الخلود في جهنّم

محمد عبد الخالق كاظم

الخلود في جهنّم

المؤلف:

محمد عبد الخالق كاظم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 964-7741-74-X
الصفحات: ٢٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

٣. ويرى فريق ثالث من المفسرين بأن المراد بالخلود في هذه الآية المكث الطويل لا الدوام ١ لأن الخلود الأبدي في النار مختص بالكفار. وقد ذكره البيضاوي والالوسي ٢ كوجه ثانٍ في تفسير هذه الآية. وهذا الوجه في تفسير الآية مردود لما بيناه فيما سبق من أن الخلود بمعنى الدوام ، بل حتى القائلين بكونها موضوعة لغة للمكث الطويل قالوا بأنه أستعمل في القرآن بمعنى الدوام.

٤. ويرى فريق رابع بأن العقاب المذكور في الآية للقاتل المستحل ، أي من باب انكار التحريم ، وهو موجب للكفر والخلود في العذاب ، وقد اعتبره البيضاوي ٣ أول الوجهين في تفسير الآية ، ونسب هذا القول إلى عكرمة وابن جريج ، ٤ ومال إلى هذا الرأي الشيخ الطوسي والعلامة الطبرسي ، ففي ردهم على المعتزلة في استدلالهم بهذه الآية على خلود مرتكب الكبيرة في النار قالوا : فإنا نقول له ما أنكرت أن يكون المراد به من لاثواب له أصلاً بأن يكون كافراً ، أو أن يكون قتله مستحلاً لقتله ، أو قتله لايمانه ، فانه لا خلاف أن هذه صفة من يخلد في النار. ٥

ويؤيده ما روي عن سماعة قال : قلت له : قول الله تبارك وتعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) قال : « المعتمد الذي يقتله على دينه فذاك التعمد الذي ذكر الله. قال : قلت : فرجل جاء إلى رجل فضربه بسيفه حتى قتله لغضب ، لا لعيب على

________________

١. تفسير المراغي ، ج ٥ ، ص ١٢٤.

٢. راجع : تفسير البيضاوي ، ج ٢ ، ص ٢٣٧ ؛ روح المعاني ، ج ٥ ، ص ١١٥.

٣. راجع : تفسير البيضاوي ، ج ٢ ، ص ٢٣٦.

٤. راجع : تفسير المراغي ، ج ٥ ، ١٢٥ ؛ تفسير البيضاوي ، ج ٢ ، ص ٢٣٦.

٥. مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٩٣ ؛ وراجع : تفسير البيان ، ج ٣ ، ص ٢٩٤.

١٠١

دينه ، قتله وهو يقول بقوله ؟ قال : ليس هذا الذي ذكر في الكتاب ، ولكن يقاد به والدية إن قبلت. قلت : فله توبة ؟ قال : نعم ، يعتق رقبة ، ويصوم شهرين متتابعين ، ويطعم ستين مسكيناً ، ويتوب ويتضرع ، فأرجو أن يتاب عليه ». ١

ويؤيده أيضاً ما روي في سبب نزوله حيث أنها نزلت في مقيس بن صبابة الكناني ، وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسل معه قيس بن هلال الفهري ، وقال له : قل لبني النجار إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتص منه ، وان لم تعلموا فادفعوا إليه ديته. فبلغ الفهري الرسالة ، فأعطوه الدية ، فلما انصرف ومعه الفهري وسوس إليه الشيطان ، فقال : ما صنعت شيئاً ، أخذت دية أخيك فيكون سبّة عليك ، أقتل الذي معك لتكون نفس بنفس ، والدية فضل فرماه بصخرة فقتله ، وركب بعيراً ورجع إلى مكة كافراً ، وأنشد يقول :

قتلت به فهراً وحمّلت عقله

سراة بني النجار أرباب فارع

فأدركت ثأري واضطجعت موسّداً

وكنت إلى الأوثان أول راجع

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أؤمنه في حلّ ولا حرم ، فقتل يوم الفتح رواه الضحاك وجماعة من المفسرين. ٢

ويؤيده كذلك ما روي عن ابن عباس في معنى قوله ( معتمداً ) فقال : أي مستحلاً لقتله. ٣

النتيجة : والصحيح هو حمل تفسير الآية على الوجه ، الرابع وهو كون القاتل مستحلاً في قتله ، ويمكن الاستدلال عليه بالنقاط التالية :

________________

١. تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ٤٣٠ ؛ وراجع : تهذيب الاحكام ، ج ١٠ ، ص ١٦٤.

