الخلود في جهنّم

محمد عبد الخالق كاظم

الخلود في جهنّم

المؤلف:

محمد عبد الخالق كاظم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 964-7741-74-X
الصفحات: ٢٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

العذاب ، وفي النتيجة يجدون الخلاص. ١

وبالنسبة إلى نفوس البلهاء فيقول عنهم شيخ الإشراق : أما نفوس البلهاء والصالحين الذين لم يكن معهم معصية باطلة وجهل ضار يجدون الخلاص. ٢

فيفهم من عبارة الشيخ بأن نفوس البلهاء الذين يكون معهم معاصٍ باطلة لا يجدون الخلاص من العذاب الأبدي كما هو مذهب الشيه الرئيس ابن سينا.

٥. صدر الدين الشيرازي ( المتوفى ١٠٥٠ ه‍ )

حاول صدر المتألهين الشيرازي التوفيق بين الشرع الذي أكد في العشرات من الآيات القرآنية على الخلود في جهنم ، وبين الأصول العقلية التي تبناها ، والدالة على عدم إمكان دوام العذاب على أحد ، فذهب إلى القول بالخلود النوعي حيث قال : وعندنا أيضاً أصول دالة على أن الجحيم وآلامها وشرورها دائمة بأهلها ، كما أن الجنة ونعيمها وخيراتها دائمة بأهلها ، إلّا أن الدوام لكل منهما على معنى آخر. ٣

وأشار في موضع آخر من كتاب الأسفار إلى هذا المعنى بقوله : فان قلت : هذه الأقوال الدالة على انقطاع العذاب عن أهل النار ـ وهي الأقوال التي نقلها عن ابن عربي والقيصري ـ ينافي ماذكرته سابقاً من دوام الآلام عليهم.

قلنا : لا نسلم المنافاة ، إذ لا منافاة بين عدم انقطاع العذاب عن أهل النار أبداً ، وبين انقطاعه عن كل واحد منهم في وقت ، ٤ ومن الأدلة والأصول العقلية التي استند اليها صدر المتألهين في إثبات الخلود النوعي وانكار الخلود الشخصي :

________________

١. شهاب الدين سهروردي ، مجموعة مصنفات شيخ الاشراق ، پرتونامه ، ص ٧٢.

٢. المصدر السابق.

٣. الاسفار ، ج ٩ ، ص ٣٤٨ ، شواهد الربوبية ( المقدمة ) ص ٣١٤.

٤. المصدر السابق ، ص ٣٥٠.

٢٠١

أ) منافاة العذاب الأبدي مع الإيجاد والعلية

قال صدرالدين الشيرازي في تفسيره : إعلم أن في تعذيب الله بعض عباده عذاباً أبداً إشكالاً عظيماً ، خصوصاً عند القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين ، فان الله خالق العباد وموجدهم ومبدئهم ومعيدهم ، وشأن العلة الفاعلة الافاضة والايجاد على معلولها ، إذ ليس المعلول إلا رشحة من رشحات جوده ، ولمعة من لمعات وجوده ، والتعذيب الأبدي منافي الايجاد والعلية. ١

وأشار إلى هذا المعنى في كتاب الأسفار وشواهد الربوبية بقوله : ثم إنك تعلم أن نظام الدنيا لا ينصلح إلا بنفوس جافية وقلوب غلاظ شداد ، فلو كان الناس كلهم سعداء بنفوس خائفة من عذاب الله وقلوب خاضعة خاشعة لاختل النظام بعد القائمين بعمارة هذا الدار من النفوس الغلاظ العتاة كالفراعنة والدجاجلة ، وكالنفوس المكارة كشياطين الإنس بجربزتهم وجبلّتهم ، وكالنفوس البهيمية الجهلة كالكفار... وثبت بموجب قضائه اللازم النافذ في قدره اللاحق الحكم بوجود السعداء والأشقياء جميعاً ، فاذا كان وجود كل طائفة بحسب قضاء إلهي ومقتضى ظهور اسم رباني ، فيكون لها غايات حقيقية ومنازل ذاتية ، والأمور الذاتية التي جبلت عليها الأشياء إذا وقع الرجوع اليها تكون ملائمة لذيذة ، وإن وقعت المفارقة أمداً بعيداً وحصلت الحيلولة عن الاستقرار عليها زماناً مديداً بعيداً ، كما قال تعالى : ( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) ، ثم إن الله تعالى يتجلى بجميع الأسماء والصفات في جميع المراتب والمقامات ، فهو الرحمان الرحيم ، وهو العزيز القهار ، وفي الحديث القدسي : « لو لا أن تذنبون لذهب بكم وجاء بقوم يذنبون ». ٢

________________

١. صدر الدين الشيرازي ، تفسير القرآن ، ج ٥ ، ص ٢٩٨.

٢. الاسفار ، ج ٩ ، ص ٣٤٨ ، ٣٤٩ ؛ وراجع : شواهد الربوبية ( المقدمة ) ، ص ٣١٤ ، ٣١٥.

٢٠٢

ب) منافاة العذاب الأبدي مع الرحمة الالهية الشاملة للكل

قال صدر المتألهين : فان ذاته محض الرحمة والخير والنور ، وكل ما يصدر عنه يجب أن يكون من باب الجود واللطف ، والكرم ، ووجود العاهات والشرور إنما يكون عنه بالغرض ، وعلى سبيل الشذوذ والندور ، ولأنه ( سبقت رحمته غضبه ) فإن الرحمة ذاتية ، والغضب أمر عارض ، والعرض الاتفاقي لا يكون دائمياً. ١

