الخلود في جهنّم

محمد عبد الخالق كاظم

الخلود في جهنّم

المؤلف:

محمد عبد الخالق كاظم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 964-7741-74-X
الصفحات: ٢٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الرأي ، فهو بعد نقله الوجهين اللذين ذكرناهما في معنى الآية قال : إن قوله : ( فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ) لايخلو من ظهور في كون المراد بقوله : ( لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) الخلود دون الانقطاع. ١

آية الحقب في الروايات :

١. وفي مجمع البيان عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقاباً ، والحقب بضع وستون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً ، كل يوم كألف سنة مما تعدون فلا يتكلنّ أحد على أن يخرج من النار ، ٢ ورواه ايضاً السيوطي في تفسيره. ٣

٢. وفي تفسير نور الثقلين : عن تفسير علي بن ابراهيم : قوله : ( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ) قال : قائمة : ( لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) ، قال : الاحقاب : السنين ، والحقب سنة ، والسنه ثلاثمائة وستون يوماً ، واليوم كألف سنة مما تعدون. ٤ وفيه أيضاً عن أبي عبدالله عليه‌السلام مثله. ٥

٣. وفي الدر المنثور مروياً عن الحسن ، قال : قال عمر : لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه. ٦ ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى : ( لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ). ٧

٤. وفي الدر المنثور : قال ابن مسعود : ليأتين على جهنم زمان وليس فيها أحد ، وذلك بعدما يلبئون فيها أحقاباً. ٧

٥. وفي تفسير نور الثقلين عن العياشي باسناده عن حمران قال : سالت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : « هذه في الذين يخرجون من النار ». قال : وروى الأحول مثله. ٨

________________

١. تفسير الميزان ، ج ٢٠ ص ١٦٨ ، ١٦٩.

٢. مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٤.

٣. راجع : جلال الدين السيوطي ، الدر المنثور ، ج ٨ ، ص ٣٩٥.

٤. عبد علي العروسي ، نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٩٤.

٥. راجع : المصدر السابق ، ص ٤٩٥.

٦. راجع : الدر المنثور ، ج ٤ ، ص ٤٧٨.

٧. راجع : المصدر السابق.

٨. نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٩٥.

٨١

النتيجة

إن امعان النظر إلى الجانب اللغوي والتفسيري والروائي لمعنى هذه الآية مع لحاظ سياق الآية يقودنا إلى النتائج التالية :

١. ان معنى الأحقاب لغة هي مدة من الزمان مبهمة ، وإذا كان كذلك فهي غير محددة بمدة معينة ، وبناءً على ذلك يمكن القول بأن الآية دالة على اللبث الابدي في النار ، كما استنتج القرطبي بقوله : قال ابن كيسان : قوله : ( لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) لا غاية لها انتهاءً ، فكأنه قال أبداً. ١

٢. ان تفسير الآية على كلا الوجهين اللذين تقدم ذكرهما لا يدل على انقطاع العذاب عن الكفار ، بل يدلّ على دوامه.

٣. الآية وعيد للطاغين المكذبين للمعاد والنبوة وبكل ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما عقبه بقوله : ( إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ) وعلى هذا فالآية غير شاملة للمذنبين ـ من المؤمنين كما ذهبت إليه بعض الروايات ـ حتى يقال إنها لاخراج المذنبين من المؤمنين.

٤. ومما يؤيد كون المقصود من قوله : ( لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) تأبيد العذاب هو قوله تعالى : ( فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ) قال العلامة الطباطبائي : إن المراد بقوله تعالى : ( فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ) أن ما تذوقونه بعد عذاب ذقتموه عذاب آخر ، فهو عذاب بعد عذاب ، وعذاب على عذاب ، فلا تزالون يضاف عذاب جديد إلى عذابكم القديم ، فاقنطوا من أن تنالوا شيئاً مما تطلبون وتحبون. ٢

وقال المراغي : قوله : ( فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ) أن فيها تقريعاً وتوبيخاً لهم في يوم الفصل ، وغضباً من الرحم الراحمين ، وتيئيساً من الغفران. ٣

وقال الشيخ البروسوي : وقد روي عن النبي عليهم‌السلام أن هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار ، أي لأن فيها الاياس من الخروج ، فكلما استغاثوا من

________________

١. تفسير القرطبي ، ج ١٩ ، ص ١٧٩.

٢. تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٦٩.

٣. تفسير المراغي ، ج٣٠ ، ص ١٥.

