من وحي الإسلام - ج ١

الشيخ حسن طراد

من وحي الإسلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

أجل : إن فائدة ذكره الله سبحانه في هذه الحالة بالتذكر القلبي الواعي تتمثل بالصبر عليها وعدم التبرم والضجر منها وينال بذلك اولا ان يخف المها ويسهل تحملها حاضرا كما ينال ثانيا الجوائز الكبيرة التي وعد الله بها عباده المؤمنين الصابرين بقوله سبحانه :

( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون * أُولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأُولئك هم المهتدون ) (١).

فائدة ذكر الله سبحانه حال الطاعة والمعصية :

واما فائدة ذكره لله سبحانه حال الطاعة فهي تتمثل بإعطاء الروح لها لان قيمة الاطاعة والعبادة لله سبحانه ودرجة ثوابها تكون بقدر ما يكون الإنسان العابد المطيع متذكرا لعظمته تعالى ومنشدا اليه بسلك الرجاء والطمع في ثوابه والخوف والخشية من عقابه واذا ترقت درجة التذكر والالتفات لعظمة الله ذاتا وحقا وانه اهل ان يطاع ويعبد لذاته لا لعامل الخوف والرجاء فتلك اعظم فائدة ينالها العابد المطيع واسمى مرتبة يرقى اليها على سلم العبودية الواعية الخالصة.

واما فائدة الذكر لله سبحانه حال المعصية فعلا او الاقدام عليها قبل وقوعها فهي تتمثل بالتوبة والرجوع اليه وبترك ذلك الاقدام والتحول منه الى موقف الإنابة الراجحة والتوبة الناجحة التي تعود عليه بالسلامة من مضاعفات الانحراف عن خط الاستقامة في هذه الحياة مع السلامة من الخطر الاكبر والمصاب الاخطر يوم الحساب مضافا الى ما يناله

__________________

(١) سورة البقرة ، الآيات ١٥٥ ، ١٥٦ ، ١٥٧.

١٠١

بالرجوع الى جادة العبودية لله تعالى من المنافع العظيمة والمعنوية والمادية الدنيوية والاخروية

فائدة ذكر الله سبحانه حال الرضا والغضب :

وأما فائدة الذكر لله سبحانه حال الرضا من الآخرين والتجاوب معهم فهي تظهر بالمحافظة على الاستقامته في خط مرضاة الله سبحانه ومنهج عبادته مهما كانت المغريات قوية والضغوطات شديدة لان رضا الله سبحانه وحده هو الذي ينفع ويرفع وسخطه هو الذي يحطم ويدمر كيان المغضوب عليه وبذلك تظهر وتعرف فائدة ذكر الله حال الغضب وهي الاستمرار على منهج العدالة وعدم الانحراف عنها يمينا او شمالا تحت تأثير العامل النفسي الثائر وذلك هو روح العدالة والتقوى التي تعود على صاحبها بالخير العميم والاجر الجسيم الذي ينسى معه الإنسان المؤمن التقي كل المتاعب والمصائب التي تطرأ عليه نتيجة استقامة في خط السماء وعدم تجاوبه مع ميول وأهواء الاعداء.

وقد ترجم الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك بقوله مخاطبا الله سبحانه في مناجاة تبتل وانقطاع : ان لم يكن بك غضب عليّ فلا ابالي ، كما ترجمه سيد الشهداء على صعيد الطف يوم عاشوراء عندما ذبح طفله الرضيع على يده بقوله : هون ما نزل بي أنه بعينك يا رب ، وترجمه ايضا بقوله بلسان المقال او الحال :

رضاك رضاك لا جنات عـــدن

وهل عدن تطيب بلا رضـاك

ولـو قـطـعـتني في الحب إرباً

لما مال الفؤاد إلى ســـواكا

وينسجم مع هذا الجو الإيماني الثابت قول ذلك الشاعر مخاطبا الله تعالى :

١٠٢

وليتك تحلو والحياة مـريرة

وليتك ترضى والانام غضابُ

وليت الذي بيني وبينك عامر

وبيني وبين العـالمين خراب


وإلى نفس هذا المعنى اشرت بمقطوعة شعرية نظمتها سابقا في النجف الاشرف :

كن مع الله والتمس بـرضاه

رحمة منه واستمد ثوابـاً

أقبل الناسُ أم أشاحوا وراحوا

يُرسلون العتاب مراً وصابا

غضبُ الخلق لا يضير إذا ما

دنت للحق واتبعت الصوابا

إن هذي الحياة منجم كسـب

يحتوي الدر ضائعاً والترابا

كن مع الله إن اردت فلاحـاً

واطرح القشر وأخذن اللبابا

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء أولاً وآخراً ورحمة الله.

