الميزان في تفسير القرآن - ج ١٥

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

وقوله : « وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ » مسوق للدلالة على الاستمرار بعد دلالة قوله : « أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً » على أصل الوقوع ، وقيل : إن الجملة من كلام الله سبحانه لا من تمام كلام ملكة سبإ وليس بسديد إذ لا اقتضاء في المقام لمثل هذا التصديق.

قوله تعالى : « وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ » أي مرسلة إلى سليمان وهذا نوع من التجبر والاعتزاز الملوكي تصون لسانها عن اسمه وتنسب الأمر إليه وإلى من معه جميعا وأيضا تشير به إلى أنه يفعل ما يفعل بأيدي أعضاده وجنوده وإمداد رعيته.

وقوله : « فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ » أي حتى أعمل عند ذلك بما تقتضيه الحال وهذا ـ كما تقدم ـ هو رأي ملكة سبإ ويعلم من قوله : « الْمُرْسَلُونَ » أن الحامل للهدية كان جمعا من قومها كما يستفاد من قول سليمان بعد : « ارْجِعْ إِلَيْهِمْ » أنه كان للقوم المرسلين رئيس يرأسهم.

قوله تعالى : « فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ » ضمير جاء للمال الذي أهدي إليه أو للرسول الذي جاء بالهدية.

والاستفهام في قوله : « أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ » للتوبيخ والخطاب للرسول والمرسل بتغليب الحاضر على الغائب ، وتوبيخ القوم من غير تعيين الملكة من بينهم نظير قولها فيما تقدم : « وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ » كما أشرنا إليه.

وجوز أن يكون الخطاب للمرسلين وكانوا جماعة وهو خطأ فإن الإمداد لم يكن من المرسلين بل ممن أرسلهم فلا معنى لتوجيه التوبيخ إليهم خاصة ، وتنكير المال للتحقير ، والمراد بما آتاني الله الملك والنبوة.

والمعنى : أتمدونني بمال حقير لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله فما آتاني الله من النبوة والملك والثروة خير مما آتاكم.

وقوله : « بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ » إضراب عن التوبيخ بإمداده بالمال إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم أي إن إمدادكم إياي بمال لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله قبيح وفرحكم بهديتكم لاستعظامكم لها وإعجابكم بها أقبح.

وقيل : المراد بهديتكم الهدية التي تهدى إليكم ، والمعنى : بل أنتم تفرحون بما

٣٦١

يهدى إليكم من الهدية لحبكم زيادة المال وأما أنا فلا أعتد بمال الدنيا هذا. وبعده ظاهر.

قوله تعالى : « ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ » الخطاب لرئيس المرسلين ، وضمائر الجمع راجعة إلى ملكة سبإ وقومها ، والقبل الطاقة ، وضمير « بِها » لسبإ ، وقوله : « وَهُمْ صاغِرُونَ » تأكيد لما قبله ، واللام في « فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ » و « لَنُخْرِجَنَّهُمْ » للقسم.

لما كان ظاهر تبديلهم امتثال أمره ـ وهو قوله : « وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ » من إرسال الهدية هو الاستنكاف عن الإسلام قدر بحسب المقام أنهم غير مسلمين له فهددهم بإرسال جنود لا قبل لهم بها ولذلك فرع إتيانهم بالجنود على رجوع الرسول من غير أن يشترطه بعدم إتيانهم مسلمين فقال : « ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ » إلخ ، ولم يقل : ارجع فإن لم يأتوني مسلمين فلنأتينهم إلخ ، وإن كان مرجع المعنى إليه فإن إرسال الجنود وإخراجهم من سبإ على حال الذلة كان مشروطا به على أي حال.

والسياق يشهد أنه عليه‌السلام رد إليهم هديتهم ولم يقبلها منهم.

قوله تعالى : « قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ » كلام تكلم به بعد رد الهدية وإرجاع الرسل ، وفيه إخباره أنهم سيأتونه مسلمين وإنما أراد الإتيان بعرشها قبل حضورها وقومها عنده ليكون دلالة ظاهرة على بلوغ قدرته الموهوبة من ربه ومعجزة باهرة لنبوته حتى يسلموا لله كما يسلمون له ويستفاد ذلك من الآيات التالية.

قوله تعالى : « قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ » العفريت ـ على ما قيل ـ المارد الخبيث ، وقوله : « آتِيكَ بِهِ » اسم فاعل أو فعل مضارع من الإتيان ، والأول أنسب للسياق لدلالته على التلبس بالفعل وكونه أنسب لعطف قوله : « وَإِنِّي عَلَيْهِ » إلخ ، وهو جملة اسمية عليه. كذا قيل.

وقوله : « وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ » الضمير للإتيان أي أنا للإتيان بعرشها لقوي لا يثقل علي حمله ولا يجهدني نقله أمين لا أخونك في هذا الأمر.

