الخلود في جهنّم

محمد عبد الخالق كاظم

الخلود في جهنّم

المؤلف:

محمد عبد الخالق كاظم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 964-7741-74-X
الصفحات: ٢٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وهناك قول آخر ، وهو أن آيات الوعيد إنما جاءت للتخويف ولاثارة الرعب في قلوب الكفار وقد ذهب إلى هذا القول محمد عزة دروزة ، ونسبه أيضاً الفخر الرازي إلى قائل لم يصرح باسمه ، وقد استدل هذا القائل المجهول على هذا الرأي بعدد من الوجوه ، وهذا الرأي من أضعف الأقوال في هذا الموضوع ، وقد ثبت بطلانه وبطلان الوجوه التي احتجوا بها على هذا الرأي.

وأما قول محمد إقبال اللاهوري ـ وهو أنه لا يوجد عذاب أبدي في الاسلام ، ولفظ الأبدية الذي جاء في بعض الآيات وصفاً للنار يراد به حقبة من الزمان ، كما يفسره القرآن نفسه ، وما ذلك المقدار من العذاب إلّا تجربة للتطهير والتقويم ـ فقد ثبت في قسم التفسير أن آية الحقب لا تدل على محدودية العذاب ، وثبت في قسم الفلسفة بأن دار الآخرة ليست بدار استكمال حتى تكون تطهيراً للنفوس.

١٨١

١٨٢



٦

الخلود في جهنم عند الفلاسفة

البحث الفلسفي حول الخلود في العذاب من المسائل المستعصية للاشكالات العقلية التي ترد على القول بالخلود في العذاب ، ولوجود خلافات كثيرة بين الفلاسفة والعرفاء وبين العرفاء أنفسهم ، حيث قال صدرالدين الشيرازي : هذه مسألة عويصة ، وهي موضع خلاف بين علماء الرسوم وعلماء الكشوف ، وكذا موضع خلاف بين أهل الكشف هل يسرمد العذاب على أهل النار الذين هم من أهلها إلى ما لانهاية له ، أو يكون لهم نعيم بدار الشقاء ، فينتهي العذاب فيهم إلى أجل مسمّى مع اتفاقهم على عدم خروج الكفار منها ، وإنهم ماكثون فيها إلى ما لانهاية له ، فان لكل من الدارين عماراً ، ولكل منهما ملؤها. ١

وهنا نستعرض آراء عدد من الفلاسفة للوقوف على آرائهم حول الخلود في جهنم.

١. أبو نصر الفارابي ( المتوفى ٣٣٩ ه‍ )

مذهب الفارابي في خلود النفس مورد خلاف بين الفلاسفة منذ القدم ، وكذلك مورد خلاف بين مؤرخي الفلسفة ، فالبعض قالوا بأن الفارابي يؤمن بخلود

________________

١. الأسفار ، ج ٩ ، ص ٣٤٦ ، ٣٤٧ ؛ الشواهد الربوبية ( المقدمة ) ، ص ٣١٣.

١٨٣

النفس ، والبعض الآخر قالوا بإنكاره لخلود النفس. ١ ولهذا نرى ابن طفيل يتهم الفارابي بالتردد والاضطراب في مسألة خلود النفس ، قال ابن طفيل : وأما ما وصل الينا من كتب أبي نصر فأكثرها في المنطق ، وما ورد منها في الفلسفة فهي كثيرة الشكوك ، فقد أثبت في كتاب ( الملة الفاضلة ) بقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام لا نهاية لها بقاءً لا نهاية لها ، ثم صرح في السياسة المدنية بانها منحلة وصائرة إلى العدم وأنه لا بقاء إلا النفوس الكاملة. ٢

وحنا الفاخوري وخليل الجر تبعاً لرأي ابن طفيل بالنسبة إلى الفارابي قالوا : في الواقع أن الفارابي لي يبرز رأيا صريحاً في هذا المورد الخطير ، لأنه كان تحت تأثير أرسطو ، هذا من جهة ومن جهة أخرى لم يتمكن أن يخالف تعاليم الاسلام ، يقول أحياناً بأن الخلود من طبيعة النفس ، وأحياناً يقول بأن النفوس الجاهلة لا حظّ لها في الخلود. ٣

وفيما يلي استعراض لآراء الفارابي حول خلود النفس لبيان مدى صحة هذه الاتهامات المنسوبة اليه :

يقسم الفارابي النفوس إلى أقسام ثلاثة بالارتباط إلى الخلود ؛ وهي النفوس الفاضلة ، والنفوس الشقية ، والنفوس الجاهلة.

وحصول السعادة للنفوس الفاضلة عند الفارابي يحصل بزوال الشرور عن المدن والأمم وحصول الخيرات ومدبر المدينة ، أي الرئيس الأول ، وهو الملك عند القدماء ، وهو الذي ينبغي أن يوحى اليه ، يلتمس إبطال الشرور جميعاً وايجاب الخيرات جميعاً ، ويتعاون معه أهل المدينة ، ويحتاج كل واحد من أهل المدينة الفاضلة أن يعرف مبادىء الموجودات القصوى ومراتبها

________________

١. راجع : د. خليل الجر ، وحنا الفاخوري ، تاريخ فلسفة اسلامي ، ص ٤٢١.

٢. ابن طفيل ، حي بن يقظان ، ص ٢٣.

٣. راجع : حنا الفاخوري وخليل الجر ، تاريخ فلسفة اسلامي.

