الخلود في جهنّم

محمد عبد الخالق كاظم

الخلود في جهنّم

المؤلف:

محمد عبد الخالق كاظم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 964-7741-74-X
الصفحات: ٢٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

قال : وقال المؤيد أيضاً : فاذا قام القائم على ذكره السلام يوم القيامة بموجب شرط القيامة أن يموت الناس أجمعين ، لأنّ مثله يحيي ويميت ، يحيي بالعلم الحياة الأبدية ، وإذا وجب من خالفه القتل فقتله فيمر إلى النار خالداً فيها. ١

فالكافر والمشرك بالله والكافر والمشرك بولاية الائمة على حدّ سواء ، فهم مخلدون في النار ، فلا تشملهم الشفاعة ولا العفو الالهي ، وعلى هذا فهم يذهبون إلى مذهب الخوارج في كون العاصي للأئمة كفاراً مشركين ، كما ويذهبون إلى مذهب المعتزلة والزيدية والخوارج في كون من دخل النار لا يخرج منها أبداً ، وقد أثبتنا في البحث عن أدلة المعتزلة بأن عذاب العاصين من المؤمنين منقطع ، وأنهم لا يخلدون في النار.

________________

١. المصدر السابق ، ص ٣١٠.

١٦١

الخلاصة

أجمع المتكلمون عدا قليل منهم على خلود الكفار في النار ، واختلفوا في مرتكب الكبيرة ، فقال بعضهم بخلودها فيما نفاه البعض الآخر ، وبناءً على ذلك يلزمنا البحث عن آراء المذاهب الاساسية من السنية والشيعية وغيرهم في وعيد مرتكب الكبيرة ، فقمنا في هذا القسم من الموضوع بالتحقيق عن آراء ثمانية من المذاهب الاسلامية الرئيسية التي بحثت في وعيد مرتكب الكبيرة ، وهي : المعتزلة ، والخوارج ، والاشاعرة ، والماتريدية ، والسلفية ، والامامية ، والزيدية ، وأخيراً الاسماعيلية.

وفيما يخص المعتزلة فقد اعتبروا مرتكب الكبيرة خارجاً من الايمان وغير داخل في الكفر عندهم ، فجعلوه في منزلة بين منزلتي المؤمن والكافر ، فحكموا عليه بالخلود في النار بناءً على تحابط ثواب طاعاته بالكبيرة التي ارتكبها ، ولم يجوزوا شمول الشفاعة والعفو الالهي في حقه ، واستندوا في إثبات ما ذهبوا اليه إلى أدلة نقلية ، وهي عمومات آيات الوعيد ، وبعض الأحاديث التي نسبوها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واُخرى عقلية مبتنية على نظرية التحابط.

وبعد التحقيق في أدلة المعتزلة ومبانيهم في وعيد مرتكب الكبيرة ، فقد ثبت بطلان نظرية التحابط ، وبذلك يثبت بطلان أدلتهم العقلية المبتنية على التحابط وبخصوص أدلتهم النقلية فقد ثبت أيضاً بأن آيات الوعيد غير شاملة للفساق ، بل هي مختصة بالكفار ، وعلى فرض عموميتها فهي معارضة مع آيات تتضمن القطع بغفران الله تعالى لمستحقي العقاب إضافة إلى الأدلة العقلية التي تثبت انقطاع العذاب عن مرتكب الكبيرة ، أما الاحاديث التي نسبوها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد بان بأنها مطروحة بمعارضتها للكتاب والسنة الصحيحة.

أما الخوارج فبما أنهم اعتبروا فعل الطاعات واجتناب المحرمات من شرائط الايمان ، فقد جعلوا مرتكب الكبيرة خارجاً من الايمان وداخلاً في الكفر ، بل إن بعض فرقهم اعتبر مرتكب مطلق المعصية صغيرها أو كبيرها

١٦٢

مشركاً ، فالخوارج مجمعون على كفر مرتكب الكبيرة وخلوده في النار ، ولهذا فهو عندهم غير مشمول بالشفاعة ولا بالعفو الالهي ، وتمسكوا في اثبات مدعاهم على غرار المعتزلة بعمومات آيات الوعيد بالاضافة إلى آيات الوعيد الخاصة بالكفار ، واستندوا أيضاً ببعض الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ثبت فيما سبق عدم دلالة هذه الأدلة على خلود مرتكب الكبيرة.

أما الأشاعرة فقد خالفوا المعتزلة ، وأقروا بأن مرتكب الكبيرة مؤمن مطيع بايمانه عاص بفسقه ومشمول بالعفو الالهي والشفاعة النبوية ، وبذلك ذهبوا إلى أن مرتكب الكبيرة إذا مات من دون توبة جاز أن يعفو الله تعالى عنه ، فلا يخلد في النار ، لأن الخلود عندهم مختص بالكفار ، وقد استدل الفخر الرازي على إثبات ما ذهبوا اليه بدليل نقضي على مبنى المعتزلة.

والماتريدية مذهبهم في وعيد مرتكب الكبيرة مذهب الأشاعرة ، فهم يرون بأن مرتكب الكبيرة غير المستحل لا يخرج به عن الايمان ، ولو مات من غير توبة ، ونتيجة لذلك قالوا بإرجائه إلى مشيئة الله تعالى ، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه فلا يخلد في النار.