ونقل لتأييد كلامه عن ابن عربي في الفتوحات قوله : فعمرت الداران أي دار النعيم ودار الجحيم ، وسبقت الرحمة الغضب ، ووسعت كل شيء حتى جهنم ومن فيها ، والله أرحم الراحمين ، وقد وجدنا في نفوسنا ممّن جبل على الرحمة بحيث لو مكّنه الله في خلقه لأزال صفة العذاب عن العالم ، والله قد أعطاه هذه الصفة ، ومعطي الكمال أحق به ، وصاحب هذه الصفة أنا وأمثالي ، ونحن عباد مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض ، ولا شك أنه أرحم بخلقه منا ، وقد قال عن نفسه إنه أرحم الراحمين ، فلا نشك أنه أرحم بخلقه منا ، ونحن عرفنا من نفوسنا هذه المبالغة. ٢

ونقل أيضاً عن القيصري قوله : واعلم أن من اكتحلت عينه بنور الحق يعلم أن العالم بأسره عباد الله ، وليس لهم وجود وصفة وفعل إلا بالله وحوله وقوته ، وكلهم محتاجون إلى رحمته ، وهو الرحمن الرحيم ، ومن شأن من هو موصوف بهذه الصفات أن لا يعذب أحداً عذاباً أبداً. ٣

ج) ثبات وبقاء الفطرة وعرضية الهيئات الردية الموجبة للعذاب

قال صدرالدين الشيرازي في الأسفار ما ملخصه : أن جميع الحركات الطبيعية والانتقالات في ذوات الطبائع والنفوس إلى الله وبالله وفي سبيل الله ، والانسان

________________

١. صدرالدين الشيرازي ، تفسير القرآن ، ج ٥ ، ص ٢٩٨ ، ٢٩٩.

٢. الاسفار ، ج ٩ ، ص ٣٥٢ ، ٣٥٣ ، شواهد الربوبية ( المقدمة ) ، ص ٣١٨ ، ٣١٩.

٣. المصدرين السابقين ، ص ٣٤٩ ، ٣١٦.

٢٠٣

بحسب فطرته داخلة في السالكين اليه ، وإذا حصلت في الكافر والمنافق والعاصي ملكات ردية حاصلة عن الكفر والنفاق والعصيان ، فلا شك ينحرف عما فطر عليه ، وبقدر انحرافه عن الفطرة يعاقب في الآخرة ، والآلام دالة على وجود جوهر أصلي ـ وهي الفطرة ـ يقاوم الهيئات الحيوانية الردية والألم الناشىء من هذه الهيئات ، والتقاوم بين المتضادين ليس بدائم ولا بأكثري ، ولما كان الجوهر النفساني من الانسان غير قابل للفساد ، ومبدأ العذاب أمر عارض على الفطرة ، والذاتي يدوم والعرضي يزول فيعود إلى الفطرة ، فيكون مآله إلى الرحمة. ١

والظاهر أن صدرالدين الشيرازي قد رجع عن نظرية الخلود النوعي إلى القول بالخلود الشخصي في كتاب العرشية ، كما صرح به عدد من المعلقين والمحشين على كتب صدر المتألهين.

اثبات رجوع صدرالدين الشيرازي عن نظرية الخلود النوعي

هناك عبارة للعلامة صدرالدين الشيرازي ذكرها في كتاب العرشية ـ الذي قيل إنه آخر من كتبه في حياته ـ يفهم منها رجوعه ، عن القول بالخلود النوعي فبعد أن نقل فيها عن محيي الدين بن عربي بأن أهل النار المشركين بعد انتهاء مدة عقابهم يكون لهم نعيم في النار فيتلذذون بماهم فيه من نار وزمهرير ، لكون طباعهم تقتضي ذلك ، قال : وصاحب ( الفتوحات المكية ) أمعن في هذا الباب وبالغ فيه في ذلك الكتاب ، وقال في الفصوص : وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم ، إذ لابد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب أن تكون برداً وسلاماً على من فيها.

وأما أنا ، والذي لاح لي ـ بما أنا مشتغل به من الرياضات العلمية والعملية ـ أن دار الجحيم ليست بدار نعيم ، وإنما هي موضع الألم والمحن ، وفيها

________________

١. راجع : المصدرين السابقين ، ص ٣٥١ ، ٣١٧ ، ٣١٨.

٢٠٤

العذاب الدائم ، لكن آلامها متفتة متجددة على الاستمرار بلا انقطاع ، والجلود فيها متبدلة ، وليس هناك موضع راحة واطمئنان ، لأن منزلتها من ذلك العالم منزلة عالم الكون والفساد من هذا العالم. ١

واعتبر المحشون والمعلقون على كتب صدرالدين الشيرازي عبارة الشيخ هذه بأنها تدلّ على رجوع عن الخلود النوعي ، فقال الخواجوي : وليعلم أن المصنف ( قدس سره ) في كتابه ( الحكمة العرشية ) صرح بدوام الخلود وتسرمد العذاب. ٢

وقال جلال الدين الآشتياني في تعليقه على شواهد الربوبية : مسألة خلود الكفار وانقطاع العذاب عنهم ، لا يلائم القواعد العقلية والآثار الواردة عن حملة الوحي عليهم السلام ، وقد عدل عن هذا القول المصنف العلامة. ٣

أما المحقق المتأله ملاهادي السبزواري ، فقد قال في تعليقته على شواهد الربوبية : وبعض كلمات المصنف ( قدس سره ) متشابهة ، ولكن كلامه في رسالته المسماة بالحكمة العرشية محكم ، فليرد المتشابه إلى المحكم. ٤

ولكن أحد المعاصرين ٥ أصر على عدم رجوع العلامة صدرالدين الشيرازي عن نظرية الخلود النوعي بحجة أن قوله في العرشية بدوام العذاب لايتنافى مع الخلود النوعي ، وما انكشف لصدرالدين الشيرازي ورجع عنه هو نظرية تبدل العذاب إلى العذب ، والنقمة إلى النعمة ، فقال : ويدل على ما قلناه ما نقله في نفس كتاب العرشية من عبارات مفصلة عن ابن عربي يشير فيها إلى تبدل العذاب إلى العذب ، والتذاذ الكفار بالنار والعقارب والحيات ، قبل أن

________________

١. صدرالدين الشيرازي ، العرشية ، ص ٩٥.