٨٢

نوع من العذاب اُغيثوا بأشدّ منه ، فتكون كل مرتبة منه متناهية في الشدة وإن كانت مراتبه غير متناهية بحسب العدد والعدة. ١

٥. وبخصوص الروايات التي تفسر الحقب بالسنة أو السنين ، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً واليوم كألف سنة مما تعدون ، هذه الروايات لايقصد بها تحديد الزمان وكون الحقب مدة معينة من الزمان ، بل هي كناية عن أبدية العذاب ، قال الفراء : الحقب ثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً ، اليوم منها ، ألف سنة من عدد الدنيا ، قال : وليس هذا مما يدل على غاية كما يظنّ بعض الناس ، وإنما يدل على الغاية التوقيت خمسة أحقاب أو عشرة فالمعنى أنهم يلبثون أحقاباً ، كلما مضى حقب تبعه حقب آخر. ٢

وأما ما روي عن بعض الصحابة كقول عمر : لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه ، أو قول ابن مسعود : ليأتين على جهنم زمان وليس فيها أحد بعد ما يلبثون فيها أحقاباً. هذه الروايات ونظيراتها كما يقول العلامة ٣ هي من أقوال الصحابة ولا حجة فيها على غيرهم ، ولو فرضت روايات موقوفة لكانت مطروحة بمخالفة الكتاب ، وقد قال تعالى : ( وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ). ٤

فالوجه الصحيح في معنى آية الحقب : فقد ذكر المفسرون ذكروا في معنى الآية وجهين يمكن حمل الآية عليهما ، أما الوجه الذي ذكره القائلون بانقطاع العذاب ، وهو كون الحقب زمناً محدوداً عرفناه أو جهلناه ، وان الآية دالة على انقطاع العذاب ، فهو قول باطل وفاسد ، لانه معارض للكتاب والسنة المصرحة بالخلود في النار.

أما الوجهان المذكوران للمفسرين فالوجه الأول منهما هو كون المقصود من الآية توقيت لنوع العذاب لا لمكثهم في العذاب ، وعلى هذا الاعتبار يكون

________________

١. روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠٧.

٢. تهذيب اللغة ، ج ٤ ، ص ٧٣ ؛ وراجع : لسان العرب ، ج ١ ، ص ٣٢٦.

٣. تفسير الميزان ، ج ١١ ، ص ٣٩ ، ٤٠.

٤. البقرة ، ١٦٧.

٨٣

المقصود من الاحقاب مدة معينة ، ويكون قوله تعالى : ( لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ) حالاً من الضمير المستكن في ( لابثين ) فيكون قيداً للّبث ، فيحتمل أن يلبثوا فيها أحقاباً غير ذائقين إلّا حميماً وغساقاً ، ثم يكون لهم لبث على حال آخر من العذاب ، وكذا إن جعل أحقاباً منصوباً بلايذوقون قيداً له. قال الالوسي : إن فيه بعد ، وقال : ومثله لو جعل ( لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا ) الخ صفة لـ « أحقاباً » وضمير « فيها » لها لا لجهنم ، لكنه أبعد من سابقه. ١

وقال العلامة الطباطبائي : قيل : ( لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا ) الخ صفة « أحقاباً » والمعنى لابثنين فيها أحقاباً هي على هذه الصفة ، وهي أنهم لايذوقون فيها برداً ولا شراباً إلّا حميماً وغساقاً ، ثم يكونون على غير هذه الصفة إلى غير النهاية ، قال : وهو حسن لو ساعد السياق. ٢ ونسبة هذا القول إلى ( قيل ) دليل على ضعفه عنده وقد أشار أيضاً بعدم مساعدة السياق لهذا الاعتبار.

وأما الوجه الثاني ، وهو أن معنى الآية أنهم يلبثون في النار أحقاباً متتابعة لا انقطاع فيها ، فيكون قوله تعالى : ( لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا ) الخ حسب هذا الوجه جملة مستأنفة وليس حالاً ، والضمير في قوله ( فيها ) عائد إلى جهنم.

ومما يؤيد هذا الرأي مانقله الرازي عن الفراء قوله : أصل الحقب من الترادف والتتابع يقال : أحقب ، إذا أردف ، ومنه الحقيبة ، وكل من حمل وزراً فقد احتقب. ٣ ويؤيده أيضاً ما قاله البروسوي حيث قال : وأصل الحقب من الترادف والتتابع يقال : أحقب إذا أردف ، ومنه الحقيبة : وهي الرفادة في مؤخرة القتب ، وكل ما شد في مؤخر رحل أو قتب فقد احتقب ، والمحقب المردف. ٤ ويؤيده كذلك تعريف اللغويين الحقب بمدة من الزمان مبهمة.

فالأولى أن يحمل معنى الآية على الوجه الثاني الذي قبله أكثر المفسرين ، وهو البعيد عن الاشكالات التي ترد على الوجه الأول.

________________

١. روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ١٥.

٢. تفسير الميزان ، ج٢٠ ، ص ١٦٨.

٣. تفسير الكبير ، ج ٣١ ، ص ١٣.

