الخلود في جهنّم

محمد عبد الخالق كاظم

الخلود في جهنّم

المؤلف:

محمد عبد الخالق كاظم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 964-7741-74-X
الصفحات: ٢٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

أما الخواجه الطوسي ١ والعلامة الحلي ، ٢ فقد عرّفا الايمان بأنه عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان.

وهناك تعريف آخر أقامه الشيخ الصدوق ٣ وتلميذه الشيخ المفيد ، ٤ وهو أنه عبارة عن الاعتقاد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان.

وبناءً على ما سبق فالشيعة الامامية مجمعون على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج بذلك عن الايمان لتصديقه بالقلب ، قال الشيخ المفيد : إن مرتكبي الكبائر من أهل المعرفة والاقرار مؤمنون بايمانهم بالله وبرسوله وبما جاء من عنده ، وفاسقون بما معهم عن كبائر الآثام ، ولا أطلق لهم اسم الفسق ولا اسم الايمان ، بل أقيدهما جميعاً في تسميتهم بكل واحد منهما ، وأمتنع من الوصف لهم بهما من الاطلاق ، وأطلق لهم اسم الاسلام بغير تقييد وعلى كل حال ، وهذا مذهب الامامية. ٥ فهو يقصد أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن مطلقاً ، ولا فاسق مطلقاً ، بل هو مؤمن فاسقٌ ويطلق عليه أيضاً اسم المسلم مطلقاً.

٢. العفو الالهي

ذهبت الشيعة الامامية إلى جواز الإلهي عقلاً بالاضافة إلى الآيات القرآنية الدالة على وقوعه. أما جواز وقوعه عقلاً فهو أن العقاب حق الله تعالى اليه قبضه واستيفاؤه ، فجاز تركه لأن العقاب ضرر بالمكلف ولا ضرر في تركه على مستحقه ، فيكون تركه حسناً ، فأشبه الدين في حسن إسقاطه ، أما الآيات القرآنية الدالة على وقوع العفو فمنها : قوله تعالى : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ

________________

١. راجع : شرح التجريد ، ص ٤٥٤.

٢. راجع : مناهج اليقين في اصول الدين ، ص ٣٦٧.

٣. راجع : الشيخ الصدوق ، الهداية ، ص ٥٤.

٤. راجع : مناهج اليقين في اصول الدين ، ص ٣٦٧.

٥. أوائل المقالات ، ص ٨٥.

١٤١

لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ... ). ١

قالوا : الآية صريحة بأن الله تعالى يغفر الظلم ، لأن قوله تعالى ؟ : ( عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) معناه في حال كونهم ظالمين ، لأن ( على ) يدل على الحال ، فتدلّ الآية على حصول الغفران حال الظلم.

وقوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ٢

قالوا : إن ) هذا الغفران إما مع التوبة أو بدون التوبة ، والأول باطل للاجماع بأن الشرك يغفر مع التوبة فتعيّن الثاني ، ولا يمكن القول بالتفريق بينهما ، وهو عدم غفران الشرك مع عدم الوبة وغفران مادون ذلك بالتوبة ، لأنه يخرج الكلام عن النظم الصحيح ، ولأن الغفران مع التوبة واجب فلا يجوز تعلقه بالمشيئة.

وقوله تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ). ٣

قالوا : لم يشترط التوبة ولا صغر المعصية فيه ، فينبغي أن يحمل على عمومه إلا ما أخرجه الدليل من عقاب الكفار. ٤

٣. الشفاعة

إتفقت الامامية على ثبوت الشفاعة ، وأنها تكون للفساق في سقوط عقابهم وليست لزيادة المنافع ، واستدلوا على ثبوت الشفاعة بقوله تعالى : ( ... عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ) ٥ فالمقام المحمود هو مقام الشفاعة ، واستدلوا على كونها لدفع الضرر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ». والشفاعة إنما هي للمحتاج الذي هو الفاسق ، أما المستغني فالشفاعة له عبث. ٦

________________

١. الرعد ، ٦.

٢. النساء ، ٤٨.

٣. الزمر ، ٥٣.

٤. راجع : شرح جمل العلم والعمل ، ص ١٤٤ ، ١٤٥ ، ١٥٣ ، ١٥٤ ؛ اللوامع الالهية ، ص ٤٠٦ ، ٤٠٧ ؛ مناهج اليقين في اصول الدين ، ص ٣٥٨ ، ٣٥٩ ؛ شرح التجريد ، ص ٤٤٢ ، ٤٤٣.

٥. الاسراء ، ٧٩.

٦. راجع : مناهج اليقين في اصول الدين ، ص ٣٦٥ ؛ شرح جمل العلم والعمل ، ص ١٥٥ ، ١٥٦ ؛ شرح التجريد ، ص ٤٤٣ ، ٤٤٤.

١٤٢

رأي الشيعة الامامية في وعيد مرتكب الكبيرة

تبيّن فيما سبق أن الشيعة الامامية يقرّون بثبوت الشفاعة ووقوع العفو الالهي لمرتكب الكبيرة ، وأن مرتكب الكبيرة لا يخرج بالمعصية عن الايمان ، وهذا يدل على أنهم قائلون بانقطاع عذاب مرتكب الكبيرة ، وأنه لا يخلد في النار ، قال الشيخ المفيد : إتفقت الامامية على أن الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والاقرار بفرائضه من أهل الصلاة... وإتفقت الامامية على أن من عذب بذنبه من أهل الاقرار والمعرفة والصلاة لم يخلد في العذاب ، وأخرج من النار إلى الجنة ، فينعم فيها على الدوام. ١ وقال نحو هذا القول ابن نوبخت والخواجة الطوسي وغيرهما. ٢

أدلة الامامية على انقطاع وعيد مرتكب الكبيرة

١. قوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ).