٢. صدرالدين الشيرازي ، تفسير القرآن الكريم ، ج ٥ ، ص ٣٠٥ ( التعليقة )

٣. صدرالدين الشيرازي ، شواهد الربوبية ( المقدمة ) ، ص ٣١٩ ( التعليقة )

٤. صدرالدين الشيرازي ، شواهد الربوبية ( التعليقة ) ، ص ٧٧٧ ، ٧٧٨.

٥. راجع : محمد حسن قراملكي ، جهنم چرا ، ص ٢٠٦ ـ ٢١٢.

٢٠٥

يصرح برجوعه بقوله : ( أما أنا والذي لاح لي بما أنا مشتغل به من الرياضات العلمية والعملية ... ) الخ.

والحق أن عبارة صدرالدين الشيرازي في كتاب العرشية دالة على رجوعه عن نظرية الخلود النوعي وإقراره بالخلود الشخصي ، لأنّه حتى لو سلّمنا دلالة عبارته على رجوعه عن القول بتبدل العذاب إلى العذب ، فإنّها أيضاً إقرار بالخلود الشخصي ، وذلك لأن صدرالدين الشيرازي قد صرح في كتاب الأسفار وشواهد الربوبية والعرشية باتفاق الفلاسفة والعرفاء على عدم خروج الكفار من جهنم وخلودهم فيها إلى ما لا نهاية مع اختلافهم في خلودهم في العذاب. ١

فالشيخ العلامة في نظرية الخلود النوعي ، كان يذهب إلى بقاء الكفار في النار بعد انتهاء مدة العقاب ووصولهم إلى نوع من الراحة والسعادة وهم في جهنم ، وقد تمسك في تأييد رأيه هذا على أقوال العديد من العرفاء. فرجوعه عن القول بتبدل العذاب إلى العذب ، وإقراره بكون الجحيم محلاً للعذاب الدائم وليس مكاناً للراحة ، وقبوله بعدم خروج الكفار من النار أبداً ، معناه أن العذاب دائم على كل فرد من اهل النار ، فيثبت بذلك الخلود الشخصي في العذاب. على أن قوله : « وفيها العذاب الدائم لكن آلامها متفتة متجددة على الاستمرار بلا انقطاع ، والجلود فيها متبدلة ، وليس هناك موضع راحة واطمئنان » فيه من الاشارة إلى الخلود الشخصي ما لا يخفى.

٦. ملا محسن الفيض الكاشاني ( المتوفى ١٠٩٢ ه‍ )

الفيض الكاشاني حذا باستاذه صدرالدين الشيرازي في مسألة الخلود في جهنم حذو النعل بالنعل ، فتبنى الرأي القديم لاستاذه ، وهو نظرية الخلود

________________

١. راجع : الأسفار ، ج ٩ ، ص ٣٤٦ ، ٣٤٧ ؛ شواهد الربوبية ( المقدمة ) ، ص ٣١٣ ؛ العرشية ، ص ٩٣.

٢٠٦

النوعي ، بمعنى انقطاع العذاب عن الكفار ، وفي توضيحه لهذه النظرية ينقل عن أستاذه قوله :

إن قيل : إن الاصول الحكمية دالة على أن القسر لا يدوم على طبيعة ، وإن لكل موجود غاية يصل اليها يوماً ، وأن الرحمة الالهية وسعت كل شيء ، كما قال جل ثناؤه : ( ... عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ).

وأيضاً : الآلام دالة على وجود جوهر أصلي مقاوم لها ، والتقاوم بين المتضادين لا يكون دائمياً ولا أكثرياً.

وقد ورد في الشرائع : خلود الفريقين في الدارين فكيف التوفيق.

قيل : معنى خلود أهل الجنة في الجنة : خلود كل واحد واحد فيها ، ومعنى خلود أهل النار في النار أنها دائمة بأهلها فلا منافاة. ١

واستدل أيضاً في إثبات انقطاع العذاب عن الكفار بنفس الأدلة التي تمسك بها أستاذه ، فنقل قول أستاذه في الأسفار بقوله : قال بعض أهل التحقيق : إن نظام الدنيا لا ينصلح إلا بنفوس غليظة وقلوب قاسية ، فلوكان الناس كلهم سعداء بنفوس خائفة من عذاب الله خاشية ، لاختل النظام بعدم القائمين بعمارة هذه الدار من النفوس الغلاظ كالفراعنة والدجاجة ، والنفوس المكارة كشياطين الإنس ، والنفوس البهيمية كجهلة الكفار ... الخ. ٢

ويشير أيضاً إلى دليل آخر لصدر المتألهين ينقله عن الأسفار ، وهو ذاتية الرحمة الالهية والخيرات الصادرة عنه ، وعرضية الشرور بقوله : قال بعض أهل المعرفة : إن جهنم ليست بدار حقيقية متأصلة ، لأنها صورة غضب الله ، كما أن الجنة صورة رحمة الله. وقد ثبت أن رحمة الله ذاتية واسعة كل شيء ، والغضب عارضي ، وكذا الخيرات صادرة بالذات ، والشرور واقعة بالعرض ،

________________

١. الفيض الكاشاني ، أصول المعارف ، ص ١٧٦

٢. راجع : المصدر السابق ، ص ١٧٧ ، ١٧٨.