وبالنسبة إلى السلفية ، فان من روادهم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية ، أما ابن تيمية فهو يرى بأن مرتكب الكبيرة لا يخرج بكبيرته من الإيمان ، وأنه مؤمن بايمانه وفاسق بكبيرته ، فيكون مشمولاً بالشفاعة والعفو الالهى ، فلا يخلد في النار وفيما يخص بوعيد الكفار فقد نقل عنه تلميذه ابن القيم والفنوجي والسفاريني قوله بفناء النار وانقطاع العذاب عن الكفار وعدم خلودهم في النار إلى الأبد. وأما ابن القيم الجوزية فقد تبع أستاذه في إنكار خلود الكفار في النار ، وصرح في كتابه « حادي الأرواح » وفي العديد من كتبه الأخرى بفناء النار وانقطاع عذاب الكفار ، واستند في إثبات ماذهب اليه على عدد من الأدلة العقلية والآيات القرآنية ، وبأقوال منسوبة إلى بعض الأصحاب أمثال عمر وابن مسعود وابي هريرة وآخرين.

١٦٣

وأما الشيعة الامامية فقد ثبت أنهم خالفوا المعتزلة والخوارج ، وأجمعوا على عدم خروج مرتكب الكبيرة بكبيرته عن الإيمان ، وأن الشفاعة ثابتة له ، ويجوز أن يعفو الله تعالى عنه عقلاً وشرعاً ، ولهذا قالوا بأن الخلود في النار مختص بالكفار ، وأن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار ، مستندين في إثبات ذلك بأدلة شرعية واُخرى عقلية.

وأما الزيدية فقد كانوا مقلدين للمعتزلة في وعيد مرتكب الكبيرة ، فهم تبعاً للمعتزلة اعتبروه خارجاً من الايمان ، وجعلوه في منزلة بين منزلتي المؤمن والكافر ، وسمّاه قدماؤهم كافر نعمة ، أما متأخروهم فيسمونه بالفاسق ، وقالوا إن حسناته تحبط بالكبيرة التي ارتكبها إذا لم يتب عنها ، وإن العفو الالهي لا يحسن في حقه ، والشفاعة ليست للمذنبين والفساق ، وإن الآيات القرآنية التي دلت على المغفرة مقيدة بالتوبة ، وبناءً على ذلك أجمعوا على خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات من دون توبة ، مستندين في إثبات ماذهبوا اليه بأدلة مماثلة لأدلة المعتزلة في هذا الموضوع.

وأما الإسماعيلية فإنهم لم يبحثوا عن وعيد مرتكب الكبيرة بهذا العنوان ، بل بحثوا عنه بعنوان الموالين للأئمة وغير الموالين ، وجعلوا المعيار للخلود في النار يدور مدار الولاية وحده ، بحيث أن الولاية عندهم جزء من الايمان وركن من أركان الدين بل هو الأساس في قبول طاعة الله وطاعة رسوله ، ولهذا أجمعوا بأن المذنبين والعاصين وهم المخالفون للأئمة والمنكرون لهم يعتبرون في عداد الكفار والمشركين ، فلا يقبل منهم طاعة أو عمل ، ولا يشملهم شفاعة الائمة ولا العفو الالهي ، وبالنتيجة فهم مخلدون في النار إلى الأبد. أما الموالون للأئمة فالمذنبون منهم يقعون مورداً للشفاعة والعفو الالهي ، فلا يدخلون النار ولا يخلدون فيها. فالاسماعيلية يذهبون إلى مذهب الخوارج في اعتبار المذنبين كفاراً أو مشركين ، ويذهبون إلى مذهب المعتزلة والزيدية والخوارج في كون من يدخل النار لا يخرج منها أبداً.

١٦٤



٥

آراء المخالفين للخلود في النار

تعددت الآراء والأقوال في مسألة الخلود في النار بين النافين والمثبتين ، وقد ذكرها بعض المتكلمين ، ١ ويمكن حصر هذه الآراء في تسعة أقوال وهي :

الأول : إن من دخلها لا يخرج منها أبداً ، بل كل من دخلها مخلّد فيها أبد الآباد بإذن الله ، وهذا قول الخوارج والمعتزلة والزيدية.

الثاني : إن الله يخرج منها من يشاء ، كما ورد في السنة ، ويبقى فيه الكفار بقاءً لاانقضاء له ، وهذا قول الشيعة الامامية والأشاعرة والماتريدية وغيرهم.

الثالث : إن أهلها يعذبون مدة ثم تنقلب عليهم وتبقى طبيعة نارية لهم يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم ، وهذا قول محيي الدين ابن العربي.

الرابع : قول من يقول : إن اهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود ، ثم يخرجون منها ويخلفهم فيها قوم آخرون ، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أكذبهم الله تعالى في القرآن ، فقال تعالى : ( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا

________________

١. راجع : حادي الارواح ، ص ٢٤٨ ، ٢٤٩ ؛ القاضي علي بن ابي العز الدمشقي ، شرح العقيدة الطحاوية ، ج ٢ ، ص ٦٢٤ ، ٦٢٥ ؛ د. محمد صادقي ، تفسير الفرقان ، ج ٣٠ ، ص ٤٣.

١٦٥

لاَ تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ). ١

الخامس : قول من يقول : يخرجون منها وتبقى ناراً على حالها ليس فيها أحد يعذب حكاه شيخ الاسلام.

السادس : قول من يقول : بل تفنى بنفسها لأنها حادثة بعد أن لم تكن وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه وأبديته ، وهذا قول جهم بن صفوان ، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار.

