من وحي الإسلام - ج ١

الشيخ حسن طراد

من وحي الإسلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير وأحسن تأويلاً ) (١).

أما السنة القولية الداعية الى الاعتصام بحبل الوحدة والوئام بين افراد الامة الاسلامية فكثيرة وان اختلف الاسلوب الداعي الى ذلك بالصورة والشكل الا انه متحد ومتفق في المضمون والمحتوى ـ فتشبيه الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المجتمع الاسلامي المتعاون المتعاطف بالجسد الواحد الذي اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الاعضاء بالسهر والحمى ، يعتبر بيانا لما يجب ان يكون عليه المجتمع في ظل تعاليم الاسلام وهذا نوع من الدعوة الى الوحدة والتضامن بطريق غير مباشر.

وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من اصبح وامسى لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم يعطي نفس المعنى لانه يفيد ان كل مسلم يفرض فيه ان يهتم بأمور إخوانه المسلمين ويسعى في سبيل تحصيل ما ينفعهم ودفع ما يضرهم وهذا كناية عن التفاعل الذي يتوقع حصوله بين افراد الامة نتيجة اتحادها وتضامنها.

والآيات والروايات الناهية عن حصول ما يؤدي الى تصدع الصف الاسلامي كثيرة منتشرة على صفحات الكتاب الكريم وسنة النبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واوضح مصاديق ذلك الآيات الناهية عن الغيبة والنميمة والسخرية والتنابز بالالقاب والتجسس.

وأوضح مصاديق السنة الناهية عما يسبب الخصام والشرذمة والانقسام الحديث المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهرة وهو قوله :

ولا تحاسدوا ولا تقاطوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٥٩.

١٦١

وخلاصة الحديث : ان الامة اذا ارادت ان تحيي ذكرى ولادة الرسول الاعظم بالاحياء العملي الحقيقي الذي يستمر معها ليصل الى كل زمان ومكان ولا يختص بزمان الولادة ومكان اقامة الاحتفال بمناسبتها ـ أجل اذا ارادت الامة ذلك بالاسلوب الذي يتحقق معه معنى الاحتفال بمعناه اللغوي وهو الاحترام والتكريم ـ فما عليها الا ان تتجاوز الاسلوب التقليدي الموقت ـ الى الاسلوب العملي الدائم وهو لا يحصل الا بدراسة الرسالة الاسلامية بوعي وعمق يمكنها من تحصيل الايمان الصادق الجازم بأصول الدين المعهودة وبأحقية الشريعة المتفرعة عليها ـ من كل النظم المستوردة ـ بالرعاية والتطبيق لانها شرع الله العادل الكامل العالم بما يصلح للإنسان ويصلحه في كل المجالات ومن جميع الجهات مع الاطلاع على الاحكام الفرعية الواقعة محل ابتلائه عمليا ـ بالاجتهاد او التقليد ثم العمل بها وامتثالها بالطريقة المبرئة للذمة.

دعوة الإسلام المسلمين لإعداد القوة التي ترهب الأعداء :

واهم تكليف يتوجه نحو الامة وخصوصا في هذه الايام ـ هو الاعتصام بحبل وحدتها التي تثمر لها قوتها وتحقق لها اهدافها في مختلف المجالات ـ كما تمكنها من الدفاع عنها اذا تعرضت للعدوان السياسي او الاقتصادي او الامني او نحو ذلك ، كما هو الواقع في هذه الايام.

وهذا ما عناه الله سبحانه بإرهاب العدو الناشىء من إعداء القوة ولو في نطاق المستطاع وذلك بقوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من

١٦٢

قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) (١).

أجل : بتحصيل العلم بالرسالة الاسلامية اصولها وفروعها ولو بالقدر الواجب تعلمه ـ مع العمل بمقتضاها والسير على ضوء هداها في مختلف المجالات كما اراد الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل بيته عليهم‌السلام. يتحقق الاحتفال الحقيقي والاحترام الواقعي المستمر والمستوعب لكل تصرفاتنا المتحركة في إطار الرسالة ولكل زمان يتحقق فيه هذا التصرف والامتثال ولكل مكان يبرز فوقه ذلك وعلى ضوء هذا المعنى نظمت المقطوعة التالية.