١٨٤

والسعادة والرئاسة الأولى التي للمدينة الفاضلة ومراتب رئاستها ، ثم من بعد ذلك الأفعال المحدودة التي إذا فعلت نيلت بها السعادة ، وأن لا يقتصر على أن تعلم هذه الأفعال دون أن تعمل بها ، ويؤخذ أهل المدينة بفعلها. ١

وعن كيفية الخلود في السعادة للأنفس الفاضلة بعد مفارقة الأبدان ، يقول الفارابي : فاذا مضت طائفة وبطلت أبدآنها وخلصت أنفسها وسعدت ، فخلفهم ناس آخرون بعدهم قاموا في المدينة مقامهم وفعلوا أفعالهم خلصت أيضاً أنفس هؤلاء. وإذا بطلت أبدانهم صاروا إلى مراتب أولئك الماضين من تلك الطائفة ، وجاوروهم على الجهة التي بها يكون تجاور ما ليس بأجسام ، واتصلت النفوس المتشابهة من أهل الطائفة الواحدة بعضها ببعض. وكلما كثرت الأنفس المتشابهة المفارقة واتصل بعضها ببعض ، كان التذاذ كل واحد منها أزيد. وكلما لحق بهم من بعدهم زاد التذاذ كل من لحق الآن لمصادفته الماضين ، وزادت لذات الماضين بإتصال اللاحقين بهم ، لأنّ كل واحدة تعقل ذاتها وتعقل مثل ذاتها مراراً كثيرة ، ويزيد ما يعقل منها بلحاق الغابرين بهم في مستقبل الزمان في كون تَزيدّ لذات كل واحد في غابر الزمان بلا نهاية. وتلك حال كل طائفة ، فهذه هي السعادة القصوى الحقيقية التي هي غرض العقل الفعال. ٢

والنفوس الفاسقة فقد عرّفها الفارابي بقوله : وأما المدن الفاسقة فهي التي اعتقد أهلها المباديء وتصوروها وتخيلوا السعادة واعتقدوها ، وأرشدوا إلى الأفعال التي ينالون بها السعادة وعرفوها واعتقدوها. غير أنهم لم يتمسكوا بشيء من تلك الأفعال ، ولكن مالوا بهواهم وإرادتهم نحو شيء ما من أغراض أهل الجاهلية. وإنما يباينون أهل الجاهلية بالآراء التي يعتقدونها فقط. ٣

________________

١. راجع : الفارابي ، السياسة المدنية ، ص ٨٤ ، ٨٥.

٢. السياسة المدنية ، ص ٨٢ ؛ راجع : الفارابي ، آراء اهل المدينة الفاضلة ، ص ٦٤ ، ٦٥.

٣. المصدر السابق ، ص ١٠٣ ، ١٠٤.

١٨٥

وعن علة شقاوة هذه النفوس وخلودها في الشقاوة يقول الفارابي : وأما أهل المدينة الفاضلة فان الهيئات النفسانية التي اكتسبوها من آراء أسلافهم ، فهي تخلص أنفسهم من المادة والهيئات النفسانية الردية التي اكتسبوها من افعال الرذيلة ، فتقترن إلى الهيئات الأولى ، فتنكدر الأولى وتضادها ، فيلحق النفس من مضادة هذه لتلك أذى عظيم ، فيجتمع من هذين أذيان عظيمان للنفس ، وأن هذه الهيئات المستفادة من أفعال الجاهلية هي بالحقيقة يتبعها أذى عظيم في الجزء الناطق من النفس ، وإنما صار الجزء الناطق لا يشعر بأذى هذه لتشاغله بما يورد عليه الحواس ، فاذا انفرد دون الحواس شعر بما يتبع هذه الهيئات من الأذى ، وظهر له أذى هذه الهيئات ، فبقى الدهر كله في أذى عظيم ، فإن ألحق به من هو في مرتبته من أهل تلك المدينة ازداد أذى كل واحد منهم بصاحبه ، لأنّ المتلاحقين بلا نهاية ، تكون زيادات أذاهم في الزمان بلا نهاية فهذا هو الشقاء المضاد للسعادة. ١

أما بالنسبة إلى النفوس الجاهلة ، وهم الذين لم تحصل لديهم المعرفة بالمباديء ولا بالسعادة ولم يعتقدوا بها ، ولم يرشدوا إلى الأعمال التي ينالون بها السعادة ، فهؤلاء يقول عنهم الفارابي : أما أهل المدن الجاهلية فإنّ أنفسهم تبقى غير مستكملة ومحتاجة في قوامها إلى المادة ضرورة إن لم يرتسم فيها رسم حقيقة بشيء من المعقولات الأول أصلاً ، فاذا بطلت المادة التي بها كان قوامها ، بطلت القوى التي كان شأنها أن يكون بها قوام ما بطل ، وبطلت القوى التي كان من شأنها أن يكون بها قوام ما بقي... وهؤلاء هم الهالكون والصائرون إلى العدم على مثال ما يكون عليه البهائم والسباع والأفاعي. ٢

وقد أشار إلى هذا المعنى في كتاب ( السياسة المدنية ) بقوله : فاذا كانت

________________

١. آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص ٦٧ ، ٦٨.

٢. المصدر السابق ، ص ٦٧.