قوله تعالى : « قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ » مقابلته لمن قبله دليل

٣٦٢

على أنه كان من الإنس ، وقد وردت الروايات عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام أنه كان آصف بن برخيا وزير سليمان ووصيه ، وقيل : هو الخضر ، وقيل : رجل كان عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب وقيل : جبرئيل ، وقيل : هو سليمان نفسه ، وهي وجوه لا دليل على شيء منها.

وأيا ما كان وأي من كان ففصل الكلام مما قبله من غير أن يعطف عليه للاعتناء بشأن هذا العالم الذي أتى بعرشها إليه في أقل من طرفة العين ، وقد اعتنى بشأن علمه أيضا إذ نكر فقيل : ( عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ) أي علم لا يحتمل اللفظ وصفه.

والمراد بالكتاب الذي هو مبدأ هذا العلم العجيب إما جنس الكتب السماوية أو اللوح المحفوظ ، والعلم الذي أخذه هذا العالم منه كان علما يسهل له الوصول إلى هذه البغية وقد ذكر المفسرون أنه كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب ، وربما ذكر بعضهم أن ذلك الاسم هو الحي القيوم ، وقيل : ذو الجلال والإكرام ، وقيل : الله الرحمن ، وقيل : هو بالعبرانية آهيا شراهيا ، وقيل : إنه دعا بقوله : يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها. إلى غير ذلك مما قيل.

وقد تقدم في البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن من المحال أن يكون الاسم الأعظم الذي له التصرف في كل شيء من قبيل الألفاظ ولا المفاهيم التي تدل عليها وتكشف عنها الألفاظ بل إن كان هناك اسم له هذا الشأن أو بعض هذا الشأن فهو حقيقة الاسم الخارجية التي ينطبق عليها مفهوم اللفظ نوعا من الانطباق وهي الاسم حقيقة واللفظ الدال عليها اسم الاسم.

ولم يرد في لفظ الآية نبأ من هذا الاسم الذي ذكروه بل الذي تتضمنه الآية أنه كان عنده علم من الكتاب ، وأنه قال : ( أَنَا آتِيكَ بِهِ ) ، ومن المعلوم مع ذلك أن الفعل فعل الله حقيقة ، وبذلك كله يتحصل أنه كان له من العلم بالله والارتباط به ما إذا سأل ربه شيئا بالتوجه إليه لم يتخلف عن الاستجابة وإن شئت فقل : إذا شاءه الله سبحانه.

ويتبين مما تقدم أيضا أن هذا العلم لم يكن من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب والتعلم.

وقوله : « أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ » الطرف ـ على ما قيل ـ

٣٦٣

اللحظ والنظر وارتداد الطرف وصول المنظور إليه إلى النفس وعلم الإنسان به ، فالمراد أنا آتيك به في أقل من الفاصلة الزمانية بين النظر إلى الشيء والعلم به.

وقيل : الطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر ، وارتداده هو انضمامها ولكونه أمرا طبيعيا غير منوط بالقصد أوثر الارتداد على الرد فقيل : ( قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) ولم يقل : قبل أن يرد. هذا.

وقد أخطأ فالطرف كالتنفس من أفعال الإنسان الاختيارية غير أن الذي يبعث إليه هو الطبيعة كما في التنفس ولذلك لا يحتاج في صدوره إلى ترو سابق كما يحتاج إليه في أمثال الأكل والشرب ، فالفعل الاختياري ما يرتبط إلى إرادة الإنسان وهو أعم مما يسبقه التروي ، والذي أوقع هذا القائل فيما وقع ظنه التساوي بين الفعل الصادر عن اختيار والصادر عن ترو ، ولعل النكتة في إيثار الارتداد على الرد هي أن الفعل لعدم توقفه على التروي كأنه يقع بنفسه لا عن مشية من اللاحظ.

والخطاب في قوله : « أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ » لسليمان عليه‌السلام فهو الذي يريد الإتيان به إليه وهو الذي يراد الإتيان به إليه.

وقيل : الخطاب للعفريت القائل : ( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ ) والمراد بالذي عنده علم من الكتاب عند هذا القائل هو سليمان ، وإنما قاله له إظهارا لفضل النبوة وأن الذي أقدره الله عليه بتعليمه علما من الكتاب أعظم مما يتبجح به العفريت من القدرة ، فالمعنى : قال سليمان للعفريت لما قال ما قال : أنا آتيك بالعرش قبل ارتداد طرفك.

وقد أصر في التفسير الكبير ، على هذا القول وأورد لتأييده وجوها وهي وجوه رديئة وأصل القول لا يلائم السياق كما أومأنا إليه.

قوله تعالى : « فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي » إلى آخر الآية ، أي لما رأى سليمان العرش مستقرا عنده قال هذا ، أي حضور العرش واستقراره عندي في أقل من طرفة العين من فضل ربي من غير استحقاق مني ليبلوني أي يمتحنني أأشكر نعمته أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه أي يعود نفعه إليه لا إلى ربي ومن كفر فلم يشكر فإن ربي غني كريم ـ وفي ذيل الكلام تأكيد لما في صدره من حديث الفضل ـ.

٣٦٤

وقيل : المشار إليه بقوله « هذا » هو التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات.