مقطوعات شعرية تبين أن الاحتفال العملي بالرسالة

مستمر وأن الوحدة مصدر القوة :

في كل يوم للرسالة مـولد

يزهو به أمل ويشرق مقـصد

إن الرسالة موقف وعـقيدة

وإطاعة وتــمسك وتعــبد

والاحتفال بها جهـاد دائـم

يحمى به شرع الهـدى ويؤيد

ليظل للإنسان نهج تــقدم

يرقى به نحو الكمال ويـصعد

وينال في دنياه مجداً شامخاً

وغداً ينال به النعيم ويســعد

واشرت الى نوع الاحتفال الحقيقي بمناسبة ميلاد الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمقطوعة التالية وقد مر ذكرها في بعض الخطب السابقة وهي :

إن رمت تكريم النبي محمد

والاحتفال بيوم عيد المولد

__________________

(١) سورة الانفال ، الآية : ٦٠.

١٦٣

فاسلك سبيل الصالحات مطبقا

قانونه السامي بــدون تــردد

إن الرسول هو الرسالة قد أتت

من أجل إصلاح وهـدي مـرشد

فإذا أخذت بها ونـلت عطاءها

بتـدبر وتــــقيد وتعـــبد

أحييت ذكرى المرسلين جميعهم

وبني الإمامة من سلالة أحـمـد

فالكل نور واحد متــــألق

يجلو دياجير الضلال المـــفسد

كما اشرت الى اهمية الوحدة ودورها الطليعي في قوة الامة وقدرتها على تحقيق اهدافها والدفاع عن وجودها ومصيرها بالمقطوعة التالية :

بالوحدة العصماء يبتسم الغدُ

وننال ما نصبوا اليه وننشـد

في ظلها الطاقات تحشد كلها

ويقوم صرح بالوفاق مشـيدُ

الجمع يدرك بالتضامن دائماً

ما يبتغيه وليس ينجح مفـرد

كلتا اليدين تصفقان لمـأرب

يجنى ولا تستطيع تصفيقا يد

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء أولاً وآخراً ـ ورحمة الله وبركاته.

١٦٤

الخطبة السادسة عشر(١)

فلسفة العبادة في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين والسلام عليكم أيها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته.

وبعد : قال الله سبحانه في محكم كتابه المجيد : ( إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) (٢).

حيث ان الله سبحانه خلق الانسان لعبادته وحده لا شريك له من أجل ان يتوصل بها الى ما اراد الله سبحانه ان يصل اليه ويحصل عليه من الكمال والسعادة ، في الدنيا والآخرة.

وكان ذلك متوقفا على الإيمان الصادق الكامل المتمثل بالاعتقاد

__________________

(١) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة في مسجد الإمام المهدي (عج ) وذلك في ٨ ـ ٥ ـ ١٩٨٧ م الموافق ١٠ ـ ٩ ـ ١٤٠٧ هـ.

(٢) سورة آل عمران ، الآيتان : ١٩٠ ، ١٩١.

١٦٥

بأصول الدين المعهودة وبما ينبثق منها ويتفرع عليها من الشريعة المنظمة لحركته العبادية بالمعنى العام للعبادة المستوعب لكل تصرفاته الاختيارية المنسجمة مع ارادته تعالى مع العمل فعلا بموجب احكام هذه الشريعة بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وبالتخيير في موارد عدم الالزام بأحد الطرفين الفعل او الترك.

أجل : حيث ان الله سبحانه خلق الإنسان للغاية المذكورة وأراد منه تشريعا ان يحققها على الصعيد العملي وإذا اراد الله أمرا هيأ اسبابه او دعا لتوفير اسبابه ـ ومن أبرز اسباب تحصيل الإيمان الراسخ هو التفكر في هذا الكون الفسيح وما يشتمل عليه ويحفل به من عجائب المخلوقات الناطقة بحكمته البالغة والمعبرة عن قدرته الفائقة كما تعبر بلسان نظامها التكويني الحكيم المسير لها على نهج واحد مستمر ومستقر ـ عن وحدانيته تعالى بل وعن كماله المطلق بعد إدراك الإنسان بفطرته السليمة ضرورة اتصافه تعالى بالكمال المطلق ـ أي بجميع الصفات الكمالية ـ وامتناع تجرده منه ومن ابرز الصفات الكمالية التوحيد وهو الاصل الاول من اصول الدين ـ ومنها العدل وهو الاصل الثاني منها :