٤. روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠٢.

٨٤

الخلاصة

بعد التفحص والتدقيق عن آراء المفسرين حول هذا الموضوع ، تبين لنا بأن أغلبهم يذهبون إلى اثبات الخلود الأبدي للكفار في النار مقابل عدة محدودة من المخالفين ، والمثبتون يستندون إلى عدد من الأدلة القرآنية القطعية التي لا تقبل الشك في إثبات الخلود ، وقد حصرناها في خمسة أدلة مراعاة لمحدودية البحث ، منها الآيات القرآنية التي ذكر فيها لفظ ( الخلود ) حيث أجمع المفسرون على أن لفظ الخلود قد أستعمل في القرآن بمعنى الدوام ، وبالتالي فان آيات الخلود في جهنم دالة على دوام العقاب ، ومنها الآيات القرآنية التي ذكر فيها لفظ ( المقيم ) ، وقد اتفق المفسرون على أن لفظ ( المقيم ) بمعنى الدائم ، وأن العذاب المقيم بمعنى العذاب الدائم بل وحتى المخالفون للخلود أقروا بأنها بمعنى الدوام ، ومنها الآيات القرآنية التي ذكر فيها عدم خروج أو عدم غياب الكفار عن النار ، وقال العلامة الطباطبائي بأن آيات عدم الخروج من النار حجة على القائلين بانقطاع العذاب عن طريق الظواهر ، أما بخصوص الآية التي ذكر فيها عدم غياب الكفار عن النار ، فقد اعتبرها العلامة الطباطبائي والشيخ الطوسي والطبرسي والآلوسي وإسماعيل حقي بمعنى قوله تعالى : ( وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) الدال على دوام البقاء في النار ، ومنها الآيات التي تتضمن نفي الموت عن أهل النار ، وذهب العلامة الطباطبائي والآلوسي والسيد قطب وإسماعيل حقي إلى أن نفي الموت والحياة عن أهل النار دليل على خلودهم فيها ، أما الآية التي ذكر فيها نفي الموت مع عدم تخفيف العذاب ، فقد استدل بها الفخر الرازي والمراغي وإسماعيل حقي على أبدية العذاب ، ومنها الآيات القرآنية التي أشارت إلى استحالة دخول الكفار إلى الجنة أو حرمتها عليهم.

٨٥

أما المخالفون للخلود الأبدي فقد استندوا ببعض الآيات القرآنية للاستدلال بها على انقطاع العذاب عن الكفار ، منها آيات الخلود في النار التي تتضمن أداة الاستثناء والمقيدة بالمشيئة الالهية ، فاستدل بها ابن قيم الجوزية والدكتور صادقي على انقطاع العذاب. وبعد التحقيق والتدقيق في هذه الآيات تبين بانها غير دالة على انقطاع العذاب ، ولهذا فقد ذهب العلامة الطباطبائي والمراغي ومحمد عبده والعلامة العسكري إلى أن هذه الآيات هي لا ثبات القدرة والمشيئة الالهية ، وليست دالة على انقطاع العذاب. وهناك آية اُخرى تمسّك بها ابن قيم الجوزية والدكتور صادقي وغيرهم لاثبات انقطاع العذاب ، وهي الآية التي قيّدت اللبث في النار بالأحقاب ، وقد ثبت أيضاً لدى المفسرين عدم دلالة هذه الآية على انقطاع العذاب.

٨٦



٣

المخلدون في النار في نظر القرآن

١. الكفار والمشركون

عندما نطالع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الخلود في جهنم ، نجد أول آية في القرآن توعد الكفار بالخلود في النار تتحدث عن المكذبين منهم ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، ١ وقد تكررت هذه الآية أيضاً مع اختلاف يسير في سورة التغابن. ٢

فيما نرى في آية أخرى أنها تضيف إلى الكفار المكذبين وصف المستكبرين ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، ٣ ويخبرنا الباري جلّ شأنه في آية أخرى أن هؤلاء المكذبين والمستكبرين ممنوعون من دخول الجنة إلى الأبد ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ). ٤

________________

١. البقرة ، ٣٩.

٢. راجع : التغابن ، ١٠.

٣. الأعراف ، ٣٦.

٤. الاعراف ، ٤٠.

