان والاعتقاد الجازم لا يتم الا بالخضوع العملي الخارجي والقيام بما يوجبه ذلك الايمان على صاحبه من السير على خط التقوى ومنهج العبودية لله سبحانه في كل التصرفات الخارجية التي تصدر منه بإرادته في هذه الحياة وهذا هو روح العبادة بمعناها العام التي خلق الله سبحانه الجن والإنس لأجلها.

درس تربوي من سجوده عليه‌السلام عند زوال ضرر او دفع كيد ظالم :

ومن جملة الاسباب التي كانت تدعو الإمام للسجود هو دفع ضرر او كيد ظالم عنه وذلك لعلم الامام عليه‌السلام بأن الله سبحانه هو سبب الاسباب ورب الارباب وانه لا يحصل لإنسان نفع ولا يندفع عنه ضرر او كيد ظالم الا بتوفيقه وتقديره.

وأما الرسائل التي يوفرها الإنسان لنفسه او يوفرها غيره له من أجل

١٩١

التوصل بها الى دفع مكروه او جلب محبوب ـ فهي ليست الا ادوات جامدة في يد الارادة الإلهية فلا تجلب للإنسان نفعا ولا تدفع عنه ضررا الا اذا كان الله سبحانه برحمته وحكمته قد قدر لها ان تنجح ويترتب عليها اثرها وبدون ذلك تبقى على جمودها المعنوي ولا تتحرك خطوة واحدة في طريق الهدف المرسوم لمن اوجد هذه الاسباب وقد مرت الاشارة الى ذلك عند التحدث حول احد الاسباب التي كانت تدعو الامام عليه‌السلام للسجود وهو تذكره للنعمة.

والامام عليه‌السلام حيث كان معتقدا بهذه الحقيقة الايمانية فهو يبادر الى تقديم الشكر لله سبحانه بعقله متفكرا وبقلبه مؤمنا بأنه مصدر الخير والعطاء والملجأ الذي ينتهي اليه كشف البلاء وكيد الاعداء وكان عليه‌السلام يتمم هذا الشكر الباطني الداخلي بالشكر العملي وذلك باستخدام تلك الصحة والسلامة التي وفقه الله للظفر بها بدفع الضرر وكيد العدو عنه في سبيل عبادة الله سبحانه ومرضاته ونفع خلقه ودفع المكروه عنهم كما دفع الله عنه باب الحديث القائل : لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه ، والحديث الآخر القائل : الخلق عيال الله واحبهم اليه انفعهم لعياله.

أهمية الاصلاح بين المتخاصمين في الإسلام :

ومن الاسباب التي كانت تدعوه عليه‌السلام للسجود هو ان يتوفق للإصلاح بين المتخاصمين.

وذلك لأن إصلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصيام كما ورد في الحديث والمراد الصلاة والصيام المستحبان وحيث انه من اهم الاعمال القريبة المستحبة وربما يكون واجبا في بعض الموارد بالعنوان

١٩٢

الثانوي فقد ورد الامر به والحث عليه في العديد من آيات الكتاب الكريم وسنة النبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويدخل فيها ويرجع اليها ما روي عن أهل بيته عليهم‌السلام في هذا المجال.

من الآيات قوله تعالى :

( وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) (١).

( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) (٢).

ومن السنة ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : « أفضل الناس عند الله ثوابا انفعهم للناس في الدنيا وان المقربين عند الله يوم القيامة المصلحون بين الناس ».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الا انبئكم بصدقة يسيره يحبها الله تعالى ».

قالوا بلى يا رسول الله قال :

« إصلاح ذات البين اذا تقاطعوا ».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليس بالكاذب من اصلح بين الناس فقال خيرا او نمى خيرا واما الاصلاح بين الناس فشعبة من شعب النبوة ».

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : صدقة يحبها الله إصلاح بين الناس اذا تفاسدوا وتقارب بينهم اذا تباعدوا.