السابع : قول من يقول : تفنى حياتهم وحركاتهم ويصيرون جماداً لايتحركون ولا يحسون بألهم ، وهذا قول أبي الهذيل العلّاف طرداً لامتناع حوادث لانهاية لها ، والجنة والنار عنده سواء في هذا الحكم.

الثامن : قول من يقول : بل يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى ، فإنه جعل لها أمداً تنتقي اليه ثم تفنى ويزول عذابها ، قاله شيخ الاسلام.

التاسع : قول من قال : يخرجون منها وينعمون بعد الخروج ، ونسب ذلك إلى عدد من الفلاسفة أمثال صدر المتألهين والفيض الكاشاني.

التحقيق في أقوال المخالفين

١. الصحابة

نسب القول بإنقطاع عذاب الكفار وخروجهم من النار ، أو بخراب النار وخروج أهلها منها ، إلى بعض الصحابة ، ومن أقوالهم ما نقله لنا جلال الدين السيوطي وآخرون ، ٢ ومن هذه الأقوال :

________________

١. البقرة : ٨٠ ، ٨١.

٢. راجع : الدر المنثور ، ج ٤ ، ص ٤٧٨ ؛ حادي الارواح ، ص ٢٤٩ ـ ٢٥٤ ؛ فتح البيان ، ج ٦ ، ص ٢٥١ ـ ٢٥٤ ؛ أحمد الثعلبي ، تفسير الثعلبي ، ج ٥ ، ص ١٩٠ ؛ ومحمد علي الشوكاني ، الفتح القدير ، ج ٢ ، ص ٥٢٧.

١٦٦

أخرج ابن المنذر عن الحسن عن عمر عنه قال : لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج ، لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه.

واخرج إسحق بن راهويه عن أبي هريرة قال : سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد ، وقرأ ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا ... ) الآية.

واخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابراهيم قال : ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية ( ... خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ... ) قال : وقال ابن مسعود : ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها.

وعن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : ليأتينّ على جهنم زمان ليس فيها أحد بعدما يلبثون فيها أحقاباً.

وروى ابن جريرة عن الشعبي قال : جهنم أسرع الدارين عمراناً ، وأسرعهما خراباً.

وروى أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص ، قال : ليأتين على جهنم يوم تصفق أبوابها ليس فيها أحد. ونسب صديق حسن القنوجي والشوكاني القول بانقطاع عذاب الكفار إلى عدد آخر من الصحابة والتابعين ، من الصحابة : ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر ، وأبو سعيد ، ومن التابعين : أبو مجلز ، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما ، ونسبهما أيضاً إلى أبي أمامة صدى بن عجلان الباهلي ، ١ ونقل القنوجي أيضاً عن ابن تيمية نسبة هذا القول إلى الحسن البصري ، وحماد بن سلمة ، وعلي بن طلحة الوالبي وجماعة من المفسرين. ٢

التحقيق في أقوال الصحابة

أقوال الصحابة على فرض صحة صدورها من هؤلاء لاحجية فيها وأنها مطروحة بمخالفتها لصريح القرآن ، مثل قوله تعالى : ( وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ

________________

١. راجع : فتح البيان ، ج ٦ ، ص ٢٥٤ ؛ فتح القدير ، ج ٢ ، ص ٥٢٧.

٢. راجع : المصدر السابق ، ج ٦ ، ص ٢٥١.

١٦٧

النَّارِ ) ، ١ وقوله تعالى : ( وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) ، ٢ ومردودة بمارواه الحسين بن سعيد الاهوازي في كتاب الزهد عن النضر بن سويد ، عن درست ، عن أبي جعفر الأحوال ، عن حمران ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنه بلغنا أنه يأتى على جهنم حتى تصفق أبوابها فقال : « لا والله إنه الخلود ، قلت ( ... خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ... ) فقال : هذه في الذين يخرجون من النار ». ٣

٢. ابن تيمية وابن قيم الجوزية

يذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى القول بفناء النار ـ كما ذكرنا سابقاً ـ وخروج أهلها منها ودخولهم الجنة ، قال ابن القيم في ردّه للقائلين بدلالة القرآن على بقاء النار وعدم فنائها : فأين في القرآن دليل واحد يدلّ على ذلك ، نعم الذي دلّ عليه القرآن أن الكفار خالدين في النار أبداً ، وأنهم غير خارجين منها ، وأنه يفتر عنهم عذابها ، وأنهم لا يموتون فيها وأن عذابهم فيها مقيم ، وأنه غرام لازم لهم ، وهذا كله صحيح مما لا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ، وليس هذا مورد النزاع ، وإنما النزاع في أمر آخر ، وهو أنه هل النار أبدية أو مما كتب عليها الفناء ، وأما كون الكفار لا يخرجون منها ، ولا يفتر عنهم من عذابها ، ولا يقضى عليهم فيموتوا ، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ، فلم يختلف فيها الصحابة ولا التابعين ولا أهل السنة. وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب مادامت باقية ، ولا يخرجون منها مع بقائها البتة كما يخرج أهل التوحيد منها مع بقائها ،

________________

١. البقرة ، ١٦٧.

٢. المائدة ، ٣٧.

٣. حسين بن سعيد الأهوازي ، الزهد ، ص ٩٨ ، ح ٢٦٥ ؛ وراجع : محمد باقر المجلسي ، البحار ج ٨ ، ص ٣٤٦ ؛ السيد هاشم البحراني ، تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٢٣٣ ، ح ١.