٨٧

وفي آية أخرى يذكر المكذبين بالقرآن وبالنبوة وبما جاء به الأنبياء عليهم السلام من الدين ، قال تعالى : ( الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) إلى أن قال : ( ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ). ١

وفي سورة النساء أوعد الكفار المحاربين لدين الله بعدم المغفرة لهم وعدم هدايتهم إلى طريق الجنة ، بل يهديهم إلى طريق النار الأبدية ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ). ٢

وهكذا نجد في آيات قرآنية عديدة عندما يهدد سبحانه الكفار بالعذاب أو بالخلود في النار ، يتحدث عن نوع خاص من الكفار لا مطلق الكفار ، فيقيدهم تارةً بالمكذبين بالآيات الالهية ، وأخرى بالمكذبين بالكتاب ، وثالثة بالمكذبين بالمعاد ، ورابعة بالمستهزئين بآيات الله ، وخامسةً يضيف إليهم وصف المستكبرين ونحوها من الأوصاف. ٣

وهذة الآيات تدلّ على انّ هؤلاء الكفار قد أرسل إليهم الرسل ، وأنزل عليهم الكتاب ، وتم تبليغهم بما في هذه الكتب من الوعد والوعيد والبعث والجزاء ، وبالنتيجة تمّت عليهم الحجة ، ولكنهم في مقابل ذلك جحدوا بآيات الله ودينه ، وكذّبوا برسله وبما جاؤوا به ، واستكبروا عن قبولها والايمان بها ، فوعدهم الله عزوجل في مقابل كفرهم وتعنتهم بالخلود في العذاب جزاءً لكفرهم وإعراضهم عن قبول الحقّ.

________________

١. غافر ، ٧٠ ـ ٧٦.

٢. النساء ، ١٦٧ ـ ١٦٩.

٣. راجع : الجاثية ، ٣٥ ؛ طه ، ١٠٠ ، ١٠١ ؛ فاطر ، ٣٦ ، ٣٧.

٨٨

وعلى ضوء ماتقدم ثمة سؤال يطرح نفسه ومفاده : ماذا يكون مصير الذين لم يؤمنوا بالله ، ولكنهم لم يكونوا بمكذبين ولا بمستكبرين ؟ فهل نقول إنّهم مخلدون في النار كما يخلد فيها أمثال هؤلاء المستكبرين والمكذبين والمستهزئين بآيات الله ، فهذا مالا يقبله إنسان عاقل فضلاً عن أن يكون مقبولاً عند الله عزوجل لأنّه بمثابة الظلم ، والظلم قبيح ، والله عزّوجلّ منزه عنه.

ولهذا نرى أن القرآن الكريم يحلّ هذه المشكلة باطلاقه على هؤلاء مصطلح المستضعفين والمرجين لأمر الله ، وبالنسبة الى المستضعفين فقد قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ). ١ فالقرآن الكريم في هذه الآية يبيّن لنا معنى الاستضعاف ، ويعين لنا من هم المستضعفون ، والعلامة الطباطبائي يعقب على هذه الآية بقوله : إن الله سبحانه يعدّ الجهل بالدين وكلّ ممنوعية عن إقامة شعائر الدين ظلماً لايناله العفو الالهي ، ثم يستثني من ذلك المستضعفين ويقبل منهم معذرتهم بالاستضعاف ، ثم يعرفهم بما يعمّهم وغيرهم من الوصف ، وهو عدم تمكنهم مما يدفعون به المحذور عن أنفسهم ، وهذا المعنى كما يتحقق فيمن أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقي معارف الدين لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها ، أو لاسبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف للتشديد فيه بما لايطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج والهجرة إلى دار الاسلام والالتحاق بالمسلمين لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر

________________

١. النساء ، ٩٧ ـ ٩٩.

٨٩

مالي ونحو ذلك ، كذلك يتحقق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينية ولم يهتد فكره اليه مع كونه ممن لايعاند الحق ولايستكبر عنه أصلاً ، بل لو ظهره عنده حق اتّبعه ، لكن خفي عنه الحق لشي من العوامل المختلفة الموجبة لذلك. ١

فالمستضعفون من وجهة نظر القرآن هم القاصرون وليسوا المقصرين ، لانّ قصورهم لم يكن باختيارهم ووسعهم ، بل كان إما لعارض عقلي أو جسمي أو اقتصادي قاهر ، ونحوه من العوامل التي جعلتهم بعيدين عن سبيل الهداية ، ولو كان قد عرض عليهم سبيل الهداية لم يكونوا يرفضونها ولم يكونوا يستكبرون عن قبولها ، ولكن غفلوا عن الحق للعوامل ـ التي ذكرناها ـ الخارجة عن وسعهم واختيارهم.

وهناك روايات متضافرة قد أشارت إلى معنى الاستضعاف ، وذكرت من يشملهم هذا المعنى ، ومن هذه الروايات :

١. عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن المستضعف ، فقال : « هو الذي لا يهتدي حيلة إلى الكفر فيكفر ، ولا يهتدي سبيلا إلى الايمان ، لايستطيع أن يؤمن ، ولا يستطيع أن يكفر ، فهم الصبيان ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم ». ٢

٢. عن أبي بصير قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف » ٣

٣. وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سالته عن المستضعف ، فقال : « البلهاء في خدرها ، والخادم تقول لها صلّ فتصلي

________________

١. تفسير الميزان ، ج ٥ ، ص ٥١.