١٠٣

الخطبة العاشرة (١)

من وحي عاشوراء

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

السلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته وبعد :

قد ادركنا على ضوء الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام في شأن الشعائر الحسينية ودعوتهم الى الاهتمام بها مضافا الى احيائهم لها في عصرهم.

أجل : قد ادركنا على ضوء هذا وذاك ان لإحياء الشعائر الحسينية اهمية كبرى وفائدة عظمى وهذا اصبح واضحا لدى جماهير عاشوراء وانما الشيء الذي كان ولا يزال محاطا بشيء من الخفاء والضبابية هو مدى هذا الإحياء وهل هو محدود ومقصور على ايام العشر الاولى من محرم الحرام في كل عام او ان لذكرى عاشوراء امتدادا شاملا وواسعا بحيث يشمل حدود المكان والزمان والاذهان بصورة عامة؟ ، والصحيح

__________________

(١) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في ٩ ـ ٦ ـ ١٩٩٥ م.

١٠٤

هو الثاني ويتضح ذلك بعد ان ندرك ان الصراع الذي وقع في التاريخ لم يكن صراعا بين الاشخاص لتنتهي عاشوراء بانتهائهم وانما كان صراعا بين مبدأي الحق والباطل والصراع بينهما قد وقع بين افراد اول مجتمع وجد على صعيد هذه الحياة وبذلك ندرك ان لعاشوراء بهذا الاعتبار امتدادا وجذورا ضاربة في اعماق التاريخ ولم يكن حدوثها متأخرا ومقصورا على زمان الامام الحسين عليه‌السلام وخصومه. وقد ذكر لنا القرآن الكريم نموذجا لهذا الصراع المبدئي التاريخي وهو الذي وقع بين ابني آدم هابيل وقابيل وانطلق بعد ذلك في رحاب الزمن حتى وصل الى عصر الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعوته المباركة وزحف بعده حتى وصل الى ذورته في عصر حفيده الامام الحسين عليه‌السلام وتابع زحفه حتى وصل الى زماننا هذا وسيستمر الى ان يبزغ فجر النصر النهائي لمبدأ الحق والعدل والفضيلة على اضدادها على يد المصلح الاكبر الامام المهدي المنتظر ( عج ) عندما يصدر الامر الإلهي بظهوره ليملأ الارض كلها قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

وبامتداد هذا الصراع الى عصرنا تتمثل لنا كربلاء جديدة في كل أرض يحصل فوقها كما تتجدد عاشوراء وتتمثل في كل يوم يحصل فيه اي ذلك الصراع.

وقد ادرك الإمام الصادق عليه‌السلام هذه الحقيقة المبدئية التاريخية فترجمها بقوله عليه‌السلام كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء.

وذلك لان طرفي هذا الصراع في الدرجة الاولى هما المبدآن المذكوران ويسري منهما الى كل من يحملهما من الافراد في كل زمان ومكان ومن الواضح ان الصراع الخارجي مسبوق بالصراع الداخلي الواقع بين هذين المبدأين في عالم الفكر والقلب والنفس.

١٠٥

ويتمثل مبدأ الحق الثابت في هذا العالم بالإيمان بالعقائد الحقة وبما يتفرع منها من النظم العادلة التي تتحقق بتطبيقها عبادة واضعها وهو الله سبحانه وحده لا شريك له ونفع الإنسان فردا ومجتمعا كما اراد تعالى وحيث ان هذه النظم مشرعة من قبل الله تعالى تكون حقا كما ان العمل بها يكون كذلك.

ومن المعلوم ان كل حق في مورد يقابله باطل مناف له ومصطدم معه فالعقيدة الحقة تعارضها وتصادمها العقيدة الباطلة كالالحاد والشرك المنافيين للتوحيد ونظرية تجويز الظلم في حقه تعالى المنافية للإيمان بضرورة اتصافه بالعدل وهكذا سائر العقائد الباطلة مقابلة لما ثبت بالبرهان القاطع حقيته من العقائد الصحيحة المعهودة.