١٨٦

أهل مدينة ما غير مسدد نحو السعادة ، فانها تكسبهم هيئات ردية من هيئات النفس ، وتصير مرضى. فلذلك يلتذون بالهيئات التي يكتسبونها بأفعالهم ، كما أن مرضى الأبدان مثل المحمومين لفساد حسهم يستلذون الأشياء المرة ويستحلّونها ، يتأذون بالأشياء الحلوة وتظهر مرة في لهواتهم. كذلك مرضى الأنفس لفساد تخيلهم يستلذون الهيئات الردية ، وكما أن في المرضى من لا يشعر بعلته وفيهم من يظن مع ذلك أنه صحيح ، ومن هذه سبيله من المرضى لا يصغي إلى قول طبيب أصلاً. كذلك من كان من مرضى النفوس لا يشعر بمرضه ، ويظن مع ذلك أنه فاضل صحيح النفس. فانه لا يصغي أصلاً إلى قول مرشد ولا معلم ولا مقوم. فهؤلاء تبقى أنفسهم هيولانية غير مستكملة استكمالاً تفارق به المادة حتى إذا بطلت المادة بطلت هي أيضاً. ١

وقد حمل بعضهم ٢ هذه الفترة التي نقلناها عن السياسة المدنية أنها للنفوس الشقية ، ولكن هذه الفقرة تنطبق على ما ذكره المعلم الثاني عن النفوس الجاهلة بالاضافة إلى عدم انطباق تعريفه للنفوس الشقية على هذه الفقرة.

ما هو المقصود الفارابي من بطلان وانعدام النفوس الجاهلة ؟

رأي المعلم الثاني عن النفوس الجاهلة هو السبب في اتهامه من قبل كثيرين بالتردد في رأيه حول خلود النفس ، ولنرى ما هو مقصود الفارابي من بطلان النفوس ، هل هو البطلان والانعدام مطلقاً ، أم أن مقصوده شيء آخر ؟

المعلم الثاني ذكر في نصوص عديدة متناثرة في كتبه ، وصرح بخلود النفس ، قال في ( الدعاوي القلبية ) : وإنها ـ أي النفس ـ مفارقة باقية بعد موت البدن ، ليس فيها قوة قبول الفساد. وإن بها بعد المفارقة أحوالاً ، إما أحوال

________________

١. السياسة المدنية ، ص ٨٢ ، ٨٣

٢. راجع : د. ابراهيم العاتي ، الانسان في فلسفة الفارابي ، ص ١٠٤.

١٨٧

سعادة ، وإما أحوال شقاوة. ١

وقال في التعليقات : الجسم شرط في وجود النفس لامحالة ، فاما في بقائها فلا حاجة لها إليه. ٢ أي إن بقاء النفس لا يتوقف على بقاء الجسم ، لأنه سيفنى والنفس تظل خالدة.

وقال في كتاب ( عيون المسائل ) : إن القوى التي تدرك المعقولات جوهر بسيط... وهو مفارق للمادة يبقى بعد موت البدن ، وليس فيه قوة قبول الفساد ، وهو جوهر أحدى ، وهو الانسان على الحقيقة. ٣ وهنا أيضاً يؤكد على بقاء النفس وخلودها بعد موت البدن ومفارقته للنفس.

فهذه النصوص توكد خلود النفس من غير فرق بين كونها فاضلة أو شقية أو جاهلة ومن هنا نفهم أن مقصود الفارابي من بطلان النفوس ليس بطلانها وفناءها مطلقاً. وهذا ما جعل بعض الباحثين يتصدى للدفاع عن الفارابي ، قال الدكتور جعفر آل ياسين : عند تحكيم الرأي نجد أن المقصود من إضعاف خلود بعض الأنفس الشريرة هو تحقيق لطبيعة العقيدة الدينية التي أكدت تصنيف الأنفس الانسانية إلى مراتب في سعادتها حسب أفعالها وصدور تلك الأفعال. فمن كانت نفسه مثقلة بالخطايا كان مصيره العذاب الأكبر ، ومن كان مصيره أقل في خطاياه كان مصيره الآلام المبرحة ، ومن تطهرت نفسه ، فهو في أعلى عليين مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. وتلك هي نظرة الفارابي بالذات ، وليس في موقفه هذا ما يدفع إلى القول بأنه تناقض مع نفسه ، بل على العكس كان أميناً معها ، ولكن هم بعض الباحثين للنصوص هو الذي

________________

١. الفاربي ، الدعاوي القلبية ، ص ١٠ ، نقلاً عن : الانسان في فلسفة الفارابي ، ص ١٠٤.

٢. الفارابي ، التعليقات ، ص ٥١ ضمن كتاب ، اربع رسائل فلسفية.

٣. الفارابي ، عيون المسائل ، ص ٦٤ نثلاً عن : الانسان في فلسفة الفارابي ، ص ١٠٤.

١٨٨

قاد إلى هذه الأحكام. ١

وقد تطرق صدر الدين الشيرازي في تفسيره إلى رأي الفارابي في النفوس الجاهلة بقوله : وإذا نظرت إلى ذات النفس وفعليتها في هذا العالم ، وجدتها مبدأ القوى الجسمانية ومستخدم الآلات الإحساسية والتحريكية... وإذا نظرت اليها بحسب نسبتها إلى وجود الروحاني ، وجدتها قوة محضة وفاقة صرفة لارتبة لها عند سكان عالم الغيب وعالم الآخرة نسبتها إلى الصور الأخروية نسبة البذر إلى الثمار والنطفة إلى الحيوان فان البذر بذر بالفعل ثمرة بالقوة ، والنطفة نطفة بالفعل حيوان بالقوة ، والبذر ليس ثمرة ، والنطفة ليست حيواناً إلا بضرب من المجاز ، فالعقل الهيولاني لا وجود له في عالم الآخرة ما لم يحصل له فعلية روحانية ، ولهذا ذهب بعض الحكماء إلى بطلان النفوس الخالية عن العلوم بعد بوار البدن وخراب الدنيا. ٢