٢. اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٠٤.

٣. المصدر السابق ، ص ٤٠٥.

٩٠

لا تدري إلّا ما قلت لها ، والجليب الذي لايدري إلّا ما قلت له ، والكبير الفاني ، والصبي والصغير ، هؤلاء المستضعفون ، فأما رجل شديد العنق جدل خصم يتولى الشراء والبيع لا تستطيع أن تعينه في شي تقول هذا المستضعف ؟ لا ولاكرامة ». ١

المرجون لأمر الله فقد قال تعالى فيهم ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ). ٢ هذه الآية منطبقة بحسب نفسها على المستضعفين الذين هم الحد الفاصل بين المحسنين والمسيئين ، وان وردت الآية في الثالثة الذي خلّفوا ثم تابوا ، والفرق بينهما أن آية المستضعفين بينت عاقبة امرهم بقوله : ( فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) ففيه إشارة إلى شمول عفو الله تعالى لهم ، أما آية ( مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ ) فلم يبين ما يؤول اليه عاقبة أمرهم. ٣ وقال الشهيد المطهري : وأقصى مايستفاد من آية ( مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ ) أن أعمالهم يفصل فيها الله ، ولكن آية ( المستضعفين ) تشير إلى شمول عفو الله ومغفرته لهم. ٤

وهناك روايات عديدة تشير إلى معنى ( المرجون لأمر الله ) ومن تشملهم هذه الآية ، ومن هذه الروايات :

١. عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ ) قال : « قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ، ثم أنهم دخلوا في الاسلام ، فوحدوا الله وتركوا الشرك ، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنة ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النار ، فهم على تلك الحال مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ». ٥

________________

١. محمد بن مسعود العياشي ، تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ٤٣٥.

٢. التوبة ، ١٠٦.

٣. راجع : تفسير الميزان ، ج ٩ ، ص ٣٨١.

٤. مرتضى المطهري ، العدل الالهي ، ص ٣٧١.

٥. اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٠٧.

٩١

٢. وفي تفسير العياشي عن حمران قال : سالت أبا عبدالله عليه‌السلام عن المستضعفين ، قال : « هم ليسوا بالمؤمنين ، ولا بالكفار ، وهم المرجون لامر الله ». ١

الشرك في الرؤية القرآنية

تحدث القرآن الكريم عن مصير المشركين في الآخرة ، ففي بعض آياته وعدهم بالحرمان من المغفرة الالهية فقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) ، ٢ ونرى في بعض آخر من آياته يوعدهم بالحرمان من دخول الجنة ، قال تعالى : ( مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ) ، ٣ ووعدهم أيضاً في قسم ثالث من آياته بالخلود في النار ، كما في قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ) ، ٤ وقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ... ). ٥

وقد يقال : إن خلود المشركين في النار قد ثبت عند حديثكم عن الكفار ، لأن الشرك من نوع من الكفر فما الفائدة في بحثه هنا بعنوان مستقل ؟

وللاجابة عن هذا السؤال نطرح سؤالاً آخر ، وهو هل إن الخلود في النار عام لجميع المشركين ، وللإجابة عن هذا السوال نطرح أيضاً سؤالاً ثالثاً ، وهو أنه هل يمكن أن يجتمع الشرك مع الايمان ؟ بحيث يكون الانسان مؤمناً ومشركاً في آن واحد.

وقد يكون الجواب في أول الأمر بالنفي ، ولكن عند التمعن في الآيات القرآنية نجد أنه ممكن ، وقد أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) ٦ فالمقصود من الشرك في هذه الآية هو

________________

١. تفسير العياشي ، ج ٢ ، ص ٢٦١.

٢. المائدة ، ٧٢.

٣. النساء ، ١١٦.

٤. التوبة ، ١٧.

٥. البينة ، ٦.

٦. يوسف ، ١٠٦.

٩٢

الشرك في الطاعة ، كما جاء في بعض الروايات عن المعصومين عليهم‌السلام والذي سوف نشير إليه ، ويمسى بالشرك الخفي ، والذي يقابل الشرك الجلي ، وهو الشرك في العبادة ، أي ان يتخذ الانسان معبوداً غيره.