الأدلة القاطعة لإثبات أصول الدين الخمسة :

ومن الصفات الكمالية الحكمة ومعناها ان المتصف بها لا يصدر منه قولا بلا معنى ولا فعل بلا غاية وهدف وقد خلق الكون وما فيه لخدمة الإنسان كما صرح بذلك في الكثير من آيات كتابه الكريم وخلق الإنسان لعبادته وحده لا شريك له كما هو صريح قوله سبحانه :

( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (١).

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ٥٦.

١٦٦

والمراد بالعبادة التي جعلها الله سبحانه العلة الغائية والسبب الداعي لخلق الجن والإنس ـ الانقياد الكلي والخضوع المطلق بكل عمل اختياري يمارسه الإنسان في هذه الحياة لإرادته سبحانه وهي تختلف من حيث الالزام وعدمه باختلاف الموارد تبعا لاختلاف المصالح والمفاسد الداعية للتشريع ـ ففي المورد الذي يكون الفعل مشتملا على مصلحة ملزمة قوية لا يرضى المولى من المكلف ان يفوتها على نفسه ـ يكون الحكم المجعول هو الوجوب واذا كانت المصلحة ضعيفة لا تقتضي الالزام بالفعل ـ يكون هو الاستحباب وفي المورد الذي يكون الفعل مشتملا على مفسدة قوية لا يرضى المولى من المكلف ان يوقع نفسه فيها ـ يكون الحكم المجعول هو الحرمة واذا كانت المفسدة ضعيفة لا تمنع من الفعل ـ يكون هو الكراهة وفي المورد الذي لا يكون الفعل مشتملا على مصلحة او مفسدة تقتضي ما تقدم من الاحكام ـ بمعنى أنه يكون خاليا من ذلك كله بحيث لا يترجح فيه الفعل على الترك ولا العكس يكون الحكم هو الإباحة والتخيير بين الامرين.

وحيث ان المكلف لا يدرك بعقله القاصر اصل وجود المصلحة او المفسدة في أفعاله ولا مرتبة كل واحدة منهما من حيث القوة والضعف فلا بد ان ينزل الله سبحانه رسالة تبين ذلك ويبعث رسولا بها يكون افضل واكمل أهل زمانه ومؤيداً بالمعجزة الدالة على صدقه لتتم الحجة على الخلق ويجب عليهم التصديق به وبما أتى به من رسالة وشريعة متضمنة لجميع ما يحتاجونه في حياتهم من النظم والقوانين لتتحقق العبادة المقصودة والغاية المنشودة بتطبيقها والعمل بها.

وبذلك يثبت الاصل الثالث من اصول الدين وهو النبوة وحيث ان الرسالة الإسلامية خالدة وعبادة الله سبحانه بتطبيقها مستمرة ودائمة بدوام

١٦٧

وجود المكلفين على صعيد هذه الحياة وحياة الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محدودة فلا بد للأمة من وجود شخص يكون مثله في الافضلية المطلقة من جميع الجهات ومن جميع المعاصرين مع الاتصاف بالعصمة مثل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتتم الحجة لأن الإمامة امتداد للنبوة فيشترط فيمن يتصدى لحمل مسؤوليتها ان يكون متصفا بها ـ أي بالعصمة كالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وحيث ان الله سبحانه اعلم حيث يجعل رسالته أولاً للتبليغ كذلك هو اعلم حيث يجعلها ويضعها للحفظ والصون من التغيير ومن هذا المنطلق اقتضت الحكمة الإلهية ان يعين الله لهذا المنصب اي منصب الإمامة ـ اثني عشر إماماً أولهم الإمام علي بن ابي طالب عليه‌السلام وآخرهم الإمام المهدي عجل الله فرجه.