وكذلك القوانين الحقة والنظم العادلة الصادرة عن الله الحق تقابلها النظم الجائرة الصادرة عن غير الله سبحانه من واضعي قوانين البشر فهذه تكون مصداقا للباطل ما دامت صادرة عن غير الله الحق والعمل بالقانون الباطل يكون من مصاديق الباطل ايضا.

وحيث ان الحسين عليه‌السلام قد ذاب في الإسلام عقيدة وشريعة وعملا وفي مقابله خصومه الذين انحرفوا عنه اي عن الإسلام في هذه المجالات فكل من يحمل عقيدته الحقة ويؤمن ويلتزم بشريعته العادلة ويطبق ما تشتمل عليه من احكام وقوانين ـ يكون من أنصار الحسين واتباعه من حيث انه مع الحق والحق معه كأبيه علي عليه‌السلام وبذلك يكون كل واحد من هؤلاء الانصار قد قبل الحسين بقبول الحق كما اراد هو عليه‌السلام عندما قال : فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق ـ وفي المقابل يعرف ان كل من ينحرف عن دين الله الحق بما يحمله من عقيدة باطلة وينتمي اليه ويلتزم به من قانون مناف لشرع الله سبحانه وبما

١٠٦

يمارسه من سلوك منحرف عن خط السماء يكون من انصار خصوم الحسين في جبهة الباطل المحاربة لجبهة الحق في كربلاء المبدأ والنظام والسلوك.

وهذا كله على مستوى الطرح العام والبيان الكلي للمبادىء والنظم والممارسات الحقة العادلة وما يقابلها من ذلك كله مما هو منطلق في خط معاكس.

ومن أجل التوضيح والتصريح نخرج من إطار العموم الى حيز الخاص حيث تبرز لنا صورة الصراع بين الحق والباطل في كربلاء الخارج بعد ان تصورنا حصوله على عالم الفكر والنفس بين المبادىء وما ينشأ منها فنقول :

إذا خرجنا واخرجنا هذا الصراع من عالم الفكر الى حيز الواقع نجد ان اول ساحة تكون مسرحا له هي ساحة الاسرة المجتمع الصغير وبعدها ساحة المجتمع الواسعة ـ حيث توجد في كلتا الساحتين ولافراد كلا المجتمعين الصغير والكبير حقوق وواجبات كما هو معلوم من واقع شريعتنا الاسلامية العادلة الكاملة.

ففي إطار المجتمع الاول حقوق لكل واحد من الزوجين على الآخر ولكل واحد من الابوين حقوق على الاولاد كما ان للاولاد حقوقا عليهما ـ وفي مقابل كل حق واجب كما هو معلوم.

وإذا خرجنا من إطار المجتمع الصغير ـ الاسرة ـ وانطلقنا في رحاب المجتمع الكبير فهنا توجد ايضا حقوق وواجبات بين افراد هذا المجتمع وهي حق الجار على جاره وحق المسلم على أخيه المسلم وحق الإنسان على اخيه في الإنسانية ـ لأن الإنسان أخو الإنسان كما

١٠٧

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وحيث ان الإسلام دين الرحمة والرفق قد شمل بذلك حتى الحيوان وجعل له حقا واجبا ومستحبا على صاحبه ـ وكذلك الحقوق الثابتة بين أفراد الاسرة والمجتمع ـ يراد بها ما هو اعم من الواجب والمستحب.

ومن المعلوم انه في اي مجال يوجد حق وعدل وفضيلة فهناك الاسلام الحق لان ذلك هو روح تشريعه وفلسفة نظمه وتعاليمه كما يوجد كل واحد من اهل البيت المعصومين عليهم‌السلام باعتبار انهم يمثلون بسلوكهم القرآن الناطق والاسلام العملي المتحرك ـ وحيث ان الحسين عليه‌السلام احد افراد هذه العترة الطاهرة فنحن نجده هناك ناصرا للدين الحق وطالبا منا ان نكون من انصاره في معركة المواجهة بينه وبين خصومه.

ومن المعلوم ان نصرته في هذه المعركة انما تكون بنصرة الدين الحق بتعلم اصوله وفروعه والعمل بما توجبه علينا من إعطاء كل ذي حق حقه ابتداء بحق الله سبحانه الثابت له بحكم العقل والمنطق على عباده وهو ان يعبد وحده لا شريك له كما امر ومروراً بالنفس وافراد الاسرة والمجتمع وانتهاء بأي مخلوق مهما كان اذا كان له حق.