ولم تكن للإصلاح هذه الاهمية في الاسلام الا بسبب ما يترتب عليه من جلب الخير العميم ودفع الشر الجسيم ـ والاسلام جاء رحمة

__________________

(١) سورة الانفال ، الآية : ١.

(٢) سورة الحجرات ، الآية : ١٠.

١٩٣

للعالمين ، ولذلك يأمرهم وجوبا او استحبابا بكل ما ينشر المحبة بينهم نظرا لما يترتب عليها من المنافع الكثيرة في مختلف المجالات ونهاهم تحريما او على وجه الكراهة ـ عن كل ما يوجب العداوة والبغضاء بسبب ما يترتب عليها من الاضرار والاخطار المادية والمعنوية الفردية والاجتماعية في الدنيا والآخرة.

وفيما يلي أمثلة ونماذج من الامور التي دعا الإسلام اليها وحث عليها نظرا لما يترتب عليها من الفوائد العظيمة والمنافع الجسيمة في الدنيا والآخرة ـ وبعد ذلك اذكر نماذج من الامور التي نهى الاسلام عنها وحذر منها لما يترتب عليها من الاضرار والاخطار في كلتا الدارين.

دعوة الإسلام الى كل مايوجب التحابب والتعاون :

من جملة ما حث الإسلام عليه ورغب فيه حسن الخلق والتراحم وحسن البشر قال الله سبحانه مادحا نبيه الاعظم بأفضل صفة واكمل خلق : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (١).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : أول ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة ـ حسن خلقه ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الا اخبركم بأشبهكم بي؟ » قالوا بلى يا رسول الله ، قال « أحسنكم أخلاقا والينكم كنفا وأبركم بقرابته واشدكم حبا لإخوانه في دينه واصبركم على الحق واكظمكم للغيظ واحسنكم عفوا واشدكم من نفسه انصافا في الرضا والغضب ».

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التراحم والتعاطف بين افراد المجتمع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يدخل الجنة الا رحيم » فقال من بحضرته : كلنا رحيم يا

__________________

(١) سورة القلم ، الآية : ٤.

١٩٤

رسول الله فقال : « ليس رحمة احدكم نفسه خاصة ولكن حتى يرحم الناس عامة ولا يرحمهم الا الله ».

وروي عنه ايضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا علي اربع من كن فيه بنى الله تعالى له بيتا في الجنة من آوى اليتيم ورحم الضعيف واشفق على والديه ورفق بمملوكه » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ارحم من في الارض يرحمك من في السماء ».

وعن ابي جعفر عليه‌السلام قال : اتى رسول الله رجل فقال يا رسول الله اوصني فكان مما اوصاه به ان قال له : « إلق اخاك بوجه منبسط » وروي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « ثلاث يصفين ود المرء لاخيه المسلم يلقاه بالبشر اذا لقيه ويوسع له في المجلس اذا جلس اليه ويدعوه بأحب الاسماء اليه ».

وهناك امور اخرى كثيرة حث الإسلام عليها لما ينشأ منها من المحبة والتعاطف والتعاون بين افراد المجتمع ـ وذلك كافشاء السلام والمصافحة والتزاور والسعي في سبيل قضاء الحاجة والصلاة في المسجد واذا كانت جماعة فالثواب اعظم واعظم حيث ورد في ثوابها ما مضمونه : اذا زاد عدد المأمومين على عشرة فلا يحصي ثوابها الا الله تعالى.

كل ذلك نظرا لما يترتب على هذه الامور من الفوائد العظيمة في الدنيا والآخرة.

نهي الإسلام عن كل ما يوجب العداوة والتقاطع :

وفي مقابلها الامور التي تسبب العداوة والبغضاء ـ كالغيبة والنميمة

١٩٥

والسخرية والتجسس والتنابز بالالقاب ونحو ذلك من مسببات الخصومة والعداوة كما ورد النهي عن عدة امور تؤدي بطبعها الى ذلك في عدة رويات واردة عن أهل البيت عليهم‌السلام من ذلك ما روي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم ان يهجر اخاه فوق ثلاث ».