وتقرير الاستدلال : أن المطيع بايمانه إذا فعل معصيةً استحق ثواباً وعقاباً لبطلان التحابط ، فإما أن يكونا دائمين أو منقطعين أو أحدهما دائماً والآخر منقطعاً ، والأول باطل لاستلزامه اجتماع الضدين ، والثاني يلزم منه المطلوب ضمناً ، والثالث إما أن يكون المنقطع هو الثواب وهو باطل بالاجماع ، فتعيّن انقطاع العذاب وهو المطلوب.

٢. قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ... ). ٣

والكبيرة دون الشرك بلا خلاف ، وحينئذ نقول : سلب قوله تعالى الغفران عن الشرك ، وأثبته لما دونه ، فدلّ على الفرق بينهما ، فلو كان عقابه دائماً

________________

١. أوائل المقالات ، ص ٤٦ ، ٤٧.

٢. راجع : شرح الياقوت ، ص ١٧٤ ؛ شرح التجريد ، ص ٤٤٠ ؛ اللوامع الالهية ، ص ٣٩٥ ، ٣٩٦ ؛ الاعتقادات ، ص ٧٧ ؛ المنقذ من التقليد ، ج ٢ ، ص ٢٧.

٣. النساء ، ٤٨.

١٤٣

كعقابه لم يبق بينهما فرق ، ولم يكن لغفرانهما معنى.

٣. إنه لو خلد في النار لزم مساواته للكافر الذي أتى بأعظم المعاصي ، مع أن الفاسق انضم إلى معصيته إيمان ، واللازم باطل عقلاً ، فكذا الملزوم.

٤. إنه يقبح منه تعالى أن يعبده إنسان ألف عام ثم يفسق مرة واحدة ، فيحبط تلك الطاعات العظيمة بتلك المرة الواحدة.

٥. إن معصية الفاسق متناهية ، فلا يحسن استحقاقه عقاباً غير متناه ، ولا ينتقض بالكافر ، لأنه أتى بأعظم المعاصي. ١

الزيدية

الزيدية من الفرق الشيعة المعروفة ، أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي عليه‌السلام ( ٧٩ ـ ١٢٢ ه‍ ) المعروف بزيد الشهيد الذي كان من تلاميذ واصل به عطاء الغزّال مؤسس مذهب المعتزلة ، ولهذا فالزيدية يعدّون من أتباع المعتزلة في المسائل الكلامية.

الزيدية يرون الامامة في أولاد فاطمة عليها‌السلام وكل فاطمي إذا كان عالماً وزاهداً وشجاعاً وسخياً إذا ادعى الامامة وخرج فهو الامام سواء كان من أولاد الحسن عليه‌السلام أو من أبناء الحسين عليه‌السلام ، وهم ينكرون عصمة الامام ، ويقولون ( بالنص الخفي ) في تعيين الامام وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد عيّن الامام علي بن أبي طالب عليه‌السلام للامامة بنصّ خفي ، وأن الامام علياً قد أطلع بعض أصحابه على امامته بصورة مخفية بناء على مصالح ، ولهذا فهم يرون بصحة خلافة أبي‌بكر وعمر وعثمان لإخماد نار الفتنة ، وأيضاً قالوا بامامة المفضول ، وجواز تعيين المفضول للامامة مع وجود الفاضل ، وينكرون القول بالتقية. ٢

________________

١. راجع : ارشاد الطالبين ، ص ٤٢٣ ، ٤٢٤ ؛ اللوامع الالهية ، ص ٣٩٥ ، ٣٩٦.

٢. فرهنگ فرق اسلامى ، ص ٢١٤ ـ ٢١٦ ؛ الحسن بن موسي النوبختي ، فرق الشيعة ، ص ٢١.

١٤٤

مباني الزيدية في وعيد مرتكب الكبيرة

١. قولهم في ايمان مرتكب الكبيرة

ذهبت الزيدية الى أن الايمان يعني الإتيان بالطاعات واجتناب المحرمات ، قال القاسم بن محمد بن علي ( المتوفى ١٠٢٩ ه‍ ) : الايمان شرعاً الإتيان بالواجبات واجتناب المقبحات. ١ وقال أحمد بن يحيي الصعدي المتوفى ( ١٠٦١ ه‍) : الايمان هو فعل الطاعات واجتناب المحظورات والمكروهات ٢ فحسب هذا التعريف أن المستحبات والمكروهات أيضاً من الايمان.

وقال يحيي بن حمزة ( المتوفى ٧٤٩ ه‍ ) : الايمان : تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالاركان وأن الايمان لا يجوز إطلاقه مع عدم أي واحد من هذه الاُمور ، ٣ وذهب الى هذا المعنى الامام يحيي بن الحسين بن القاسم ٤ ( المتوفى ٢٩٨ ه‍ ).

اما بالنسبة الى قولهم في ايمان مرتكب الكبيرة فقد اقتدوا بالمعتزلة في هذه المسألة قائلين : إن مرتكب الكبيرة لا يسمي مؤمناً ، بل هو فاسق ، وجعلوه في منزلة بين منزلتين ، لقوله تعالى : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ) ، قال الامام يحيى بن الحسين : إن اصحاب الكبائر ليسوا بكفار ولا مشركين ولا منافقين ، وأنهم ليسوا بأبرار ولا فضلاء ولا أزكياء ولا أطهار ولا عدلاء ، ومن كان هكذا لم يطلق عليه اسم الايمان ولا الاسلام... لانه قد غلب عليهم اسم الفسوق والفجور والظلم والعدوان والضلال ، فكانوا أهل منزلة بين منزلتين ، وهي منزلة الفساق والفجّار التي بين منزلة المؤمنين

________________

١. راجع : قاسم بن محمد بن علي ، الاساس لعقائد الاكياس ، ص ١٧٩.