ويقابل نصر الدين بما ذكرنا خذلانه وترك نصرته واذا كان نصر الدين الحق نصرا للحسين بالاعتبار المتقدم فخذلانه يكون خذلاناً له اي للحسين ووقوفا الى جانب الباطل ودعما له بطريق غير مباشر لان خذلان الحق يسبب ضعفه من ناحية فاعليته وتأثيره في الساحة العملية ومن المعلوم ان إضعاف المبدأ الحق يؤدي الى نصرة الباطل وسيطرته على انصاره فيكون الخاذل له مشاركا لمحاربه في النتيجة

١٠٨

ولذلك نسب الى الإمام علي عليه‌السلام قوله : في حق جماعة ولومه لهم (١) : إنهم لم ينصروا الباطل ولكنهم خذلوا الحق فأدى ذلك الى انتصار جبهة الباطل على جبهته في ساحة المواجهة.

وبذلك نستطيع ان نميز ونعرف من هو الناصر للحسين ومن هو المحارب او الخاذل له في كل معركة يتصارع فيها الحق والباطل العدل والظلم سواء كان ذلك في عالم الفكر والعقيدة او في عالم العمل والممارسة.

فكل شخص يحمل مبدأ الحق عقيدة في قلبه وينصره بالعمل بمقتضاه ويدافع عنه ويضحي في سبيل حقظه ، يكون من أنصار الحسين في كل زمان ومكان وإذا قتل في هذا السبيل يحشر مع الحسين عليه‌السلام ويحسب من الشهداء المقاتلين بين يديه.

وكل شخص يحمل مبدأ مضاداً لمبدأ الحسين الحق ويقاتل في سبيل نصرة مبدئه الباطل ـ يكون من اعداء الحق والحسين المحاربين له ـ ويلحق به من يؤمن بالحق وعقيدته الصحيحة ولكنه لا يعمل بإيمانه ولا ينصر عقيدته ومبدأه وربما زاد انحرافه السلوكي الى مرحلة يقف فيها ضدها متعاونا على الإثم والعدوان مع أعدائها كما كان وضع أولئك الجهلاء السفهاء الذين آمنوا بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولاية أهل بيته الا ان ضعف ايمانهم مع قوة طمعهم وحرصهم على الدنيا وزينتها الفانية ادى لان يكونوا محلاً لما وصفهم به الفرزدق من كون قلوبهم مع الحسين عليه‌السلام وسيوفهم عليه.

ومما تقدم نعرف ان الإحياء الحقيقي للشعائر الحسينية وباستمرار

__________________

(١) على موقفهم الحيادي السلبي تجاه الحق وأهله.

١٠٩

إنما يكون بتحقيق الاهداف السامية التي جاهد في سبيلها واستشهد من اجلها وهي التي اعلن عنها بصريح قوله عليه‌السلام :

وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي اريد ان امر بالمعروف وانهى عن المنكر واسير بسيرة جدي وابي علي بن ابي طالب إلخ ، فالهدف الاولي الذي انطلق الامام الحسين عليه‌السلام بثروته من اجل تحقيقه هو الاصلاح في امة جده ومن المعلوم ان النهوض بهذه المهمة ليس مقصورا عليه ومختصا به بل هو مشترك بينه وبين سائر افراد الامة وفي كل ادوار التاريخ كفريضة الصلاة والصيام وسائر الفرائض الإسلامية.

وحيث ان القيام بدور الاصلاح في الامة وبين افرادها متوقف على اصلاح النفس في الدرجة الاولى تمهيدا للقيام بهذا الدور الكبير في إطار المجتمع كما هو واضح ، يتعين في حق كل مكلف يريد ان يقوم بهذا الواجب المقدس قيامه اولا بمقدمته وبما يتوقف عليه كما يجب على من يريد ان يأتي بالصلاة مثلا على الوجه المشروع الصحيح ان يأتي بمقدماتها المعهودة ويتجنب موانعها وقواطعها.

فإذا توفق لاصلاح نفسه اولا واستطاع بعد ذلك ان يقوم بدور الاصلاح العام في امة الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأمر بالمعروف بعد فعله وينهى عن المنكر بعد تركه يكون بذلك محييا للشعائر الحسينية بالإحياء العملي المستمر كما يريد الله ورسوله وأئمة أهل البيت جميعهم عليهم وعلى جدهم الاكرم افضل التحية وازكى التسليم.

