الخلود في جهنّم

محمد عبد الخالق كاظم

الخلود في جهنّم

المؤلف:

محمد عبد الخالق كاظم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 964-7741-74-X
الصفحات: ٢٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

في منزلة بين منزلتين ، فأدى الخلاف في هذه المسألة إلى انفصال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد عن الحسن الصري ، وشكّلوا النواة الأولى لمذهب الاعتزال. ١

قال أبو زهرة : وقد وجد في عهد علي كرم الله وجهه الجدل في مسألة أخرى غير مسألة القدر ، وهي مسألة ( مرتكب الكبيرة ) فإن الجدل في هذه المسألة أثاره الخوارج بعد التحكيم ، إذ حكموا بكفر من رضي بالتحكيم باعتباره كبيرة في نظرهم ، وكفروا علياً (رض) كما كفروا من معه ، وقد جرّ هذا إلى المناقشة في شأن مرتكب الكبيرة أهو مؤمن أو غير مؤمن ؟ وأهو مخلد في النار يوم القيامة أم يرجى له الغفران ؟ وإن رحمة الله وسعت كل شيء ، وأخذ الجدل فيها ينمو ويزيد حتى اختلف العلماء في ذلك اختلافاً كبيراً ، ويعد بعض العلماء هذه المسألة رأس المسائل التي عنوا بها حتى كانت السبب في تسميتهم المعتزلة. ٢

ولكن كل تلك الأحداث كانت لصالح فكرة الخلود في جهنم وتأكيد عليها ، وقد استمرت تلك الحالة بين المتكلمين والمفسرين فيما بعد ، حيث كانوا متفقين في مسألة الخلود في جهنم ، ولم يكن ثمة من يعارض فكرة الخلود في النار حتى القرن السابع الهجري ، ففي هذا القرن برزت آراء معارضة للقول بالخلود في النار من قبل ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم الجوزية ، فذهبوا إلى القول بفناء النار وانقطاع عذاب أهلها.

وأما بالنسبة إلى العرفاء ، فالمشهور أن أول من خالف الخلود في العذاب هو محي الدين ابن عربي ( ٥٦٠ ـ ٦٨٣ ه‍ ) مستدلاً على انقطاع العذاب من أهل النار مع أنه القائل بخلودهم في جهنم ، وتابعه على هذا القول أكثر من تأخر عنه من العرفاء.

________________

١. راجع : هاشم معروف الحسنى ، الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ، ص ٢٢٤ ، ٢٢٥ ؛ فضل الله الزنجاني ، تاريخ علم الكلام في الاسلام ، ص ١١٦.

٢. محمد أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الاسلامية ، ج ١ ، ص ١٠٢.

٢١

٣. الخلود في جهنم عند الأديان

الأول : الأديان المصرية القديمة

يقول المؤرخ اليوناني هيرودوت : إن المصريين هم أول الشعوب الذين اعتقدوا بخلود النفس ، ١ ويذهب البعض إلى أن عقيدة الخلود كانت تحتل مكانةً كبيرةً في نفوس المصريين ، إذ لا يكاد يوجد مصدر تأريخي عن المصريين القدماء إلا وفكرة الخلود والحياة بعد الموت تحتل مكانة الصدارة فيه. ٢

ويقول جان ناس : إنّ المصريين القدماء كانوا يعتقدون بأن السعادة بعد الموت مرتبطة بحفظ البدن ويجب حفظه من دون عيب ، ولذلك فهم ترقوا كثيراً في كيفية حفظ الأبدان من التلف والفساد. ٣ وبالنسبة إلى فكرة الخلود في جهنم فهم كانوا يعتقدون بأن أوزيريس يحاسب الأموات ويوزن أعمالهم من السيئات والحسنات بميزان ، فمن رجحت حسناته السيئات قاده الآلهة المحيطون بأوزيريس إلى جنة الأموات الصالحين حيث يتمتع فيها بالسعادة الخالدة وأما من رجحت مساؤه فانه لا ينجو من هذا الاختبار ، ويحكم عليه بأن يبقى أبد الدهر في قبره يجوع ويظمأ ويفترسه ويمزق جسده كلب مثير للرعب بفمه الفاغر كأتون ، ومخالبه الحادة كسكين ورأسه المدبب كتمساح ، وجسمه البشع كتنين. ٤ وبعض هؤلاء الذين رجحت سيئاتهم حسناتهم تتحول نساؤهم إلى حمر نهمة تنهب أموالهم وتأكل على ظهورهم ، لانهم كانوا يعملون ليل نهار ليضمنوا بقاءهم ، وآخرون لا يملكون سبيلاً إلى الزاد بسبب الحفر التي تزداد وتتسع تحت أقدامهم ، لانهم استأثروا بخيرات الأرض وما شبعوا فعوقبوا بالحرمان جزاء حرمانهم للآخرين. ٥

________________

١. الدكتور فرج الله عبد الباري ، اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والاسلام ، ص ٢٩.

٢. المصدر السابق.

٣. راجع : جان بي ناس ، تاريخ جامع أديان ، ص ٥٨.

٤. راجع : سليمان مظهر ، قصة الديانات ، ص ٤٦ ؛ ويل ديورانت ، قصة الحضارة ، ج ٢ ، ١٦٢.

٥. راجع : المصدر السابق ، ص ٤٦ ، ٤٧.

