من وحي الإسلام - ج ١

الشيخ حسن طراد

من وحي الإسلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

الرابع : الالتفات الى ان دار الدنيا هي دار ابتلاء وامتحان لتظهر به حقيقة الايمان ويتميز الحقيقي منه عن السطحي الذي لا يثبت امام النوائب قال سبحانه :

( الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن اللهُ الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) (١).

الخامس : توقع حصول الفرج بعد الشدة واليسر بعد العسر كما يوحي بذلك قوله تعالى : ( فإن مع العسر يُسراً * إن مع العسر يسراً ) (٢).

حيث اقتضت الرحمة الإلهية والحكمة السماوية ان لا تستقر المصيبة وتستمر الشدة بدون حد تقف عنده في الغالب وتفضل الله سبحانه على ايوب بالفرج بعد الشدة والشفاء بعد العلة والرخاء بعد الشقاء يقوي الثقة بتبدل الوضع من الصعب الى السهل وخصوصا اذا حصل التوكل على الله سبحانه والتضرع اليه بالدعاء والانقطاع قال سبحانه :

( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) (٣).

وقال تعالى : ( ادعوني أستجب لكم ) (٤).

ويقوى الامل بالفرج بعد الشدة اذا اقترن الدعاء والتوكل بالتصدق لما هو المشهور من ان الصدقة تدفع البلاء وقد أبرم إبراما كما تقدم.

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآيات : ١ ، ٢ ، ٣.

(٢) سورة الشرح ، الآيتان : ٥ ، ٦.

(٣) سورة الطلاق ، الآية : ٣.

(٤) سورة غافر ، الآية : ٦٠.

١٤١

السادس : التأسي والاقتداء بالعظماء الذين تلقوا المصائب بالتصبر والاحتساب وفي طليعتهم من ذكرنا منهم سابقا وهم النبي أيوب ونبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام علي وابنه الحسين سيد الشهداء ومن النساء بطلة كربلاء بنت سيد الاوصياء وأمها سيدة النساء الزهراء البتول عليهم‌السلام.

السابع : ملاحظة عدم ترتب اي اثر ايجابي على الحزن والانفعال لوقوع المصيبة وربما ادى الانسياق مع العاطفة واستمرار التفكير فيها الى زيادتها والحرمان من ثواب الصبر عليها واذا تحول الوضع الانفعالي الى الجزع والاعتراض على الله سبحانه ادى ذلك الى استحقاق العقاب مع الحرمان من الثواب وقد اشرت الى مضمون هذا الحديث الاخير بالابيات التالية التي نظمتها في النجف الاشرف في الستينات.

أبيات من وحي الحكمة لها علاقة بالصبر :

لا يدفع الحزن ما يجري به القدر

ولا يصونك من سلطانه الحذر

عمت حوادثه الآفاق وانتشـرت

فكل حي لما يمضيه مــنتظر

فلا الغني بما يحــويه مـنتفع

ولا القوي على الايام مقتــدر

ولا النسيب تذود الموت نـسبته

للماجدين ولا يثنيه مفتـخــر

ولا العليم يصد العلم نكبتـــه

بالحادثات اذا حلت بـه الغـير

وكل مجد سوى مجد العلى كذب

وكل جاه سوى جاه السما صور

وكل فعل سوى فعل التقى عبث

وكل قول سوى قول الهدى هذر

وكل حي وإن طالت سلامــته

فسائق الموت لا يبقي ولا يـذر

١٤٢

فينطوي الناس لا الاولاد تحفظهم

من الفناء ولا اموالهم تفر (١)

كذلك المرء أمـال تبــــددها

يد المــنية أشلاء فينــدثر

إلا التقي الذي أضـحى بفـطنته

من الشريعة يستوحي ويـعتبر

فهو المـقيم ولا تفـنى مــآثره

مهما تعاقبت الاجيال والعصـر


وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الاخوان الاعزاء ورحمة الله.