١٦٨

فالفرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله ، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتفاضه ، ١

ويتوسّل ابن القيم الجوزي في اثبات ماذهب اليه بعدد من الأدلة منها :

١. إن الجنة من موجب رحمته ورضاه ، والنار من غضبه وسخطه ، ورحمته سبحانه تغلب غضبه وتسبقه كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « لمّا قضى الله الخلق كتب في كتاب ، فهو عنده موضوع على العرش : إنّ رحمتي تغلب غضبي ». وإذا كان رضاه قد سبق غضبه وهو يغلبه ، كانت التسوية بين ما هو من موجب رضاه وما هو من موجب غضبه ممتنعة. ٢

٢. إن النار خلقت تخويفاً للمؤمنين وتطهيراً للخاطئين والمجرمين ، وإذا تطهرت الطهر التار أخرجت من النار ، لأنّ الله سبحانه خلق عباده على فطرة التوحيد والاقرار بخالقهم ، ولكن عرض لأكثر الفطر ما غيّرها فأكسبت النفوس خبثاً ونجاسةً وكفراً وتكذيباً. وهذا الخبث والكفر والتكذيب أمر عارضي طارىء على الفطرة قابل للزوال وليس هناك ما يدل على استحالة زواله ، أو كونه أمراً ذاتياً. ٣

٣. إنه لو جاء الخبر منه سبحانه صريحاً بأن عذاب النار لا انتهاء له ، وأنه أبدي لا انقطاع له ، لكان ذلك وعيداً منه سبحانه ، والله تعالى لا يخلف وعده ، وأما الوعيد فمذهب أهل السنة كلهم أن إخلافه كرم وعفو وتجاوز يمدح الرب تبارك وتعالى به ويثنى عليه ، به فانه حق له إن شاء تركه وإن شاء استوفاه ، والكريم لا يستوفي حقه ، فكيف بأكرم الاكرمين ، وقد صرح سبحانه في كتابه في غير موضع بأنه لا يخلف وعده ، ولم يقل في موضع لا يخلف وعيده. ٤

________________

١. حادي الارواح ، ص ٢٥٥.

٢. المصدر السابق ، ص ٢٥٨.

٣. راجع : المصدر السابق ، ص ٢٥٨ ـ ٢٦٠.

٤. المصدر السابق ، ص ٢٧١.

١٦٩

نقد أدلة ابن القيم

الجواب عن الدليل الأول والثاني سيأتي إن شاء الله في الفصل الرابع ، أما الجواب عن الدليل الثالث فنقول : إن كون إخلاف الوعيد كرم يمدح الرب به ، وكونه حقه إن شاء تركه وإن شاء استوفاه ، كل ذلك صحيح ، ولكن ليس على إطلاقه بحيث يكون شاملاً جميع المكلفين حتى الكفار لأن العفو عن الكفار غير ممدوح ، وإن الله عزّوجلّ قد هدد المنافقين والكفار بأنه سبحانه سوف لن يغفر لهم أبداً ، قال تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ، ١ وقوله : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ٢ وكأن ابن القيم لم يقرأ قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ). ٣

هذه الآيات صريحة في رد ما قاله ابن القيم ، وهو أن الله سبحانه لم يقل في موضع في كتابه بأنه لا يخلف وعيده ، لأن عدم المغفرة الأبدية ، كما أشارت إليه الآية يلازمه العقاب الأبدي.

وكذلك مذهب أهل السنّة في كون إخلاف الوعيد كرم ليس على إطلاقه ، فمذهب أهل السنة غير السلفية أجمعوا على خلود الكفار في النار ، ومقصودهم من كون إخلافه سبحانه للوعيد كرم في حق العاصين من المؤمنين ، وليس في حق الكفار والمشركين ، قال القرطبي : فمن قال إنهم

________________

١. المنافقون ، ٥ ، ٦.

٢. التوبة ، ٨٠.

٣. النساء ، ١٦٧ ـ ١٦٩.

١٧٠

يخرجون منها ، وأن النار تبقى خالية بجملتها خاوية على عروشها ، وأنها تفنى وتزول فهو خارج عن متقضى المعقول ، ومخالف لما جاء به الرسول ، وما أجمع عليه أهل السنة والأئمة العدول. ١

٣. الشيخ محمد عبده

الظاهر أن الشيخ محمد عبده يذهب إلى القول بفناء النار تبعاً لابن القيم الجوزية ، مع أنه لم يبرز رأيه صريحاً في هذه المسألة ، ولكنه نقل في تفسيره ( المنار ) قول ابن القيم بفناء النار بتفصيله بما يقارب ثلاثين صفحةً ، وفي ختامه يثني مادحاً لابن القيم وداعياً له إلى أن يكافئه الله أفضل ما يكافيء العلماء العاملين ويقول : فما أعظم ثواب ابن القيم على اجتهاده في شرح هذا القول المأثور عن بعض الصحابة والتابعين ، وإن خالفهم الجمهور الذين حملوا الخلود والأبد اللغويين في القرآن على المعنى الاصطلاحي الكلامي وهو عدم النهاية في الواقع ، ونفس الأمر بالنسبة إلى تعامل الناس وعرفهم في عالمهم. ٢ ويوكل البحث عن هذه المسألة إلى تفسيره للآية ( ١٠٥ ـ ١٠٧ ) من سورة هود ، ويقول هناك بعد أخذ وردّ : إن رحمة الله تعالى أوسع وأكمل ، وإرادته أعم وأشمل ، فلا يقيدهما شيء ولا يحيط بهما إلّا علمه. ٣

٤. الشيخ محمود شلتوت

الشيخ شلتوت كان من علماء الأزهر المتأخرين ، وهو يرى أنه لا يوجد في القرآن نصّ قطعي على دوام العذاب ، وأن خلود الكفار في جهنم متوقف على وجود جهنم وبقائها ، قال : ليس في القرآن نص قطعي صريح في دوام النار ،

________________

١. محمد بن أحمد القرطبي ، التذكرة ، ص ٥١٢.