٢٢

الثاني : الديانة الزرادشتية ( المجوسية )

يقول جان ناس : الدين الزرادشتي أول دين في العالم تحدث عن مسألة الحياة الآخرة والقيامة ، وطرح مسألة آخر الزمان بمفهوم كامل. ١

وفيما يخص بمسألة السعادة والشقاوة للنفوس يقول زرادشت : إن يوم الحساب قريب ، وفي ذلك اليوم ينتصر الإله الواحد على الشر ، عندئذ يبعث الموتى ويقع النجم المذنب على الأرض ، فتشتعل وتذوب جميع المعادن ، فتنتشر على الأرض كأنها سيل ملتهب ، وعلى كل الناس الأحياء والأموات المبعوثين أن يعبروا مجرى السيل الذي يبدو للأرواح الخيرة وكأنه لبن دافيء  ، فيطهّرهم المرور به ويمضون منه إلى الجنة ، وأما الأرواح الشريرة فتظل تحترق إلى الأبد خالدة في المعدن الملتهب. وعندئذ يطرد الإله الخير روح الشر وكل من يتبعه من الأرواح الخبيثة إلى وسط الأرض ويدعها فيها إلى الأبد ، وفي ذلك اليوم يبدأ العالم السعيد الخير الذي لا شر فيه ويدوم سرمدياً. ٢

وعقيدة الزاردشتيين في الجنة والنار قريبة الشبه عن المفهوم الاسلامي للجنة والنار ، فهم يعتقدون بأن هناك قنطرة ، وهو الصراط ، ولابد لأرواح الموتىٰ بأجمعها أن تجتاز الصراط ، فالأرواح الطيبة تجتازها وتصل إلى الجانب الآخر حيث تلقاها وترحب بها فتاة عذراء ذات قوة وبهاء ، وصدر ناهد مليء ، وهناك تعيش مع ( اهوارا ـ مزدا ) ـ أي الإله ـ سعيدة منعمة إلى أبد الدهر.

وأما الروح الخبيثة فلا تستطيع أن تجتاز الصراط ، فتتردى في درك من الجحيم يتناسب عمقه مع ما اقترفت من ذنوب ، ولم يكن هذا الجحيم مجرد دار سفلى تذهب اليها كل الأرواح طيبة كانت أو حبيثة ، كما تصفها الاديان الأقدم عهداً من الدين الزرادشتي ، بل كانت هاوية مظلمة مرعبة تعذب فيها الأرواح المذنبة أبد الآبدين. فاذا كانت حسنات الانسان ترجح على سيئاته

________________

١. راجع : تاريخ جامع أديان ، ص ٤٦٣.

٢. قصة الديانات ، ص ٣٠٠ ، ٣٠١.

٢٣

قاسى عذاباً مؤقتاً يطهره من الذنبوب ، وإذا كان قد ارتكب كثيراً من الخطايا ولكنه فعل بعض الخير ، لم يلبث في العذاب إلّا اثني عشر ألف عام يرفع بعدها إلى السماء. ١

الثالث : الديانة الفيدية ( الديانة الهندية القديمة )

يقول ويل ديورانت : إن الآري الهندي ـ مثل زميله الآري الفارسي ـ بدل أن يعتقد في تناسخ الأرواح على صور متتابعة آمن بعقيدة أبسط ، إذ آمن بالخلود الشخصي ، فالروح بعد الموت تلاقي إما عذاباً أو نعيماً ، فإما أن يلقيها ( فارونا ) في هوة مظلمة سحيقة أو في جهنم ذات السعير ، وإما أن يتلقاها ( ياما ) فيرفعها إلى الجنة حيث كل صنوف اللذائذ الأرضية قد كملت ودامت إلى أبد الآبدين. ٢

الرابع : الديانة اليهودية

يذهب ويل ديورانت إلى أن كتاب العبرانيين المقدس لم يقل إلّا الشيء القليل عن خلود الثواب والعقاب ، ولكن هذه الفكرة أصبحت ذات شأن كبير في آراء الأحبار الدينية ، فقد صوروا النار على أنها جهنم أو شاول ـ شاول كانت في رأيهم مكاناً مظلماً تحت الأرض يذهب اليه جميع الأموات ـ وقسّموها كما قسّموا السماوات إلى سبع طبقات تتدرج في درجات العذاب ، ولا يدخلها من المختنين إلا أخبثهم ، وحتى الآثمون الذين يداومون على الإثم لا يعذبون فيها إلى أبد الآبدين ، بل إن كل من يلقون في النار يخرجون منها مرة أخرى إلا فئات ثلاث : الزاني ، ومن ينفضح غيره أمام الناس ، ومن يسب غيره. أما السماء فقد كانوا يصورونها في صورة حديقة تحوي جميع المسرات الجسمية والروحية. ٣

________________

١. راجع : قصة الحضارة ، ج ٢ ، ص ٤٣٤ ، ٤٣٥.

٢. راجع : المصدر السابق ، ج ٣ ، ص ٣٤.

٣. راجع : المصدر السابق ، ج ١٤ ، ص ٢١.

٢٤

ويؤيده ما ذكره الدكتور فرج الله عبدالباري بقوله : إن التلمود يتحدث عن الجحيم بأنه لا سلطان له على مذنبي بني إسرائيل ، ولا سلطان له على تلامذة الحكماء الحاخامات ، ولكن بعض الحاخامات قالوا : إن الاسرائيليين الذين اقترفوا السيئات سيذهبون مع الأجانب إلى نار جهنم ، ويمكثون فيها اثني عشر شهراً ، وسوف تحرق روحهم ، وسوف تثير الرياح أجزاءهم تحت نعال الصالحين. ١

وفيما يتعلق بمصير غير اليهود في الآخرة يقول التلمود بأنه لا يدخل الجنة إلا اليهود ، أما الجحيم فهو مأوى الكفار ، ولا نصيب لهم فيه سوى البكاء ، لما فيه من الظلام والعفونة والطين. والجحيم أوسع من النعيم ستين مرة ، لان الذين لا يغسلون سوىٰ أيديهم وأرجلهم كالمسلمين ، والذين لا يختنون كالمسيحيين الذين يحركون أصابعهم ( يفعلون إشارة الصليب ) يبقون هناك خالدين. ٢

ويتبين من كل ما مرّ أن عقيدة اليهود عن الجحيم تتخلص بأنه لا يخلد فيه إلّا غير اليهود كما لا يدخل الجنة إلّا اليهود ، ومن يدخل النار منهم لا يبقى فيها أبد الآبدين ، بل يخرج منها بعد مدة من العذاب الأليم.