ويمكننا القول هنا بأن مايقصده المعلم الثاني من قوله ببطلان النفوس الجاهلة ، يمكن اقتباسه من عبارة لصدر الدين الشيرازي في الأسفار عندما تحدث عن عذاب الجهل المركب قال : وهذا هو المراد من مذهب الحكماء ؛ إن عذاب الجهل المركب أبدي ، يعني صاحب الاعقاد الفاسد الراسخ في جهله وعتوه ، لا يمكن عوده إلى الفطرة الأصلية ، فيصير من الهالكين المائتين عن هذه النشأة وعن الحياة العقلية ، ولاينافي ذلك كونه حياً بحياة أخرى نازلة دنية ، وقوله تعالى في حقه : ( لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ) أي لا يموت موت البهائم ونحوها ، ولا يحيى حياة العقلاء السعداء. ٣

________________

١. د. جعفر آل ياسين ، فيلسوفان رائدان ( الكندي والفارابي ) ص ١١٢ ، ١١٣ نقلاً عن : الانسان في فلسفة الفارابي ، ص ١٠٧.

٢. صدر الدين الشيرازي ، تفسير القرآن الكريم ، ج ٥ ، ص ٢٨١.

٣. الاسفار ، ج ٩ ، ص ٣٥١ ، ٣٥٢.

١٨٩

فمقصود الفارابي من بطلان النفوس الجاهلة هو بطلانها وانعدامها عن مرتبة النفوس الفاضلة السعيدة لا بطلانها مطلقاً.

٢. الشيخ الرئيس ابن سينا ( المتوفى ٤٢٨ه‍ )

يبحث الشيخ الرئيس عن أحوال الأنفس الانسانية وسعادتها وشقاوتها بعد مفارقة البدن في العديد من كتبه ، خصوصاً في كتاب النجاة وإلهيات الشفاء والاشارات ، وفي هذا الصدد يقول الشيخ الرئيس : إن الأنفس الناطقة كما لها الخاص بها أن تصير عالماً عقلياً مرتسماً فيها صور المعقولات مبتدئة من مبدأ الكل ، وهو سالكة إلى الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة ، ثم الروحانية المتعلقة نوعاً ما بالأبدان ، وهكذا حتى تنقلب عالماً معقولاً موازياً الموجود كله ، ومشاهداً لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحق ومتحداً. وهذه الكمالات في التذاذ النفس بها أعلى وأشرف في الكم والكيف من لذة الكمالات التي تحصل عن طريق سائر القوى مثل اللذة الحسية ، بل لا يقاس بالنسبة اليها سائر الكمالات. ولكن في عالمنا وبدننا هذين وانغمارنا في الرذائل لا نحس بتلك اللذة العقلية والروحية إذا حصل عندنا شيء من أسبابه. ١

وفي خصوص شقاوة النفوس وسبب حصول الشقاوة الأبدية لها ، يقول الشيخ الرئيس ما مضمونه : وأما إذا إنفصلنا عن البدن ، وكانت النفس منا قد تنبهت وهي في البدن لكمالها وعلم بوجوده ، ولكنه لم تحصله مع كونها نازعة اليه بطبعها ، وعدم تحصيله لكمالها كانت لانشغالها بالبدن الذي أنستها التوجه لكمالها وتحصيلها وعاقته عن استكمال نفسها ليصل إلى السعادة ، فعند ذلك شعر بالأذى والبلاء العظيم الذي لا ينتهي ، فهذه هي الشقاوة التي لا يعادلها تفريق النار للاتصال وتبديل الزمهرير للمزاج.

________________

١. راجع : ابن سينا ، الهيات الشفاء ، ص ٤٦٦ ، ٤٥٧ ؛ النجاة ، ص ٢٩٣ ، ٢٩٤ ؛ الاشارات ، ج ٣ ، ص ٣٤٥.

١٩٠

وتلك الشقاوة لا تكون لكل واحد من الناقصين ، بل للذين اكتسبوا للقوة العقلية التشوق إلى كمالها ، وإذا فارقت البدن ولم يحصل على كمالها وقعت في هذا النوع من الشقاء الأبدي. ١

وأشار إلى هذا المعنى أيضاً في الاشارات بقوله : واعلم أن رذيلة النقصان إنما تتأذى بها النفس الشيّقة إلى الكمال. وذلك الشوق تابع لتنبه يفيده الاكتساب. والبله بجنبة [ نجية ] من هذا العذاب. وإنما هو للجاحدين والمهملين والمعرضين عما ألمع به اليهم من الحق. ٢

فالشقاوة في رأي الشيخ الرئيس هي للنفوس التي تنبهت لكمالاتها وعلمت بها وحصلت لها بذلك الشوق إلى كمالها ، ولكنها غفلت عنها ، فقصرت في الحصول على هذه الكمالات مع حصول الشوق عندها ، أما نفوس البلهاء ، وهي النفوس الساذجة الصرفة ، لا يكون لها شوق إلى كمالاتها ، لانها لم تعرفها ، فهؤلاء لا يتعذبون لأنهم غير عارفين بكمالاتهم ، فلم يحصل لديهم شوق إلى كمالاتهم.

وبشأن النفوس السعيدة وعن حصول السعادة الأبدية لها ، يقول الشيخ الرئيس : وأما إذا كانت القوة العقلية بلغت من النفس حداً من الكمال يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال التام الذي لها أن تبلغه ، كان مثلها مثل الخدر الذي أذيق الطعم الألذ ، وعرض للحالة الأشهى وكان لا يشعر بها ، فزال عنه الخدر وطالع اللذة العظيمة دفعة ، وتكون تلك اللذة لا من جنس اللذة الحسية والحيوانية بوجه ، بل لذة تشاكل الحالة الطيبة التي للجواهر الحية المحضة ، وهي أجل من كل لذة وأشرف. ٣

________________

١. راجع : المصدر السابق ، ص ٤٦٨ ، ٤٦٩ ؛ ص ٤٩٤ ، ٤٩٥.