__________________

(١) تفر بالفاء بعد التاء معناها تصون وتحفظ.

١٤٣

الخطبة الرابعة عشر (١)

حول صفة الكرم والسخاء

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته وبعد :

إن موضوع حديثنا اليوم هو صفة الكرم النبيلة ولهذه الصفة سببها المؤدي اليها وفائدتها المترتبة عليها وحيث انها تحتل المنزلة العالية بين صفات المؤمنين ـ كانت الصفة المشرقة والسمة البارزة في حياة اهل البيت عليهم‌السلام ابتداء من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانتهاء بالمهدي ( عج ). أما سبب هذه الصفة فهو الايمان بالله سبحانه باعتبار انه يمثل الشجرة المباركة التي تغرس في حقل النفس وتروى بماء المعرفة

__________________

(١) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في ٦ ـ ٢ ـ ١٩٨٧ م.

١٤٤

الصحيحة وتنمى بغذاء التربية الصالحة.

ولهذه الشجرة ثمرات كثيرة طيبة وهي كل الاعمال الصالحة والصفات النبيلة والمكارم السامية كالشجاعة والكرم والحلم والصبر ونحوها.

أما إنتاج شجرة الايمان لثمرة الكرم فالوجه فيه هو ان المؤمن يعتقد ان كل ما ينفقه من مال او علم او جاه في سبيل الله فإن الله سبحانه يزيد منه في الدنيا لقوله تعالى :

( لئن شكرتم لأزيدنكم ) (١) مضافا الى الجزاء الاخروي.

والمراد بالشكر المؤدي لزيادة النعمة هو الشكر العملي المتمثل بصرفها في سبيل مرضاته تعالى ونفع خلقه لانهم عياله واحب خلقه اليه انفعهم لعياله فشكر نعمة العلم يكون بتعليم الجاهلين وارشاد الضالين والاصلاح بين المتخاصمين وهكذا.

وشكر نعمة الجاه يكون بالتصدي لقضاء حوائج الآخرين بجلب النفع لهم ودفع المكروه عنهم ـ وشكر نعمة المال يكون ببذله في سبيل تأدية الواجب كإخراج الحق الشرعي المتعلق به والقيام بالنفقة الواجبة عليه لنفسه ولمن تجب نفقته عليه كأبويه وزوجته واولاده او في سبيل تأدية المستحب وهو كل ما عدا الواجب من الصدقات المقربة من الله سبحانه والنافعة للمجتمع.

ولا يراد بالشكر مجرد الشكر القولي المتمثل بحمد الله سبحانه والثناء عليه لتفضله وإحسانه بالنعمة لأن هذا النوع من الشكر وإن كان افضل من العدم ولكنه لا يكون غالباً مصدرا لزيادة النعمة التي وعد الله

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٧.

١٤٥

بها عباده الشاكرين ويؤكد ذلك قوله تعالى : ( اعملوا آل داود شكراً ) (١)

دور الشكر العملي في زيادة النعمة ودوامها :

فالمؤمن حيث يعتقد بمكأفاة الله له على صرف نعمته في سبيل إطاعته ـ بزيادتها له ودوامها عنده مع دفع البلاء عنه في هذه الدنيا مضافا الى ما سيجازيه به غدا يوم القيامة من النعيم الخالد والسعادة الابدية.

أجل : إن المؤمن حيث انه يعتقد بحصول عملية التعويض هذه المعجلة والمؤجلة فهو يقدم على البذل بكرم وسخاء بدون اي تردد وهذا معنى قول الإمام علي عليه‌السلام : ( من أيقن بالخلف جاد بالعطية ).