٢. راجع : محمد رشيد رضا ، تفسير المنار ، ج ٨ ، ص ٩٩.

٣. راجع : المصدر السابق ، ج ١٢ ، ص ٢١٥ ، ٢١٦.

١٧١

وانما التصريح بخلود الكفار فيها ، وهو يستحق بأنهم لا يخرجون منها مادامت موجودة ، أما إنها تنقطع أو تدوم فهذا شيء آخر ليس في القرآن ما يقطع به. ١

٥. الدكتور محمد صادقي

يذهب الدكتور صادقي إلى القول بفناء النار وفناء أهلها قائلاً : إن الآيات القرآنية التي تثبت الخلود في النار وتنفي الموت عن المعذبين وعدم خروجهم منها ، هذا كله صحيح ، مثل قوله تعالى : ( لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ). ٢ وقوله تعالى : ( ... لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ... ) ٣ فهذه الآيات القرآنية تنفي الموت في النار ، وكذلك تنفي تخفيف العذاب عنهم في النار ، ولكن تنفيها عنهم ماداموا في النار ، ولا تنفى موتهم مع خمود النار ، وكذلك قوله تعالى : ( وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ) ٤ يعني لا فرار عن النار مع بقائها ، وأما أن يموت أهل النار مع خمود النار فليس محيصاً عن النار ، وكذلك قوله تعالى : ( كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) ٥ والخروج عن النار يعني بقاءه خارج النار مع بقاء النار ، إنه غير الموت مع خمود النار ، وهكذا فالآيات القرآنية تدلّ على الخلود في النار ، لاخلود النار ، فلا دلالة فيها إلا على الخلود فيها مادامت موجودة ، فلا تنافي فناءهم بفناء النار. ٦

وتمسك الدكتور صادقي في اثبات فناء النار وفناء أهلها بعدد من الأدلة منها :

١. النار إنما خلقت تخويفاً للمؤمنين وتطهيراً للخاطئين ، فهي إذاً طهرة من الخبائث والأدران التي اكتسبتها النفس في عالم التكليف ، وإذا أصبحت

________________

١. محمود شلتوت ، الاسلام عقيدة وشريعة ، ص ٤٣ ، ٤٤.

٢. الاعلى ، ١٣.

٣. فاطر ، ٣٦.

٤. النساء ، ١٢١.

٥. الحج ، ٢٢.

٦. راجع : تفسير الفرقان ، ج ١٥ ، ص ١٣١ ـ ١٣٦ ؛ عقائدنا ، ص ٣٢٠ ـ ٣٢٥.

١٧٢

النفس درناً لا يزول ، فمقتضى العدل أو الفضل والرحمة إفناؤها بنارها ، لسبقة الرحمة للغضب. ١

٢. يؤكد القرآن على أن الجزاء مماثل للسيئة ، فقال تعالى : ( وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) ، ٢ وأنّ أي عمل فهو محدود بطبيعة الحال زمنياً وفي كيانه وأثره ، فليكن الجزاء الذي لا يزيد عن العمل ـ بل هو نفس العمل بملكوته وذاته ـ ليكن ذلك الجزاء أيضاً محدوداً ومماثلاً له في السوء ( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ... ) ٣ فاذا كان الخلود في العذاب خلوداً أبدياً ، ففي هذه الصورة لا يكون الجزاء مماثلاً للعمل ، ولا يكون العذاب اللانهائي جزاءً وفاقاً لمحدودية العمل وعدم محدودية الجزاء ، وكيف نسمح لأنفسنا كموحدين أن نظن هكذا ظلم وقساوة برب العالمين ؟ وهذا افتراء على الله ، وكتابه دال على حدود العذاب. ٤

والجواب عن هذه الأدلة نوكله إلى الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.

٦. الجهم بن صفوان ( المتوفى ١٢٨ ه‍ )

ونسب إلى الجهم بن صفوان القول بفناء الجنة والنار وفناء أهلها ، قال ابن حزم : اتفقت فرق الاُمة كلها على أنه لافناء للجنة ولا لنعيمها ، ولا للنار ولا لعذابها إلّا الجهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف وقوماً من الروافض ، فأما جهم فقال : إن الجنة والنار يفنيان ويفنى أهلها. ٥ وقال القاضي علي بن أبي العز ( المتوفى ٧٢٢ ه‍ ) : وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده ، وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث ، فرأى جهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في

________________

١. راجع : المصدر السابق ، ج ٣٠ ، ص ٤٩.

٢. الانعام ، ١٦٠.

٣. غافر ، ٤٠.

٤. راجع : المصدر السابق ، ج ٣٠ ، ص ٤٨ ؛ ج ١٥ ، ص ١٣٦.