٢٠٧

فعلى هذا لابد أن تكون الجنة موجودة بالذات ، والنار مقدرة بالعرض وبالتبع. ١

وعن علة انقطاع العذاب وكيفيته ينقل مضمون ما ذكره صدرالدين الشيرازي في الاسفار بقوله : فالنفوس الشقية مادامت على فطرة تدرك بها النقائص والأعدام الموصوفة بها التي من شأن تلك النفوس أن تتصف بمقابلاتها ـ فتكون لها آلام شديدة بحسبها ، فتلك الآلام باقية فيها إلى أن يزول عنها ادراكها ، إما بتبدل فطرتها إلى فطرة أدنى وأخس من تلك الفطرة ، أو بزوال تلك النقائص والاعدام بحصول مقابلاتها من جهة إرتفاع حال تلك النفوس وقوة كمالاتها واشتغالها بادراك أمور عالية ، كانت تعتقدها من قبل ، وصارت ذاهلة عنها ممنوعة عن إدراكها ، لانصراف توجهها عنها إلى تلك الشواغل الحسية ، فعلى التقديرين يزول العذاب وتحصل الراحة. ٢

وخلاصة القول إن الفيض الكاشاني يذهب إلى انقطاع العذاب عن الكفار ، وأنهم ليسوا بمخلدين في العذاب ، والظاهر أنه يذهب إلى خلود الكفار في جهنم وانقطاع العذاب عنهم وهم في النار ، ووصولهم فيها إلى نوع من الراحة بدليل استشهاده بأقوال بعض العرفاء أمثال ابن عربي ، وعبد الرزاق الكاشاني ، حيث أشاروا فيها إلى خلود الكفار في النار مع انقطاع العذاب عنهم وهم في النار ، وتلذذهم بالنار والزمهرير ، لكون طبيعتهم تقتضي ذلك.

وتمسك في إثبات انقطاع العذاب عن الكفار بعدد من الأدلة ، منها : أن السعادة والشقاوة بقضاء الله ، وأن الرحمة الالهية واسعة وشاملة لكل شيء لقوله تعالى : ( ... وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ... ) وهذه الرحمة ذاتية والشرور عرضية ، والعرضي إما أن يزول ويرجع النفس إلى فطرتها ، أو أن تتبدل فطرتها إلى فطرة أخس ، وهي الفطرة البهيمية ، وعلى التقديرين يزول العذاب وتحصل الراحة.

__________________

١. المصدر السابق ، ص ١٧٩ ، ١٨٠

٢. المصدر السابق ، ص ١٨٠

٢٠٨

٧. ملا هادي السبزواري ( المتوفى ١٢٨٨ ه‍ )

المحقق السبزواري ( قده ) من المدافعين عن الخلود في جهنم ودوام العذاب على أهلها ، مع أنه يذهب إلى أن الخلود في العذاب ليس من ضروريات الدين ، حيث يقول : ليس خلود العذاب مثل خلود الكون في جهنم من ضروريات الدين ، ولا الكتاب ولا السنة ناصان في دوام الايلام من الله تعالى ، إلا أن الخلود مطلقاً أدخل في الانزجار وأدعى إلى تكميل النفس وتعديل النظام ، فيجب القول به. ١

وفي معرض ردّه لصدرالدين الشيرازي في كون الهيئات والملكات الردية الناشئة من الكفر قسراً ، وأن القسر لا يكون دائمياً ولا أكثرياً ، يقول السبزواري : بأن شقاوة الكفر صارت جوهرية والملكات الرذيلة جوهرية والعادت السوء طبيعة ثانية ، وليس هنا نور إيمان حتى يكفّرها ويزيلها كما في الفجار من المؤمنين ، فلا جرم لا تزول ، والفطرة الانسانية التي تميز الخبيث من الطيب باقية غير راضية بهذه القرناء ، فصارت مثل مركب القوى ، إذ ليس إحداهما طبيعية والأخرى عرضية ، بل كلتاهما طبيعيتان. ٢

أما في ردّه للمستدلين على انقطاع العذاب بكون الخلود في العذاب منافياً للرحمة الالهية ، فيقول السبزواري : البعض قالوا : ( الله أرحم الراحمين وأنه أرحم بالعبد من الوالد بولده ولا يرضى الوالد بالعذاب الدائم بولده ، ولو كان عاقاً ) وهؤلاء نسوا بـ ( أنه أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة ) وكذلك غفلوا بأن العذاب من لوازم نفس أعمال المعذب ، وليس من باب تشفي المنتقم. ٣

________________

١. السبزواري ، تعليقات على شواهد الربوبية ، ص ٧٧٧ ؛ وراجع : الاسفار ، ج ٩ ، ص ٣٤٧ ( التعليقة ).

٢. المصدرين السابقين.

٣. راجع : السبزواري ، مجموعة رسائل سبزواري ، ص ٣٢٩.

٢٠٩

وفي النتيجة فالمحقق السبزواري مع أنه يقول بخلود الكفار في النار ودوام العذاب عليهم ، يقول عن هذه المسألة : إن المقام من الأسرار التي لا تفهمها العقول وتضّرها وتهلكها. ١

٨. العلامة محمد حسين الطباطبائي ( ١٤٠٢ ه‍ )

العلامة الطباطبائي في تفسيره القيم ( الميزان ) يطرح بحثاً فلسفياً عن مسألة الخلود في جهنم ، ويشير فيه إلى اختلاف الباحثين في هذه المسألة من حيث النظر العقلي ومن جهة الظواهر اللفظية للكتاب والسنة.

وبالنسبة إلى النظر العقلي يقول العلامة بأن النعمة والعذاب طارئان على النفس من جهة تجردها وتخلقها بأخلاق وملكات فاضلة أو رديّة ، ويقسم النفوس تبعاً للمفهوم القرآني عن السعادة والشقاوة إلى ثلاثة أقسام : نفوس سعيدة ، ونفوس شقية سعيدة الذات ، ونفوس شقية شقية الذات.

وبالنسبة إلى النفوس الشقية السعيدة الذات يقول العلامة : بأن الملكات والهيئات الردية التي اكتسبها لا تكون راسخة للنفس ، ولا تكون ملائمة لذاتها ، وأنها ستزول ، لأن القسر لا يكون دائمياً ولا أكثرياً ، وهذه النفس هي النفس السعيدة ذاتاً ، وعليها هيئات شقية ردية ممكنة الزوال عنها ، كالنفس المجرمة.