الخامس : الديانة المسيحية

الدين المسيحي يؤكد أيضاً على فكرة الخلود في جهنم ، حيث جاء في إنجيل متى قوله : تعالوا يا مباركي أبي ، رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم ، لأنّي جعت فأطعمتوني ، وعطشت فسقيتموني ، وكنت غريباً فآويتموني... وحينئذٍ يقول الملك للذين عن يسار : إذهبوا عنّي ياملاعين إلى النار الأبدية المعدة لابليس وملائكته. ٣

________________

١. راجع : اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والاسلام ، ص ٣٩١.

٢. الدكتور يوسف عيد ، موسوعة الاديان المساوية والوضعية ، الديانة اليهودية ، ص ١٥٤.

٣. تيودول ري ومرمية ، نؤمن ، ص ٤٥٧ ، ٤٥٨.

٢٥

وجاء في رسالة بولس الثانية إلى أهل تسالونيكي قوله : في نار ولهيب معطياً نقمة للذين لايعرفون الله والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح الذين سيعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب من مجد قوته. ١

ويقول مصنف كتاب نؤمن بأن الكنيسة حددت إيمانها بالنسبة إلى الجحيم في ثلاث نقاط :

١. الجحيم موجود طبعاً.

٢. والذي يحتمل هلاكه يدخلها رأساً بعد الموت.

٣. الجحيم أبدي. ٢

ونقل عن كتاب اللاهوت النظامي بأنه يعتقد النصارى أن العذاب الذي يتعذب به الأشرار أبدي ولانهاية له ، وعندهم أن من يدخل النار لا يخرج منها أبداً ، إذ أن حال الأشرار لا تتغير وأنه لا رجاء للهالكين مطلقاً. ويستدلون بنصوص كثيرة على أبدية العذاب لمن دخلوا النار إذ لا نهاية لقصاص الاشرار وأنه لا توبة حقيقية ولا إصلاح في العالم الآخر. ٣

ويؤيد هذا ما نقل عن ميخائيل مينا قوله : لا يغرب عن الاذهان أن العذاب المخلد والهلاك الأبدي والعقوبات الدائمة والاستغراق في النيران الجهنمية ، لهي كغيرها من الأسرار العسيرة الفهم في الديانة المسيحية ، ومع ذلك فنحن ملزمون بتصديقها والايمان بها ، لأن نصوصاً إلهية كثيرة أيدتها وأثبتتها. ٤

والنصوص المار ذكرها تؤيد هذه الحقيقة ، وهي اعتقاد الديانة المسيحية بالخلود في جهنم ، كما صرحت بعض الأناجيل ، وعلى أثرها اعترفت به الكنيسة المسيحية.

________________

١. اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والاسلام ، ص ٢٨١ ، ٢٨٢.

٢. راجع : نؤمن ، ص ٤٥٨.

٣. اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والاسلام ، ص ٢٨٣.

٤. رسالة تسالونيكي الثانية ١: ج٨ ، ص ٩ نقلاً عن : المصدر السابق ، ص ٢٨١ ، ٢٨٢.

٢٦



٢

آراء المفسرين حول الخلود في جهنم

١. المثبتين للخلود في جهنم : وهم الاكثرون حيث ذهبوا الى القول بالخلود الابدي للكفار والمشركين في النار من غير خروج أو فناء ، وتمسكوا في اثبات ما ذهبوا اليه بطائفة من الآيات القرآنية منها قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ١ وقوله : ( وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) ٢ وجملة من الاحاديث المروية من الفريقين.

٢. النافين للخلود في جهنم :وهم الأقلون ، فذهبوا الى القول بانقطاع العذاب عن مطلق الداخليين الى النار سواء كانوا من العاصين من المسلمين أو من الكفار والمشركين بدعوى فناء النار أو فنائها مع فناء اهلها مستندين في ذلك بعدد من الآيات القرآنية المشعرة بظاهرها بانقطاع العذاب عن الكفار لقوله تعالى ( لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) ٣ وقوله ( ... النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ٤ متمسكين في ذلك بعدد من الروايات.

________________

١. البقرة ، ٣٩.

٢. التوبة ، ٦٨.

٣. نبأ ، ٢٣.

٤. الأنعام ، ١٢٨.