وقد استفيد ذلك مضافا الى حكم العقل واستقلاله من بعض الآيات والعديد من الروايات من الأول آية الولاية الواردة في شأن الإمام علي عليه‌السلام بمناسبة تصدقه بخاتمه حال ركوعه في الصلاة على ذلك الفقير ـ وهي قوله تعالى :

( إنما وليكم اللهُ ورسولهُ والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (١).

ومن الآيات الواردة في هذا المجال قوله تعالى :

( يايها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الامر منكم ) (٢).

بقرينة التفسير الوارد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكلمة أولى الأمر ـ بالأئمة الاثني عشر المعصومين في جواب السؤال الذي قدمه جابر بن عبد الله

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٥٥.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٥٩.

١٦٨

الانصاري عن المراد بهذه الكلمة ، ويؤيد ذلك حكم العقل واستقلاله بأن القابل لأن يأتي في المرتبة التالية للرسول في المنزلة والحجية ـ هم أهل بيته المعصومون عليهم‌السلام والروايات الدالة على ذلك كثيرة اشهرها وأظهرها حديث الغدير وحديثا السفينة والثقلين وهي موجودة في كتب الطرفين وبالغة حد التواتر ـ وللتفصيل محله وموضعه من الكتب المؤلفة حول هذا الموضوع ـ وبذلك يثبت الاصل الرابع من اصول الدين وهو الإمامة.

الإيمان بالمعاد من لوازم الإيمان بالعدل الإلهي :

والاصل الخامس وهو المعاد ـ من لوازم الاصل الثاني اي العدل ـ كما هو واضح لان الله سبحانه هو الحاكم العادل وفي هذه الحياة الدنيا يوجد الظالم والمظلوم والمطيع والعاصي والمحسن والمسيء فلو كان الخلق بعد الموت يعودون الى التراب كما خلقوا منه ولا يعودون للحياة من جديد للحساب الحاسم والجزاء العادل لينال كل مكلف ما يستحقه على عمله من الثواب إن كان خيرا كما وعد سبحانه والعقاب إن كان شراً كما أوعد وكلاهما مصرح به في قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يرهُ * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يرهً ) (١).

أجل : لولا الإيمان بالمعاد للزم من ذلك ما هو مخالف لعدله تعالى حيث يستوي الجميع في النهاية والبداية بدون فرق بين مكلف وآخر كما ان ذلك مناقض لقوله تعالى :

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآيتان : ٧ ـ ٨.

١٦٩

( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لايستون ) (١).

وقوله تعالى : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار ) (٢).

مع الاخذ بعين الاعتبار الاعتقاد الجازم بأن القرآن الكريم هو وحي الله سبحانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ ولذلك يكون كل ما ورد فيه من أمور الرسالة ، حقا لا شك فيه ومن أبرزها أمور العقيدة الحقة المتمثلة بأصول الدين الخمسة التي مر بيانها.

بيان المراد بالعبادة العامة ودور العبادة الخاصة في ترسيخ العقيدة :

وبالإيمان بهذه الاصول يتحقق العنصر الاول والاساس الوطيد في بناء صرح الرسالة الاسلامية والعنصر الثاني متفرع عليه ويعبر عنه بالشريعة وهي عبارة عن مجموعة النظم والقوانين التي تنظم علاقة الإنسان بربه وعلاقته بأخيه المسلم وعلاقته بأخيه الإنسان وعلاقته بالكون والحياة.

والعبادة يراد بها في المنظور الاسلامي معنيان احدهما عام ويراد به الخضوع المطلق لإرادة الله سبحانه بكل عمل اختياري يمارسه المكلف بإرادته على صعيد هذه الحياة وبهذا المعنى اعتبرت العلة الغائية والسبب الداعي لخلق الله سبحانه الإنسان حيث قال :

( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (٣).

__________________

(١) سورة السجدة ، الآية : ١٨.

(٢) سورة إبراهيم ، الآية : ٤٢.

(٣) سورة الذاريات ، الآية : ٥٦.