ومن فوائد الكرم المعجلة حصول المحبة والتقدير للكريم الباذل من قبل من يحسن اليهم ويتفضل بجوده وعطائه عليهم من افراد اسرته وابناء عشيرته وسائر افراد المجتمع ويترتب على فائدة هذه المحبة وذلك التقدير منفعة اخرى وهي مقابلته بالمثل عندما يتبدل يسره بالعسر وغناه بالفقر كما هو طبع الدهر ـ فيقدمون له المساعدة وقت عسره كما قدم لهم ذلك يوم يسره وعسرهم انطلاقا من قوله تعالى :

( هل جزاءُ الإحسان إلا الإحسانُ ) (٢).

وقال الشاعر مشيرا الى هذا المضمون :

أحسن الى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسانُ

وحصول المفاجآت السلبية وان كان متوقعا في كل مكان وزمان الا

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية : ١٣.

(٢) سورة الرحمن ، الآية : ٦٠.

١٤٦

ان عدم استقرار الوضع الامني والاقتصادي في هذا البلد يجعل احتمال حصولها اقوى وهذا يقتضي قوة اهتمام بعضهم ببعض وخصوصا المؤمنين منهم ليحصلوا بذلك فائدة هذا الاهتمام معجلا في هذه الدنيا ومؤجلا هناك:

( يوم لاينفع مالُ ولابنون * إلا من أتى الله بقلب سليم ) (١).

مدح الجود والسخاء وذم البخل والبخلاء :

وحيث ان صفة الكرم اجمل وانبل الصفات الانسانية التي ترفع وتنفع صاحبها في الدنيا والآخرة فقد ورد مدحها والثناء على المتصف بها في العديد من الآيات الكريمة والروايات المباركة.

من الآيات قوله تعالى :

( ومن يُوق شُح نفسه فأُولئك هم المفلحون ) (٢).

ومن الروايات ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : « السخاء شجرة من شجر الجنة متدلية الى الارض من اخذ منها غصنا قاده ذلك الغصن الى الجنة » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما جبل الله أولياءه الا على الكرم وحسن الخلق » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد عن النار ـ والبخيل بعيد عن الله بعيد عن الناس بعيد عن الجنة قريب من النار ».

وحيث ان البخل ضد الكرم فقد ورد ذمه وذم المتصفين به في العديد من الآيات والروايات ـ من الاول قوله تعالى :

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآيتان : ٨٨ ـ ٨٩.

(٢) سورة الحشر ، الآية : ٩.

١٤٧

( ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ اتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون مابخلوا به يوم القيامة ) (١).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « إياكم والشح انه اهلك من كان قبلكم حملهم على ان يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم ».

وقد ذكرت في بداية الحديث ان اهل البيت عليهم‌السلام كانوا مجلين في ميدان الكرم والسخاء وان هذه الصفة كانت السمة البارزة في حياتهم ولذلك يكون حثهم على الكرم ونهيهم عن البخل ـ قوي التأثير بسبب اقترانه بالعمل والتطبيق وقد اشتهر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ونفس الشيء يقال في حق الإمام علي عليه‌السلام لانه نفسه بنص آية المباهلة ولذلك كان متجملا بكل الصفات الحميدة التي كان الرسول متجملا بها وكذلك ابناؤه كان كل واحد منهم المثل الاعلى والقدوة المثلى في كل الصفات الكمالية وخصوصا صفة الكرم ـ ويؤكد ذلك ما روي عن الإمام الحسن عليه‌السلام من انه جاءه اعرابي ليسأله فقال عليه‌السلام اعطوه ما في الخزانة وكان بقدر عشرين الف درهم فدفعت له فقال : يا مولاي الا تركتني ابوح بحاجتي وانشر مدحتي فأجابه الامام عليه‌السلام بقوله :

نحن أناس نوالنا خضل

يرتع فيه الرجاء والامـــل

تجود قبل السؤال انفسنا

حرصا على ماء وجه من يسل

ما ورد في كرم الإمام الحسن عليه‌السلام :

وقال أنس بن مالك : حيت الحسن جاريته بطاقة ريحان فقال لها : أنت حرة لوجه الله فقلت له : حيتك جاريتك بطاقة ريحان فأعتقتها؟

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٠.