٥. ابن حزم الأندلسي ، الفصل في الملل والاهواء والنحل ، ج ٢ ، ص ٣٩٥ ؛ الاصول والفروع ، ص ٤٣.

١٧٣

الماضي يمنعه في المستقبل ، فدوام الفعل ممتنع عنده على الرب في المستقبل ، كما هو ممتنع عليه في الماضي. ١

أما النسفي ( المتوفى ٧١٠ ه‍ ) فقد علّل قول جهم بفناء الجنة ، لكون جهم يذهب إلى أنه تعالى وصف بأنه الأول والآخر ، وتحقيق وصف الأولية بسبقه بعد فناء الكل ، فوجب القول به ضرورة ، ولأنه تعالى باقٍ وأوصافه باقية ، فلو كانت الجنة باقية مع أهلها لوقع التشابه بين الخالق والمخلوق ، وذا محال.

وقال في جوابه : إن الأول في حقه هو الذي لا ابتداء لوجوده ، والآخر هو الذي لا انتهاء له ، وفي حقنا الأول هو الفرد السابق ، والآخر هو الفرد اللاحق ، واتصافه بهما لبيان صفة الكمال ونفي النقيصة والزوال ، وذا في تنزيهه عن احتمال الحدوث والفناء لا فيما قالوه ، وأنّى يقع التشابه في البقاء وهو تعالى باق لذاته وبقاؤه واجب الوجود ، وبقاء الخلق به وهو جائز الوجود ؟. ٢

٧. أبو الهذيل العلّاف ( ١٣٥ ـ ٢٣٥ ه‍ )

يذهب أبو الهذيل إلى القول بفناء حركات أهل الجنة والنار دون فناء الجنة والنار ، قال ابن حزم : وقال أبو الهذيل. إن الجنة والنار لا يفنيان ولا يفنى أهلها إلا أن حركاتهم تفنى ويبقون بمنزلة الجماد لا يتحركون ، وهم في ذلك أحياء متلذذون أو معذبون. ٣

وأشار اليه أيضاً ابن الراوندي ، ٤ وقد تصدى الخياط على الرد لابن الراوندي والدفاع عن أبي الهذيل بعد استعراض ما قاله ابن الراوندي ( المتوفى ٢٩٨ ه‍ ) بقوله : قال الملحد : وقد كان أبو الهذيل يزعم أن أهل الجنة مع زوال

________________

١. شرح العقيدة الطحاوية ، ج ٢ ، ص ٤١٨ ، ٤١٩.

٢. تفسير النسفي ، ج ١ ، ص ٧١.

٢. الفصل في الملل والنحل ، ج ٢ ، ص ٣٩٥.

٤. راجع : ابن الراوندي ، فضيحة المعتزلة ، ص ١٦٤.

١٧٤

الآفات عنهم وصحة عقولهم وأجسادهم لا يقدرون على قليل من الأفعال ولا كثير ، وأنهم مضطرون إلى ما هم فيه من حركة أو سكون أو قيام أو قعود أو نظر أو استمتاع ، وأنهم بمنزلة الحجارة التي إن حركت تحركت وإن تركت وقفت على حال واحدة حتى يرد عليهم السكون الدائم الذي هو آخر ما في قدرة الله عنده.

وقال الخياط في رده : إن أبا الهذيل كان يزعم أن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا دار أمر ولا نهي ولا محنة ولا اختبار ، قال : فأهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها ويلتذون ، والله تعالى المتولي ذلك النعيم الذي يصل إليهم وهم غير فاعلين له ، ولو كانوا في الجنة مع صحة عقولهم وأبدانهم يجوز منهم اختيار الأفعال ووقوعها منهم لكانوا مأمورين منهيين ، ولو كانوا كذلك لوقعت منهم الطاعة والمعصية ، ولكانت الجنة دار محنة وأمر ونهى ، ولم تكن دار ثواب ، وكان سبيلها سبيل الدنيا ، وقد جاء الإجماع بأن الدنيا دار عمل وأمر ونهي ، والآخرة دار جزاء وليست بدار أمر ولا نهي ، وهذا الاجماع يوجب ما قلت ، فهذه حجة أبي الهذيل في نفيه أن يكون أهل الجنة يفعلون في الحقيقة. ١

التحقيق في قول أبي الهذيل العلاف والجهم بن صفوان

إنّ نسبة القول بفناء حركات أهل الجنة والنار إلى أبي الهذيل بعيدة ، فإنه لا يقول به إنسان عاقل فضلاً من أن يقول به أبو الهذيل العلاف ، ويمكن حمل كلامه على ما فسره الخياط المعتزلي ، وإن كان لا يخلو من إشكال ، لأن كون الانسان مخيراً في أفعاله في الجنة لا يلزم منه أن يكون مأموراً ومنهياً ، ولا يقتضي ذلك وقوع الطاعة والمعصية منهم ، فبعض الناس وصلوا في الدنيا إلى

________________

١. راجع : الخياط المعتزلي ، الانتصار.

١٧٥

درجات من اليقين بحيث يمتنع في حقهم التكفير في المعصية فضلاً عن ارتكابها ، فكيف في الدار الآخرة التي تنكشف الحقائق للانسان ويرى الجنة والنار بأم عينه ؟ فكيف يجرؤ على التكفير في المعصية ، فضلاً عن ارتكابها على فرض إمكان وقوع المعصية من الانسان ، بالإضافة إلى وصول أهل الجنة إلى الغنى عن كل شيء بفضل الله ونعمه التي أنعمها عليهم ، فلا يحتاجون إلى شيء حتى يرتكبوا المعاصي من أجلها.