وفيه أن ظاهر قوله : « فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ » إلخ ، إن هذا الثناء مرتبط بحال الرؤية والذي في حال الرؤية هو حضور العرش عنده دون التمكن من الإحضار الذي كان متحققا منذ زمان.

وفي الكلام حذف وإيجاز ، والتقدير فأذن له سليمان في الإتيان به كذلك فأتى به كما قال : « فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ » وفي حذف ما حذف دلالة بالغة على سرعة العمل كأنه لم يكن بين دعواه الإتيان به كذلك وبين رؤيته مستقرا عنده فصل أصلا.

قوله تعالى : « قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ » قال في المفردات : ، تنكير الشيء من حيث المعنى جعله بحيث لا يعرف ، قال تعالى : « قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها » وتعريفه جعله بحيث يعرف. انتهى.

والسياق يدل على أن سليمان عليه‌السلام إنما قاله حينما قصدته ملكة سبإ وملؤها لما دخلوا عليه ، وإنما أراد بذلك اختبار عقلها كما أنه أراد بأصل الإتيان به إظهار آية باهرة من آيات نبوته لها ، ولذا أمر بتنكير العرش ثم رتب عليه قوله : « نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي » إلخ ، والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : « فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ » أي فلما جاءت الملكة سليمان عليه‌السلام قيل له من جانب سليمان : « أَهكَذا عَرْشُكِ » وهو كلمة اختبار.

ولم يقل : أهذا عرشك بل زيد في التنكير فقيل : ( أَهكَذا عَرْشُكِ )؟ فاستفهم عن مشابهة عرشها لهذا العرش المشار إليه في هيئته وصفاته ، وفي نفس هذه الجملة نوع من التنكير.

وقوله : « قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ » المراد به أنه هو وإنما عبرت بلفظ التشبيه تحرزا من الطيش والمبادرة إلى التصديق من غير تثبت ، ويكنى عن الاعتقادات الابتدائية التي لم يتثبت عليها غالبا بالتشبيه.

وقوله : « وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ » ضمير « قَبْلِها » لهذه الآية أي الإتيان بالعرش أو لهذه الحالة أي رؤيتها له بعد ما جاءت ، وظاهر السياق أنها تتمة

٣٦٥

كلام الملكة فهي لما رأت العرش وسألت عن أمره أحست أن ذلك منهم تلويح إلى ما آتى الله سليمان من القدرة الخارقة للعادة فأجابت بقولها : « وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها » إلخ ، أي لا حاجة إلى هذا التلويح والتذكير فقد علمنا بقدرته قبل هذه الآية أو هذه الحالة وكنا مسلمين لسليمان طائعين له.

وقيل : قوله : « وَأُوتِينَا الْعِلْمَ » إلخ ، من كلام سليمان ، وقيل : من كلام قوم سليمان ، وقيل من كلام الملكة ، لكن المعنى وأوتينا العلم بإتيان العرش قبل هذه الحال ـ وهي جميعا وجوه رديئة ـ.

قوله تعالى : « وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ » الصد : المنع والصرف ، ومتعلق الصد الإسلام لله وهو الذي ستشهد به حين تؤمر بدخول الصرح فتقول : ( أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) ، وأما قولها في الآية السابقة : « وَكُنَّا مُسْلِمِينَ » فهو إسلامها وانقيادها لسليمان عليه‌السلام.

هذا ما يعطيه سياق الآيات وللقوم وجوه أخر في معنى الآية أضربنا عنها.

وقوله : « إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ » في مقام التعليل للصد ، والمعنى : ومنعها عن الإسلام لله ما كانت تعبد من دون الله وهي الشمس على ما تقدم في نبإ الهدهد والسبب فيه أنها كانت من قوم كافرين فاتبعتهم في كفرهم.

قوله تعالى : « قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ » إلى آخر الآية ، الصرح هو القصر وكل بناء مشرف والصرح الموضع المنبسط المنكشف من غير سقف ، واللجة المعظم من الماء والممرد اسم مفعول من التمريد وهو التمليس ، والقوارير الزجاج.

وقوله : « قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ » كأن القائل بعض خدم سليمان مع حضور من سليمان ممن كان يهديها إلى الدخول عليه على ما هو الدأب في وفود الملوك والعظماء على أمثالهم.

وقوله : « فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها » أي لما رأت الصرح ظنت أنه لجة لما كان عليه الزجاج من الصفاء كالماء وكشفت عن ساقيها بجمع ثيابها لئلا تبتل بالماء أذيالها.

وقوله : « قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ » القائل هو سليمان نبهها أنه ليس بلجة

٣٦٦

بل صرح مملس من زجاج فلما رأت ما رأت من عظمة ملك سليمان وقد كانت رأت سابقا ما رأت من أمر الهدهد ورد الهدية والإتيان بعرشها لم تشك أن ذلك من آيات نبوته من غير أن يؤتى بحزم أو تدبير وقالت عند ذلك : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) إلخ.