١٤٨

فقال عليه‌السلام هكذا أدبنا ربنا اذ قال تعالى :

( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ) (١). وكان أحسن منها عتقها.

وروي عنه قوله عليه‌السلام :

إن السخاء على العباد فريضة

لله تقرأُ في كتاب مـحكم

وعد العباد الاسخياء جنــانه

وأعد للبخلاء نار جهنـم

من كان لا تندى يـداه بنـائل

للراغبين فليس ذاك بمسلم


وروي عنه ايضا انه اشترى بستانا من قوم من الانصار بأربعمائة الف درهم ثم بلغه انهم احتاجوا الى ما في ايدي الناس فرده عليهم.

كما روي عنه انه سمع رجلا يسأل الله ان يرزقه عشرة آلاف درهم فانصرف عليه‌السلام الى منزله وبعث بها اليه.

ما ورد في كرم الإمام الحسين عليه‌السلام :

ورويت القصة التالية في كرم الإمام الحسين عليه‌السلام وحاصلها انه وفد اعرابي الى المدينة فسأل عن اكرم الناس فيها فدل على الإمام الحسين عليه‌السلام وعندما وصل الى منزله وجده قائما يصلي فقام بإزائه وانشأ يقول :

لم يخب الان من رجاك ومن

حرك من دون بابك الحلقة

أنت جــواد وأنت معتمـد

أبوك قد كان قاتل الفسـقة

لولا الذي كان من أوائلكم

أمست علينا الجحيم منطبقة

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٨٦.

١٤٩

فسلم الحسين عليه‌السلام وقال يا قنبر هل بقي من مال الحجاز شيء؟.

قال نعم أربعة آلاف دينار فقال هاتها فقد جاء من هو احق بها منا ثم نزع برده ولف الدنانير بها واخرج يده من شق الباب حياء من الاعرابي وانشأ يقول :

خـــذها فـإنـي إليـك معتذر

واعلم بأني عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا (١) الغداة عصا

كانت سمانا عليك منـدفقة

لكن ريب الزمـان ذو غـــير

والكف مني قليلة النفــقة

فأخذها الاعرابي وبكى فقال له الحسين عليه‌السلام : لعلك استقللت ما اعطيناك؟ قال : لا ولكن كيف يأكل التراب جودك؟.

أهل البيت هم القدوة المثلى في الكرم وغيره :

والبذل العظيم والسخاء المثالي الجسيم الذي قدمه الإمام الحسين عليه‌السلام ، على صعيد التضحية والفداء في سبيل نصرة الحق والدفاع عنه هو جوده بنفسه النفيسة واولاده الاحباء واخوانه الاعزاء واصحابه الاوفياء حتى اصبح مضرب المثل والقدوة المثلى في هذا المجال ومصداقا لقول الشاعر :

يجود بالنفس إن ضن الجبان بها

والجود بالنفس اقصى غاية الجود

وما ذكرته ونسبته اليه والى البعض الآخر من أهل البيت عليهم‌السلام يعتبر لمحة خاطفة ونفحة عاطرة من نفحات الكرم والعطاء الذي تجمل

__________________

(١) السير من الجلد ونحوه ـ ما يقد منه مستطيلا ( من المعجم الوسيط ج ١ ص ٤٦٧ ).

١٥٠

به أهل بيت العصمة وما ينسب الى بعضهم من الصفات الكمالية يوجد في الباقين منهم لانهم كلهم نور واحد ولان مصدر صفاتهم النبيلة مشترك بينهم وهو الذوبان في حب الله سبحانه وارادته وذلك يؤدي بطبعه الى الذوبان في دينه وشريعته بحيث يصبح كل واحد منهم قرآناً ناطقا وإسلاما عمليا متحركا.

ونحن عندما ننسب هذه الفضائل السامية اليهم ونتحدث بها عنهم لا نقصد بذلك مجرد التبرك كما لا نقصد ابداء الاعتزاز والافتخار بأن أئمتنا الذين نواليهم وننتمي اليهم ـ قد بلغوا القمة في الكمال والفضيلة.