واذا اصيب المجتمع بداء العداء لسبب ما ـ أتى دور الاصلاح ليكون الدواء المساعد على ازالة هذا العارض الخطير الذي يؤدي بطبعه الى الكثير من الاضرار الخطيرة في الدنيا والآخرة لذلك كان للإصلاح فضله واجره الكثير لانه يقوم بدورين عظيمين احدهما ازالة مرض العداوة والشحناء التي تؤدي بطبعها الى الكثير من المضاعفات السلبية.

والثاني : إعادة اللحمة ونشر المحبة والرحمة مكان العداوة والخصومة وقد مر ذكر بعض الايات والروايات المحرضة عليه والمرغبة فيه أظهرها قوله تعالى :

( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) (١).

شروط اساسية لنجاح مهمة الإصلاح :

وكما يشترط في كثير من الاحيان شروط معينة في استعمال الدواء المادي المعهود ليترتب عليه اثره المنشود كذلك يشترط في استعمال دواء الاصلاح شروط اساسية لها اثرها البليغ في تحقق العلاج المطلوب والشفاء المرغوب وهي عديدة ، اهمها صلاح الشخص او الجماعة التي تريد ان تقوم بدور الاصلاح بمعنى استقامتها في طريق الشرع بفعل

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية : ١٠.

١٩٦

المأمور به وترك المنهي عنه وذلك لان معنى الاصلاح بمفهومه اللغوي والعرفي هو اعطاء الصلاح للفرد الفاقد له او الجهة المحتاجة اليه من اجل ازالة الفرقة واعادة اللحمة التي فقدت بسبب النزاع الحاصل ومن المعلوم منطقيا ان الشخص الذي يريد ان يقوم بهذا الدور اي دور الاصلاح ـ لابد ان يكون واجدا لصفة الصلاح في نفسه ـ حتى يتمكن من ايجادها في غيره لان فاقد الشيء لا يعطيه.

ومن شروط الاصلاح التوازن والموضوعية في شخص المصلح لانه اذا كان فاقدا لهذه الصفة ومعروفا بالانتماء لاحد الطرفين المتخاصمين مع الميل له فكريا وعاطفيا فلا يستطيع ان يقوم بدور الحكم المنصف المصلح بعد ان كان طرفا في النزاع وخصما ولو بحسب الظاهر لاحد الطرفين.

ومن شروط الاصلاح اتباع الاسلوب القرآني والتجمل بالادب الاسلامي المتمثل بالدعوة الى التقارب والتحابب بالحكمة والموعظة الحسنة لان ذلك يساهم مساهمة فعالة في تحقيق هدف الصلاح والاصلاح بخلاف الاسلوب القاسي المثير فهو يعقد المشكلة ويعمق الخصومة بدل ان يزيلها.

وما امس حاجتنا لان تشيع روح الصلاح وتنتشر ظاهرة الاصلاح على نطاق واسع بين افراد مجتمعنا وعلى الاخص في هذه الايام التي تعاون فيها اعداؤنا على الإثم والعدوان في مجال إثارة الفتن الداخلية بتحريك النعرات الطائفية والمذهبية والخلافات السياسية من اجل ان يحصل التصادم ويضعف الجميع بتصادمهم ويقوى العدو بضعفهم ويحقق اهدافه الاستعمارية على حساب اهدافهم انطلاقا من قاعدته الشيطانية القائلة : فرق تسد ، ولذلك يطلب من الجميع ان يكونوا حذرين

١٩٧

من التأثر بكل تلك الوسائل والحبائل الاستعمارية وذلك بالانطواء تحت راية الوحدة الوطنية وتجميد كل انواع الصراع او تناوله من قبل العقلاء الحكماء ـ بالحوار الهادىء الهادف فما يتفقون عليه من المواقف والآراء يتعاونون على تنفيذه وما يبقى محلا للخلاف يجب ان يجمد هذا الخلاف فيه وينطلق الكل تحت راية القواسم المشتركة والثوابت الواضحة من دون ان يفسد ذلك الخلاف للود قضية.