٢٧

أدلة المثبتين للخلود في جهنم

١. دلالة لفظ الخلود على الدوام

تمسكوا بالآيات القرآنية التي ذكر فيها لفظ الخلود ، حيث ورد في أكثر من ثلاثين آية ، وهي تشير صريحة إلى الخلود في جهنم وبتعبيرات مختلفة ، تارة بصيغة الوصف مثل ( خالدون ، خالدين ) وتارة اخرى بصيغة الفعل كقوله تعالى : ( وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) ، ١ وتارة ثالثة بصيغة الاضافة وقيد العذاب كقوله تعالى : ( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ ). ٢

وبالنسبة الى معنى الخلود فقد ذهب بعضهم إلى أن لفظ الخلود موضوع لغةً لمعنى الدوام ، وذهب البعض الآخر إلى أنها موضوع للمكث الطويل ، واستعمل في لسان الشرع بمعنى الدوام ، ومن أقوال القسم الأول :

قال ابن عطية الاندلسي ( المتوفى ٥٤٦ ه‍ ) : الخلود الدوام في الحياة أو الملك ونحوه ، وخلد بالمكان إذا استمرت إقامته فيه ، وقد يستعمل الخلود مجازاً فيما يطول. ٣

وقال أبو حيّان الأندلسي ( المتوفى ٧٤٥ ه‍ ) : وظاهر اللغة أن الخلود هو البقاء الدائم الذي لا ينقطع ، واستشهد بقول زهير :

فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت

ولكن حمد الناس ليس بمخلد ٤

وقال القرطبي ( المتوفى ٦٧١ ه‍ ) : والخلود : البقاء ومنه جنة الخلد ، وقد تستعمل مجازاً فيما يطول ، ومنه قولهم في الدعاء : خلد الله ملكه ، أي طوّله. ٥

وقال عبدالله النسفي ( المتوفى ٧١٠ ه‍ ) : الخلد البقاء الدائم الذي لا ينقطع ،

________________

١. الفرقان ، ٦٩.

٢. يونس ، ٥٢.

٣. ابن عطية الاندلس ، المحرر الوجيز في تفسير القرآن العزيز ، ج ١ ، ص ١٠٩ ، ١١٠.

٤. أبوحيان الأندلسي ، النهر الماد من البحر المحيط ، ج ١ ، ص ٨٨.

٥. محمد بن أحمد القرطبي ، تفسير القرطبي ، ج ١ ، ص ٢٤١.

٢٨

وفيه بطلان قول الجهمية ، فانهم يقولون بفناء الجنة وأهلها. ١

وقال نظام الدين القمي النيسابوري ( المتوفى ٧٢٨ ه‍ ) : والخلد عند المعتزلة الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع بدليل قوله تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ٢ نفى الخلد عن البشر مع تعمير بعضهم ( وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) ، ٣ وعند الاشاعرة الخلد خو الثبات الطويل دام أو لم يدم ، ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد كان قوله ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) تكراراً ، ويقال في العرف : حبسه حبساً مخلّداً ، أو وقف وقفاً مخلّداً ، والحق أن خوف الانقطاع ينغّص النعمة ، وذلك لا يليق بأكرم الأكرمين. ٤ أي أن خوف الانقطاع عن أهلا لجنة ينغص النعمة عليهم ، فيلزم حمل الخلود على الدوام.

اما محمد القاسمي ( المتوفى ١٣٣٢ ه‍ ) فانه يفسر معنى الخلود بالدوام الأبدي ، ففي تفسيره لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ٥ قال : لا يموتون ولا يخرجون ، ٦ ويرى أن تفسير الخلود بالمكث الطويل ضعيف ، ففي ذيل تفسيره لقوله تعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ ... ) ٧ الآية ، نقل عدداً من الأقوال في تفسير هذه الآية بقوله : وقيل : وردت في رجل بعينه وقيل : المراد بالخلود طول المدة لا الدوام ، وقيل معناها هذا جزاؤه إن جازاه ، وعقبه بقوله : وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة. ٨

وقال الشيخ الطبرسي ( المتوفى ٥٤٨ ه‍ ) : والخلد : الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع ٩

________________

١. عبدالله بن أحمد النسفي ، تفسير النسفي ، ج ١ ، ص ٧١.

٢. الانبياء ، ٣٤.

٣. الحج ، ٥.

٤. نظام الدين النيسابوري ، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان ، ج ١ ، ص ٢٠١.

٥. البقرة ، ٣٩.

٦. راجع : محمد القاسمي ، تفسير القاسمي ، ج ٢ ، ص ١١٠.

٧. النساء ، ٩٣.

٨. راجع : تفسير القاسمي ، ج ٥.

٩. أبو علي الطبرسي ، جوامع الجامع ، ج ١ ، ص ٨٧.

٢٩

اما القسم الثاني وهم القائلون بأنه موضوع لغةً للمكث الطويل واستعمل في القرآن بمعنى الدوام :

قال المراغي والشيخ محمد عبده : الخلود لغةً المكث الطويل ، قال في الأساس : ومن كلامهم خلد فلان في السجن ، أي أقام طويلاً ، ويراد به في لسان الشرع الدوام الأبدي ، أي وهم لا يخرجون منها ولا هي تفني وتزول ، بل هي حياة أبدية لا تنتهي. ١ وقال الشيخ الطوسي ( المتوفى ٤٦٠ ه‍ ) : والخلود معرب من العرف يدل على الدوام لانهم يقولون ليست الدنيا دار خلود وأهل الجنة مخلدون يريدون الدوام ، فأما في أصل الوضع فانه موضوع لطول الحبس. ٢

وقال الدكتور وهبة الزحيلي : والخلود البقاء ، ومنه : جنة الخلد ، ٣ وقال في موضع آخر : وخلود المؤمنين في الجنة وخلود الكفار في النار معناه في الشرع : الدوام الأبدي ، أي لا يخرجون منها ، ولا هي تفنى بهم فيزولوا بزوالها ، وإنما هي حياة أبدية لا نهاية لها. ٤

وواضح أن الفريقين متفقان على أن الخلود في القرآن قد استعمل بمعنى الدوام سواء كان موضوعاً لغةً للمكث الطويل أو الدوام.