٢. ابن سينا ، الاشارات ، ج ٣ ، ص ٣٥٢.

٣. راجع : الهيات الشفاء ، ص ٤٦٨ ، ٤٦٩ ؛ النجاة ، ص ٤٩٤ ، ٤٩٥.

١٩١

والسعادة الحقيقية في رأي الشيخ الرئيس لا يمكن الوصول اليها إلا باصلاح القوتين النظرية ، أي القوة العقلية ، والقوة العملية ، أي الجزء العملي من النفس ، فلا يكفي إصلاح القوة العقلية وحدها فبناءً على ذلك يقول الشيخ الرئيس ما ملخصه : إن السعادة الحقيقية لاتتم إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس ، وذلك بأن يحصل لها ملكة التويط للقوة الناطقة وللقوى الحيوانية معاً ، أما القوى الحيوانية فبأن تحصل فيها هيئة الإذعان للنفس ، وأما القوة الناطقة فبأن تحصل فيها هيئة الاستعلاء واللا إنفعال بالنسبة للبدن ، وأن يتجنب ملكة الافراط والتفريط في هذه القوى. فان الافراط والتفريط مقتضيا القوى الحيوانية ، فاذا حصل الافراط والتفريط في القوى الحيوانية تحصل لهذه القوى ملكة استعلائية ، وتحصل في النفس الناطقة هيئة إذ عانية ، وبترسيخ هذه الهيئة في النفس الناطقة يجعلها قوية العلاقة مع البدن شديدة الانصراف اليه ، فتحصل فيها ملكات ردية مبدؤها البدن ، ففي هذه الحالة إذا فارقت وفيها الملكة الحاصلة بسبب الاتصال بالبدن ، كانت قريب الشبه من الحالة وهي فيه ، وبما ينقص من ارتباطه بالبدن بالمفارقة يزول غفلته بهذا المقدار عن حركة الشوق الذي له إلى كماله ، وبما يبقى معه من التعلق والعلاقة بالبدن يكون محجوباً بذلك المقدار عن الإتصال بمحل سعادته ، فعند ذلك تأذت بالهيئات البدنية والملكات الردية المضادة لجوهرها المؤذية أذىً عظيماً ، ولكن هذا الأذى ليس لأمر لازم ، بل لأمر عارض غريب ، والأمر العارض الغريب لا يدوم ولا يبقى ، ويزول ويبطل مع ترك الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكررها ، فيلزم إذن أن تكون العقوبة بحسب ذلك غير خالدة ، بل تزول وتنمحي قليلاً حتى تركوا النفس وتبلغ السعادة التي تخصها. ١

________________

١. راجع : المصدرين السابقين ، ص ٤٧٠ ـ ٤٧٢ ، ص ٢٩٦ ، ٢٩٧.

١٩٢

وعلى هذا فالسعادة الحقيقية والمرتبة العليا من اللذة لا يمكن الوصول إليها الا بإصلاح القوتين النظرية والعملية معاً ، فاذا انصرفت النفس إلى اصلاح القوة النظرية وحدها دون الاهتمام بإصلاح القوة العملية فاكتسبت هيئات بدنية ردية ، فمثل هذه النفس بعد مفارقة البدن تصل في النتيجة إلى نوع من السعادة الخاصة بمرتبتها إلا أنها لا تصل إلى السعادة الحقيقة ، ولهذا يقول الشيخ عن الكاملين بحسب القوة النظرية والعملية : والعارفون المتنزهون إذا وضع عنهم درن مقارنة البدن وانفكوا عن الشواغل ، خلصوا إلى عالم القدس والسعادة ، وانتعشوا بالكمال الأعلى ، وحصلت لهم اللذة العليا. ١

أما عن مصير نفوس البلهاء أو النفوس الساذجة الصرفة فيقول الشيخ الرئيس : أما النفوس البله التي لم تكتسب الشوق ، فانها إذا فارقت البدن ، وكانت غير مكتسبة للهيئات الردية ، صارت إلى سعة من رحمة الله تعالى ونوع من الراحة ، وإن كانت مكتسبة للهيئات البدنية الردية وليس عندها هيئة غير ذلك ولا معنى يضاده وينافيه ، فتكون لا محالة ممنوة بشوقها إلى مقتضاها ، فتتعذب عذاباً شديداً بفقد البدن ومقتضيات البدن من غير أن يحصل المشتاق اليه ، لان آلة ذلك قد بطلت وخلق التعلق بالبدن قد بقي. ٢

وقد أشار إلى هذا المعنى في الإشارات أيضاً بقوله : وأما البله فانهم إذا تنزهوا خلصوا من البدن إلى سعادة تليق بهم. ٣

فالشيخ الرئيس يعتقد أن نفوس البلهاء ، وهم الذين لم يكن لديهم شوق إلى الكمالات لأنهم لم يعرفوها لسبب نقص في استعداداتهم العقلية ، فهذه النفوس الخالية من الكمال إذا كانت خالية أيضاً عما يضاد الكمالات من الهيئات الردية ، فانها تصل إلى نوع من السعادة ، أما نفوس البلهاء الذين

________________

١. الاشارات ، ج ٣ ، ص ٣٥٣ ، ٣٥٤.