أجل : إن التحدث عن هؤلاء العظماء لا ينبغي ان يكون بدافع من هذه الدوافع الذاتية العاطفية بل ينبغي ان يكون بقصد التنبه والتنبيه على ما تجملوا به من الصفات الحميدة والاخلاق المجيدة من اجل ان نقتدي بهم ونترسم خطاهم بالايمان الصادق والعمل الصالح والخلق الفاضل وبذلك نحقق ما امرنا الله به من مودتهم على لسان رسوله الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى : ( قل لا اسألكم عليه اجراً إلا المودة في القربى ) (١).

كما نمتثل أمره سبحانه لنا باطاعتهم بقوله :

( يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم ) (٢).

ومن المعلوم من حكمته تعالى ورحمته انه لم يأمرنا بمودتهم وباطاعتهم الا باعتبار رجوع ذلك الى اطاعته وعبادته وحده لا شريك له وقد ذكرت اكثر من مرة وفي اكثر من حديث ان الله سبحانه لم يخلقنا ويأمرنا بالعبادة الا من اجل ان نتوصل بها الى الكمال والسعادة وقد

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٥٩.

١٥١

شرحت ذلك بصورة مفصلة في بعض الخطب السابقة.

ويسرني ان اذكر في ختام هذا الحديث خلاصته فأقول :

حيث ان الله سبحانه اوجدنا في هذه الدنيا من اجل ان نزرع في حقلها التقوى والعمل الصالح وننال بذلك ما نحتاج اليه فيها من الامور التي يتوقف عليها نظام حياتنا ومعاشنا كما ننال بعد ذلك النعيم الخالد والسعادة الابدية في جوار الله سبحانه بعد مغادرة هذه الحياة.

أجل : حيث ان الله سبحانه برحمته وحكمته اراد لنا ذلك فقد امرنا بتوفير ما يوصل اليه من الايمان الصادق والعمل الصالح ومن الواضح ان اطاعته سبحانه غير مقصورة على امتثال الاحكام الالزامية ـ وهي الواجبات والمحرمات ـ بل تشمل المستحب مع الواجب والمكروه مع الحرام ـ ومن المعلوم ان الانسان المؤمن الملتزم بخط السماء بإيمانه الصادق وخلقه الفاضل وعمله الصالح يحقق بذلك ما اراد الله سبحانه له ان يصل اليه ويحصل عليه من السعادة والرفعة في الدنيا والآخرة.

وقد اشار الله سبحانه الى ذلك بقوله تعالى :

( ولو ان أهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ) (١).

بالإيمان الصادق والخلق الفاضل والعمل الصالح

تنال السعادة في الدنيا والآخرة :

ومن الواضح لدى المؤمن الرسالي ان كل ما ينفعه ويرفعه من

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٩٦.

١٥٢

الاعمال الصالحة والاخلاق الفاضلة ـ في هذه الحياة ـ يمضي معه لينفعه ويرفعه هناك في دار الخلود وان كل ما يضره ويخفض مقامه هنا من الاعمال المنحرفة عن خط السماء والصفات الذميمة يضره هناك ايضا وقد صرح الله سبحانه بذلك بقوله تعالى :

( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يرهُ ) (١).

وقوله تعالى : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أُولئك هم شر البرية * إن الذين امنوا وعملوا الصالحات أُولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبداً رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربهُ ) (٢).

وقد صرح الله سبحانه بالمضمون الاخير في سورة العصر ومنها استوحيت الابيات التالية وقد مر ذكرها في بعض الخطب السابقة وهي :

والعصر إن المرء في خســران

وشقاوة ومـذلة وهــوان

إلا الألى عـرفوا الإله وطبـقوا

نهج الهدى وشريعة الـقرآن

وغداً يوصي بعضهم بعضا هنـا

بالحق والصبر الجميل الباني

والسلام عليكم أيها الإخوان الاعزاء والابناء الاحباء اولا وآخراً ورحمة الله وبركاته.