وأما بالنسبة إلى النفوس الشقية الشقية الذات فيقول العلامة : بأن الهيئات الردية التي رسخت في النفس حتى صارت صوراً أو كالصور الجديدة تعطي للشيء نوعية جديدة ، كالانسان البخيل الذي صار البخل صورة لانسانيته ، كما صار النطق لحيوانيته الصائرة به نوعاً جديداً تحت الحيوان ، فمن المعلوم أن هذا النوع نوع مجرد في نفسه دائمي الوجود ، وجميع ما كان يصدر عنه بالقسر حال عدم الرسوخ ، فيعذب به ويذوق وبال أمره ، فهي تصدر عن هذا

________________

١. الاسفار ، ج ٧ ، ص ٩٠ ( التعليقة ) : مجموعة رسائل سبزواري ، ص ٢٣٠.

٢١٠

النوع باذن الله من غير قسر ، إلّا أنها لما كانت صادرة عن نوعيته من غير قسر ، فهي دائمة من غير زوال بخلاف ما لو كانت حاصلة بالقسر ، ومثل هذا الانسان المعذب بلوازم ملكاته من وجه ، مثل من ابتلى بمرض الماليخوليا أو الكابوس المستمر ، فإنه لا يزال يصدر عن قوة تخيله صور هائلة أو مشوهة يعذب بها ، وهو نفسه هو الذي يوجدها من غير قسر قاسر ، ولو لم تكن ملائمة لطبعة المريض ما أوجدها ، فهو وإن لم يكن متألماً من حيث انتهاء الصدور اليه نفسه ، لكنه معذب بها من حيث أن العذاب ما يفر منه الانسان إذا لم يبتل به بعد ويجب التخلص عنه إذا ابتلى به ، وهذا الحد يصدق على الأمور المشوهة ، والصور غير الجميلة التي تستقبل الانسان الشقي في دار آخرته ، فقد بان أن العذاب خالد غير منقطع عن الانسان الشقي الذي لذاته شقوة لازمة. ١

ولهذا نجد العلامة في تعليقه على الأسفار يرد على صدرالدين الشيرازي في قوله : لا يخلو الكفر أو ما يجري مجراه إما أن يخرج الانسان عن الفطرة الأولى ويدخله في فطرة أخرى من نوع آخر أو لا ، وعلى التقديرين يلزم أن لا يكون العذاب أبدياً.

ويجيب العلامة عنه بقوله : أما على الشق الأول ـ وهو الخروج عن الفطرة بحصول نوعية جديدة ـ فلأن هذه الصورة الجديدة ـ كيفما كانت ـ هي صورة بعض الملكات الخبيثة التي حقيقتها نوع من التعلق بالمادة والنفرة عن عالم القدس والطهارة ، فاذا تصور بها الانسان وأخذت آثارها في الظهور ، ثم فارقت النفس البدن ، وظهرت لها حقيقة الأمر كان ما يصدر عنها من الآثار مؤلماً لها ، وهي لا محيص لها عن إصدارها لمكان الملكة التي صارت صورة

________________

١. راجع : تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ٤١٢ ، ٤١٣.

٢١١

لها ، فهذه الآثار آثار كمالية لها ملائمة من حيث أنها مؤلمة منافرة لانكشاف حقيقتها للإنسان في النشأة الآخرة. وهذا نظير من اعتاد بشيء من العادات المضرة الهادمة لبنيان الحياة ، ثم انكشف له مضرتها بعد استقرار العادة ، فانه عند الفعل يتألم بعين ما يلتذ.

وأما على الشق الثاني ـ هو البقاء على الفطرة الانسانية ـ فان تلك العوارض المؤلمة المعذبة ، وإن كانت قسرية إلّا أن شيئاً منها ليس بدائم ولا أكثري ، بل متواردة متبدلة ، والنفس في طريق الاستكمال في شقاوتها ، يعرضها عارض من العذاب بعد عارض بتفاعل هيئات الشقاوة بعضها مع بعض إلى غير النهاية. كما يلوح إليه قوله تعالى : ( كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) ، وقوله تعالى : ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) وبالجملة : العذاب من قبيل القسر ، لكن الدائم هو نوع العذاب دون شخصه ، وهم لا يمنعون دوام القسر النوعي وأكثريته. ١

العلامة الطباطبائي تعرض في تفسيره إلى بعض الاشكالات المترتبة على القول بالخلود في العذاب ، والمطروحة أصلاً من قبل صدرالدين الشيرازي وبعض العرفاء أمثال ابن عربي والقيصري وغيرهم ، وقد أجاب عنها العلامة بإجابات وافية شافية ، وفيما يلي خلاصة هذه الاشكالات مع أجوبتها :

١. إن الله سبحانه ذو رحمة واسعة غير متناهية ، فكيف يسع رحمته أن يخلق من مصيره إلى عذاب خالد لايقوم له شيء ؟

الجواب : إن الرحمة فيه تعالى ليس رقة القلب والإشفاق والتأثر الباطني ، فانها تستلزم المادة ـ تعالى عن ذلك ـ بل معناها العطية والافاضة لما يناسب الاستعداد التام الحاصل في القابل ، والرحمة رحمتان : رحمة عامة ، وهي

________________

١. الاسفار ، ج ٧ ، ص ٨٩ ، ٩٠ ( التعليقة )

٢١٢

إعطاء ما يستعد له الشيء ويشتاقه في صراط الوجود والكينونة ، ورحمة خاصة ، هي إعطاء ما يستعد الشيء في صراط الهداية إلى التوحيد وسعادة القرب ، وإعطاء صورة الشقاء اللازم ، الذي أثره العذاب الدائم للانسان المستعد له باستعداده الشديد ، لا ينافي الرحمة العامة بل هو منها ، وأما الرحمة الخاصة فلا معنى لشمولها لمن هو خارج عن صراطها ، فلا منافاة بين العذاب الدائم والرحمة سواء العامة منها أو الخاصة كما تبين ، على أن الإشكال لو تم لجرى في العذاب المنقطع أيضاً حتى أنواع العذاب الدنيوي.