٢. المصدر السابقين ، ص ٤٧٢ ، ص ٢٩٧.

٣. الاشارات ، ج ٣ ، ص ٣٥٥.

١٩٣

اكتسبوا هيئات ردية ، فانها تكون في عذاب شديد ، ويفهم من عبارة الشيخ أن العذاب على هؤلاء دائم ، لأنه صرح بعدم حصول المشتاق اليه من الكمالات بعد مفارقة البدن وبقاء ملكة التعلق بالبدن الموجب للعذاب.

وبقي هناك أن نشير إلى أن عبارة الشيخ التي نقلناها فيما سبق حول نفوس البلهاء ، كانت لبيان الفرق بين الناقصين الذين يتعذبون بنقصانهم سواء دام تعذبهم أم لم يدم ، وبين الناقصين الذين لا يتعذبون بنقصانهم ، أما عبارته التي نقلناها هنا ناظرة إلى حكم البلهاء.

وجملة القول إن الشيخ الرئيس يقسم النفوس الإنسانية وفقاً لسعادتها وشقاوتها إلى أقسام ثلاثة :

أحدها : النفوس التي ارتقت إلى الكمال في القوة النظرية والعملية ، وبعبارة أخرى النفوس التي وصلت إلى كمال العلم ، والعمل وهؤلاء هم السعداء.

ثانيها : النفوس التي وصلت إلى الكمال في القوة العقلية ، ولكنها لم تصلح الجانب العملي من النفس ، فكسبت هيئات ردية إلّا أن ذلك عارض غريب عن جوهر النفس قابل للزوال ، فيكون عذابها بحسب تلك الهيئات الردية ، لأن جوهر النفس قد اكتسبت المعرفة فهي سعيدة ، والشقاء عارض على النفس من جهة الهيئات الردية العارضة فيؤول إلى الزوال ، وبالنتيجة يلحق هؤلاء بالسعداء وينتعمون بنوع من السعادة.

ثالثها : النفوس التي قصرت في إصلاح القوتين النظرية والعملية ، أي النفوس التي غفلت عن كمالاتها ، ولم تحصلها مع علمها بوجود هذه الكمالات العقلية للنفس ، ولم تصلح أيضاً الجانب العملي من النفس فكسبت هيئات ردية ، هذه الأنفس مصيرها الشقاء الأبدي.

وقد أشار الشيخ الرئيس إلى هذه الأقسام في الاشارات ، حيث شبّه فيه

١٩٤

حال النفوس بعد مفارقة البدن بالحالات الثلاث للبدن من حيث الجمال والصحة ، قال الشيخ : كما أن أحوال البدن في هيئته ثلاثة : حال البالغ في الجمال والصحة ، وحال من ليس ببالغ فيها ، وحال القبيح والمسقام أو السقيم. والأول والثاني ينالان من السعادة العاجلة البدنية قسطاً وافراً أو معتدلاً أو يسلمان. كذلك حال النفوس في هيئتها ثلاثة : حال البالغ في فضيلة العقل والخلق وله الدرجة القصوى في السعادة الاخروية ، وحال من ليس له ذلك لا سيما في المعقولات إلا أن جهله ليس على الجهة الضارة في المعاد. وإن كان ليس له كثير ذخر من العلم جسيم النفع في المعاد ، إلّا أنّه في جملة أهل السلامة ونيل حظ ما من الخيرات الآجلة ، وآخر كالمسقام والسقيم هو عرضة الأذى في الآخرة. ١

الشيخ الرئيس في تقسيمه النفوس إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرناها اقتفى أثر الشارع في تقسيمه النفوس يوم القيامة إلى النفوس المؤمنة الصالحة التي لم تقترف ما يستحق بها العقاب فيكون مخلداً في الجنة ، والنفوس المؤمنة التي اقترفت بعض ما يستحق بها العقاب ، فيعذب بمقدار ما اقترفه من الذنوب وبعد انتهاء مدة العقاب يدخلون الجنة ويخلدون فيها إلى الأبد ، والنفوس الكافرة التي ليس لها الاعتقاد الصحيح والعمل الصالح فيستحقون الخلود في النار إلى الأبد.

وبناءً على ذلك نرى أن الشيخ الرئيس يرد على المعتزلة النافين للقسم الثاني والقائلين بأن السعادة نوع واحد لا تحصل إلا بالاستكمال في العلم ، وأن مرتكبي الخطايا والرذائل جميعاً مخلدون في العذاب ، وأن أهل النجاة في غاية القلة ، يقول الشيخ الرئيس : ولا يقعن عندك أن السعادة في الآخرة نوع واحد ، ولا يقعن عندك أن السعادة لا تنال أصلاً إلّا بالاستكمال في العلم ،

________________

١. المصدر السابق ، ص ٣٢٥.

١٩٥

وإن كان ذلك يجعل نوعها نوعاً أشرف ، ولا يقعنّ عندك أن تفاريق الخطايا باتكة لعصمة النجاة ، بل إنما يهلك الهلاك السرمد ضرب من الجهل والرذيلة ، وإنما يعرض للعذاب المحدود ضرب من الرذيلة وحدّ منه ، وذلك في أقل أشخاص الناس ، ولا تصغ إلى من يجعل النجاة وقفاً على عدد ومصروفة عن أهل الجهل والخطايا صرفاً إلى الأبد ، واستوسع رحمة الله. ١

فالذي يستحق العقاب الأبدي في رأي الشيخ الرئيس ، هو من له الجهل المركب ، كما قال العلامة قطب الدين الراوندي في شرحه لعبارة الشيخ ، وأضاف : وأما الخلق فليس كل خلق ردىء موجباً للعذاب ، بل ما يتمكن في النفس تمكنا بالغاً. والموجب للعذاب لا يوجب إلا عذاباً محدوداً منقطعاً يزول العذاب ويحصل السعادة ٢.