وقوله : « قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » استغاثت أولا بربها بالاعتراف بالظلم إذ لم تعبد الله من بدء أو من حين رأت هذه الآيات ثم شهدت بالإسلام لله مع سليمان.

وفي قوله : « وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ » التفات بالنسبة إليه تعالى من الخطاب إلى الغيبة ووجهه الانتقال من إجمال الإيمان بالله إذ قالت : « رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي » إلى التوحيد الصريح فإنها تشهد أن إسلامها لله مع سليمان فهو على نهج إسلام سليمان وهو التوحيد ثم تؤكد التصريح بتوصيفه تعالى برب العالمين فلا رب غيره تعالى لشيء من العالمين وهو توحيد الربوبية المستلزم لتوحيد العبادة الذي لا يقول به مشرك.

( كلام في قصة سليمان (ع))

١ _ ما ورد من قصصه في القرآن : لم يرد من قصصه عليه‌السلام في القرآن الكريم إلا نبذة يسيرة غير أن التدبر فيها يهدي إلى عامة قصصه ومظاهر شخصيته الشريفة.

منها : وراثته لأبيه داود قال تعالى : « وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ » ص : ٣٠ ، وقال « وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ » النمل : ١٦.

ومنها : إيتاؤه الملك العظيم وتسخير الجن والطير والريح له وتعليمه منطق الطير وقد تكرر ذكر هذه النعم في كلامه تعالى كما في سورة البقرة الآية ١٠٢ والأنبياء الآية ٨١ ، والنمل الآية ١٦ ـ ١٨ ، وسبإ الآية ١٢ ـ ١٣ وص الآية ٣٥ ـ ٣٩.

ومنها : الإشارة إلى قصة إلقاء جسد على كرسيه كما في سورة ص الآية ٣٣.

ومنها : الإشارة إلى عرض الصافنات الجياد عليه كما في سورة ص الآية ٣١ ـ ٣٣.

ومنها : الإشارة إلى تفهيمه الحكم في الغنم التي نفشت في الحرث كما في سورة الأنبياء الآية ٧٨ ـ ٧٩.

ومنها : الإشارة إلى حديث النملة كما في سورة النمل الآية ١٨ ـ ١٩.

٣٦٧

ومنها : قصة الهدهد وما يتبعها من قصته عليه‌السلام مع ملكة سبإ سورة النمل الآية ٢٠ ـ ٤٤.

ومنها : الإشارة إلى كيفية موته عليه‌السلام كما في سورة سبإ الآية ١٤.

وقد أوردنا ما يخص بكل من هذه القصص من الكلام في ذيل الآيات المشيرة إليها الموضوعة في هذا الكتاب.

٢ _ الثناء عليه في القرآن : ورد اسمه عليه‌السلام في بضعة عشر موضعا من كلامه تعالى وقد أكثر الثناء عليه فسماه عبدا أوابا قال تعالى : « نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ » ـ ص : ٣٠ ، ووصفه بالعلم والحكم قال تعالى : « فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً » الأنبياء : ٧٩ وقال « وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً » النمل : ١٥ وقال : « وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ » النمل : ١٦ ، وعده من النبيين المهديين قال تعالى : « وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ » النساء : ١٦٣ ، وقال : « وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ » الأنعام : ٨٤.

٣ _ ذكره عليه‌السلام في العهد العتيق : وقعت قصته في كتاب الملوك الأول وقد أطيل فيه في حشمته وجلالة أمره وسعة ملكه ووفور ثروته وبلوغ حكمته غير أنه لم يذكر فيه شيء من قصصه المشار إليها في القرآن إلا ما ذكر أن ملكة سبإ لما سمعت خبر سليمان وبناءه وبيت الرب بأورشليم وما أوتيه من الحكمة أتت إليه ومعها هدايا كثيرة فلاقته وسألته عن مسائل تمتحنه بها فأجاب عنها ثم رجعت (١).

وقد أساء العهد العتيق القول فيه عليه‌السلام فذكر (٢) أنه عليه‌السلام انحرف في آخر عمره عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام فسجد لأوثان كانت تعبدها بعض أزواجه.

وذكر أن والدته كانت زوج أوريا الحتي فعشقها داود عليه‌السلام ففجر بها فحبلت منه فاحتال في قتل زوجها أوريا حتى قتل في بعض الحروب فضمها إلى أزواجه فحبلت منه ثانيا وولدت له سليمان.

__________________

(١) الإصحاح العاشر من الملوك الأول.

(٢) الإصحاح الحادي عشر والثاني عشر من كتاب صموئيل الثاني.

٣٦٨

والقرآن الكريم ينزه ساحته عليه‌السلام عن أول الرميتين بما ينزه به ساحة جميع الأنبياء بالنص على هدايتهم وعصمتهم وقال فيه خاصة : « وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ » بقرة : ١٠٢.