١٧٠

والثاني : هو العبادة بمعناها الخاص وهي تطلق في مقابل المعاملات في الشريعة ويراد بها كل عمل يشترط في صحته قصد القربة لله سبحانه كالصوم والصلاة والحج والزكاة والخمس ونحوها مما اشترط في صحته ذلك ويلحق بالصلاة بعض مقدماتها كالطهارات الثلاث المعهودة وهي الغسل والوضوء والتيمم حيث يشترط في صحتها قصد التقرب بها لله تعالى كالصلاة نفسها.

ودور العبادة بهذا المعنى هو ترسيخ العقيدة وتقوية الإيمان في قلب المتعبد لله بها وبقدر ما يقوى الإيمان في نفس المكلف يقوى التزامه بخط الشريعة وتطبيق احكامها مهما كان صعبا وشاقا ـ والسر في ذلك هو كون العبادة بمعناها الخاص اتصالا بالله سبحانه وتقربا منه فهي بذلك تشبه الزيارة التي تتكرر من صديق لآخر حتى تعمق علاقة الصداقة بينهما ليصبحا دائما وأبداً على حالة صلة وتواصل حميم ونتيجة ذلك هي ان تبقى حركة كل واحد منهما في إطار الوفاء والاخلاص للآخر في كل التصرفات التي تصدر منه كما هو مقتضى المودة الثابتة والصداقة الراسخة ـ وهكذا اذا تعمقت علاقة الايمان في نفس المؤمن نتيجة استمراره على الاتصال بالله سبحانه فكريا وروحيا ونفسيا عبر تلك العبادات المعهودة وخصوصا الصلاة منها فإنه يبقى على صلة به وصلاة له بكل تصرفاته الاختيارية وهذا هو روح العبادة بمعناها العام.

دور العبادة الخاصة في ترسيخ العقيدة :

ويستفاد من مجموع ما تقدم ان دور العبادة بمعناها الخاص هو تقوية العلاقة الايمانية بالله سبحانه وهي تقتضي بطبعها رسوخ صفة

١٧١

العبودية في نفس العبد المؤمن ليبقى دائما وأبداً متحركا في فلك عبادته لله سبحانه بفعله ما أمر به وتركه ما نهى عنه ـ وبذلك يتضح ان العبادة بمعناها الخاص لها دوران ويترتب عليها أثران الاول ذاتي بلحاظ ما يترتب عليها في نفسها من المنافع والفوائد المعنوية والمادية ـ كالمنافع المترتبة على كل واحدة من فريضة الصلاة والصوم والحج والزكاة وهي مذكورة في محلها من الابحاث المحررة لبيان فلسفة العبادة في الاسلام بصورة عامة مع بيان الفوائد الخاصة المترتبة على كل واحدة منها بالخصوص وهي كثيرة ولعلي اتوفق لبيان ذلك مفصلا في دراسة خاصة اتناول بها كل واحدة من العبادات المذكورة وأبين ما يترتب عليها من الفوائد الهامة والعامة ـ والله ولي التوفيق.

فلسفة العبادة العامة ودور الخاصة في ترسيخ العقيدة :

الأثر الثاني : للعبادة بمعناها الخاص هو ما أشرت اليه من مساهمتها مساهمة فعالة في ترسيخ العقيدة وتقوية الايمان بالله سبحانه وهذا يؤثر وبطريق غير مباشر على تحقق العبادة بمعناها العام لان قوة الارتباط بالذات الإلهية المقدسة عبر العلاقة الإيمانية الوثيقة ـ تقتضي بطبيعتها استمرارية الاتصال بها وعدم الانفصال عنها باطنيا وظاهريا في اية حركة تصدر من الإنسان المؤمن المكلف على صعيد هذه الحياة ولا يراد بالعبادة العامة سوى ذلك فهي تمثل الجاذبية التكوينية التي تربط المجموعة الشمسية وتجذبها الى الشمس لتبقى منشدة اليها ومرتبطة بها ومتحركة في فلكها من دون ان تتجاوزه الى خارجه ولو قدر حصول ذلك لحصلت كارثة كونية تنذر وتهدد الكون بالفناء.