٢. احمد بن يحيي الصعدي ، شرح الثلاثين مسألة ، ص ٢٧٩.

٣. راجع : يحيى بن حمزة ، المعالم الدينية ، ص ١١٧.

٤. راجع : المجموعة الفاخرة ( كتب ورسائل يحيى بن الحسين ) ، ص ٦٧.

١٤٥

والكافرين في هذه الدنيا. ١

وقال نحوه محمد بن الحسن ٢ ( المتوفى ١٠٧٩ ه‍ ) ، وأحمد بن حسن الرصاص ( المتوفى ٦٥٦ ه‍ ) ، ٣ وذهب قدماء الزيدية الى أن مرتكب الكبيرة كافر نعمة كما يروي أحمد القاسمي عن جماعة قولهم : وقد روى أنه إجماع قدماء العترة عليهم‌السلام والشيعة ، ويسمي مرتكب الكبيرة عمداً غير المخرجة عن الملة كافر نعمة لأن الطاعات شكر لله تعالى فمن تركها أو بعضها فقد كفر نعمة الله. ٤

٢. الاحباط والتكفير

اتفقت لزيدية على وقوع الاحباط والكفير في حق المكلفين ، لكنهم اختلفوا في حقيقته ، فنرى أن أحمد الشرفي القاسمي ( المتوفى ١٠٥٥ ه‍ ) يرفض مايذهب اليه أبو هاشم ، وهو القول بالموازنة ، وهي أن من له أحد عشر جزءاً من الثواب وفعل ما يوجب عشرة أجزاء من العقاب تساقطت العشرتان ، وصارت العشرة التي هي العقاب مكفرة بعشرة من الثواب ، وبقي جزء من الثواب يدخل به الجنة ، ومن له عشرة من الثواب وأحد عشر من العقاب فانه ينحبط الثواب بعشرة ويبقى عليه جزء من العقاب ويدخل به النار. وكذلك يرفض ما ذهب اليه أبوهاشم ، وهو القول بالموافاة ، وهو سقوط الأقل ، وهو العشرة في مثالنا بالأكثر وهي الأحد عشر ، ولا يسقط من الأكثر شيء ، فيستحق الأحد عشر التي هي الثواب في الصورة الأولى ، والعقاب في الصورة الثانية كاملة من غير أن يسقط شيء في مقابلة العشرة. ٥

________________

١. المصدر السابق ، ص ٧٤.

٢. محمد بن الحسن ، سبيل الرشاد الى معرفة رب العباد ، ص ٤٢.

٣. راجع : احمد بن حسن الرصاص ، الخلاصة النافعة ، ص ١٨٠.

٤. أحمد بن محمد الشرفي القاسمي ، عدة الاكياس في شرح معاني الاساس ، ج ٢ ، ص ٢٦٧.

٥. المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٣٠٤.

١٤٦

فالقاسمي يرى أن معصية واحدة إذا ختم الانسان بها حياته من غير توبة ، فانه مخلد في النار ، ويؤيده ما نقله من جواب المرتضى عن سؤال ، وهو أن المعصية متناهية فكيف يستحق على المتناهي عقاب لا يتناهى ؟ فيقول : قال المرتضى في جواب مسألة عن التخليد بالنار على ذنب واحد من كلام طويل مالفظه : وقد أنصف الله عزّوجلّ وعدل بينهم في حكمه ، أولا ترى لو أن رجلاً عصى الله طول عمره ثم تاب وأخلص ورجع في صحة من بدنه من قبل نزول الموت به أن تلك الذنوب جميعاً تحط عنه وتغفر له ، وإن مات على ذلك دخل الجنة ، فكذلك من ختم عمله بالمعصية لله سبحانه وتعالى ومات عليها ، حكم له بالعذاب كما حكم له عند التوبة بالثواب ، فهذا عين العدل والإنصاف. ولو جاز أن يدخل الجنة من مات على معصية واحدة لجاز أن يدخلها من مات على معصية ومعصيتين ، ولو جاز ذلك لجاز أن يدخلها من عصى عشراً أو عشرين مرة ، وإذا جاز ذلك فقد بطل الوعد والوعيد ووقع الاختلاف والفساد. ١

وذهب إلى هذا الرأي أيضاً أحمد بن يحيى الصعدي ( المتوفى ١٠٦١ ه‍ ) ، قال : ولأن الصحيح من المذهب أن كل من كانت خاتمة طاعته الاصرار على معصية واحدة فهو من أهل النار ، وذلك مما يرجح القول بالاحباط على القول بالموازنة. ٢

أما يحيى بن حمزة فقد رجّح القول بالموازنه ، وهو قول أبي هاشم على القول بالموافاة الذي ذهب اليه أبو علي الجبّائي واستدل عليه بعدة وجوه :

أولها : إنه كان يجب أن يكون حال من عبد الله ألف سنة ثم شرب جرعةً من خمر ثم مات ، كحال من لم يعبد الله في عمره ، لأن عقابه قد أسقط ثواب طاعته ، لأنه قد اجتمع الاستحقاقان ، ولم تؤثر تلك الطاعات في شيء من عقابه ، فيكون حاله كحال من لم يعبد الله ، وفساده معلوم ضرورة.

________________

١. المصدر السابق ، ص ٣٢٣ ، ٣٢٤.

٢. شرح الثلاثين مسألة ، ص ٢٥٤.