وعن الثانية بما يحكيه من دعائه عليه‌السلام لما سمع قول النملة : « رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ » النمل : ١٩ ، فقد بينا في تفسيره أن فيه دلالة على أن والدته كانت من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

٤ _ الروايات الواردة في قصصه عليه‌السلام : الأخبار المروية في قصصه وخاصة في قصة الهدهد وما يتبعها من أخباره مع ملكة سبإ يتضمن أكثرها أمورا غريبة قلما يوجد نظائرها في الأساطير الخرافية يأباها العقل السليم ويكذبها التاريخ القطعي وأكثرها مبالغة ما روي عن أمثال كعب ووهب.

وقد بلغوا من المبالغة أن ما رووا أنه عليه‌السلام ملك جميع الأرض ، وكان ملكه سبعمائة سنة ، وأن جميع الإنس والجن والوحش والطير كانوا جنوده ، وأنه كان يوضع في مجلسه حول عرشه ستمائة ألف كرسي يجلس عليها ألوف من النبيين ومئات الألوف من أمراء الإنس والجن.

وأن ملكة سبإ كانت أمها من الجن ، وكانت قدمها كحافر الحمارة وكانت تستر قدميها عن أعين النظار حتى كشفت عن ساقيها حينما أرادت دخول الصرح فبان أمرها ، وقد بلغ من شوكتها أنه كان تحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة تحت يد كل ملك أربعمائة ألف مقاتل ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد اثنا عشر ألف مقاتل إلى غير ذلك من أعاجيب الأخبار التي لا يسعنا إلا أن نعدها من الإسرائيليات ونصفح عنها (١).

__________________

(١) وعلى من يريد الوقوف عليها أن يراجع جوامع الأخبار كالدر المنثور والعرائس والبحار ومطولات التفاسير.

٣٦٩

( بحث روائي )

في الاحتجاج ، روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه عليهم‌السلام : أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة عليه‌السلام فدك ـ وبلغها ذلك جاءت إليه وقالت له : يا ابن أبي قحافة ـ أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا ـ أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ـ إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ). الحديث.

وفي تفسير القمي ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله عز وجل : « فَهُمْ يُوزَعُونَ » قال : يحبس أولهم على آخرهم.

وفي الاحتجاج ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث قال : والناظرة في بعض اللغة هي المنتظرة ـ ألم تسمع إلى قوله : « فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ »

وفي البصائر ، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن اسم الله الأعظم على ثلاث وسبعين حرفا ـ وإنما كان عند آصف منها حرف واحد ـ فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس ـ ثم تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت ـ أسرع من طرفة عين ، وعندنا نحن من الاسم اثنان وسبعون حرفا ، وحرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أقول : وروي هذا المعنى أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ورواه في الكافي ، عن جابر عن أبي جعفر وعن النوفلي عن أبي الحسن صاحب العسكر (ع).

وقوله : « إن الاسم الأعظم كذا حرفا وكان عند آصف حرف تكلم به » لا ينافي ما قدمنا أن هذا الاسم ليس من قبيل الألفاظ فإن نفس هذا السياق يدل على أن المراد بالحرف غير الحرف اللفظي والتعبير به من جهة أن المعهود عند الناس من الاسم الاسم اللفظي المؤلف من الحروف الملفوظة.

وفي المجمع في قوله تعالى : « قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ » ذكر في ذلك وجوه ـ إلى أن قال ـ والخامس أن الأرض طويت له : وهو المروي عن أبي عبد الله (ع).

أقول : وما رواه من الطي لا يغاير ما تقدمت روايته من الخسف.

٣٧٠

والذي نقله من الوجوه الأخر خمسة أحدها : أن الملائكة حملته إليه. الثاني : أن الريح حملته. الثالث : أن الله خلق فيه حركات متوالية. الرابع : أنه انخرق مكانه حيث هو هناك ثم نبع بين يدي سليمان. الخامس : أن الله أعدمه في موضعه وأعاده في مجلس سليمان.

وهناك وجه آخر ذكره بعضهم وهو أن الوجود بتجدد الأمثال بإيجاده وقد أفاض الله الوجود لعرشها في سبإ ثم في الآن التالي عند سليمان. وهذه الوجوه بين ممتنع كالخامس وبين ما لا دليل عليه كالباقي.

وفيه ، وروى العياشي في تفسيره ، بالإسناد قال : التقى موسى بن محمد بن علي بن موسى ويحيى بن أكثم ـ فسأله. قال : فدخلت على أخي علي بن محمد عليه‌السلام ـ إذ دار بيني وبينه من المواعظ ـ حتى انتهيت إلى طاعته فقلت له : جعلت فداك إن ابن أكثم سألني عن مسائل أفتيه فيها ـ فضحك ثم قال : هل أفتيته فيها قلت : لا. قال : ولم؟ قلت : لم أعرفها ـ قال : ما هي؟ قلت : قال : أخبرني عن سليمان ـ أكان محتاجا إلى علم آصف بن برخيا؟ ثم ذكرت المسائل الأخر :

قال : اكتب يا أخي بسم الله الرحمن الرحيم ـ سألت عن قول الله تعالى في كتابه : « قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ » فهو آصف بن برخيا ـ ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف ـ لكنه أحب أن تعرف أمته من الجن والإنس ـ أنه الحجة من بعده ـ وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ـ ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته ودلالته ـ كما فهم سليمان في حياة داود ـ ليعرف إمامته ونبوته من بعده ـ لتأكيد الحجة على الخلق.