تفسير آيات الخلود في النار

وفيما يلي نورد تفسير عدد من الآيات القرآنية التي ذكرت لفظ الخلود ، ونبحث عن دلالتها على الدوام الأبدي :

١. قوله تعالى : ( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )٥

________________

١. مصطفى المراغي ، تفسيرا لمراغي ، ج ١ ، ص ٦٩ ؛ وراجع : محمد رشيد رضا ، تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٢٣٤.

٢. الشيخ الطوسي ، تفسير التبيان ، ج ١ ، ص ١٧٩.

٣. د. وهبة الزحيلي ، التفسير المنير ، ج ١ ، ص ١٠٥.

٤. المصدر السابق ، ص ١٠٨.

٥. البقرة ، ٨١.

٣٠

( بلى ) إثبات لما بعد حرف النفي ، وهو قوله : ( لَن تَمَسَّنَا النَّارُ ) أي بلى تمسكم أبداً بدليل قوله : ( هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) قال به الزمخشري. ١

وقوله : ( مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ) المقصود من الشيئة هنا هو الشرك ، قال به العلامة الطبرسي والشيخ الطوسي ، وقالوا إنه الموافق لمذهبنا ، لان ما عدا الشرك لا يستحق الخلود. ٢

والفخر الرازي ( المتوفى ٦٠٦ ه‍ ) أيضاً فسر السيئة بالشرك فقال : إنا لا نفسر إحاطة الخطيئة بكونها كبيرة ، بل بان يكون ظاهره وباطنه موصوفاً بالمعصية ، وذلك إنما يتحقق في حق الكافر الذي يكون عاصياً لله بقلبه ولسانه وجوارحه. ٣ وهو بهذا يرد على المعتزلة في قولهم بأن هذه الآية تدل على خلود مرتكب الكبيرة في النار. ٤

وقال العلامة الطباطبائي : فإحاطة الخطيئة لا تتحقق الّا بالشرك قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) وقال أيضاً : فكسب السيئة وإحاطة الخطيئة كالكلمة الجامعة لما يوجب الخلود في النار ، ٥ لأن السيئة عامة تشمل كل أنواع المعاصي ، فاقتران السيئة بإحاطة المعاصي يخصصها بالشرك.

قوله : ( أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ) أصحاب النار هم الملازمون ، لها كما تقول أصحاب الصحراء ، يعني القاطنين فيها الملازمين لها ، قال به الشيخ الطوسي ٦ وقال العلامة الطبرسي : أي يصحبون النار ويلازمونها. ٧ وقوله ( هُمْ فِيهَا

________________

١. الزمخشري ، تفسير الكشاف ، ج ١ ، ص ١٥٨.

٢. راجع : أبو على الطبرسي ، مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١٤٧ ؛ الشيخ الطوسي ، تفسير التبيان.

٣. الفخر الرازي ، التفسير الكبير ، ج ٣ ، ص ١٦٢.

٤. راجع : تفسير الكشاف ، ج ١ ، ص ١٥٨.

٥. محمد حسين الطباطبائي ، تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ٤١٧.

٦. الشيخ الطوسي ، تفسير التبيان.

٧. مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١٤٨.

٣١

خَالِدُونَ ) أي دائمون ، قال الآلوسي : المراد بالخلود الدوام ، وقال أيضاً : ومن الناس من نقاها بحمل الخلود على أصل الوضع ، وهو اللبث الطويل ـ وليس بشيء ـ لأن فيه تهوين الخطب في مقام التهويل مع عدم ملائمته حمل الخلود في الجنة على الدوام. ١ لأن هذه الآية قوبلت بقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) فلمقابلة الخلود في جهنم مع الخلود في الجنة في هذه الآية يلزم أن يكون معنى الخلود في النار الدوام لكون المقصود من الخلود في الجنة في الآية هو الدوام كما قال تعالى في سورة هود : ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ).

وذكر البيضاوي ( المتوفى ٧٩١ ه‍ ) وصدر الدين الشيرازي ٢ ( المتوفى ١٠٥٠ ه‍ ) دليلاً عقلياً على كون المقصود من الخلود في الجنة هو الدوام الذي لا ينقطع ، قال البيضاوي : واعلم أنه لمّا كان معظم اللذات الحسية مقصورة على المساكن والمطاعم والمناكح ، على مادل عليه الاستقراء ، كان ملاك ذلك كله الدوام والثبات ، فإن كل نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم بشّر المؤمنين بها ، ومثل ما أعد لهم في الآخرة بأبهى ما يستلذ به منها وأزال عنهم خوف الفوات بوعد الخلود ليدل على كمالهم في التنعيم والسرور. ٣

والعلامة الطباطبائي في تفسيره للآية ٢٧ من سورة يونس الذي يقابل فيها الخلود في النار والخلود في الجنة ، قال : قوله : ( أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) يدلّ على دوام بقائهم في النار لدلالة الصحابة والخلود عليه ، كما أن نظيره في أصحاب الجنة يدلّ على نظيره. ٤

________________

١. محمود الآلوسي ، روح المعاني ، ج ١ ، ص ٣٠٦.

٢. راجع : صدر الدين الشيرازي ، تفسير القرآن الكريم ، ج ٣ ، ص ٢٣٤.

٣. أبو عمر بن محمد البيضاوي ، تفسير البيضاوي ، ج ١ ، ص ٢٥٣.

٤. تفسير الميزان ، ج ١٠ ، ص ٤٤.