وهكذا أراد الله سبحانه للإنسان المكلف ان يبقى منشدا الى الذات

١٧٢

الإلهية بسلك الإيمان ومتحركا في إطار الإرادة السماوية وفلك الشريعة المحمدية ليظل بهذا الارتباط وذلك التحرك المنظم محصورا في محور مصلحته وسعادته وبعيدا عما يؤدي به الى مضرته ومفسدته من التصرفات الخارجة عن نطاق المنهج السماوي.

وقد تحصل من مجموع ما تقدم ان العبادة بكلا معنييها العام والخاص تمثل الحركة الاختيارية للبشرية الحكيمة في إطار الإرادة الإلهية الرحيمة التي لم تضع الشريعة الا لتكون المحور الذي تدور حوله وتتحرك في فلكه تصرفات الإنسان لتنتهي به الى ما اراد الله سبحانه وصوله اليه وحصوله عليه من الخير والكمال والسعادة والفضيلة في الدنيا والآخرة وقد اشار الله سبحانه الى ذلك بقوله :

( من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون ) (١).

لا سعادة ولا سلام الا في ظل الاسلام :

ولم تصب البشرية بما أصيبت به في كل ادوار التاريخ من التفسخ الاجتماعي والانيهار الخلقي والتأخر الاقتصادي والتدهور الامني وغير ذلك من المآسي والنوائب الا بسبب بعدها عن منهج السماء لانه وحده سبيل السعادة والسلام فمن سلكه وصل اليهما ومن تركه وقع في ضدهما وضد السعادة الشقاء وضد السلام الحرب.

وبذلك يعرف السر في انتشار هذين الوباءين في العالم واذا ظهر السبب بطل العجب.

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ٩٧.

١٧٣

قال الله سبحانه : ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) (١).

وقال تعالى : ( ظهر الفسادُ في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) (٢).

وحيث شاءت الحكمة الإلهية ان لايغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، فعلى البشرية عامة والأمة الإسلامية خاصة أن تغير ما هي عليه فعلا من العقيدة الفاسدة الى العقيدة الصحيحة وتكملها بالاعمال الصالحة والاخلاق الفاضلة وذلك يقتضي بطبعه بمقتضى التقاء الارادة الإلهية التشريعية مع إرادته التكوينية ان يتحول المجتمع مما هو عليه من الشر والبؤس والشقاء بمعناه العام ـ الى الخير والسعادة والفضيلة ـ وفي التجربة الرائدة الناجحة التي مرت بها الامة في التاريخ يوم رجعت الى منهج السماء وطبقته بالايمان الصادق والعمل الصالح ـ اصدق شاهد على واقعية هذه الحقيقة الايمانية القرآنية التي اشار الله سبحانه اليها بقوله :

( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من امر الله ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا اراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ) (٣).

والى ذلك اشرت بمقطوعة شعرية مخاطبا الإنسان الجاهلي ومبينا ما كان عليه قبل الاسلام وما تحول اليه بعده من التقدم والازدهار في

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية : ٩٦.

(٢) سورة الروم ، الآية : ٤١.

(٣) سورة الرعد ، الآية : ١١.

١٧٤

مختلف المجالات والميادين.

دور الإسلام في سعادة البشرية وتقدمها :

وكذا بقيت تعيش جهلاً مرديـاً

حتى أتاك بنهجه القــرانُ

فطرحت شركاً واعتنقت شريعةً

سمحاء أبدع خطها الرحمنُ

فإذا الجزيرة روضة فواحــة

بالخير ينشر عطره الإحسانُ

وإذا النفوسُ تشوق وتـطــلع

للحق ينشر نـوره الإيـمانُ

والفضل للاتقى وإن لم يـعـله

نسب رفيعُ الشأن أو التيجانُ

تبت يدا عم النبي وقـد غــدا

من آل بيت محمد سلمــانُ

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم جميعا اولا وآخرا ورحمة الله.

١٧٥

الخطبة السابعة عشر (١)

دور الصلاة في خشوع القلب

حالها واستقامة السلوك بعدها

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته وبعد :

قال الله سبحانه في محكم كتابه المجيد :

( قد يفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون ) (٢).

لقد بين الله سبحانه بهذه الآيات البينات ان الإنسان الذي افلح

__________________

(١) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) في ١٧ ـ ١ ـ ١٤١٣ هـ الموافق ١٧ ـ ٧ ـ ١٩٩٢ م.