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآيتان : ٧ ـ ٨.

(٢) سورة البينة ، الآيات : ٦ ، ٧ ، ٨.

١٥٣

الخطبة الخامسة عشر (١)

من وحي ميلاد الرسالة والرسول

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

والسلام عليكم ايها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته وبعد :

قد تحدثت إليكم في الاسبوع الماضي بوحي من مناسبة ميلاد نبينا الامين الصادق وحفيده جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام.

وحاصل ما ذكرته في هذا الحديث ان الاحتفال بمناسبة ميلاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتبر في الواقع احتفالا بمناسبة ميلاد الرسالة ولهذا الاحتفال اسلوبان احدهما تقليدي عادي ظاهري والآخر احتفال عملي حقيقي.

____________

(١) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة لإكمال حديث سابق حول مولد الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفيده جعفر الصادق عليه‌السلام في ٩ ـ ٨ ـ ١٩٩٦ م.

١٥٤

أما الأول : فهو ما جرت العادة عليه سابقا ولا يزال يكرر لاحقا من قبل المحتفلين بهذه المناسبة الكريمة ويتمثل بإعلان الزينة وتقديم التهنئة مع إقامة الاحتفال الخطابي لإلقاء الكلمات والقصائد المشتملة على المدح والاطراء لصاحب الذكرى ـ ثم ينتهي الاحتفال وينطوي زمانه من دون ان يترتب اي اثر عملي في سلوكنا بحيث يكون وضعنا العام والخاص ـ بعد الاحتفال على ما كان عليه قبله.

والاحتفال بهذا المقدار وبهذا الاسلوب وان كان ناقصا لا يفي بالغرض المطلوب والهدف المنشود من إقامة مثل هذه الاحتفالات الا انه يبقى افضل من العدم المطلق. ويظل المطلوب والمتوقع منا ونحن نعيش في ظل ثقافة عصرية شاملة وصحوة اسلامية مباركة ـ ان نطور هذا الاحتفال ونتجاوز به الاسلوب التقليدي الناقص الى الاسلوب العملي الكامل وهو الذي يتمثل بتعلم احكام الرسالة والعمل بقوانينها في مختلف مجالات حياتنا مع الدفاع عنها باللسان والقلم فكريا وبالسلاح المادي اذا لزم الامر عسكريا.

وأهم وسيلة للدفاع عن رسالتنا المقدسة وازالة العقبات من طريق انتشارها وانتصارها فكريا وماديا هي دراستها بوعي وعمق مع العمل بتعاليمها العادلة الكاملة وتطبيقها على الصعيد الخارجي تطبيقا مقترنا بالتجمل والاتصاف بما تحمله من مثُل سامية ومكارم عالية تتمثل بالسماح والانفتاح والعدالة والمساواة في كل المجالات ومع جميع الفئات والطبقات بلا فرق بين المسلمين وغيرهم وبهذا الاسلوب يتحقق الاحتفال العملي الحقيقي باعتبار ان الاحتفال معناه التقدير والاحترام

١٥٥

والإيمان بالرسالة والعمل بأحكامها من اوضح مصاديق الاحترام لها والاحتفاء بها.

ويتحقق بذلك ايضا تمهيد السبيل امامها لتشق طريقها الى سائر الافكار والاقطار متألقة بصورتها الحقيقية ـ لأن هذا الاسلوب من الاحتفال ـ يمثل في واقعه دعوة صامتة الى الرسالة الاسلامية والالتزام بنهجها القويم ـ منطلقة من قول الامام الصادق عليه‌السلام : ما حاصله : كونوا لنا دعاة صامتين وقوله عليه‌السلام : كونوا زينا لنا ولا تكونوا شيناً علينا ، وبكل ما تقدم يتحقق هدف الدفاع عن الرسالة بأسلوب وقائي يدفع عنها شبهات الرجعية والقصور وعدم القدرة على تحقيق اهداف الحياة للجيل المعاصر ومن المعلوم ان الوقاية خير من العلاج.