دعوة الإسلام للوحدة ونهيه عن الانقسام والفرقة :

وحيث ان الاسلام دين القوة والعزة والوحدة فقد امر المسلمين بالاعتصام بحبل الوحدة ونهاهم عن الشرذمة والفرقة فقال سبحانه في كتابه المجيد : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا ) (١).

ونهاهم عن التنازع المؤدي الى الفشل والضعف بقوله تعالى :

( ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين ) (٢).

كما امر بكل ما يؤدي الى التآلف والتعاطف والتعاون على تحقيق مرضاة الله سبحانه وخدمة المصلحة العامة ونهى عن كل ما يؤدي الى عكس ذلك وقد مرت الاشارة الى ذلك خلال الحديث.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الاخوان الاعزاء اولا وآخرا ورحمة الله وبركاته.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٣.

(٢) سورة الانفال ، الآية : ٤٦.

١٩٨

الخطبة التاسعة عشر(١)

دور الجهاد في حفظ الإسلام وسعادة الإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

والسلام عليكم ايها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته.

وبعد : حيث ان هذه الايام هي ايام الجهاد والشهادة والاستشهاد ناسب ذلك ان اتحدث حول موضوع الجهاد ودوره الطليعي في تشييد الصرح الاسلامي وصونه من الانهيار امام التحديات المتطرفة والتيارات الجارفة عبر التاريخ.

وقبل ان ابين ذلك ينبغي ان ابين اهمية الدين ودوره في بناء شخصية الانسان ومساعدته على نيل سعادته وعزته في دنياه وآخرته ـ لان

__________________

(١) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في ٣ ـ ٤ ـ ١٤١٢ هـ الموافق ١١ ـ ١٠ ـ ١٩٩١ م.

١٩٩

أهمية الجهاد في سبيل الدين انما تكتسب قيمتها من اهمية الدين باعتبار ان الوسيلة تكسب شرفها من الغاية المترتبة عليها فبقدر ما تكون الغاية شريفة وسامية تكون الوسيلة كذلك ـ فأقول :

ان الانسان يولد اول ما يولد حيوانا حاملا في طي كيانه كل الغرائز والطبائع الموجودة في سائر الفصائل الحيوانية كيف لا وهو حيوان ناطق ـ كما ذكر المناطقة في تعريفه وبيان حقيقته وانما يتميز عن غيره من هذه الفصائل بأمرين :

أحدهما مادي ظاهر والآخر معنوي مستتر اما الاول فهو الشكل والصورة واما الثاني فهو الاستعداد وقابلية الترقي من صف الحيوانية الذي يولد فيه الى صف الانسانية الذي يريد الله منه ويوجب عليه ان يترقى له ويصل اليه من خلال دخوله مدرسة الدين التي تمهد له وتساعده على استثمار قابليته البشرية التي اودعها الله فيه ليصقلها وينميها ويرقى بها من صف حيوانيته الادنى الى صف انسانيته الاعلى قياسا على حالة الجهل والامية التي يولد عليها الانسان ويرتقى منها بعد ذلك ويتجاوزها الى مرحلة العلم والثقافة بسبب دخوله مدرسة العلم والترقي ـ والدين وحده هو المدرسة الوحيدة التي يستطيع الانسان بواسطتها ان يصعد ويترقى من صف حيوانيته الى صف انسانيته.

قيمة الإنسان بالعلم والإيمان :

وذلك لان الإنسان لم يكن له وزن وقيمته التي كرمه الله بها وفضله على الكثير من مخلوقاته واسجد له ملائكته.

أجل : إن الإنسان لم يكن له هذا الوزن والاعتبار لقامته المستطيلة وصورته الجميلة ـ وانما كان له ذلك بأخلاقه الفاضلة واعماله الصالحة

٢٠٠