ولو سلب الاختيار من الانسان في الجنة ، فإنه يتحول إلى سجن وعذاب بدل أن يكون نعيماً ، وكم حدث ويحدث من ثورات للبشرية في مختلف بقاع العالم من أجل نيل حرية الاختيار والتحرر من العبودية والتسلط وكذا حال الدنيا ، فكيف في الدار الآخرة ، فهل من عدل الله تعالى أن يجعل الانسان مجبراً لا اختيار له في شيء وقد خلقه حراً وأعطاه الارادة والاختيار ؟

أما نسبة القول بفناء الجنة والنار إلى الجهم بن صفوان فلا يمكن القطع به والقول بصدوره منه جهم لأنّ هذا القول قد نسبه اليه خصومه من الأشاعرة ، وأهل الحديث أمثال فخر الرازي ١ والبغدادي ٢ وابن حزم ٣ وغيرهم ، ولم ينقله أحد من متكلمي الامامية من المتقدمين والمتأخرين وفق مقدار اطلاعي على كتبهم ، بالاضافة إلى تضارب آراء الناقلين في منشأ هذا القول. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على ضعف صدوره من الجهم بن صفوان.

٨. قول مجهول القائل

نقل هذا القول الفخر الرازي دون أن يصرح باسم قائله ، حيث قال : من الناس من قال إن الوعيد الوارد في الكتب الإلهية إنما جاء للتخويف ، فأما فعل

________________

١. راجع : الفخر الرازي ، معالم اصول الدين ، ص ١٢١.

٢. راجع : اصول الدين ، ص ٢٣٨ ؛ الفرق بين الفرق ، ص ٣٣٩.

٣. راجع : الفصل في الملل والنحل ، ج ٢ ، ص ٣٩٥ ؛ الاصول والفروع ، ص ٤٣.

١٧٦

الايلام فذلك لا يوجد واحتج عليه بوجوه :

الأول : أن ذلك العقاب ضرر خال عن النفع فيكون قبيحاً.

الثاني : إن العبد يقول يوم القيامة ، يا إله العالمين هذه الأشياء التي كلفتني بها وعصيتك فيها ، إن كانت خالية عن الحكمة والغرض ، كان التعذيب على تركها لا يليق بالرحمة ، وإن كانت مشتملة على الحكمة والغرض ، فتلك الحكمة إن عادت اليك فأنت محتاج إلي ، وإن كان المقصود من تكليفي بها عود منافعها إلي ، فلما تركتها فما قصرت إلا في حق نفسي ، فكيف يليق بالحكيم أن يعذب حيواناً لأجل أنّه قصر في حق نفسه ؟

الثالث : أن جميع أفعال العبد من موجبات أفعال الله تعالى ، فكيف يحسن التعذيب منه ؟ ١

٩. محمد عزة دروزه

يذهب محمد عزة إلى أن آيات الوعيد جاءت لاثارة الرعب والخوف في قلوب الكفار ، وآيات الوعد لاثارة الطمأنينة والغبطة في قلوب المؤمنين. ففي تفسيره للآيات ( ١٠٥ ـ ١٠٧) من سورة هود ، وبعد ذكر عدد من الأقوال في معنى الاستثناء ، قال : والذي نراه أن التعبير من أساليب الوحي القرآني بقرن كل شيء بمشيئة الله تعالى ، إعلاناً بأن كل شيء منوط بامره وإذنه ومشيئته ، وأنه لا ضرورة ولا طائل من التخمين في عبارة متصلة بالحياة الأخروية التي هي حقيقة إيمانه مغيبة وأن الأولى الوقوف منها عندما وقف عنده القرآن ، وملاحظة أن الآيات في جملتها بسبيل إنذار الكفار السامعين ليرعووا ويتوبوا وتبشير المؤمنين ليغتبطوا. ٢

________________

١. معالم اصول الدين ، ص ١٢٢.

٢. محمد عزة دروزة ، التفسير الحديث ، ج ٤ ، ص ٨٧.

١٧٧

التحقيق في القول الثامن والتاسع

يرد على القولين بأنه لو علم المكلف أن الوعيد الوارد في القرآن إنما جاء للتخويف فقط لا غير ، فلا يبقى أثر وفائدة في هذا التخويف ، فيكون تغريراً للمكلف على ارتكاب المعاصي ، وفي نتيجة تنتفي فائدة الوعيد الوارد في الكتاب الإلهي ، ويكون لغواً ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

ويرد على القول العاشر في قوله إن ذلك العقاب ضرر خال من النفع فيكون قبيحاً ، هذا القول ليس في محله ، لأن العقاب ليس من معذب خارجي ، بل هو نفس أعمال الكفر والمعاصي يتحول إلى أنواع من العذاب ، قال صدر الدين الشيرازي : وفي القرآن آيات كثيرة دالة على أن كل ما يلاقيه الانسان في الآخرة ويصل اليه من الجنة وما فيها من الحور والقصور والفواكه وغيرها والنار وما فيها من العقارب والحيات وغيرها ، ليس إلا غاية أفعاله وصورة أعماله وآثار ملكاته ، وإنما الجزاء هناك بنفس العمل باعتبار ما ينتهي اليه ، كقوله تعالى : ( ... وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ، ١ وقوله تعالى : ( إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ٢ ولم يقل مما كنتم تعملون تنبيهاً على هذا المعنى ، وقوله : ( ... جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ ... ) ، ٣. ٤

ويرد أيضاً على الوجه الثاني وهو قوله : فلما تركت الأشياء التي كلفتني بها ، فما قصرت إلا في حق نفسي ، أنه بديهي البطلان ، لأن التكاليف الإلهية ليست مقتصرة على المسائل العبادية من قبيل الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيره من الأمور العبادية حتى يكون التارك لها مقصراً في حق نفسه فقط ، بل هناك تكاليف من الأوامر والنواهي المتعلقة بالحقوق الاجتماعية مثل الظلم بجميع أشكاله من القتل والزنا والسرقة وأكل المال بالباطل وغيره من

________________

١. يس ، ٥٤.