أقول : وأورد الرواية في روح المعاني ، عن المجمع ثم قال : وهو كما ترى انتهى ولا ترى لاعتراضه هذا وجها غير أنه رأى حديث الإمامة فيها فلم يعجبه.

وفي نور الثقلين ، عن الكافي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ـ إلى أن قال ـ وخرجت ملكة سبإ فأسلمت مع سليمان عليه‌السلام.

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ

٣٧١

فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) ).

( بيان )

إجمال من قصة صالح النبي عليه‌السلام وقومه ، وجانب الإنذار في الآيات يغلب على جانب التبشير كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ـ إلى قوله ـ يَخْتَصِمُونَ » الاختصام والتخاصم التنازع وتوصيف التثنية بالجمع أعني قوله : « فَرِيقانِ » بقوله : « يَخْتَصِمُونَ » لكون المراد بالفريقين مجموع الأمة و « فَإِذا » فجائية.

والمعنى : وأقسم لقد أرسلنا إلى قوم ثمود أخاهم ونسيبهم صالحا وكان المرجو أن يجتمعوا على الإيمان لكن فاجأهم أن تفرقوا فريقين مؤمن وكافر يختصمون ويتنازعون في الحق كل يقول : الحق معي ، ولعل المراد باختصامهم ما حكاه الله عنهم في موضع آخر بقوله : « قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ

٣٧٢

أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ » الأعراف : ٧٦.

ومن هنا يظهر أن أحد الفريقين جمع من المستضعفين آمنوا به والآخر المستكبرون وباقي المستضعفين ممن اتبعوا كبارهم.

قوله تعالى : « قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ » إلخ الاستعجال بالسيئة قبل الحسنة المبادرة إلى سؤال العذاب قبل الرحمة التي سببها الإيمان والاستغفار.

وبه يظهر أن صالحا عليه‌السلام إنما وبخهم بقوله هذا بعد ما عقروا الناقة وقالوا له : ( يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) فيكون قوله : « لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ » تحضيضا إلى الإيمان والتوبة لعل الله يرحمهم فيرفع عنهم ما وعدهم من العذاب وعدا غير مكذوب.

قوله تعالى : « قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ » إلخ التطير هو التشؤم ، وكانوا يتشأمون كثيرا بالطير ولذا سموا التشؤم تطيرا ونصيب الإنسان من الشر طائرا كما قيل.

فقولهم خطابا لصالح : « اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ » أي تشأمنا بك وبمن معك ممن آمن بك ولزمك لما أن قيامك بالدعوة وإيمانهم بك قارن ما ابتلينا به من المحن والبلايا فلسنا نؤمن بك.

وقوله خطابا للقوم : « طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ » أي نصيبكم من الشر وهو الذي تستوجبه أعمالكم من العذاب عند الله سبحانه.

ولذا أضرب عن قوله : « طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ » بقوله : « بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ » أي تختبرون بالخير والشر ليمتاز مؤمنكم من كافركم ومطيعكم من عاصيكم.

ومعنى الآية : قال القوم : تطيرنا بك يا صالح وبمن معك فلن نؤمن ولن نستغفر قال صالح : طائركم الذي فيه نصيبكم من الشر عند الله وهو كتاب أعمالكم ولست أنا ومن معي ذوي أثر فيكم حتى نسوق إليكم هذه الابتلاءات بل أنتم قوم تختبرون وتمتحنون بهذه الأمور ليمتاز مؤمنكم من كافركم ومطيعكم من عاصيكم.

وربما قيل : إن الطائر هو السبب الذي منه يصيب الإنسان ما يصيبه من الخير

٣٧٣

والشر ، فإنهم كما كانوا يتشأمون بالطير كانوا أيضا يتيمنون به والطائر عندهم الأمر الذي يستقبل الإنسان بالخير والشر كما في قوله تعالى : « وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً » إسراء : ١٣ ، وإذ كان ما يستقبل الإنسان من خير أو شر هو بقضاء من الله سبحانه مكتوب في كتاب فالطائر هو الكتاب المحفوظ فيه ما قدر للإنسان.

وفيه أن ظاهر ذيل آية الإسراء أن المراد بالطائر هو كتاب الأعمال دون كتاب القضاء كما يدل عليه قوله : « اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ».

وقيل : معنى « بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ » أي تعذبون ، وما ذكرناه أولا أنسب.

قوله تعالى : « وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ » إلخ قال الراغب : الرهط العصابة دون العشرة وقيل إلى الأربعين انتهى ، وقيل : الفرق بين الرهط والنفر أن الرهط من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة والنفر من الثلاثة إلى التسعة انتهى.

قيل : المراد بالرهط الأشخاص ولذا وقع تمييزا للتسعة لكونه في معنى الجمع فقد كان المتقاسمون تسعة رجال.