وإذا قامت الافراد بهذه المهمة المقدسة وفعلت اهم معروف امر الله به وهو الاعتصام بحبل الوحدة والتضامن وتركت اخطر منكر نهى عنه وهو التمزق والتفرق تكون الامة نفسها وهي الأم الطاهرة لأبنائها البارة

١١٠

قد نهضت بأقدس واجب وساهمت مساهمة فعالة بإحياء الشعائر الحسينية واعدت واستعدت لاستعادة دور الشريعة الاسلامية والنظم السماوية لتقود الأمة المحمدية من جديد تحت راية الحق والعدل الى هدف السعادة والسلام والتضامن والوئام.

وبهذا وذاك يتحقق الاحياء العملي الحقيقي للذكرى الحسينية المجيدة وقد اشرت الى ذلك بمقطوعة شعرية مخاطبا بها الإمام الحسين عليه‌السلام :

ذكـراك لا تحيى بــقـول رثاء

كلا ولا بمدائح الشـعـراء

ذكراك فــوق المدح تـرقى بالذي

أُعطيته من رفعة وعــلاء

ذكراك تحيى يوم نـحيي وحــدة

نقضي بقوتها على الاعـداء

ونسير (١) في درب التقى بتضامن

وتــعاطف ومودة وإخـاء

الله قائــدنـا الوحيد وقــصدنا

نصر الهدى والشرعة الغراء

وإزالة الطاغــوت من اوطـاننا

وجميع من يحميه من عملاء

وإعادة الإسلام فــينـا حاكمـا

بالعدل في السراء والضـراء

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء أولاً وآخراً ورحمة الله.

__________________

(١) هذه الأبيات الاربعة المتممة لهذه المقطوعة حصل الاشتراك فيها بين هذه المقطوعة ومقطوعة اخرى نظمتها بمناسبة الاحتفال بعيد المولد النبوي.

١١١

الخطبة الحادية عشر (١)

فلسفة الابتلاء

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

والسلام عليكم ايها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته :

وبعد : قال الله سبحانه في محكم كتابه المجيد : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أُولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأُولئك هم المهتدون ) (٢).

اذا كان المراد من البلاء الوارد في قوله تعالى : ( ولنبلونكم ) هو الابتلاء والامتحان يتوجه نحونا حينئذ سؤالان :

السؤال الأول : ما معنى ان يمتحن الله عباده وهو العالم بأوضاعهم

__________________

(١) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) في ٢٦ ـ ١٢ ـ ١٤١٥ هـ الموافق ٢٦ ـ ٥ ـ ١٩٩٤ م.

(٢) سورة البقرة ، الآيات : ١٥٥ ، ١٥٦ ، ١٥٧.

١١٢

واحوالهم قبل وجودهم في هذه الحياة وبعده الى ان يرث الارض ومن وما عليها وبذلك يرتفع موضوع الاختيار الذي يصدر من اجل معرفة حال الممتحن كالأستاذ يمتحن طلابه لمعرفة الناجح وغيره والاب ولده ليعرف بره وعدمه والصديق صديقه ليعرف إخلاصه والزوجة زوجها وبالعكس ليعرف كل واحد منهما وفاء الآخر وإخلاصه له وهكذا؟.

السؤال الثاني : ما معنى ان يبتلي الله عباده بهذه المحن والمصائب وهو ارحم الراحمين الذي سبقت رحمته غضبه ووسعت كل شيء؟.

وحاصل الجواب على السؤال الاول : ان الإمتحان مرة يكون للتعرف على حال الممتحن والإطلاع على وضعه واخرى يكون من اجل ان يعرف الانسان نفسه ويطلع الآخرون من الناس على واقع حاله من حيث قوة الايمان وضعفه والممتنع في حقه سبحانه هو الأول دون الثاني كما هو واضح وفلسفة هذا الامتحان بمعناه الثاني هي ان الكثيرين من الناس يكونون في حال الرخاء والسلام على حالة جيدة من الالتزام الديني والبروز بالمظهر الحسن الذي يوحي للآخرين بأنه قد بلغ المرتبة العالية في الالتزام الشرعي وربما طرأ عليه الاعجاب والغرور بحاله وحصل له الاطمئنان بأنه قد بلغ هذه الدرجة.