١٤٧

وثانيها : قوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ).

والمراد يرى جزاءه ، فإن لم يخفف من عقابه ولا يوفر عليه شيء من ثوابه لم يكن للآية معنى.

وثالثها : إنه قد أتى بالطاعة على الحدّ الذي لوقوعها عليه يستحق الثواب ، والثواب حق على الله للعبد ، فغير جائز ألّا ينتفع المستحق بذلك ، بل يجب أن يوصل اليه ذلك النفع أو يفعل ما يقوم مقامه ، ومعلوم أن إزالة جزء من الضرر كإيصال جزء من النفع ، فلابد من الموازنة وإلا انتقض العدل. ١

٣. العفو الالهي

إتفقت الزيدية على القول بعدم جواز العفو ، وأنه لا يحسن عقلاً العفو عن مرتكب الكبيرة المصرّ على المعصية ، لأن العفو إغراء للمكلف بارتكاب المعاصي ، وهو قبيح عقلاً ، قال أحمد بن يحيى الصعدي : ويحسن منه العفو عن العاصي إن علم ارتداعه كالتائب إتفاقاً ، ولا يحسن إن علم عدم ارتداعه... وقال : قلنا : يصير العفو كالاغراء ، هو قبيح عقلاً ، وكذا لا يجوز خلف الوعيد من الله تعالى للمعاقبين. ٢ فالقول بجواز العفو في رأيه خلف للوعيد. وقال مثله القاسم بن محمد ( المتوفى ١٠٢٩ ه‍ ). ٣

ويقول أحمد بن يحيى الصعدي في موضع آخر : أما قول المخالفين : إن المغفرة لا تكون مع التوبة والتكفير ، فقول باطل ، لأنّ حقيقة المغفرة هي أن لا يعجل للعبد ما يستحقه من العقاب ، فانه تعالى قد قابل أنواع الكفور والعصيان بسوابغ النعم والاحسان ، ولا شك أن ذلك أعظم الحلم وأوسع الغفران ، وقد

________________

١. راجع : المعالم الدينية ، ص ١١٢.

٢. احمد بن يحيى الصعدي ، شرح الثلاثين مسألة ، ص ٢٥٧.

٣. راجع : الاساس لعقائد الاكياس ، ص ١٩٤.

١٤٨

سمى الله تعالى تأخير العقاب عفواً ، كما قال تعالى في قصة اليهود : ( ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )١( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) ، ٢ وأيضاً فإنا نقول أراد بآيات المغفرة مثل قوله تعالى : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ... ) ، ٣ وقوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) ٤ ونحوه ، المغفرة مع التوبة ، وقد سماه الله غفراناً ، كما قال تعالى : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ ) ، ٥ وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) ، ٦ وقوله تعالى : ( وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ٧ إلى غير ذلك من الآيات ، قد وردت المغفرة في هذه الآيات ونحوها مقيدة بالتوبة. ٨

٤. الشفاعة

قال أحمد بن حسن الرصّاص ( المتوفى ٦٥٦ ه‍ ) : فمذهبنا أن شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تكون يوم القيامة لأحد من الظالمين ، وإنما تكون للمؤمنين والتائبين ، فيزيدهم الله تعالى بها نعماً إلى نعمهم ، وسروراً إلى سرورهم. ٩ وقال نحوه محمد بن الحسن ( المتوفى ١٠٧٩ ه‍ ). ١٠

وقال الرصّاص : إن ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، لو قلنا بصحته فإنه من أخبار الآحاد التي لا توصل للعلم ، وأيضاً فإنه معارض لما رواه الحسن البصري ، فإنه روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ». ١١

________________

١. البقرة ، ٥٢.

٢. الشورى ، ٣٠.

٣. الرعد ، ٦.

٤. النساء ، ٤٨.

٥. طه ، ٨٢.

٦. التحريم ، ٨.

٧. النساء ، ١١٠.

٨. شرح الثلاثين مسألة ، ص ٢٦٥ ، ٢٦٦.

٩. الخلاصة النافعة ، ص ١٨٥.

١٠. راجع : سبيل الرشاد الي معرفة رب العباد ، ص ٤٢.

١١. راجع : الخلاصة النافعة ، ص ١٨٥.

١٤٩

رأي الزيدية في وعيد مرتكب الكبيرة

أجمعت الزيدية على خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات من دون توبة ، قال أحمد الصعدي : إن من توعده الله تعالى من الفساق بالنار كمرتكب الفواحش التي هي غير مخرجة من الملة كالزنا وشرب الخمر وتارك الصلاة والزكاة ونحو ذلك ، فإنّه إذا مات مصراً على فسقه غير تائب منه ، فإنه صائر إلى النار ، ومخلد فيها خلوداً دائماً ، ١ وقال نحوه أحمد الرصاص. ٢

وقال يحيى بن الحسين ( المتوفى ٢٩٨ ه‍ ) : أن وعده ووعيده حق من أطاعه أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار أبد الأبد ، لا ما يقول الجاهلون من خروج المعذبين من العذاب المهين إلى دار المتقين ومحل المؤمنين ، وفي ذلك ما يقول رب العالمين ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) ، ٣ ويقول : ( وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ) ، ٤ ففي كل ذلك يخبر أنه من دخل النار فهو مقيم فيها. ٥

أدلة الزيدية في خلود مرتكب الكبيرة في النار

١. الدليل العقلي

إن الفاسق لو لم يستحق العقاب لكان خلق شهوته للقبيح إغراءً له به ، ويتنزل خلقها بمنزلة قول القائل : إفعل ولا بأس عليك. ٦

٢. الدليل النقلي

ألف) الآيات القرآنية : تمسك الزيدية كالمعتزلة بعمومات آيات الوعيد وقالوا : إنها عامّة للعصاة ، ولم يفصل تعالى بين الكافر والفاسق ، وأهم ما تمسكت به

________________

١. شرح الثلاثين مسألة ، ص ٢٦٠.