قوله تعالى : « قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ » التقاسم المشاركة في القسم ، والتبييت القصد بالسوء ليلا ، وأهل الرجل من يجمعه وإياهم بيت أو نسب أو دين ، ولعل المراد بأهله زوجه وولده بقرينة قوله بعد : « ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا » ، وقوله : « وَإِنَّا لَصادِقُونَ » معطوف على قوله : « ما شَهِدْنا » فيكون من مقول القول.

والمعنى : قال الرهط المفسدون وقد تقاسموا بالله : لنقتلنه وأهله بالليل ثم نقول لوليه إذا عقبنا وطلب الثأر ما شهدنا هلاك أهله وإنا لصادقون في هذا القول ، ونفي مشاهدة مهلك أهله نفي لمشاهدة مهلك نفسه بالملازمة أو الأولوية ، على ما قيل.

وربما قيل : إن قوله : « وَإِنَّا لَصادِقُونَ » حال من فاعل نقول أي نقول لوليه كذا والحال أنا صادقون في هذا القول لأنا شهدنا مهلكه وأهله جميعا لا مهلك أهله فقط.

ولا يخفى ما فيه من التكلف وقد وجه بوجوه أخر أشد تكلفا منه ولا ملزم لأصل الحالية.

٣٧٤

قوله تعالى : « وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » أما مكرهم فهو التواطئ على تبييته وأهله والتقاسم بشهادة السياق السابق وأما مكره تعالى فهو تقديره هلاكهم جميعا بشهادة السياق اللاحق.

قوله تعالى : « فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ » التدمير الإهلاك ، وضمائر الجمع للرهط ، وكون عاقبة مكرهم هو إهلاكهم وقومهم من جهة أن مكرهم استدعى المكر الإلهي على سبيل المجازاة ، واستوجب ذلك إهلاكهم وقومهم.

قوله تعالى : « فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا » إلخ ، الخاوية الخالية من الخواء بمعنى الخلاء ، والباقي ظاهر.

قوله تعالى : « وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ » فيه تبشير للمؤمنين بالإنجاء ، وقد أردفه بقوله : « وَكانُوا يَتَّقُونَ » إذ التقوى كالمجن للإيمان وقد قال تعالى : « وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » الأعراف : ١٢٨ ، وقال : « وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى » طه : ١٣٢.

( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) ).

٣٧٥

( بيان )

إجمال قصة لوط عليه‌السلام وهي كسابقتها في غلبة جانب الإنذار على جانب التبشير.

قوله تعالى : « وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ » معطوف على موضع « أَرْسَلْنا » في القصة السابقة بفعل مضمر والتقدير ولقد أرسلنا لوطا. كذا قيل ، ويمكن أن يكون معطوفا على أصل القصة بتقدير اذكر والفاحشة هي الخصلة البالغة في الشناعة والمراد بها اللواط.

وقوله : « وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ » أي وأنتم في حال يرى بعضكم بعضا وينظر بعضكم إلى بعض حين الفحشاء فهو على حد قوله في موضع آخر : « وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ » العنكبوت : ٢٩ ، وقيل : المراد إبصار القلب ومحصله العلم بالشناعة وهو بعيد.

قوله تعالى : « أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ » الاستفهام للإنكار ، ودخول أداتي التأكيد ـ إن واللام ـ على الجملة الاستفهامية للدلالة على أن مضمون الجملة من الاستبعاد بحيث لا يصدقه أحد والجملة على أي حال في محل التفسير للفحشاء.

وقوله : « بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ » أي مستمرون على الجهل لا فائدة في توبيخكم والإنكار عليكم فلستم بمرتدعين ، ووضع « تَجْهَلُونَ » بصيغة الخطاب موضع « يجهلون » من وضع المسبب موضع السبب كأنه قيل : « بل أنتم قوم يجهلون فأنتم تجهلون ».

قوله تعالى : « فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ » أي يتنزهون عن هذا العمل وهو وارد مورد الاستهزاء.

قوله تعالى : « فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ » المراد بأهله أهل بيته لقوله تعالى : « فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ » الذاريات : ٣٦ ، وقوله : « قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ » أي جعلناها من الباقين في العذاب.

قوله تعالى : « وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ » المراد بالمطر الحجارة من سجيل لقوله تعالى : « وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ » الحجر : ٧٤ ، فقوله : « مَطَراً » يدل بتنكيره على النوعية أي أنزلنا عليهم مطرا له نبأ عظيم.

٣٧٦

( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ

٣٧٧

الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) ).

( بيان )

انتقال من القصص التي قصها سبحانه وهي نماذج من سنته الجارية في النوع الإنساني من حيث هدايته وإراءته لهم طريق سعادتهم في الحياة وإكرامه من اهتدى منهم إلى الصراط المستقيم بالاصطفاء وعظيم الآلاء وأخذه من أشرك به وأعرض عن ذكره ومكر به بعذاب الاستئصال وأليم النكال.