فلسفة الابتلاء في هذه الحياة :

وحيث ان الله سبحانه هو الحق فلا يرضى من الأنسان الا بالإيمان الحق القائم على اساس ثابت وراسخ ولا يعرف واقع ذلك الا بعد مرور الشخص بتجربة صعبة ومحنة شديدة اشار الله سبحانه الى بعض انواعها بالآية المذكورة.

١١٣

وفي حال إصابته بشيء من ذلك اذا بقي على وضعه الاول من الالتزام بخط السماء بالايمان الصادق والاستقامة في خط التقوى يعرف انه قوي العقيدة وثابت الموقف لا تزيده المصيبة الا ثباتا على منهج الحق بعقيدته واستقامته وتسليمه لقدر الله سبحانه ورضاه به منتظرا احد امرين اما الفرج والسلامة ليقابل ذلك بشكر الله سبحانه على تفضله باستجابة دعائه وكشف بلائه او استمرار المصيبة وبقاءها الى اجل غير مسمى ليقابل ذلك بالاستمرار على الصبر والتسليم وينال ثواب الصابرين وجائزتهم التي اشار الله سبحانه اليها بقوله في آخر الآية المذكورة.

( أُولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمةُ وأُولئك هم المهتدون ) (١).

وإذا حصل منه تبدل وتغير في الوضع بتحوله من موقف الالتزام والاستقامة في العقيدة والسلوك الى موقف الانحراف عنه فإنه بذلك يظهر واقعه امام نفسه والآخرين وان التزامه الذي كان عليه لم يكن قائما على اساس ثابت بدليل اهتزاز موقفه وتغير تصرفه من الاستقامة الى الإنحراف ليكون مصداقا لقوله تعالى :

( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن اصابه خير اطمأن به وإن اصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين ) (٢).

وكما يكون الامتحان بالمصيبة كذلك يكون بالنعمة والتكليف الحقيقي الواقعي الذي صدر من المولى بقصد العمل والامتثال او الظاهري الذي لم يصدر منه لذلك بل لمجرد الاختبار والامتحان فقط.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٥٧.

(٢) سورة الحج ، الآية : ١١.

١١٤

ونجاح المؤمن في امتحان النعمة يكون :

أولاً : باعترافه بكونها من الله سبحانه وتوفيقه وليست لمجرد توفير الاسباب المادية العادية المتعارفة فيكون ذلك منطلقا من إيمانه بمؤدى قوله تعالى : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) (١).

وثانياً : بصرف هذه النعمة في سبيل إطاعته تعالى انطلاقا من إيمانه بأنه سبحانه إنما وفقه لنيل هذه النعمة ومن بها عليه من اجل ان يستعين بها على اطاعته وعبادته التي خلقه من اجلها وبنجاحه في هذا الامتحان ينال من الله سبحانه جوائز معجلة في هذه الحياة ومؤجلة الى اليوم الموعود.

أما الأولى : فتتمثل بزيادة النعمة ودوامها وطول العمر ودفع البلاء وقد ابرم ابراما كما تقدم في خطبة سابقة.

والمصداق الواضح للمؤمن الناجح بهذا الامتحان هو النبي سليمان على نبينا وعليه فضل التحية والسلام كما تقدم مفصلا حيث اعترف بأن ملكه الواسع كان من فضل الله سبحانه وقد من به عليه ليبلوه ويمتحنه ايشكر الله عليه بصرفه في سبيل اطاعته ام يكفر بصرفه في غير هذا السبيل؟ وحيث صرفه في السبيل الاول وحقق بذلك واجب الشكر كان ناجحا في إمتحان النعمة ونال الجوائز العظمى والفوائد الكبرى في الدنيا والآخرة وذلك هو الفوز العظيم.

ويأتي قارون في المقابل ليكون المثال الواضح للإنسان الراسب في إمتحان النعمة حيث انكر كونها من الله سبحانه وادعى انها إنما حصلت

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ٥٣.