٢. راجع : الخلاصة النافعة ، ص ١٧٧.

٣. النساء ، ٥٧ ، ١٢٢؛ المائدة ، ١١٩؛ التوبة ، ٢٢ ، ١٠٠ ؛ الاحزاب ، ٦٥ ؛ التغابن ، ٩ ؛ الطلاق ، ١١ ؛ الجن ، ٢٣ ؛ البينة ، ٨.

٤. المائدة ، ٣٧.

٥. المجموعة الفاخرة ( كتب ورسائل يحيى بن الحسين ) ص ٨٣.

٦. عدة الاكياس في شرح معاني الاساس ، ص ٣٢٠.

١٥٠

من هذه الآيات ١ هي :

١. قوله تعالى : ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا... ). ٢

واستدلوا بهذه الآية بأن الله توعد كل عاص على العموم بالخلود في النار ، والخلود هو الدوام ، والفاسق عاص كما أن الكافر عاص ، وإخلاف الوعيد يكشف عن الكذب ، والكذب قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح. والذي يدل على عمومية الوعيد أن لفظة ( من ) إذا وقعت على هذا الوجه في الشرط والجزاء اقتضت استغراض كل عاقل بدليل صحة الاستثناء ، وصحة الاستثناء يدل على الاستغراق.

٢. قوله تعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) ٣ وهذه الآية عند الزيدية من الآيات الخاصة لأهل الكبائر غير المخرجة من الملة.

٣. قوله تعالى : ( وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ) ، ٤ قالوا : الضمير للفجار وهو يعم كل عاص.

٤. قوله تعالى : ( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ٥ قالوا : ولم يفصّل تعالى في هذه الآية بين الكافر والفاسق.

٥. قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ـ إلى قوله : ـ .. فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ). ٦

٦. قوله تعالى : ( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ

________________

١. راجع : المصدر السابق ، ص ٣٢٠ ، ٣٢١ ؛ الاساس لعقائد الاكياس ، ص ١٩٤ ؛ الخلاصة النافعة ، ص ١٧٧ ـ ١٧٩.

٢. النساء ، ١٤.

٣. النساء ، ٩٤.

٤. الانفطار ، ١٦.

٥. البقرة ، ٨١.

٦. الانفال ، ١٥ ، ١٦.

١٥١

وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ). ١

وقالوا : إن آيات الوعد والآيات المشعرة بغفران الذنوب مثل قوله تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ... ) ، ٢ ونحوها من الآيات مجملة ، أي مطلقة ، والمجمل لا يستدل به على شيء ، فيجب حملها على المقيد ، كما هو الواجب في مثل ذلك عند علماء الأصول ، فتحمل على نحو قوله تعالى : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ ) ، ٣ وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ). ٤

ب) الأحاديث : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من تحسّى سماً فهو يتحسّاه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها ».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من تردّى من جبل فهو يتردّى من جبل في النار خالداً مخلداً ».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من وجيء نفسه بحديدة فحديدته في يده يوجأ بها بطنه في النار خالداً مخلداً ».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من علّق سوطاً بين يدي سلطان جائر ، جعل الله ذلك السوط حيةً طولها سبعون ذراعاً تسلط عليه في نار جهنم خالداً فيها مخلداً وله عذاب أليم ». وقالوا : إن هذه الأعمال تقتضي الفسق. ٥

الإسماعيلية

الاسماعيلية عنوان عام للفرق التي اعتقدت بعد وفاة الامام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام بإمامة ابنه الأكبر اسماعيل ، أو بإمامة حفيده محمد بن اسماعيل ، فالذين ذهبوا إلى القول بإمامة اسماعيل وزعموا بأن إسماعيل لم يمت ، وأنه

________________

١. النساء ، ١٢٣.

٢. الزمر ، ٥٣.

٣. طه ، ٨٢.

٤. التحريم ، ٨.

٥. راجع : عدة الاكياس في شرح معاني الاساس ، ج ٢ ، ص ٣٢١ ؛ الخلاصة النافعة ، ص ١٧٩.

١٥٢

هو القائم ، سمي هؤلاء بالاسماعيلية الخالصة على قول ابن نوبخت ، أو الاسماعيلية الخاصة على قول الدكتور مشكور.

أما المجموعة الثانية فسميت بالاسماعيلية العامة وهي الفرقة التي ادعت الامامة في محمد بن اسماعيل ، وتشعبت منها عدة فرق ، ومن هذه الفرق الخطّابية نسبة إلى مؤسسها أبي الخطّاب محمد بن أبي زينب ، ومنهم المباركية نسبة إلى مؤسسها مبارك مولى إسماعيل بن جعفر ، وتشعبت من المباركية فرقة سميت بالقرامطة نسبة إلى رئيسها قرمطويه ، وهذه الفرق أقرت بموت إسماعيل وقالوا بأن الامامة لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد الحسن والحسين عليهم‌السلام وأن محمد بن إسماعيل هو الامام.