إلى حمده والسلام على عباده المصطفين وتقرير أنه هو المستحق للعبودية دون غيره مما يشركون ثم سرد الحديث في التوحيد وإثبات المعاد وما يناسب ذلك من

٣٧٨

متفرقات المعارف الحقة فسياق آيات السورة شبيه بما في سورة مريم من السياق على ما مر.

قوله تعالى : « قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ » لما قص من قصص الأنبياء وأممهم ما قص وفيها بيان سنته الجارية في الأمم الماضين وما فعل بالمؤمنين منهم من الاصطفاء ومزيد الإحسان كما في الأنبياء منهم وما فعل بالكافرين من العذاب والتدمير ـ ولم يفعل إلا الخير الجميل ولا جرت سنته إلا على الحكمة البالغة ـ انتقل منها إلى أمر نبيه بأن يحمده ويثني عليه وأن يسلم على المصطفين من عباده وقرر أنه تعالى هو المتعين للعبادة.

فهو انتقال من القصص إلى التحميد والتسليم والتوحيد وليس باستنتاج وإن كان في حكمه وإلا قيل : فقل الحمد لله « إلخ » أو فالله خير « إلخ ».

فقوله : « قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ » أمر بتحميده وفيه إرجاع كل حمد إليه تعالى لما تقرر بالآيات السابقة أن مرجع كل خلق وتدبير إليه وهو المفيض كل خير بحكمته والفاعل لكل جميل بقدرته.

وقوله : « وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى » معطوف على ما قبله من مقول القول وفي التسليم لأولئك العباد المصطفين نفي كل ما في نفس المسلم من جهات التمانع والتضاد لما عندهم من الهداية الإلهية وآثارها الجميلة ـ على ما يقتضيه معنى السلام ـ ففي الأمر بالسلام أمر ضمني بالتهيؤ لقبول ما عندهم من الهدى وآثاره فهو بوجه في معنى قوله تعالى : « أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ » الأنعام : ٩٠ ، فافهمه.

وقوله : « آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ » من تمام الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والاستفهام للتقرير ومحصل المراد أنه إذا كان الثناء كله لله وهو المصطفى لعباده المصطفين فهو خير من آلهتهم الذين يعبدونهم ولا خلق ولا تدبير لهم يحمدون عليه ولا خير بأيديهم يفيضونه على عبادهم.

قوله تعالى : « أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً » إلى آخر الآية ، الحدائق جمع حديقة وهي البستان المحدود المحوط بالحيطان وذات بهجة صفة حدائق ، قال في مجمع البيان : ، ذات بهجة أي ذات منظر حسن يبتهج به من رآه ولم يقل : ذوات بهجة لأنه أراد تأنيث الجماعة ولو أراد تأنيث الأعيان لقال :

٣٧٩

ذوات. انتهى.

و« أم » في الآية منقطعة تفيد معنى الإضراب ، و « من » مبتدأ خبره محذوف وكذا الشق الآخر من الترديد والاستفهام للتقرير وحملهم على الإقرار بالحق والتقدير على ما يدل عليه السياق بل أمن خلق السماوات والأرض « إلخ » خير أم ما يشركون. والأمر على هذا القياس في الآيات الأربع التالية.

ومعنى الآية : بل أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم أي لنفعكم من السماء وهي جهة العلو ماء وهو المطر فأنبتنا به أي بذلك الماء بساتين ذات بهجة ونضارة ما كان لكم أي لا تملكون وليس في قدرتكم أن تنبتوا شجرها أإله آخر مع الله سبحانه ـ وهو إنكار وتوبيخ.

وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب بالنسبة إلى المشركين والنكتة فيه تشديد التوبيخ بتبديل الغيبة حضورا فإن مقام الآيات السابقة على هذه الآية مقام التكلم ممن يخاطب أحد خواصه بحضرة من عبيده المتمردين المعرضين عن عبوديته يبث إليه الشكوى وهو يسمعهم حتى إذا تمت الحجة وقامت البينة كما في قوله : « آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ » هاج به الوجد والأسف فتوجه إليهم بعد الإعراض فأخذ في حملهم على الإقرار بالحق بذكر آية بعد آية وإنكار شركهم وتوبيخهم عليه بعدولهم عنه إلى غيره وعدم علم أكثرهم وقلة تذكرهم مع تعاليه عن شركهم وعدم برهان منهم على ما يدعون.

وقوله : « بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ » أي عن الحق إلى الباطل وعن الله سبحانه إلى غيره وقيل : أي يعدلون بالله غيره ويساوون بينهما.

وفي الجملة التفات من الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إلى المشركين ورجوع إلى خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإضراب فيه لبيان أن لا جدوى للسير في حملهم على الحق فإنهم عادلون عنه.

قوله تعالى : « أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً » إلى آخر الآية ، القرار مصدر بمعنى اسم الفاعل أي القار المستقر ، والخلال جمع خلل بفتحتين وهو الفرجة بين الشيئين ، والرواسي جمع راسية وهي الثابتة والمراد بها الجبال الثابتات ، والحاجز هو المانع

٣٨٠