(٢) سورة المؤمنون ، الآيات : ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤.

١٧٦

وينجح في هذه الحياة الدنيا وبعدها في الآخرة هو الشخص الذي تتوفر فيه الاوصاف المذكورة في صدر هذه السورة المباركة وهي سورة ـ المؤمنون ـ وهي كثيرة لا يتسع المجال للحديث حول كل واحد منها ولذلك اقتصرت على ذكر ثلاثة منها لتكون موضع حديث اليوم ـ وقبل الشروع بالحديث حولها أحببت ان امهد لذلك بمقدمة مختصرة وهي ان الإيمان في حقل النفس والقلب كالشجرة المغروسة في حقل الحياة فكما ان هذه الشجرة اذا كانت عميقة الجذور وثابتة في اعماق تربة الحقل اكثر تكون فروعها ممتدة الى الفضاء اكثر وبذلك يكون ثمرها اوفر واطيب كما اشار الله سبحانه الى هذا المعنى بقوله :

( ألم تر كيف ضرب اللهُ مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السمآء * تُوتي أُكلها كل حين بإذن ربها ويضربُ اللهُ الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) (١).

دور الصلاة الخاشعة في تزكية النفس والإعراض عما يضرها :

هكذا الإيمان الصادق الراسخ الثابت في أعماق تربة النفس ـ يمتد بفروعه الى سماء العلاء ويعطي الكثير والطيب من ثمر الخير والسعادة في الدنيا والآخرة ويأتي الخشوع لله في الصلاة ليكون ثمرة يانعة من ثمرات الشجرة الإيمانية حيث تتمثل عظمة الله سبحانه في عقل المؤمن حال صلاته له واتصاله به ، بصورة تفصيلية تسيطر على مشاعره وتجعله في حالة خشوع نفسي وخضوع جسمي امام عظمته وجلاله.

وبقدر ما يقرب المؤمن من الحق ويرتبط به بعلاقة الإيمان الوثيقة

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآيتان : ٢٤ ـ ٢٥.

١٧٧

ـ يكون بعيدا عن اللغو بكل أقسامه ولذلك رتب الله سبحانه الإعراض عنه على الخشوع لله سبحانه حال الصلاة وخارج نطاقها الشكلي ـ والاعراض يحمل في طيه مفهوما سلبيا وهو اعمق في سلبيته من مجرد الترك للباطل وذلك لان الترك الخارجي قد يجتمع من الميل النفسي للأمر المتروك وهذا بخلاف الإعراض المتضمن للعزوف والزهد الباطني مضافا الى الترك الخارجي.

والإعراض عن اللغو وهو الثمرة الثانية من ثمرات الإيمان التي ذكرها سبحانه في هذه السورة أي ـ سورة المؤمنون ـ جاء في السياق القرآني الحكيم ـ نتيجة للخشوع لله سبحانه حال الصلاة ومقدمة تمهيدية للثمرة الثالثة وهي فعل الزكاة وتطهير المال والنفس بإخراجها ـ باعتبار ان معناه السلبي يمثل التخلية للنفس مما يضرها مقدمة لتزكيتها وتحليتها بما ينفعها ويرفعها من الاعمال الصالحة والاخلاق الفاضلة تمشيا مع القاعدة الاخلاقية التي تقول التخلية ثم التحلية.

والمراد باللغو الباطل بكل انواعه وهو كل ما لافائدة منه في الآخرة ـ ومن اوضح مصاديقه بهذا الاعتبار ـ العمل الحرام لانه يضاف الى عدم نفعه هناك ـ تسبيبه للضرر الكبير ويأتي المكروه في الدرجة التالية بلحاظ عدم نفعه يوم القيامة وان كان لا يسبب الضرر الاخروي في نفسه وبعنوانه الاولي ولكن المؤمن الواعي قوي الايمان يحرص على ان لا يصدر منه الا ما يكون مقربا من الله سبحانه وثمنا لجنة الخلود والسعادة الحقيقية الابدية ـ ولذلك نقل عن بعض العظماء انه لم يترك مستحبا ولم يفعل مكروها علما منه بأن المؤمن بقدر ما يتقرب من الله سبحانه بالتقوى يقرب الله منه بالتوفيق والنجاح في كل المجالات ولذلك ورد في الحديث القدسي ما مضمونه : لا يزال عبدي يتقرب اليَّ بالنوافل

١٧٨

حتى اكون عينه التي يصبر بها ويده التي يعمل بها.