وفي عهد الدولة الفاطمية في مصر انحصرت الفرق الاسماعيلية في طائفتين وهما : النزارية ، والمستعلية ، وذلك عندما قام المستنصر بالله ، وهو ثامن خلفاء الفاطميين بتحويل الامامة من ابنه الكبير نزار إلى ابنه الشاب المستعلي ، فأقرت طائفة منها بامامة المستعلي ، وبقيت طائفة أخرى على إمامة نزار ، أما اليوم فالاسماعيلية ينقسمون إلى طائفتين ، وهما : الآغاخانية ، والبهرة ، وهما بقايا الفرقتين النزارية والمستعلية. ١

رأى الاسماعيلية في الوعيد

للوقوف على آراء الاسماعيلية في مسألة الخلود في جهنم ومن يخلد فيها لابد من عرض عدد من المقدمات :

الأولى : قولهم في الايمان

يذهب القاضي النعمان بن محمد ( المتوفى ٣٦٣ ه‍ ) إلى أن الايمان كما عرّفه الامام علي بن أبي طالب عليه‌السلام هو الاقرار والمعرفة ، فمن عرّفه الله نفسه ونبيه

________________

١. راجع : فرق الشيعة ، ص ٦٧ ـ ٧٢ ؛ هنري كورين ، تاريخ فلسفه اسلامى ، ص ٣٢ ؛ فرهنگ فرق اسلامى ، ص ٧٤ ـ ٥٣.

١٥٣

وإمامة فأقرّ بذلك فهو مؤمن. ١

وقال في موضع آخر : أدنى ما يكون به العبد مؤمناً ان يعرفه الله نفسه فيقر له بالإلهية ، ويعرفه نبيه فيقر له بالنبوة ، ويعرّفه حجته في أرضه وشاهده على خلقه فيعتقد بامامته. ٢

وللايمان عندهم أقسام ثلاثة ، قال المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي ( المتوفى ٤٧٠ ه‍ ) : وجاء ذكر الايمان في نص القرآن على وجوه مختلفة ، فمنها إيمان تام خالص ومنها ايمان ناقص ، ومنها إيمان مشوب بالشرك.

وقال : أصحاب الايمان الخالص هم المخلصون في ولاية علي عليه‌السلام والأئمة من ذريته : والمؤتمرون لهم ائتمار الرعية ، أما الايمان الناقص فهو أول الاستجابة والاتصال بحدود الدعوة مثل صاحبه مثل المولود الآدمي الذي إذا ولد وقع عليه اسم الانسان لكنه قاصر القدرة ضعيف الآلة ، فيراعى منه كماله وتمامه واستقلاله ، ويدل على ذلك قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... ) ٣ ولو لا المعنى الذي أشرنا اليه لكان قوله : ( آمنوا ) بعد شهادته سبحانه بأنهم آمنوا عبثاً ، فدلّ بذلك على كون المخاطبين بافتتاح إيمانهم كالمواليد في افتتاح أيام ولادتهم.

والمقصود من الايمان المشوب بالشرك : أن الايمان هو نفس الشيء المأخوذ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مما نزل إليه وحياً من الله سبحانه ، ففيه طهرة للنفوس ونجاة للأرواح مادام لم تخالطه البدع والاختلافات التي تصدر من المخلوقين ، وكأنهم يشاركون الله سبحانه بها في دينه وأمره وحلاله وحرامه ، فمهما خالطه ما هذه سبيله صار ايماناً مشوباً بالشرك ، ومثال ذلك الماء النازل

________________

١. راجع : القاضي النعمان بن مخمد ، المجالس والمسايرات ، ص ٣٤٨.

٢. راجع : المصدر السابق ، ص ٣٤٩.

٣. النساء ، ١٣٦.

١٥٤

من السماء فهو طهرة لجميع الاشياء ما لم تغلب عليه النجاسة ، وإذا غلبت عليه بطل وذهبت منافعه ، وكذلك الايمان إذا خالطته البدع صار شركاً وبطل الانتفاع به ، ولا ينفع الله ولا يزكي عمل أهله وإن كان جوهر الايمان باقياً من حيث كونه منزّلاً من الله سبحانه في أصله. ١

الثانية : قولهم في الكفر والشرك

يقول هبة الله الشيرازي في ذيل تفسيره لقوله تعالى : ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ٢ بأن الكفر هو الستر ، فسمي الكافر كافراً لستره ما علمه من الحق والايمان ، ثم إن الكافر على قسمين : أحدهما من سحب ذيله على الحق الذي استبانه واستوضحه طلباً لرياسة باطل وحسداً لصاحب الحق على حقه ، وهو شر القسمين كأضداد الأوصياء والأئمة في كل عصر والمتوثبين على مكانتهم في الوصاية والامامة ، والقسم الآخر من تبعهم على رأيهم ، واقتدى بهم في باطلهم اغتراراً ببدعتهم وانخداعاً بخدعهم. ٣

أما الشرك فهو عندهم قسمان أيضاً : شرك بالله ، وشرك بولاية الائمة ، وقد نقل جعفر بن منصور اليمن ( المتوفى ٣٤٧ ه‍ ) حديثاً ، وادعى نسبته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) ٤ وزعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « يقولون في هذا إنه هو الشرك ، وليس هو كما يقولون ، وإنما الاشراك في هذا الموضع أن يشرك بولاية أمير المؤمنين ومن نصبه الله ولياً وإماماً فيجعل معه غيره ويجحد بولايته فقد ضلّ ضلالاً بعيداً ، والشرك بالله غير هذا ، قال تعالى : ( ... مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ

________________

١. راجع : هبة الله الشيرازي ، المجالس المؤيدية ، ص ٣٢٤ ـ ٣٣١.

٢. البقرة ، ٢٤.

٣. راجع : المجالس المؤيدية ، ص ٣١٩.

٤. النساء ، ٤٨.