٢. إن العذاب إنما يكون عذاباً إذا لم يلائم الطبع فيكون قسراً ، ولا معنى للقسر الدائم ، فكيف يصح وجود عذاب دائم ؟

الجواب : يجب أن يعين معنى عدم ملائمة الطبع ، فانه تارة بمعنى عدم السنخية بين الموضوع والأثر الموجود عنده ، وهو الفعل القسري الذي يصدر عن قسر القاسر ، ويقابله الأثر الملائم الذي يصدر عن طبع الشيء إذا اقترن به آفات سم رسخت فيه ، فصارت صورة في الشيء ، وعاد الشيء يطلبه بهذا الوجود ، وهو في عين الحال لا يحبه ، كما مثّلنا فيه من مثال الماليخوليائي ، فهذه الآثار ملائمة لذاته من حيث صدورها عن طبعه الشقي الخبيث ، والآثار الصادرة عن الطباع ملائمة ، وهي بعينها عذاب لصدق حد العذاب عليها ، لكون الشيء لا يرتضيها ، فهي غير مرضية من حيث الذوق والوجدان في عن كونها مرضية من حيث الصدور.

٣. إن العبد لم يذنب إلّا ذنباً منقطع الآخر ، فكيف يجازى بعذاب دائم ؟

الجواب : ان العذاب ترتب أثر غير مرضي على موضوعه الثابت حقيقة ، وهو صورة الشقاء ، فهذا الأثر معلول الصورة الحاصلة بعد تحقق علل معدة ، وهي المخالفات المحدودة ، وليس معلولاً لتلك العلل المعدة المحدودة حتى

٢١٣

يلزم تأثير المتناهي أثراً غير متناه ، وهو محال ، نظير تصور المادة بالصورة الانسانية بتوسط علل معدة ، ولا معنى أن يسأل ويقال : إن الآثار الإنسانية الصادرة عن الانسان بعد الموت صدور دائمي سرمدي لحصول معدات مقطوعة الأمر للمادة ، فكيف صار مجموع منقطع الآخر من العلل سبباً لصدور الآثار المذكورة وبقائها مع الانسان دائماً ، لأن علتها الفاعلة ـ وهي الصورة الانسانية ـ موجودة معها دائماً على الفرض ، فكما لا معنى لهذا السؤال لا معنى لذلك أيضاً.

٤. إن أهل الشقاء لا يقصر خدمتهم لنظام التكوين عن خدمات أهل السعادة ، ولولاهم لم تتحقق سعادة لسعيد ، فما هو الموجب لوقوعهم في عذاب مخلد ؟

الجواب : إن الخدمة والعبودية أيضاً مثل الرحمة على قسمين : عبودية عامة ، وهو الخضوع والانفعال الوجودي عن مبدأ الوجود ، وعبودية خاصة وهو الخضوع والانقياد في صراط الهداية إلى التوحيد ، ولكل من القسمين جزاء يناسبه وأثر يترتب عليه ويخصه من الرحمة ، فالعبودية العامة في نظام التكوين جزاؤه الرحمة العامة ، والنعمة الدائمة والعذاب الدائم كلاهما من الرحمة العامة ، والعبودية الخاصة جزاؤه الرحمة الخاصة ، وهي النعمة والجنة ، على أن هذا الإشكال لو تم لورد في مورد عذاب المنقطع ، بل الدنيوي أيضاً.

٥. إن العذاب للعاصي انتقام ، ولا يجوز الانتقام على الله تعالى ، لأنه لا يكون إلّا لجبر النقص ، والله تعالى هو الغني المطلق ، فكيف يجوز منه العذاب المخلد ؟

الجواب : إن العذاب الدائم مستند إلى صورة الشقاء الذي في الانسان ، وإلى الله سبحانه بالمعنى الذي يقال في كل موجود إنه مستند اليه تعالى لا بمعنى الانتقام وتشفي الصدر المستحيل عليه تعالى ، نعم الانتقام بمعنى الجزاء الشاق

٢١٤

والأثر السيء الذي يجزي به المولى عبده لتمرده عليه مما يصدق فيه تعالى ، ولكن لا يستلزم كون العذاب انتقاماً بهذا المعنى إشكالاً البتة. على أن هذا الإشكال لو تم لورد في مورد العذاب المؤقت المنقطع في الآخرة ، بل في الدنيا أيضاً. ١

٩. جلال الدين الآشتياني

جلال الدين الآشتياني يحاول وبإصرار شديد على إثبات الخلود في العذاب للكفار ، يتمسك في ذلك بأدلة شرعية وعقلية ويردّ على أدلة القائلين بانقطاع العذاب مع اعترافه بكون الخلود في العذاب ليس من ضروريات الاسلام ، يقول الآشتياني : صحيح أن ضروري الاسلام هو الخلود في جهنم لا خلود العذاب ، ولكن الدليل المحكم من العقل والشرع قائم على سرمدية ودوام العذاب للكفار والمشركين ، وانقطاع العذاب عن العاصين والموحدين. ٢

وبالنسبة إلى دليله الشرعي في إثبات دوام العذاب يقول الآشتياني : مطابق ما يفهم من النصوص وظواهر الكتاب والسنة في مسألة العذاب وخلوده ومسألة النيران وجهنم ودركاته ، هو أن دار جهنم مكان للعذاب والآلام ، والعذاب والآلام متعلق بالروح والجسم كليهما ، ولا ينحصر في أحدهما دون الآخر. ويفهم أيضاً بأن الوقوع أو الخلود في جهنم ملازم مع العذاب ، وشدة وضعف العذاب تابع لقوة وضعف علل وأسباب أنواع العذاب ، وأيضاً انقطاع العذاب ودوامه تابع أيضاً لمبدأ العذاب الأخروي ، ومبدأ العذاب سواء كان على نحو الدوام أو على نحو مؤقت تابع لنحو رسوخ مباديء الآلام في باطن نفس العاصي والمشرك والكافر ، ولذلك القول بالاستقرار في النار وانفكاك

________________

١. راجع : تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ٤١٣ ـ ٤١٦.