١١٥

له لعمله وقدرته الذاتية البشرية وذلك هو الكفر القلبي الباطني وترتب عليه الكفر الظاهري العملي بامتناعه عن دفع الحق الشرعي الذي امره الله به بواسطة النبي موسى عليه‌السلام ونال بذلك جزاءه العادل وخسارته الكبرى عندما خسف الله به وبداره الارض وخسر بذلك الدنيا والآخرة وهذا هو الخسران المبين

نجاح المؤمن في امتحان التكليف :

وأما النجاح في امتحان التكليف الواقعي فهو يكون بالالتزام به إيمانا وعملا مهما كانت الصعوبات ما لم تصل الى درجة الضرر او الحرج لان الشارع يرفع عنه الالزام في احد هذين الفرضين الا مع فريضة الجهاد المقدس الذي يتوقف عليه حفظ الدين من الزوال وتحرير الوطن من الاحتلال وانقاذ الشعب من الاذلال والاستغلال حيث يبقي على وجوبه والالزام به مهما كانت التضحية جسيمة لان الهدف اسمى والغاية أعلى وأغلى.

والناجح في هذا الامتحان ينال جائزته المعجلة بتحصليه مصلحة الواجبات بفعلها وسلامته من مفسدة المحرمات بتركها واذا اراد ان يضيف مصلحة المستحبات الضعيفة بفعلها مع الواجبات مع اضافته ترك المكروهات الى ترك المحرمات ليسلم من مفسدتها الخفيفة فذلك نور على نور وبذلك يعرف مصدر الرسوب والفشل في هذا الامتحان لأنه بضدها تتميز الاشياء وتكون نتيجة رسوبه هي حرمانه من المصلحة ووقوعه في المفسدة وهذه عقوبة معجلة.

وأما عقوبته المؤجلة فهي واضحة ومعلومة.

وقد نال الحسين عليه‌السلام الدرجة العالية من النجاح في امتحان

١١٦

النعمة بما من الله به عليه من نعمة منصب الإمامة والجاه العريض والمال الكثير والذرية الصالحة المعصومة وغير ذلك من النعم والآلاء الجسيمة وذلك لأنه سخر ذلك كله وصرفه في سبيل مرضاة الله سبحانه وصون شريعته الغراء من الزوال والفناء كما نجح في امتحان التكليف الصعب الذي توجه نحوه من اجل حفظ الدين وصونه من التحريف والتزييف.

بلوغ الإمام الحسين عليه‌السلام قمة النجاح في امتحان البلاء والتكليف :

وقد نهض بمسؤولية هذا التكليف وضحى في سبيل امتثاله بنفسه النفيسة واولاده الاحباء واخوته الاعزاء واصحابه الاوفياء كما عرض عياله ومن بقي من ابنائه لاقسى الوان المشقة والعناء ايام سبيهم والانتقال بهم من بلد الى بلد ونال الإمام زين العابدين عليه‌السلام النصيب الاوفر من الالم النفسي والعذاب الجسمي في هذا السبيل.

أجل : لقد نال الامام الحسين عليه‌السلام الدرجة السامية بل الاسمى والاعلى من النجاح في امتحان التكليف الشاق والصعب حيث امتثله بصبر وتجلد وهو يقول بلسان الحال او المقال :

إن كان دين محمد لم يستقم

إلا بقتلي يا سيوف خذيني

ويقول أيضا بهذا اللسان الصادق والإيمان الواثق :

رضاك رضاك لا جنات عدن

وهل عدن تطيب بلا رضاك

ولو قطعتني في الحب إربـاً

لما مال الفؤاد إلى سواكــا

وكذلك نال هذه الدرجة الارقى من النجاح في امتحان البلاء حيث واجه تلك المحن والخطوب التي نزلت عليه واحاطت به من كل جانب

١١٧

بقوة صبر ورحابة صدر مناجيا ربه بقوله عليه‌السلام : هون ما نزل بي أنه بعينك يا رب.

وتبعه كل من كان معه بنيل الدرجة العالية من النجاح في هذا الامتحان العسير حيث قدموا المثل الاعلى في التضحية والفداء والاخلاص والوفاء لقائدهم ورسالتهم مستبشرين بما سينالونه من النعيم الخالد والسعادة الابدية في ظل جوار الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته المعصومين والتابعين لهم بإحسان وحسن أولئك رفيقاً.

وعلى العكس من هؤلاء أولئك الاعداء الذين سقطوا في اصعب امتحان ونالوا الذل والهوان وفي الآخرة اعظم الخسران.