١٥٥

عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) ١ فهذا غير هذا ». ٢

وقال القاضي النعمان : أدنى ما يكون به العبد مشركاً أن يتدين بشيء مما نهى الله عنه ، فيزعم أن الله أمر بذلك ، ويعبد من أمر به وهو غير الله ، وأدنى ما يكون به ضالاً ، أن لا يعرف حجة الله في أرضه وشاهده على خلقه فيأتم به. ٣ فعدم معرفة الامام عندهم ضلالة ورفض الأئمة بعد معرفتم هو كفر وشرك.

الثالثة : قولهم في أركان الدين

أركان الدين عند الاسماعيلية هي : الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والولاية ، والولاية عندهم أفضل هذه الأركان ، فإن أطاع المؤمن الله تعالى وأقرّ برسالة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقام بأركان الدين كلها ، ثم عصى الامام أو كذّب به ، فهو آثم في معصيته وغير مقبولة منه طاعة الله وطاعة الرسول. ٤

الرابعة : قولهم في العبادة

الاسماعيلية يقسمون العبادة إلى عبادة عملية أي العبادة الظاهرة وهو ما يتصل بفرائض الدين وأركانه ، وإلى عبادة علمية أي علم الباطن وهو التأويل ، يقول حميد الدين الكرماني في ذيل قوله تعالى : ( ... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ... ). ٥

إن الذين تقدم وصفهم ممن يؤمن بالبعض ويكفر بالبعض مثل النواصب وأمثالهم من أهل الملة إيماناً بالعبادة الظاهرة عملاً ، وكفراً بالعبادة الباطنة

________________

١. المائدة ، ٧٢.

٢. جعفر بن منصور اليمن ، الكشف ، ص ٥٣.

٣. راجع : المجالس والمسايرات ، ص ٣٤٩.

٤. راجع : د. مصطفى غالب ، أعلام الاسماعيلية ، ص ٢٩ ، ٣٠.

٥. البقرة ، ٨٥.

١٥٦

علماً ، والفلاسفة والغلاة إيماناً بالعبادة الباطنة علماً ، وكفراً بالعبادة الظاهرة عملاً وأشباههم ، أولئك الذين باعوا آخرتهم بتركهم قبول قول أولياء الله وحدوده بما تخيلوه في دنياهم واعتمدوا عقولهم ، ( فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ) أي لا تفارقهم الآلام والحسرات ، ولاهم ممّن يتخلصون مما قد تمكن من أنفسهم ونشأوا عليه من الاعتقادات السقيمة. ١

الخامسة : قولهم في العفو الشفاعة

يقول جعفر بن منصور اليمن في تفسيره لقوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) ، ٢ قال الحكيم : لاينال الشفاعة من القائم صلوات الله عليه يوم قيامة ـ إشارة إلى يوم القيامة ـ بالسيف إلّا لمن أذن له الرحمن ، يعني إلّا من أتاه باذن الله أتباع الامام الصامت المستور قبل ظهور القائم صلوات الله عليه لأن إذن الله عزّوجلّ بأيدي الأئمة والرسل ، فمن إتبع إمام عصره فهو يدلّه ويشير به إلى القائم بحد السيف من إذن الله.

قال : الشفاعة منه ، وكذلك شفاعة لمن كان من أهل الولاية لهم إلّا أنه قصر عن واجب الأعمال ورضي له عملاً منها في طاعتهم محيى على موالاتهم ومحبتهم ومودتهم ومات عليها ، فرضي الله عمله. ٣

أما بالنسبة إلى العفو الالهي فيذهب إدريس عماد الدين القريشي ( المتوفى ٨٧٢ ه‍ ) إلى عدم شمول العفو الالهي لأصحاب العقاب غير الموالين للأئمة ، ففي شرحه لقول هبة الله الشيرازي وهو قوله : وبه ـ أي بالائمة والأوصياء ـ يرتفع من يرتفع ويتضع من يتضع قال : فالمرتفعون أهل الثواب الراقون إلى عالم اللطافة في زمرته ، والمتّضعون هم أهل العقاب المنكبون على سوء أعمالهم الصائرون بها إلى النار الكبرى المبعدون بها عن عفو الله ورحمته. ٤

__________________

١. راجع : أحمد حميد الدين الكرماني ، راحة ، العقل ، ص ٥٨٩.

٢. طه ، ١٠٨.

٣. الكشف ، ص ٨١.

٤. راجع : إدريس عماد الدين القريشي ، زهر المعاني ، ص ٣١٧.

١٥٧

السادسة : قولهم في معاصي الموالين للائمة وعدم الموالين

يذهب الاسماعيلية إلى أن الموالين للأئمة والمطيعين لهم والعارفين بفضلهم والمحبين لهم ، أولئك أهل الذين سبقت لهم منّا الحسنى ، لأن محبة وصي النبي ومعرفة فضله حسنة لاتضر معها سيئة ، لأن من تولّاه حقيقة الولاء لم تضره السيئات. ١

ويقول إخوان الصفا : الكفار يوم القيامة يخسرون أعمالهم ولا ينفعهم منها قليل ولا كثير ، وتغبن سيئاتهم حسناتهم فلا تفي ، بها وتغبن حسنات الذين آمنوا سيئاتهم ولا تضرهم ولا يؤخذون بها إذا كان رأس حسنات الذين آمنوا معرفة الله سبحانه وتعالى ومعرفة أوليائه وطاعتهم ، ولا معصية تضرهم إذا أدّوا ما يجب عليهم ، وما يكاد يزلّ بهم القدمان جميعاً ، وإذا زلّت بأحدهم قدم اعتمد على الاخرى ، ورأس معاصي الذين كفروا الشرك بالله ومجد منازل أوليائه والتكبر عليهم والخروج عن طاعتهم ، ولا حسنة تنفعهم بعد ذلك من صلاة أو صيام ، ولا عمل ، كما قال الله عزّوجلّ : ( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) ، ٢. ٣ فالمعيار في قبول الأعمال عند الاسماعيلية هو طاعة الأئمة والكافرون بولاية الأئمة لا تقبل أعمالهم مهما بلغت هذه الأعمال ، وقد أشار إلى هذا أيضاً جعفر منصور اليمن بقوله : فمن كفر بولاية أمير المؤمنين ولقي الله بذلك ، أحبط الله عمله ، وأضلّ سعيه وجعله هباءً منثوراً ، وأكبهم على وجوههم في النار ، وأنه ليوافي الرجل منهم يوم القيامة ، ولو أن له أعمالاً كالجبال الرواسي ، ولم يلق الله بولاية أمير المؤمنين ، فلا ينفعه عمله ، وقال الله عزّ وجلّ : ( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ). ٤