٣٢

ونستنتج مما سبق بان هذه الآية ردّ على اليهود الذين قالوا : ( لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ) وعلى هذا نحمل السيئة التي أحاطت به الخطيئة على الشرك ، فكأنه قال : من كسب سيئة من السيئات وأحاطت تلك السيئة به بحيث استولت عليه المعصية ، ولم يبق له طريق إلى النجاة ، ولا يكون معه طاعة يستحق بها الثواب ، وهذا إنما يصدق في حق المشرك والكافر ، فلا يشمل مرتكب الكبيرة ، كما يذهب اليه المعتزلة. وهذا الذي أحاطت به الخطيئة وأوصلته إلى الشرك يكون ملازماً ومصاحباً للنار وملخداً فيها أبد الآباد.

٢. قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ). ١

قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ) أي أن من مات مصراً على كفره غير تائب منه ، ذهب إليه الفخر الرازي ، وقال : إن ظاهر قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ) عام في حق كل من كان كذلك ، فلا وجه لتخصيصه ببعض من كان كذلك ، ٢ لأن البعض خصص الآية بالذين ذكرهم القرآن قبل هذه الآية ، وهم الذين يكتمون القرآن. ٣

وقال العلامة الطباطبائي : قوله ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ) كناية عن إصرارهم على كفرهم وعنادهم وتعنتهم في قبول الحق ، فان من لايدين بدين الحق لا لعنادٍ واستكبار بل لعدم تبينه له ، ليس بكافر بحسب الحقيقة ، بل مستضعف أمره إلى الله. ٤

قوله : ( أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ ) الابعاد من الرحمة مع ايجاب العقوبة قال به الشيخ الطوسي ٥ والعلامة الطبرسي. ٦

________________

١. البقرة ، ١٦١ ، ١٦٢.

٣. الفخر الرازي ، التفسير الكبير ، ج ٣ ، ص ١٨٧.

٣. المصدر السابق.

٤. تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ٣٩٠.

٥. راجع : تفسير التبيان ، ج ٢ ، ص ٥١.

٦. راجع : مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٤٧٢.

٣٣

وقوله ( وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) وهي دعاؤهم باللعنة ، وأن يبعدهم الله من رحمته ، ١ وقال القرطبي : اللعنة من العباد الطرد ، ومن الله العذاب. ٢

قوله : ( خَالِدِينَ فِيهَا ) فيه قولان :

الأول : أن الضمير في قوله ( فيها ) عائد إلى اللعنة ، أي خالدين في اللعنة قال به العلامة الطباطبائي ، ٣ والفخر الرازي ، ٤ والعلامة الطبرسي ، ٥ والقرطبي. ٦

الثاني : أن الضمير عائد إلى النار إلّا أنها اُضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً ، قاله الفخر الرازي ، ٧ ونسبه الشيخ الطوسي إلى أبي العالية ، ٨ والظاهر أن الشيخ يتبنى الرأي الأول ، وهو الخلود في اللعنة ، قال : والخلود في اللعنة يحتمل أمرين :

أحدهما : استحقاق اللعنة بمعنى أنها تحق عليهم أبداً.

والثاني : في عاقبة اللعنة وهي النار التي لا تفنى. ٩

وقوله : ( لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ) أي لا ينقطع عنهم العذاب ولا يسهل عليهم ، ذهب اليه الفخر الرازي حيث قال : بعضهم حمل التخفيف على أنه لاينقطع بل يدوم ، لأنه لو انقطع لكان قد خفّ ، وحمله آخرون على شدته لا على دوامه ، والأولى أن يقال : إن العذاب قد يخف بالانقطاع ، وقد يخف بالقلة في كل وقت أو في بعض الأوقات ، فاذا وصف الله تعالى عذابهم بأنه لا يخفف اقتضى ذلك نفي جميع ما ذكرناه. ١٠

________________

١. راجع : المصدر السابق.

٢. تفسير القرطبي ، ج ٢ ، ص ١٩٠.

٣. راجع : تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ٣٩١.

٤. راجع : التفسير الكبير ، ج ٣ ، ص ١٨٨.

٥. راجع : مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١٤٧.

٦. راجع : تفسير القرطبي ، ج ٢ ، ص ١٩٠.

٧. التفسير الكبير ، ج ٣ ، ص ١٨٨.

٨. راجع : تفسير التبيان ، ج ٢ ، ص ٥١.

٩. راجع : المصدر السابق.

١٠. التفسير الكبير ، ج ٢ ، ص ١٧٥.

٣٤

وذكر قريباً من هذا القول الشيخ الطوسي بقوله : وإنما قال لا يخفف مع أنهم مخلدون لأن التخفيف قد يكون مع الخلود بأن يقل المعاون ما يفعل ، فأراد الله أن يبين أنه يقع الخلود ويرتفع التخفيف. ١ وقوله : ( وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ) ، قال الفخر الرازي : والانظار هو التأجيل والتأخير قال تعالى : ( فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ) والمعنى : أن عذابهم لا يؤجّل. ٢

وقال العلامة الطبرسي : لا يمهلون للتوبة ، ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى آخر. ٣

فيتبين مما سبق بان هذه الآية معناه : إن الذين كفروا وماتو مصرين على كفرهم ومعاندين للحق ، فهؤلاء عليهم لعنه الله ومطرودون من رحمته تعالى ، ومستحقون بذلك العذاب الدائم الذي لا ينقطع عنهم ولا يخفف عنهم هذا العذاب ، قال العلامة الطباطبائي : ( لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ) في تبديل السياق بوضع العذاب موضع اللعنة دلالة على أن اللعنة تتبدل عليهم عذاباً. ٤ وهذا العذاب الدائم ملازم ومتبدل عن اللعنة الدائمة التي استحقوها بكفرهم وهذا العذاب سوف لن يؤخر عنهم يوم القيامة من وقت إلى آخر.