والعلامة الطباطبائي في تعليقه على هذه الآية قال ما ملخصه : بأن تلبّس الانسان بالايمان والشرك معاً مع كونهما معنيين متقابلين ، لايجتمعان في محل واحد نظير تلبّسه بسائر الاعتقادات المتناقضة والاخلاق المتضادة ، إنّما يكون من جهة كونها من العماني التي تقبل في نفسها القوة والضعف ، فتختلف بالنسبة والاضافة ، كالقرب والبعد ، فانّ القرب والبعد المطلقين لا يجتمان ، إلّا أنهما اذا كانا نسبيين لا يمتنعان عن الاجتماع. وبين الشرك والايمان مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين والبعد منه ، وهي التي يجتمع فيه الطرفان بنحو من الاجتماع. فالمراد بالشرك في الآية بعض مراتبه الذي يجامع بعض مراتب الايمان ، وهو المسمى باصطلاح فنّ الأخلاق بالشرك الخفي. ١

وهناك روايات عديدة أشارت إلى هذا المعنى في تفسير الآية الآنفة الذكر ، ومن هذه الروايات :

١. في تفسير القمي مروياً عن الفضيل عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) ، قال : « شرك طاعة وليس شرك عبادة ، والمعاصي التي يرتكبون فهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره ، وليس باشراك عبادة » ٢ وفي تفسير العياشي مروياً عن زراة مثله. ٣

٢. وفي تفسير العياشي ، عن مالك بن عطية ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام في قوله :

________________

١. تفسير الميزان ، ج ١١ ، ص ٢٧٦.

٢. علي بن ابراهيم القمي ، تفسير القمي ، ج ١ ، ص ٣٥٨.

٣. تفسير العياشي ، ج ٢ ، ص ٣٧٣.

٩٣

وَمَا ( يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) قال : « هو قول الرجل : لولا فلان لهلكت ، ولولا فلان لأصبت كذا وكذا ، ولضاع عيالي ، ألا ترى أنه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه ؟ قال : قلت : فيقول : لولا أن مَنّ الله عليّ بفلان لهلكت ؟ قال : نعم لا بأس بهذا ». ١

٣. وفي تفسير العياشي أيضاً مروياً عن زرارة قال : سالت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) قال : « من ذلك قول الرجل : لا وحياتك ». ٢

ونستنتج من كل ما مرّ بأن الشرك الخفي كما أشارت إليه الروايات السابقة من قبيل المعاصي أو الاتكال على الآخرين في دفع الضرر أو كسب المنافع مثل قول بعضهم : لولا فلان لهلكت ، أو القسم بغير الله عز وجل مثل قوله : لا وحياتك ، كل ذلك لا يوجب خروج صاحبه من الايمان ، بل يمكن أن يجتمع معه ، وبالنتيجة فلا يكون المشرك شركاً خفياً مخلداً في النار ، وذلك لبقائه على إيمانه ، على عكس المشرك بالشرك الجلي ، والمسلوب منه الايمان ، وهو السبب في خلوده الأبدي في النار.

٢. المنافقون

لعظم خطورة المنافقين وضررهم على الاسلام والمسلمين ، فقد اهتم القرآن الكريم بأمر المنافقين وذكرهم في العديد من سوره كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم والمجادلة ، فكشف عن أكاذيبهم قال تعالى : ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) ، ٣ وقال : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ

________________

١. المصدر السابق ، ص ٣٧٤.

٢. المصدر السابق ، ص ٣٧٢.

٣. المنافقين ، ١.

٩٤

اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ، ١ وفضح أيضاً عن تآمرهم ضد الاسلام والمسلمين وخداعهم لهم ، حيث قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) ٢ وقال أيضاً : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ) ، ٣ ولاستغراقهم في النفاق والكفر وصفهم تعالى بقوله : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ) ٤ أي إن هؤلاء المنافقين لا يرجعون إلى طريق الهداية بما كسبت أيديهم وبما اختاروا لأنفسهم من الضلال ، فسلب سبحانه المغفرة منهم ، قال تعالى : ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ، ٥ وهذه الآية تشير إلى أن استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهوءلاء المنافقين وعدم استغفاره لهم سواء ، فاستغفاره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كعدمه لأنّه تعالى سوف لن يغفر لهؤلاء بسبب كفرهم وعدائهم للاسلام.

وبما أن هؤلاء المنافقين غير مستحقين للمغفرة من الله عزوجل ، ولن ينالوها أبداً بما قدمت أيديهم ، فهم إذاً مخلدون في النار ، وهذا ما وعدهم الله تعالى ، قال : ( وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) ٦ ففي هذه الآية قدّم سبحانه ذكر المنافقين والمنافقات على الكفار ، لأنهم أسوأ حالاً من الكفار ، لكون خطرهم وكيدهم ومكرهم لهدم كيان الاسلام أشدّ من كيد المشركين واليهود والنصارى حتى قال تعالى عنهم : ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ). ٧

وفي سورة التوبة أيضاً وعدهم بالخلود في النار بقوله تعالى : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا

________________

١. المجادلة ، ١٤.

٢. البقرة ، ٨ ، ٩.

٣. البقرة ، ١١ ، ١٢.

٤. البقرة ، ١٨.

٥. المنافقون ، ٦.

٦. التوبة ، ٦٨.

٧. المنافقون ، ٤.