وإذا نظرنا بدقة الى مصدر تلك الشبهات التي اثيرت حول الاسلام وتعاليمه العادلة الخالدة ـ من قبل اعدائه الشرقيين والغربيين نجد ان سبب إثارتها هو انحراف اكثر المسلمين عن نهجه القويم وصراطه المستقيم الامر الذي ادى الى تفرقهم بعد الوحدة وضعفهم بعد القوة وتخلفهم بعد التقدم وقد سبب ذلك سريان الشبهة الى ابناء الامة الاسلامية وتأثرهم بها وخصوصا من سافر منهم الى الخارج لتلقي دراسته هناك في اجوائه المحمومة وافكاره المسمومة مع ان الاسلام بريء من كل تلك الشبهات واذا كانت هناك مسؤولية عن التخلف الذي اصاب الامة مؤخرا فهي تناط وتربط بالامة نفسها لانها ابتعدت عن رسالتها فكرا وعملا فابتعدت عن تقدمها وحضارتها الاصيلة واصبحت بذلك مصداقا لقوله تعالى :

( وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) (١).

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١٨٨.

١٥٦

والى ما ذكرنا أشار الشاعر بقوله :

يقولون في الإسلام نقص لأنه

يعوق ذويه عن ضروب التقدم

فإن كان ذا حقاً لماذا تقـدمت

أوائلنا في عصرها الــمـتقدم

إذا كان ذنب المسلم اليوم جهله

فماذا على الإسلام من ذنب مسلم


دعوة الأمة الإسلامية الى الحوار الهادىء مع أهل الكتاب :

وبعد معرفة نوع الاحتفال الحقيقي والاحتفاء الواقعي المناسب لشخصية الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعظمة رسالته ـ يطلب منا القيام به لنثبت بذلك واقعية انتمائنا لها وتمسكنا بها.

واهم امر يطلب منا ان نقوم به في هذا المجال لنكون محتفلين عمليا بعيد ميلاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو خروج الامة الاسلامية من حدود الطائفية الضيقة المقيتة ـ بالانفتاح على كل الطوائف في مجال الفكر والعقيدة وابداء الاستعداد للتفاهم بالحوار الهادىء الهادف وبأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة انطلاقا من قوله تعالى :

( * ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) (١).

وقوله تعالى : ( قل ياهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد إلا الله ولانشرك به شيئا ولايتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) (٢).

وبعد الحوار بالاسلوب الاسلامي الحكيم يبقى المسلم على انفتاحه وسماحه حتى مع عدم اقتناع الطرف المقابل بما يحمله من عقيدة

__________________

(١) سورة العنكبوت : الآية : ٤٦.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٦٤.

١٥٧

وما ينتمي اليه من شريعة لان الاختلاف في الرأي والمعتقد والاتجاه لا يقتضي ان يفسد للود وحسن التعامل ـ قضية بل يعمل كل على شاكلته في مجال العمل والتعبد لله سبحانه ـ ويلتقي الجميع بعد ذلك على صعيد الحياة الاجتماعية التقاء الإنسان بأخيه الإنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان إيجابية مشرقة تدعو للصدق والامانة والتعاون على المصلحة العامة العليا للوطن والمواطنين كلهم بلا استثناء وهذا ما دعا القرآن الكريم اليه ورغب فيه بقوله تعالى :

( لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم ان تولوهم ومن يتولهم فأُولئك هم الظالمون ) (١).