٣. ابن طفيل الأندلسي ( المتوفى ٥٨١ ه‍ )

لم يبق من آثار ابن الطفيل المتعددة التي نقلها المؤرخون في الفلسفة والطبيعيات والالهيات إلا رسالة بعنوان ( حي بن يقظان ) والذي صاغ فيها عقائده وأفكاره الفلسفية بصورة قصة متأثراً في ذلك بابن سينا الذي كتب قبله رسالة بنفس هذا العنوان.

وقد بحث ابن طفيل في هذه الرسالة عن مصير النفوس في الآخرة بعد انفصالها عن البدن ، وقسم النفوس بحسب سعادتها وشقاوتها في الآخرة إلى أربعة أقسام ؛ وهي النفوس السعيدة ، والنفوس الشقية التي مآلها إلى السعادة ، والنفوس الشقية إلى الأبد ، والنفوس التي لا تكون سعيدة ولاشقية.

ويرى ابن طفيل أن هذه السعادة والشقاوة تتوقف على مدى إدراك النفس

________________

١. المصدر السابق ، ص ٣٢٧ ، ٣٢٨

٢. راجع : المصدر السابق ، ص ٣٢٧ ( التعليقة ).

١٩٦

لواجب الوجود واشتياقها له وإقبالها عليه. وشبه النفوس في ادراكها واشتياقها للمدركات بالقوى المدركة ، مثل قوة البصر وقوة الشم وغيرها من القوى ، وهذه القوى كل واحد منها تارة تكون مدركة بالقوة ، وتارة أخرى تكون مدركة بالفعل ، وكل واحدة من هذه القوى إن كانت لم تدرك قط بالفعل ، فهي مادامت بالقوة لا تتشوق إلى إدراك الشىء المخصوص ، لأنها لم تتعرف به بعد ، مثل من خلق مكفوف البصر ، وهذه هي حال النفوس التي يسميها الفلاسفة بالنفوس الجاهلة ، أما إن كانت قد أدركت بالفعل تارة ثم صارت بالقوة ، فإنها مادامت بالقوة تشتاق الى الادراك بالفعل ، لأنها قد تعرفت بذلك المدرك ، وتعلقت به وحنت اليه ، مثل من كان بصيراً ثم عمي ، فإنه لا يزال يشتاق إلى المبصرات وهذه هي حال النفوس الشقية.

وبالنسبة إلى الشيء المدرك ، يرى ابن طفيل أنه كلما كان الشيء المدرك أتم وأبهى وأحسن ، يكون الشوق إليه والتألم لفقده أعظم ، فاذا كان في الأشياء شيء لا نهاية لكماله ولا غاية لحسنه وجماله وبهائه ، وهو فوق الكمال والبهاء والحسن ، وليس في الوجود كمال ولا حسن ولا بهاء ولا جمال إلا صادر من جهته ، فمن فقد إدراك ذلك الشيء بعد أن تعرف به ، فلا محالة أنه مادام فاقداً له يكون في آلام لانهاية لها كما أن من كان مدركاً له على الدوام فان له يكون في لذة لا انفصام لها ، وبهجة وسرور لا نهاية لهما.

فالمعيار في سعادة النفوس عند ابن طفيل هو إدراك واجب الوجود والاقبال عليه بعد معرفته ، وبناءً على ذلك يقول ابن طفيل عن النفوس التي يسميها بعض الفلاسفة بالنفوس الجاهلة بعد طرحها للبدن بالموت : فأما أن يكون قبل ذلك ـ في مدة تصريفه للبدن ـ لم يتعرف قط بهذا الموجود الواجب الوجود ولا اتصل به ولا سمع عنه ، فهذا إذا فارق البدن لا يشتاق إلى ذلك الموجود ولا يتألم لفقده.

١٩٧

ويفهم من عبارة ابن طفيل هذه أن النفوس الجاهلة من أهل النجاة ، لعدم تألمهم لفقدان وعدم إدراك واجب الوجود ، وذلك لعدم معرفتهم بوجوده.

ويقول عن النفوس الشقية : وإما أن يكون قبل ذلك ـ في مدة تصريفه للبدن ـ قد تعرف بهذا الموجود ، وعلم ما هو عليه من الكمال والعظمة والسلطان والقدرة والحسن ، إلّا أنه أعرض عنه واتبع هواه حتى وافته منيته ، وهو على تلك الحال ، فيحرم المشاهدة وعنده الشوق اليها ، فيبقى في عذاب طويل وآلام لا نهاية لها ، فإما أن يتخلص من الآلام بعد جهد طويل ، ويشاهد ما تشوق اليه قبل ذلك ، وإما أن يبقى في آلامه بقاءً سرمدياً بحسب استعداده لكل واحد من الوجهين في حياته الجسمانية.

ابن طفيل في هذه العبارة تبع الشارع في تقسيمه النفوس الشقية إلى أشقياء يتخلصون من العذاب ويلحقون بالسعداء بعد عذاب طويل ، وأشقياء لا نجاة لهم من العذاب فيخلدون فيه إلى الأبد ، وخلود العذاب وانقطاعه يكون بحسب استعداد كل نفس لما كسبته من الهيئات الردية ورسوخ هذه الهيئات وعدم رسوخها.