________________

١. راجع : المصدر السابق ، ص ٣٢٧.

٢. الفرقان ، ٢٣.

٣. راجع : جامعة الجامعة ( من تراث اخوان الصفا ) ، ص ١٢٣ ، ١٢٤.

٤. راجع : الكشف ، ص ٣٨ ، ٣٧.

١٥٨

النتائج

نستخلص مما استعرضناه من المقدمات بأن المعيار في قبول الأعمال عند الاسماعيلية ، بل وحتى قبول طاعة الله وطاعة رسوله هو طاعة الأئمة وقبول ولايتهم ، وبناءً على ذلك فان المذنبين من الموالين للأئمة والعارفين بهم والمحبين لهم لا يدخلون النار ولا يخلدون فيها ، لأنّ محبة الأئمة والأوصياء حسنة لا تضر معها سيئة ، فتشملهم شفاعة الامام القائم يوم القيامة ويكون عمله مرضياً عند الله.

أما بالنسبة إلى العاصين والمذنبين من أهل الملة من غير الموالين للأئمة ، فإنهم لشركهم وكفرهم بولاية الأئمة ، وذلك لعدم قبول ولايتهم ، واتخاذهم أئمة آخرين بدلاً منهم ، وعملهم بالعبادة العملية الظاهرية فقط كالنواصب وغيرهم من خلفاء الجور الذين غصبوا الخلافة والولاية من الأئمة وأتباعهم الذين قبلوا إمامتهم ورفضوا إمامة أمير المؤمنين وباقي الأئمة والأوصياء ، وأيضاً الذين عملوا بالعبادة الباطنية وكفروا بالعبادة الظاهرية عملاً كالفلاسفة والغلاة بتركهم قبول قول أولياء الله ، كل هؤلاء مخلدون في النار خلوداً أبدياً.

قال حميد الدين كرماني : ومن كان مصراً على ارتكاب المعاصي والكبائر ، فليستبشر بما تعقبه خمرة اعتقاده وفعله من الخمار الطويل والندامة والعويل أبد الآبدين ، لأنّ نفسه بتركها العبادة واصلاح الاخلاق بالاحكام الشرعية وتركها العبادة الناموسية ، أصبحت ذات صورة مباينة للصورة التي اكتسبتها بالاحاطة بما أحاطت به من المعارف الإلهية ، فتصير ذات صورتين متضادتين : صورة تشبه صورة الملائكة من حيث تصورت وجوب العلم والاكتفاء بما علمت ، وصورة أخرى تشبه صورة البهائم والوحوش التي لا

١٥٩

تعبد ربها من حيث تصورت جواز ترك العمل والاستغناء عنه ، فالصورة الملائكية التي اكتسبتها بمعرفة الحدود حافظة للذات من أن تفنى ، وتلك الصورة البهيمية الاخرى التي اكتسبتها باقية فيها لبقائها ، فيحدث من وجود الصورتين الآلام ، ويا لها من الآلام ! وقد ينتقل من قضية الامكان إلى قضية الوجود والدوام ، فيظلم جوهره وقتما يألم احدهما بالآخر ، فترد النفس بهاتين النهايتين على أهوال عظيمة ، فلا حي تحيى حياة كلية ولا هي تفنى فتستريح استراحة أبدية ، كما قال تعالى : ( لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ) يقاسي ألم العذاب في ذاتها من جهة شمس البرية في المدينة الملكية التي بنتها الأنوار القدسية في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. ١

وكل ذلك العذاب الأبدي بسبب إنكاره للأئمة وتكبره عن قبول ولايتهم ، وهو ما قاله إبراهيم بن الحسين الحامدي ( المتوفى ٥٥٧ ه‍ ) في شرحه لقول الكرماني ، وهو قوله : وذلك من جهة شمس البرية في المدينة الملكية. قال الحامدي : يعني المقام القائم في كل دور الذي هو شمس دوره ، فمن أنكره وتكبّر عنه وعصى وقع في عين الخطأ ، وهبط من السوي الألفي ، ونزل في العذاب السرمدي أبد الآبدين. ٢

وقال أيضاً : وقد جاء عن سيدنا المؤيد ما يؤيد ذلك قال : وكل نفس خالفت وقصرت وجهلت وضلّت وهفت إلى حطام الدنيا العاجلة وارتكاب الشهوات الفانية البهيمية ، صارت صورتها صورة إبليسية شيطانية مخالفة صورة الأصلين ، فلاتصير ملكاً ، ولا تقدر أن ترتقي إلى العلى ، بل هي مخلدة في العذاب أبداً. ٣

________________

١. راجع : ابراهيم بن الحسين الحامدي ، كنز الولد ، ص ٣٠٦ ، ٣٠٧.

٢. المصدر السابق ، ص ٣٠٧.

٣. المصدر السابق ، ص ٣٠٨.

١٦٠