٢. التحريم ، ٧.

٣. فصلت ، ٢٨.

٤. صدر الدين الشيرازي ، الاسفار ، ج ٩ ، ص ٢٩٥.

١٧٨

المحرمات ، فالتجاوز لحقوق الآخرين أكبر معصية عند الله ، ولا يليق بالرحمة ، وليس من عدله أن يترك الظالمين والطغاة الذين عاثوا الفساد في الأرض وقتلوا الأبرياء ، وارتكبوا أنواعاً من الظلم والفساد ، أو الذين تصدوا لمحاربة الأنبياء والمرسلين ، وكذبوا بالرسالات الالهية ، لانهم ليسوا مقصرين في حق أنفسهم فقط ، كما هو واضح ، فترك عقاب هؤلاء هو عين الظلم ، تعالى الله عن ذلك. على أن ترك التكاليف العبادية أمثال الصوم والصلاة يلازمه في كثير من الأحيان الفساد الاجتماعي ، لأنه يؤدي إلى تشجيع الآخرين على تركها ، فيكون تضعيفاً للدين وإشاعةً للفساد. كما أن وجهه الثالث مبني على القول بالجبر الذي هو بديهي البطلان.

١٠. محمد إقبال اللاهوري ( المتوفى ١٩٣٨م )

يذهب محمد إقبال إلى انه ليس في الاسلام لعنة أبدية ، وأن لفظ الأبدية الذي جاء في بعض الآيات وصفاً للنار ، يفسره القرآن نفسه بأنه حقبة من الزمان ، قال تعالى : ( لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) يرى أن النار كما يصورها القرآن ليست هاوية من عذاب مقيم يسلطها عليهم للانتقام ، بل هي تجربة للتقويم قد تجعل النفس القاسية المتحجرة تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله. ١

التحقيق في قول محمد اقبال

محمد إقبال يتمسك في إثبات انقطاع العذاب بقوله تعالى : ( لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) وقد أثبتنا فيما سبق في الفصل الثاني أن هذه الآية لاتدل على انقطاع العذاب.

________________

١. محمد بو عزيزي ، محمد اقبال فكره الديني والفلسفي ، ص ٤٤٤ ؛ وراجع : محمد اقبال لاهوري ، احياى فكر دينى در اسلام ، ص ١٤٢.

١٧٩

الخلاصة

قمنا في هذا القسم من الموضوع بدراسة آراء المخالفين للخلود الأبدي في النار ، واستعراض أقوالهم في انقطاع العذاب عن الكفار لبيان فساد هذه الأقوال والاشكالات الواردة عليها ، وأيضاً لبيان مدى صحة ما نسب إلى بعض المتكلمين من الأقوال المنافية للخلود في جهنم ، ومن هذه الآراء القول بفناء النار ، حيث ذهب اليه ابن تيمية ، وصرح به تلميذه ابن القيم الجوزي في كتبه ، واستدل عليه بأدلة عقلية وبأقوال منسوبة إلى بعض الأصحاب ، بالاضافة إلى الآيات القرآنية المشعرة بظاهرها بانقطاع العذاب عن الكفار ، ومال إلى هذا الرأي أيضاً الشيخ محمد عبده ، والشيخ محمود شلتوت ، أما الدكتور محمد صادقي فقد ذهب إلى القول بفناء النار مع أهلها ، وتمسك في اثبات ذلك بأدلة مماثلة لأدلة ابن القيم الجوزية ، وقد ثبت في قسم التفسير عدم دلالة الآيات التي تمسكوا بها على انقطاع العذاب ، وثبت أيضاً في هذا القسم وفي قسم الفلسفة بطلان أدلتهم العقلية وعدم دلالتها على انقطاع العذاب عن الكفار ، أما أقوال الصحابة أمثال عمر وأبي هريرة وابن مسعود وغيرهم ، والتي دلت على انقطاع العذاب عن الكفار فهي على فرض صحة صدورها من هؤلاء ، فقد تبين بأنها لاحجية فيها ، وعلى فرض حجيتها فانها مطروحة بمخالفتها للكتاب وروايات المعصومين عليهم‌السلام.

وأما القول بفناء الجنة والنار وفناء أهلها ، والذي نسب إلى الجهم بن صفوان فإنما ألصقه عليه خصومه من الأشاعرة وأهل الحديث ، ولم ينقله غيرهم ، فلا يمكن القطع بصدوره من الجهم بن صفوان. وأما نسبة القول بفناء حركات أهل الجنة والنرا إلى أبي الهذيل العلاف ، فهي غير معقولة ، ويمكن حمل كلامه على ما وجّهه الخياط المعتزلي ، ولكنها مع ذلك لا تخلو من إشكال.

١٨٠