وبالنسبة إلى النفوس السعيدة يقول ابن طفيل : وأما من تعرّف بهذا الموجود الواجب الوجود قبل أن يفارق البدن وأقبل بكليته عليه والتزم الفكرة في جلاله وحسنه وبهائه ولم يعرض عنه حتى وافته منيته ، وهذا على حال من الاقبال والمشاهدة بالفعل ، فهذا إذا فارق البدن بقي في لذة لا نهاية لها وغبطة وسرور وفرح دائم ، لاتصال مشاهدته لذلك الموجود الواجب الوجود ، وسلامة تلك المشاهدة من الكدر والشوائب ، ويزول ما تقتضيه هذه القوى الجسمانية من الأمور الحسية التي هي ـ بالإضافة إلى تلك الحال ـ آلام وشرور وعوائق. ١

________________

١. ابن طفيل ، حي بن يقظان ، ص ٦٧ ، ٦٨.

١٩٨

٤. شهاب الدين السهروردي ( المتوفى ٥٨٧ ه‍ )

كان شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي في بحثه عن سعادة وشقاوة النفوس بعد مفارقة البدن ، متأثراً إلى حد كبير بالشيخ الرئيس ابن سينا.

وقبل بحثه عن السعادة والشقاوة يذكر عدة أصول ومقدمات ذكرها الشيخ الرئيس في بحثه ، ومن هذه المقدمات : إن كمال الجوهر المدرك ـ أي النفس ـ أن يصير عالماً عقلياً ينتقش بجميع الوجود من لدن مسبب الاسباب الحق الأول آتياً على العقول والنفوس والأجرام فما تحتها على النظام الذي له ، وأما كماله من جهة العقل العملي ـ أي من جهة علاقته بالمادة ـ هو أن يحصل لها الهيئة الاستعلائية على البدن ولاتنفعل عن قواه ، ويحصل لها العدالة وهي عفة وشجاعة وحكمة ، وهي ملكة توسط القوة الشهوانية والغضبية واستعمال القوة العملية فيما يدبر به الحياة وما لا يدبر. ١

وعن النفوس السعيدة وحصول السعادة الأبدية لها ، يقول شيخ الإشراق : وإذا كنا في هذا العالم لا نجد لذة المعقولات ، ولا تتألم عن الرذائل والجهل ، وذلك لأجل كون سكر عالم الطبيعة غالب علينا ، والذي أشغلنا عن عالمنا ، فاذا زالت هذه الشواغل ، فالذي له الكمال يكون لها لذة لا نهاية له وذلك بمشاهدة واجب الوجود والملأ الاعلى وعجائب عالم النور ، ويبقى في تلك اللذة على الدوام ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ). ٢

أما عن شقاوة النفوس وكيفية حصول الشقاوة الأبدية لها ، فيقول شيخ الاشراق : وإذا لم تشتق النفس إلى كمالها أو لم تتلذذ ، فان ذلك لعوائق بدنية ، وهذه الهيئات والملكات الردية إذا تمكنت بعد المفارقة كانت النفس بعدها

________________

١. راجع : شهاب الدين سهروردي ، مجموعة مصنفات شيخ اشراق ، التلويحات ، ص ٨٧ ، پرتونامة ، ص ٦٨.

٢. راجع : سهروردي ، مجموعة مصنفات شيخ اشراق ، پرتو نامه ، ص ٧٠.

١٩٩

ككونها قبلها إلا أنها زال عنها مانع الألم ، فتتألم وليست منطبعة ، بل لها علاقة شوقية إذا لم يحصل لها ملكة الاتصال بالعقل الفعال ، وقد حيل بينها وبين ما تشتهي فتتألهم بجهلها المركب ، والجهل المركب هو عدم العلم بالحق مع اعتقاد نقيضه ( وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ) فتبقى مقهورة مخذولة مالها من شفيع ولا حميم في نار روحانية أشد من نار جسمانية ، والجهل المركب هو الذي لا يرجى فيه النجاة بل يتأبد ، وما كان بسبب عوارض فيزول. ١

فالشيخ السهروردي يصف النفوس التي اكتسبت هيئات وملكات نفسانية ردية بحيث تمكنت من أنفسهم ، وأصبحت هذه الهيئات والملكات جزءاً من جوهر النفس يصفهم بالجهل المركب ، لأن هذه النفوس لم تعتقد بأن اللذة والكمال هي في التشبه بالمادي والتجرد عن المادة ، بل اعتقدت بنقيض ذلك ، أي اعتقدت بأن كمالها ولذتها هو في الانغماس وانشغال بالمادة والماديات ، وكذلك خرجوا عن حد العدالة في القوة الشهوية والغضبية ، وفي استعمال القوة العملية فيما يدبر به الحياة وما لا يدبر ، ونتيجة لذلك استحقوا الخلود في العذاب الأبدي ، فلا ترجى لهم النجاة.

أما الذين اكتسبوا هيئات وملكات ردية ولكنها ما تمكنت من أنفسهم وليس لديهم جهل مركب ، بل لديهم علم بالمبادىء والعقول ، ولكنهم تركوا الجانب العملي من النفس أو أفرطوا فيها ، ولذا فهو يقول عنهم في رسالة ( پرتونامه ) : أما أولئك الذين لديهم علم ، ولكن لم يقوموا بالاصلاح الاخلاقي ، فيجدون عذاباً شديداً بحيث علمهم يسحبهم إلى عالم النور والملأ الأعلى ، وفسقهم يسحبهم إلى الظلمات وأسفل السافلين ، هؤلاء يبقون مدة في

________________

١. سهروردي ، مجموعة مصنفات شيخ إشراق ، التلويحات ، ص ٨٨ ، ٨٩.

٢٠٠