٢. راجع : جلال الدين الآشتياني ، شرح بر زاد المسافر ، ص ٣٥٧ ؛ مقدمة اصول المعارف ، ص ٣٢٤.

٢١٥

العذاب أو صيرورته عذباً وسائغاً ومرغوباً ، فإنه في نظر كاتب هذه السطور من الأوهام ، وفي جميع الآيات والروايات العذاب معلق على الوجود في جهنم بهذا المعنى ، وهو أن النيران ودركاتها ليست موضعاً للذة والرحمة ، ومحلاً للاستراحة والمسرة ، بل آلامها متنوعة وشروها دائمة ، وبالنتيجة فانها دار العذاب والنقمة والبلاء ، ودوام العذاب تابع للملكات الراسخة الحاصلة عن الأعمال والنيات. ١

ولهذا فهو يتمسك بحديث منقول عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم جالساً في مسجده ، إذ دخل عليه رجل من اليهود ، قال اليهودي : فان كان ربك لا يظلم ، فكيف يخلد في النار أبد الآبدين من لم يعصه إلّا أياماً معدودة ؟ قال : يخلده على نيته ، فمن علم الله نيته أنه لو بقي في الدنيا إلى إنقضائها ، كان يعصي الله عزوجل خلده في ناره على نيته ، ونيته في ذلك شر من عمله... إلى أن قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : والله عزّوجلّ يقول : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا ) ». ٢

وعن طريق هذا الحديث يريد الآشتياني أن يثبت بأن تكرر الأعمال القبيحة الصادرة عن الانسان يؤدي إلى رسوخ النية السوء في باطن النفس ، فتكون غير قابلة للزوال ، وبالنتيجة يكون العذاب دائمياً غير قابل للزوال والانقطاع حيث يقول : الجهة الباقية للعمل التي هي منشأ الثواب والعقاب هي نفس النية الحاصلة في مقام باطن الانسان ، والتي ينشأ العمل منها ، والعمل أمر زائل وغير باق وواقع في دار الحركات ، ومركب من الأعراض المتباينة بحيث له صورة اعتبارية ، وجوهر وباطن ذلك هو النية ، وهذه النية في الذين

________________

١. راجع : المصدرين السابقين ، ص ٣٥٧ ؛ ص ٣٢٥ ، ٣٢٦.

٢. راجع : الشيخ الصدوق ، التوحيد ، ص ٣٨٦ ، ٣٨٧.

٢١٦

تعودوا على العصيان والتمرد راسخة وباقية وغير قابلة للزوال إلى حد بحيث تصبح عين النفس التي هي منشأ للعصيان ، وبمنزلة أمر جوهري وذاتي للنفس بحيث يستحيل زوالها بدون زوال صاحب النية ، وحسن وقبح العمل ينشأ أيضاً من النية الحسنة والقبيحة ، وموجب العذاب في هذه الصورة أمر دائمي ، ولذلك فالعذاب منبعث من ذات النفوس الشريرة ، ومن هنا فإنه يوجد تلازم وجودي بين النفوس الشريرة وأصحاب النيات الخبيثة ، ويستحيل أن تكون النفس المنحرفة عن الصراط الانساني مبدأً لأعمال الخير ، والمعلول في أطوار الوجود وفي الخسة والشرف والشرية والخيرية تابع للمؤثر والعلة ، قال تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ ).

وقال : يستفاد من هذه الرواية عدة قواعد فلسفية ، وهي : ترتب العذاب على الوجود الواقع في جهنم ، والملازمة التامة بين النية السيئة والعذاب ، ووجوب السنخية بين الأثر ومبدئه. ١

وفي خصوص الاستدلال العقلي على أبدية العذاب ، فالآشتياني بالاضافة إلى استناده إلى العقل في توضيح الرواية السابقة قد حاول إثبات خلود العذاب بقاعدة عقلية وهي العلية والمعلولية ، وقد أشار إليه فيما سبق إجمالاً عندما قال بوجود تلازم وجودي بين النية السيئة والعذاب ، فالآشتياني يعتقد بوجود علية ومعلولية بين العذاب ومنشأ العذاب ، فاذا كان منشأ ومبدأ العذاب راسخاً وغير قابل للزوال كان العذاب دائمياً وأبدياً ، فقال : إذا أصبح منشأ العذاب في النفوس الشقية مستحكماً وذا بنيان قوي وغير زائل ، فإن موجب العذاب باق ودائمي ، والتخلص منه محال بهذا المعنى ، وهو أنه إذا صار منشأ حدوث العذاب في الآخرة علةً لبقائه أيضاً بهذا المعنى ، وهو أن

________________

١. شرح بر زاد المسافر ، ص ٣٥٨ ؛ مقدمة اصول المعارف ، ص ٣٢٥ ، ٣٢٦.

٢١٧

يكون غير جائز الزوال ، ويكون مبدأ حركة النفس في مراتب العذاب وصور منشأ الآلام أمراً ذاتياً وجوهرياً ، وبما أن منشأ الحركة هو باطن الذات ، فان حركته في مراحل العذاب يكون دورياً ، والمتحرك إذا كان حركته من علة موجودة في صميم ذاته ، ولم يتحقق مانع ودافع عن الحركة لا في خارج الذات ولا في باطن الذات ، فيلزم أن يكون عذابه دائمياً وغير قابل للزوال ، ومن هنا فان كون حركة أهالي العذاب وتلبّسهم بالصور المتواردة والمنبعثة دورية وغير مستقيمة ، مما يجعل النجاة غير ميسورة ، وفي مقابل الفطرة الأصلية تحصل فطرة ثانوية في وجود النفس بحيث لا يمكن زوالها بعد تجوهرها وانقطاع العذاب في هذا الموارد ، لا يكون سوى عدم المعلول مع وجود العلة التامة. ١