نجاح إبراهيم وابنه إسماعيل في امتحان التكليف الظاهري :

وأما الامتحان بالتكليف الظاهري فقد وقع بوضوح مع النبي إبراهيم وابنه إسماعيل عندما رأى في المنام انه مأمور بذبح ولده هذا ورؤيا النبي حق ولذلك اعتقد بأنه مكلف بذبحه بالتكليف الواقعي كالصلاة والصيام والحج ونشأ عن هذا الاعتقاد اقدامه على الامتثال بالذبح فعلا وكذلك حصل للولد اعتقاد بأنه مأمور واقعا بتقديم نفسه قربانا لله وتقربا منه فأقدم على التنفيذ معبرا عن رضاه به وتسليمه لأمر ربه بقوله :

( يأبتي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء اللهُ من الصابرين ) (١).

ومن المعلوم أن النجاح في هذا الامتحان يكون بنفس الإقدام على

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ١٠٢.

١١٨

العمل والامتثال ولا يتوقف على حصوله خارجا لعدم كونه مطلوبا للمولى ومقصودا له من هذا التكليف الظاهري.

وقد بلغ هذان النبيان العظيمان قمة النجاح في هذا الامتحان الصعب عندما اسلما امرهما لله سبحانه واقدم الوالد على تقديم ولده الصغير الوحيد الذي من الله به عليه حال الشيخوخة والكبر واقدم الولد على تقديم نفسه النفيسة قربانا له سبحانه.

وبعد حصول النجاح في هذا الامتحان الإلهي وتحقق ما اراد الله سبحانه تحققه بواسطته من ظهور مقام هذين النبيين الرفيع ومنزلتهما الايمانية السامية.

أجل بعد حصول ذلك كشف الله سبحانه لهما عن واقع الرؤيا وان المقصود المطلوب منهما واقعا هو الاقدام على الذبح لا نفسه وذلك بقوله تعالى :

( ونـدينه أن يإ براهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ) (١).

وتكرر هذا النوع من الامتحان بالتكليف الظاهري مع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولده الروحي علي بن ابي طالب عليه‌السلام وذلك عندما طلب منه بأمر من الله سبحانه ان ينام في فراشه ليلة هجرته ليكون ذلك مغطيا لانسحابه من بين المشركين المحيطين بالمكان بانتظار مجيء الوقت المحدد للهجوم على شخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقضوا على حياته الشريفة وكانت الدلائل والامارات الظاهرية توحي بأن القتل الذي كان سيصيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو بقي في فراشه يفرض اصابته لعلي عليه‌السلام ووقوعه عليه ومع هذا اقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ان يقدم شخص علي وهو ولده الروحي فداء

__________________

(١) سورة الصافات ، الآيتان ١٠٤ ـ ١٠٥.

١١٩

للرسول والرسالة كما أقدم علي على أن يقدم نفسه المطمئنة فداء لهما

نجاح الرسول وعلي عليه‌السلام في امتحان التكليف الظاهري :

وقد نال النجاح الباهر في هذا الامتحان الصعب وبالدرجة التي نالها النبيان المذكوران واذا كان فداء اسماعيل وصونه من الذبح بذبح عظيم فإن فداء الإمام علي عليه‌السلام وحفظه من القتل كان بتخطيط سماوي سليم وتقدير حكيم من اجل ان يقوم بدوره البارز بعد ذلك مع الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ميدان الجهاد والتضحية في سبيل نصر الدين ونشره في الآفاق ليعرفه الناس على حقيقته وواقعه فيدخلوا فيه أفواجا بعد حصول النصر العظيم والفتح المبين كما تحقق ذلك بحول الله وقوته.

وحاصل الجواب على السؤال الثاني : ان المصيبة مرة يحصل للإنسان بإرادته وسوء اختياره واخرى تحصل له بسبب ظلم الآخرين له وثالثة تحصل بقدر وقضاء من السماء.

أما النوع الاول : من المصيبة فلا تصح نسبته الى الله سبحانه لنحتاج الى السؤال عن الوجه في حصوله لهذا الشخص بعد البناء على ما هو الصحيح من ان الإنسان مخير في اعماله وليس مجبورا عليها وبذلك يندفع الاشكال ولا يبقى موضوع للسؤال ويكون هذا الإنسان مصداقا لقوله تعالى : ( وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون ) (١).

وبذلك يعرف الجواب بالنسبة الى النوع الثاني من المصيبة : وهو الحاصل للشخص بسبب ظلم غيره له لان الله سبحانه وان اقتضت حكمته ان يخلق الإنسان حراً مختاراً في افعاله من الناحية التكوينية ولكنه

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١١٨.

١٢٠