٩٥

أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَٰلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ). ١ وفي سورة المجادلة نجد أنه سبحانه بعد ذكر مساوئهم توعّدهم بقوله : ( لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ٢ فلا تتفع هؤلاء المنافقين أموالهم ولا أولادهم التي يفتخرون بها في الدنيا ، فهي لا تدع عنهم عذاب النار يوم القيامة ، وسوف يجمعهم الله سبحانه مع الكافرين في النار ، قال تعالى : ( ... إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ٣ فالآية قدمت المنافقين على الكفار إشارةً وتأكيداً على كونهم أسوأ حالاً من الكفار.

٣. الغارقون في الذنوب

الذنوب والمعاصي لها آثار دنيوية كما أن لها أثاراً أخروية من العذاب المنقطع إلى العذاب الدائم المخلد ، ومن آثارها الدنيوية ما جاء في الروايات المتضافرة عن المعصومين عليهم‌السلام ، ومنها :

١. عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « أما إنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلّا بذنب ، وذلك قول الله عزوجل في كتابه : ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) ، قال : ثم قال : وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به ». ٤

٢. عن الفضيل بن يسار ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إن العبد ليذنب الذنب فيزوى عنه الرزق ». ٥

٣. عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ان العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب ، أو إلى وقت بطيء ، فيذنب العبد ذنباً

________________

١. التوبة ، ٦٣.

٢. المجادلة ، ١٧.

٣. النساء ، ١٤٠.

٤. اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٦٩.

٥. المصدر السابق ، ص ٢٧٠.

٩٦

فيقول الله تبارك وتعالى للملك : لا تقض حاجته وأحرمه إياها فانه تعرّض لسخطي واستوجب الحرمان مني ». ١

ومن آثارها الاُخروية هي أن العبد إذا اقترف المعصية واستمر عليها فيؤدي به إلى سلب التوفيق للندم فلا يدع له طريقاً للنجاة ، وقد روي عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء ، فان تاب انمحت ، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه ، فلا يفلح أبداً ». ٢

وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله : ( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، ٣ وقريب من هذا المعنى قد ذكر في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ٤ أي أن هؤلاء الذين ارتكبوا المعاصي والسيئات وصلوا إلى درجة حتى وصفهم القرآن بسواد الوجه ، وهو كناية عن خزيهم ومذلتهم ، فكسب السيئات والاصرار عليها يسوق الانسان نحو الكفر والشرك والتكذيب بآيات الله عز وجل ، قال تعالى : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) ٥ وفي النتيجة يوصله إلى العذاب الخالد ، ويعرضه إلى غضب الله عز وجل ولعنته.

٤. قاتل المؤمن

القرآن الكريم يذكرنا بان قاتل المؤمن عمداً مخلد في النار ، قال تعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ

________________

١. المصدر السابق ، ص ٢٧١.

٢. المصدر السابق.

٣. البقرة ، ٨١.

٤. يونس ، ٢٧.

٥. الروم ، ١٠.

٩٧

عَذَابًا عَظِيمًا ). ١

وقد أغلظ سبحانه في وعيده لقاتل المؤمن ، فذكر في الآية أربع عقوبات له وهي خلود في النار ، والتعرض لغضب الله عزّوجل ، واللعنة عليه مع العذاب العظيم.

هذه الآية واضحة من سياقها أنها نزلت في شأن المؤمنين ، أي المؤمن الذي يقتل مؤمناً آخر على سبيل العمد ، فالآية التي سبقتها قد ذكر فيها سبحانه حكم قتل الخطأ ، أي حكم المؤمن الذي يقتل آخر خطأً ، قال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ) الخ ، ثم عرج على قتل المؤمن عمداً في هذه الآية.

ومن هنا يطرح هذا السؤال ، وهو أن المفسرين متفقون بأن الخلود في النار مختص بالكفار ، وأن المؤمن لا يخلد في النار ، فكيف ذكرت الآية خلود المؤمن القاتل في النار ؟.

وللجواب عن هذا السؤال ذكر المفسرون في معنى الآية عدة وجوه ، وهي :

١. فريق ذهب إلى أن قاتل المؤمن عمداً لا تقبل توبته ، ويؤيده ما روي عن ابن عباس بأن قاتل العمد لا توبة له ، ٢ وتبنّى هذا الرأي الزمخشي ، ٣ ومحمد عبده ، ٤ ويؤيده أيضاً ما روي عن أبي عبدالله عليه‌السلام : أنه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن معتمداً ، أله توبة ؟ فقال : « إن كان قتله لايمانه فلا توبة له ، وإن كان قتله لغضب أو لسبب شيء من أشياء الدنيا فانّ توبته أن يقاد منه ، وإن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول فأقر عندهم بقتل صاحبهم ، فان عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية ، وأعتق نسمة ، وصام شهرين متتابعين ، وأطعم

________________

١. النساء ، ٩٣.