وفي موضع آخر يطرح هذا الاستدلال بناءً على الحركة الجوهرية ، وذلك رداً على النافين للحركة الجوهرية ، والمعتقدين بأن جوهر النفس في ابتداء الوجود الانساني وقبل ارتكاب المعاصي جوهر مجرد تام الوجود ، وأن النفس لا تصل إلى مقام التجرد العقلي من جهة الحركة الذاتية ، وأنها تبقى في نزاهته الذاتية بعد ارتكاب المعاصي ، فلا تتبدل العرضيات إلى الذاتيات ، وبالنتيجة تزول لمعارضته بالذاتيات ، لأن القسر ليس بأكثري ولا دائمي ، فتزول صورة النار ، ويلحق الشخص المعذب بأهل الايمان وسكان الجنان. فيقول الآشتياني رداً على هؤلاء : بناءً على مسلك أهل الحق ، أي بناءً على الحركة في جوهر النفس الانساني في ابتداء وجوده أمر بالقوة ، وبعد طي الدرجات النباتية والحيوانية تصل إلى مقام العقل الذي هو ملاك التكليف ومميز الحسن والقبح ، ويرجع جميع الأفعال الصادرة منها منطبقة مع الشرع ،

________________

١. راجع : المصدرين السابقين ، ص ٣٥٦ وص ٣٢٢ ، ٣٢٣.

٢١٨

ويحصل من الطاعة والعصيان أثر في باطن النفس ، وإذا وقعت النفس في صراط الشهوات ، فان تكرر المعاصي والأعمال القبيحة من النفوس الشريرة يجعل باطن وملكوت النفس أن يظهر بصورة غير الصورة الظاهرية للإنسان ، وبالنتيجة تصبح بالتدريج منحرفة عن الصراط الانساني ، ومع أن أصل الفطرة باقية ولها آثار بحسب تكوينها من العبودية والإقرار بالتوحيد ، إلّا أنها تضعف قليلاً قليلا نتيجة انحرافها التدريجي عن الصراط الانساني والملكات الحاصلة من الشرارة وحب الدنيا ، والصور المترتبة على النيات السوء تكون لها في مقابل الفطرة الذاتية بنيان وأساس مستحكم بحيث يتحول إلى طبيعة ثانوية وطبيعة ذاتية غير قابلة للزوال ، فان تخلف العذاب في هذه الصورة والخروج من الجحيم وعدم التأذي بنار الطبيعة وانقطاعها عن المبتلين بالجهل المركب من الأشقياء والكفار ، هو نفس المعلول عن العلة التامة ، وبمنزلة جواز انفكاك الذاتيات من الذات. ١

إنتقادات الآشتياني للعرفاء في قولهم بانقطاع العذاب عن الكفار

وجه الآشتياني حملة قاسية على العرفاء القائلين بانقطاع العذاب عن الكفار ، إذ يقول عنهم : إن العرفاء مهما أعجزوا في مقام تقرير الذوقيات ، ولكنهم في البرهانيات عاجزون ومغلولوا الأيدي ، ومسألة بهذه الأهمية ـ أي بحث الخلود في جهنم ـ التي تعتبر من الأركان وأصول العقائد ومن نفائس المعارف الإنسانية ، نراهم يحلونها بمطالب شعرية ضعيفة ، بحيث إن بعض هذه المطالب أوهن من بيت العنكبوت. ٢

وقال في موضع آخر. بأن الوجوه المذكورة في كلمات العرفاء ( نظماً

________________

١. راجع : المصدرين السابقين ، ص ٣٦٣ ، ٣٦٤ ؛ ص ٣٣٣ ، ٣٣٤.

٢. المصدرين السابقين ، ص ٣٦٧ ؛ ص ٣٣٧ ( التعليقة )

٢١٩

ونثراً ) في هذا المقام ليست برهانية بل خطابية. ١

وقال أيضاً : إن ما قيل في هذا المقام ( انقطاع العذاب وصيروته عذباً ) تمويه وخيال في خيال ، وما أنزل الله بها من سلطان ، والمتبع في أمثال هذه المسائل نصوص الكتاب والسنة والبراهين العقلية لا الخطابات الذوقية. ٢

وبالنسبة إلى العلامة داود القيصري الذي يقول في شرحه للفصوص : اعلم أن من اكتحلت عينه بنور الحق يعلم أن العالم بأسره عباد الله ، وليس لهم وجود وصفة إلّا بالله وحوله وقوته ، وكلهم محتاجون إلى رحمته ، وهو الرحمان الرحيم ، ومن شأن من هو موصوف بهذه الصفات ، ألّا يعذب أحداً عذاباً أبداً ، وليس ذلك المقدار من العذاب أيضاً إلّا لأجل إيصالهم إلى كمالاتهم المقدرة لهم ، كما يذاب الذهب والفضة بالنار ، لاجل الخلاص مما يكدره وينقص عياره.

وقد رده الآشتياني بقوله : العذاب الإلهي ليس من باب تشفي القلب ، وأيضاً الآخرة لا تكون دار تكامل ، والحركة الاستكمالية في الآخرة غير ممكنة ، بل إذا كان مبدأ العذاب من العوارض الغريبة في جوهر النفس ، فانه يزول ، وذلك ليس من باب الحركة الاستكمالية ، والخلود في العذاب لا منافاة له مع الرحمة الالهية ، والرحمة الالهية والعطيات الربانية في القوابل بحسب استعدادات المظاهر لاعلى سبيل الجزاف ، والسير التدريجي للروح في صور مباديء العذاب واستحكام بنيان هذه الصور وتجوهرها وتبديل العرضيات إلى الذاتيات ، ففي هذه الحالة لا ينقطع العذاب بوجه من الوجوه. ٣

وفي موضع آخر يحل أيضاً إشكال منافاة الرحمة الإلهية مع الخلود في

________________

١. راجع : المصدرين السابقين ، ص ٣٦٢ ؛ ص ٣٣١.

٢. صدر الدين الشيرازي ، مقدمة الشواهد الربوبية ، ص ٣١٧ ( التعليقة )

٣. راجع : شرح بر زاد المسافر ، ص ٣٦٣ ؛ مقدمة اصول المعارف ، ص ٣٣٢.

٢٢٠