ويمكن استفادة ذلك من قوله تعالى :

( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيثُ لايحتسب ) (١).

وبعد الاشارة الى كل واحدة من الثمرتين.

الأولى : وهي الخشوع في الصلاة.

والثانية : المترتبة عليها وهي الإعراض عن اللغو.

يأتي دور الحديث حول الثمرة.

الثالثة : وهي فعل الزكاة المطهر للمال من حق الغير وللنفس من دنس الشح والحرص ليتحقق بذلك الفلاح الذي يتوصل اليه المؤمنون ببركة اتصافهم بالاوصاف الستة التي ذكرها الله سبحانه في مقام مدحه لعباده المؤمنين وقد صرح سبحانه بإيصال السلامة من مرض الشح الى الفلاح والنجاح بقوله تعالى :

( ومن يُوق شح نفسه فأُولئك هم المفلحون ) (٢).

فأقول : إن كلمة الزكاة وإن كان الظاهر منها هو المقدار المعين من المال الذي يجب على المكلف ان يخرجه من ماله في زكاة المال او عن نفسه ومن ينفق عليه وجوبا او استحبابا في زكاة الفطرة ولكن يمكن تعميمها بلحاظ سياق الآية وجوهر الغاية المقصودة من إيجاب الزكاة المادية الى كل ما يبذله الإنسان المؤمن في سبيل خدمة أخيه الإنسان كالعلم الذي يبذله العالم في سبيل تعليم الجاهلين ، وإرشاد الضالين

__________________

(١) سورة الطلاق ، الآيتان : ٢ ، ٣.

(٢) سورة الحشر ، الآية : ٩.

١٧٩

والاصلاح بين المتخاصمين ونحو ذلك ـ وكالجاه الذي يستخدمه صاحبه في سبيل جلب الخير للآخرين ودفع الضرر عنهم ، وكالصحة والقوة الجسمية التي يستخدمها صاحبها في سبيل تأدية الواجبات البدنية كالصوم والحج والجهاد في سبيل الله من أجل تحرير الارض واستعادة العزة والحرية والاستقلال ونحو ذلك.

ويستفاد التعميم المذكور لمعنى كلمة الزكاة ليشمل كل ما ينفق في سبيل مرضاة الله سبحانه ونفع الامة والرسالة مما ورد في اول سورة البقرة في مقام وصف المتقين ومدحهم بأنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ـ حيث عمم الانفاق لكل نعمة ورزق يمن به الله عليهم ويبقى للزكاة المالية وهي الفرد الاظهر والاكمل دورها الطليعي في حل اصعب مشكلة وقضاء اهم حاجة وهي مشكلة الفقر التي تنشأ منها وتترتب عليها مضاعفات سلبية وخطيرة كانتشار الامية والامراض الجسمية والنفسية وفقد الامن والاستقرار ـ وذلك لان العامل الاقتصادي يلعب دوره في كل المجالات الحياتية فهو الذي يوفر للجاهل ان يتعلم ويتابع دراسته ليصل الى درجة محترمة من العلم ينال بواسطتها شهادة محترمة تؤهله لان يقوم بوظيفة مقدرة تعود عليه براتب يغطي حاجاته الضرورية له ولمن يتعلق به ويعيش بذلك عزيزا محترما ـ والمال هو الذي يستطيع ان يجعل منه الشخص رأس مال يتاجر به لينال ربحا مناسبا يوفر له حاجاته ومطالبه الحياتية بعزة وكرامة.

وباختصار المال هو المادة تساعد صاحبها على تحصيل اي هدف في الحياة كما تكون الوسيلة الواقية من الكثير من الاضرار والاخطار وخصوصا اذ كان صاحبه مؤمنا بالله لا يصرفه ولا يتصرف به

١٨٠