٣. قوله تعالى : ( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ). ٥

قال العلامة الطباطبائي : الحد هو الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر وارتفاع التمايز بينهما ، كحد الدار والبستان ، والمراد به أحكام الإرث والفرائض المبينة. ٦

وقد روي عن أبن عباس بأنه خص الآية بأحكام المواريث. ٧ أما الشيخ

________________

١. تفسير التبيان ، ج ٢ ، ص ٥١ ، ٥٢.

٢. التفسير الكبير ، ج ٣ ، ص ١٨.

٣. مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٤٧٢.

٤. تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ٣٩١.

٥. النساء ، ١٤.

٦. تفسير الميزان ، ج ٤ ، ص ٢١٢.

٧. راجع : روح المعاني ، ج ٤ ، ص ٢٣٣.

٣٥

محمد عبده فقد ذهب إلى أن هذه الآية تتناول الأحكام التي ذكرت من أول السورة إلى ما قبل هذه الآية ١ والآلوسي أيضاً تبنّى هذا الرأي فقال : تتناول الاحكام المذكورة في شؤون اليتامى والمواريث وغيرها. ٢

قوله : ( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) أي من يعص الله ورسوله في المواريث ، ونقل الفخر الرازي عن بعضهم قوله : بل هو عام يدخل فيه هذا وغيرهم من المعاصي ، لأن اللفظ عام فوجب أن يتناول الكل ، أقصى ما في الباب أن هذا العام إنما ذكرت عقيب تكاليف خاصة. ٣ ولكن الصحيح أن الآيات التي ذكرت قبل هذه الآية تكون مخصصة لها فتكون شاملة للمواريث فقط.

قوله ( وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ) قال الشيخ الطوسي : المراد به من يتعدى جميع حدوده ، ومن كان كذلك فعندنا يكون كافراً ، ٤ وذهب اليه أيضاً العلامة الطبرسي. ٥

أما الشيخ محمد عبده فيفسره بأن ارتكاب المعاصي والمحرمات استحلالاً وعمداً هو بمعنى تعدي الحدود فيخرج الانسان من حد الايمان إلى حد الكفر ، قال : أن يقدم المرء على الذنب جريئاً عليه متعمداً ارتكابه له عالماً بتحريمه مؤثراً له على الطاعة بتركه ، لا يصرفه عنه تذكر النهي والوعيد عليه ، فهذا هو الذي أحاطت به خطئته حيث آثر طاعة شهوته على طاعة الله ورسوله ، فصدق عليه قوله تعالى : ( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )٦

فالتعدي لحدود الله عند الشيخ عبده يحصل باستحلال المعاصي والمحرمات التي حرمها الله تعالى ، ولا يحتاج إلى تعدي جميع حدود الله ، لأن

________________

١. راجع : تفسير المنار ، ج ٤ ، ص ٤٢٧.

٢. راجع : روح المعاني ، ج ٤ ، ص ٢٣٣.

٣. التفسير الكبير ، ج ٩ ، ص ٢٢٧.

٤. راجع : تفسير التبيان ، ج ٥ ، ص ٢٥٤.

٥. راجع : مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٢٠.

٦. تفسير المنار ، ج ٤ ، ص ٤٣٣.

٣٦

الاصرار على العصيان مع عدم استشعار الخوف والندم لا يجتمع مع الايمان الصحيح بعظمة الله وصدقه في وعده وعيده ، فالخلاف بين المفسرين حسب رأيه لفظي. ١

وحكى الآلوسي عن الكلبي قوله : يتعد حدوده في القسمة المذكورة استحلالاً ، ٢ وخصّ الرازي الآية بالكفر بقرينة قوله : ( وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ) فلوكان المراد به نفس ما يراد من قوله : ( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) للزم التكرار. وقال أيضاً : قالوا إن الآية محمولة على تعدي الحدود المذكورة في المواريث ، قلنا : هب أنها كذلك ، ولكن تعدي الحدود باعتقاد أنها واقعة لا على وجه الحكمة والصواب ، وعلى هذا يكون هذا الوعيد مختصاً بالكافر الذي لا يرضى بما ذكره الله في هذه الآية من قسمة المواريث. ٣

وأشار الشيخ الطوسي أيضاً إلى هذا المعنى بقوله : مع تسليم كون الآية شاملة لأهل الصلاة يمكن أن تحمل الآية على من يتعدى الحدود مستحلاً لها فانه يكون كافراً. ٤

وقوله : ( يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا ) أي يدخله ناراً خالداً في النار إلى الأبد.

وقوله : ( وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) قال العلامة الطبرسي : سمّاه مهيناً لأن الله يفعله على وجه الاهانة ، كما أنه يثيب المؤمن على وجه الكرامة. ٥ وذهب الشيخ محمد عبده والآلوسي إلى أنه تعالى أراد بالعذاب المهين عذاب الروح بالاهانة ، أي أن هذا العاصي يعذب في النار من حيث هو حيوان يتألم وروحه تتألم بالاهانة من حيث هو انسان يشعر بمعنى الكرامة والشرف. ٦

بمعنى هذه الآية اجمالاً : هذه هي حدود المواريث التي بينّاها ، فمن

________________

١. راجع : المصدر السابق.

٢. روح المعاني ، ج ٤ ، ص ٢٣٣.

٣. راجع : تفسير الكبير ، ج ٩ ، ص ٢٢٩.

٤. راجع : تفسير التبيان ، ج ٣ ، ص ١٤١.

٥. مجمع البيان ، ج ٣ ص ٣٧.

٦. راجع : تفسير المنار ، ج ٤ ، ص ٤٣٣ ، ٤٣٤ ؛ روح المعاني ، ج ٤ ص ٢٣٤.