دعوة الأمة الإسلامية الى الانفتاح وترك التعصب المذهبي :

كما يطلب من الأمة الإسلامية وبطريق اولى ان تخرج من حدود المذهبية والتعصب الاعمى المفرق وذلك بانفتاح اصحاب المذاهب بعضهم على بعض في مجال الفكر والمذهب بالحوار الهادي وبأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة وبعد ذلك ان حصل اتفاق واقتناع من قبل احد الطرفين بما يذهب اليه ويقتنع به الاخر فهذا توفيق من الله سبحانه يستحق الشكر عليه.

وإذا بقي خلاف كلي او جزئي يطلب من الجميع بقاؤهم على احترامهم لبعضهم وتعاونهم على تحقيق ما يعود على الجميع بالخير

__________________

(١) سورة الممتحنة ، الآيتان : ٨ ، ٩.

١٥٨

والمصلحة العامة مؤكدين ذلك بالالتفات والتنبه الواعي الى الاخوة الايمانية الشاملة للكل لتجعل منهم أسرة واحدة ابوها الاسلام وأمها الشريعة وهدفها رضا الله سبحانه وعبادته وحده لا شريك له بما يراه كل مكلف وظيفته الشرعية المطلوبة منه.

واختلاف الافراد بالوظيفة الشرعية وطريقة العمل وليس بدعة ولا بدعا في التاريخ بل هو موجود حتى بين ابناء المذهب الواحد فمراجع الشيعة يختلفون في فتاواهم كما ان أئمة المذاهب مختلفون في ذلك والكل متفقون على ان المطلوب من كل شخص مكلف ان يتعبد لله سبحانه بما يراه وظيفته الشرعية على ضوء اجتهاده او تقليده.

ومن المعلوم ان الاختلاف في الفروع وطريقة الاداء في مقام الامتثال لا يؤثر على جوهر الوحدة الاسلامية المطلوبة والمنطلقة من إيمان الكل بأن الرب المعبود بحق واحد والرسول واحد والكتاب واحد وهذا هو مقصود الداعين الى الوحدة الاسلامية فهم يقصدون لفت النظر الى وجود جذورها المبدئية المتمثلة بالاصول الاسلامية الاساسية وهي وحدة الخالق المعبود والرسول والرسالة والمرجع والمصير فتكون الدعوة الى الوحدة بهذا المعنى دعوة الى الالتفات اليها والمحافظة عليها من التمزق بسبب الفتن والنعرات المذهبية التي يثيرها اعداء الامة بين افراد وابناء مذاهبها من اجل ان يضعفوهم بالتفرق والتناحر ويساعدهم ذلك على تحقيق اهدافهم الاستعمارية.

دعوة الأمة الإسلامية الى الاعتصام بحبل الوحدة :

وحيث ان إلتقاء الامة تحت راية الوحدة من أبرز عوامل قوتها التي تمكنها من تحقيق اهدافها الرسالية في مختلف مجالات حياتها كما

١٥٩

تمكنها من الدفاع عن وجودها ومصيرها ومصالحها عندما تتعرض للخطر من قبل اعدائها الظالمين.

بيان حرص الإسلام على وحدة المسلمين :

أجل : حيث ان لوحدة الامة أبلغ الأثر في تحقيق ما يفيدها واتقاء ما يضرها نرى الإسلام قد حث على الاعتصام بها كتابا وسنة وممارسة.

أما الكتاب فآياته الآمرة بالاعتصام بحبل الوحدة عديدة أبرزها قوله تعالى :

( واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا ) (١).

ويأتي قوله تعالى :

( ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) (٢).

مؤكداً لمضمون الآية الاولى الداعية الى الاتحاد والتعاون.

وانطلاقا من حرص الاسلام على تحقق الوحدة والاتحاد بالمعنى السابق وصونهما من التعرض للاهتزاز بسبب الصراعات الطارئة فقد أمر الله سبحانه المتنازعين في أي أمر من الامور ـ بالرجوع الى الله ورسوله ورد النزاع الى شرعهما العادل ليقدم الحل المناسب للجميع وذلك بقوله تعالى :

( يايها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٣.

(٢) سورة الانفال ، الآية : ٤٦.

١٦٠