٢. راجع : الدر المنثور ، ج ٢ ، ص ٦٣٠.

٣. تفسير الكشاف ، ج ١ ، ص ٥٤٨ ، ٥٤٩.

٤. تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ٣٣٩ ، ٣٤٠.

٩٨

ستين مسكيناً توبةً إلى الله عز وجل ». ١

ومن الواضح أن الأخذ بظاهر قول الامام عليه‌السلام وقول ابن عباس مخالف لاجماع المسلمين على قبول التوبة من العاصي وإن كان مشركاً أو كافراً ، والشيخ الطبرسي في تعليقه على قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) ، ٢ قال : بأن الله تعالى نفى غفران الشرك ولم ينف غفرانه على كل حال ، بل نفى أن يغفر من غير توبة ، لان الاُمة أجمعت على أنّ الله يغفر بالتوبة. ٣

فالمقصود من قول الامام عليه‌السلام وابن عباس هو عدم توفيق قاتل العمد للتوبة فقد روي عن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « لا يزال المؤمن في فسحة من دينه مالم يصب دماً حراماً ، وقال : لا يوفق قاتل المؤمن متعمداً للتوبة أبداً ». ٤ وعدم توفيقه للتوبة بمعنى أنه لا يختار التوبة ، حيث قال العلامة الطبرسي : ومن قال من أصحابنا أن قاتل المؤمن لا يوفق للتوبة لا ينافي ما قلناه ، لأنّ هذا القول إن صح فانّما يدلّ على أنه لا يختار التوبة مع أنها لو حصلت لأزالت العقاب. ٥

٢. ويرى فريق آخر بأن الآية إخبار منه تعالى بأن ذلك جزاؤه إن جازاه ، وقد يعفو عنه فلا يجازيه ، ويؤيده ما روى عن أبي عبدالله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ) قال : « جزاؤه جهنم إن جازاه ». ٦ وفي مجمع البيان مروياً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثله ، ٧ وفي المجمع أيضاً مروياً عن ابن عباس في قوله : ( فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ) قال : « هي جزاؤه ، فان شاء

________________

١. تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ٤٣١ ؛ وراجع : الشيخ الطوسي ، تهذيب الاحكام ، ج ١٠ ، ص ١٦٣.

٢. النساء ، ٤٨.

٣. مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٥٧.

٤. تهذيب الاحكام ، ج ١٠ ، ص ١٦٥.

٥. مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٩٣.

٦. تهذيب الاحكام ، ج ١٠ ، ص ١٦٥.

٧. مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٩٣.

٩٩

عذبه ، وإن شاء غفر له ». ١ وقد نسب العلامة الطبرسي ٢ ومحمد عبده ٣ هذا القول إلى أبي مجلز.

وذهب العلامة الطباطبائي إلى هذا الرأي حيث قال : بأن قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) ٤ وكذا قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ٥ تصلحان لتقييد هذه الآية ، فهذه الآية توعد بالنار الخالدة ، لكنها ليست بصريحة في الحتم ، فيمكن العفو بتوبة أو بشفاعة. ٦

وقد أشكل الفخر الرازي على هذا الرأي بقوله : بأن هذا الجواب ضعيف ، لأنه ثبت بهذه الآية أن جزاء قتل العمد هو ما ذكر ، وثبت بسائر الآيات أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين ، قال تعالى : ( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) وقال : ( الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) وقال : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) بل إنه تعالى ذكر في هذه الآية ما يدل على أنه يوصل إليهم هذا الجزاء ، وهو قوله : ( وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) فان بيان أن هذا جزاؤه حصل بقوله : ( فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ) فلو كان قوله : ( وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً إخباراً ) عن الاستحقاق كان تكراراً ، فلو حملناه على الاخبار بأنه سيفعل لم يلزم التكرار ، فكان ذلك أولى. ٧

وأشكل عليه الشيخ محمد عبده أيضاً بقوله : وفيه أن الأصل في كل جزاء أن يقع لاستحالة كذب الوعيد كالوعد ، وإن العفو والتجوز قد يقع عن بعض الأفراد لأسباب يعلمها الله ، فليس هذا تفص من خلود بعض القاتلين في النار ، والظاهر أنهم يكونون الأكثرين ، لأن الاستثناء إنما يكون في الغالب للأقلين. ٨

________________

١. المصدر السابق.

٢. المصدر السابق.

٣. تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ٣٤١.

٤. النساء ، ٤٨.

٥. الزمر ، ٥٣.

٦. راجع : تفسير الميزان ، ج ٥ ، ص ٤١.

٧. راجع : تفسير الكبير ، ج ١٠ ، ص ٢٣٩.

٨. تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ٣٤١.

١٠٠