٣٧

عصى الله عزّوجلّ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه المواريث ويتعدى حدوده فيها مستحلاً لحرمات الله ومعانداً للحق ومصراً على ذلك ، لا يكون إلا كافراً ، فيكون مستحاقً للعذاب الأبدي الخالد ، فيدخله الله النار الخالدة ، فيكون هذا العذاب إهانة له ، كما تكون الجنة كرامة للمؤمنين ، والخلود في النار كما قلنا أبدي لمقابلته بآية الخلود في الجنة ، وبما أن المقصود من الخلود في الجنة هو الدوام بدليل الشرع والعقل ، فالمقصود من الخلود في النار أيضاً هو الدوام الأبدي للمقابلة.

وقد تكرر مضمون هذه الآية في سورة الجن في قوله تعالى : ( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) وقيده بالتأييد لتأكيد الخلود بكونه أبداً وليس منقطعاً ، وقد حمل المفسرون المعصية في هذه الآية على المعصية في التوحيد ، قال العلامة الطباطبائي : والمراد بالمعصية ـ كما يشهده سياق الآيات السابقة ـ معصية ما أمر به من التوحيد أو التوحيد وما يتفرغ عليه من أصول الدين وفروعه ، فلا يشمل التهديد والوعيد ، بخلود النار إلا الكافرين بأصل الدعوة دون مطلق أهل المعصية المتخلفين عن فروع الدين ، فالاحتجاج بالآية على تخليد مطلق العصاة في النار في غير محله. ١ فليس بعيداً أن تكون هذه الآية ، وهي قوله تعالى : ( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ... ) الآية ، شاملةً للكفار وللمستحلين للمحرمت معاً.

الخلاصة

إتفق المفسرون أن لفظ الخلود استعمل في القرآن بمعنى الدوام الأبدي إلّا الأشاعرة ، حيث حملوا معنى الخلود على الثبات المديد الأعم من الدوام

________________

١. راجع : تفسير الميزان ، ج ٢ ، ص ٥٢.

٣٨

وعدمه ، ١ وبناءً على ذلك فقد حملوا معنى الخلود في بعض الآيات القرآنية المشعرة بظاهرها شمولها للعاصين من الموحدين على المكث الطويل ، كآية قتل العمد وغيره من الآيات. ٢

وقد بحثنا في هذا القسم عن ثلاث آيات قرآنية ذكر فيها لفظ الخلود ، وثبت أن لفظ الخلود في هذه الآيات بمعنى الدوام الأبدي باتفاق المفسرين. ففي الآية الأولى ، وهي قوله تعالى : ( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أن كسب السيئة إلى درجة حتى أحاطت السيئة بكل وجود الإنسان بحيث لاتبقي معه طاعة أو ثواب ، وهذا لا يصدق إلا في حق الكافر فيكون مخلداً في النار إلى الأبد ، وهو ما اتفق عليه المفسرون.

وأما الآية الثانية ، وهي قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ) هذه الآية صريحة أنها في حق الكفار المعاندين الذين أصروا على كفرهم ، فاستحقوا بذلك اللعنة والطرد الأبدي من الرحمة الإلهية ، وتبدلت هذه اللعنة الأبدية عليهم إلى عذاب أبدي وخلود دائمي في النار.

وهناك آية اُخرى تكرر فيها هذا الوعيد ، وهي أيضاً في حق الكفار كقوله تعالى : ( كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ). ٣

والآية الثالثة ، وهي قوله تعالى : ( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ

________________

١. راجع : تفسير البيضاوي ، ج ١ ، ص ٢٥٢.

٢. راجع : المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٣٧.

٣. آل عمران ، ٨٦ ، ٨٨.

٣٩

يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) الآية واردة في معصية الله ورسوله في المواريث ، والمفسرون حملوها على المستحل الكافر ، لأن المعصية هنا مقيدة بتعدي الحدود ، وهذا التعدي لا يصدق إلا في حق المستحل الكافر بحيث يخرج بها عن حد الايمان ، وقد تكررت هذه الآية أيضاً في سورة الجن ، وهي قوله تعالى : ( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) ١ حيث أكدت الخلود بالتأييد ، وقد حمل المفسرون المعصية في هذه الآية على المعصية في التوحيد. وكذلك تكرر مضمون هذه الآية في سورة الأحزاب ، وهي قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا )٢ فالآية تشير إلى أن هؤلاء الكفار عصوا الله والرسول ، ولم يؤمنوا بالله عزّوجلّ ورسوله ، فكانت معصيتهم في التوحيد ، وفي مقابل ذلك أطاعوا رؤساءهم وسادتهم في شركهم وكفرهم بالله ، فاستحقوا بذلك اللعنة الالهية والخلود الأبدي في النار التي أعدها الله عزّوجلّ لهم يوم القيامة.

٢. دلالة لفظ المقيم على الدوام

إستدلوا بالآيات القرآنية التي ذكر فيها لفظ ( مقيم ) فقالوا إنه يدلّ على دوام العقاب وأبديته ، قال الراغب ٣ : ويعبر بالإقامة عن الدوام نحو : ( عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) وقرىء : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ) أي في مكان تدوم إقامتهم فيه. وقال صاحب المنار : المقيم هو الثابت الذي لا يظعن ، ٤ وقال المراغي : المقيم هو الثابت الذي لا يرتحل أبداً. ٥

________________

١. الجن ، ٢٣.

٢. آل عمران ، ٨٦ ـ ٨٨.

٣. مفردات الفاظ القرآن ، ص ٦٩٢.

٤. تفسير المنار ، ج ٦ ، ص ٣٧٩.

٥. تفسير المراغي ، ج ٦ ، ص ١١٣.

٤٠