٢. مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٩٢ ؛ وراجع : تفسير البيضاوي ، ج ٢ ، ص ٢٣٦.

٣. راجع : المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، ج ٢ ، ص ٩٥ ؛ تفسير القرآن الكريم ، ج ٤ ، ص ٣٤٤ ، ٣٤٥.

١٠٢

١. الآية التي سبقت آية قتل العمد ، أي آية قتل الخطأ ، وهو قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ) فإن معناه على أحد وجوه التفسير هو : لم يكن لمؤمن أن يقتل مؤمناً متعمداً ، ومتى قتله متعمداً لم يكن مؤمناً ، فان ذلك يخرجه من الايمان ، ثم قال : ( إلّا خطأ ) أي فان قتله خطأ لا يخرجه من الايمان ، ١ وهذا يثبت ما ذهبنا إليه.

٢. هناك روايات وأحاديث عديدة تشدد في وعيد قاتل العمد ، وتهدده بالاياس من دخول الجنة وحرمتها عليهم ، ومن هذه الأحاديث ماروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبهم الله على مناخرهم في النار ، وإن الله حرّم الجنة على القاتل الآمر ». ٢ ومن المعلوم أن الجنة ليست محرمة إلّا على الكفار والمشركين ، فنفهم من الحديث الشريف كون القاتل مستحلاً.

ويؤيده ما ذكره صدر الدين الشيرازي ، فهو بعد أن أشار إلى أن تكرر المعاصي يؤدي إلى ظلمة مرآة القلب ، ويمنع عن قبول الرحمة الالهية ، أو نور الشفاعة النبوية ، ويخلد صاحب هذه الكبيرة في النار ، قال : وكذا صدور بعض المعاصي ـ ولو مرةً ـ كقتل المؤمن متعمداً ، كاشف عن كون مرتكبه غير معتن بشأن الدين ، ولامعتقد بأمر الآخرة. ٣

ويمكن الجمع بين هذا الوجه ـ أي الوجه الرابع ـ وبين الوجه الأول ، وهو قولهم بعدم قبول توبة قاتل المؤمن متعمداً ، وذلك بأن نقول : إن قاتل المؤمن لدينه ، والذي هو أبرز مصاديق الاستحلال ، سوف لا يوفق للتوبة ، بمعنى أنه لا يختار التوبة ، فيكون مخلداً في النار.

________________

١. مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٩٠.

٢. الدر المنثور ، ج ٢ ، ص ٦٣١.

٣. راجع : تفسير القرآن الكريم ، ج ٤ ، ص ٣٥٧.

١٠٣

٥. آكل الربا

القرآن الكريم يشدد في الوعيد على أكل الربا ، كما في قتل العمد ، فيهدد المتعاملين بالربا والمصرين عليه بالعذاب المخلد ، قال تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ). ١

الوعيد في هذه الآية عام يشمل الكفار والمؤمنين معاً ، ومن هنا يطرح نفس السؤال السابق ، وهو كيف يوجب ارتكاب الكبيرة من قبيل أكل الربا الخلود في النار بالنسبة للمؤمن ، مع أنّ المؤمن ليس مخلداً في النار بالاتفاق ؟

والجواب : هو أن الخلود في النار ليس معلولاً لمطلق أكل الربا ، بل هو مقيد بالعود وعدم الانتهاء بعد التحريم وهو قوله : ( وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، قال العلامة الطباطبائي : وقوع العود في هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة ، يدلّ على أنّ المراد به العود الذي يجامع عدم الانتهاء ، ويلازم ذلك الاصرار على الذنب وعدم القبول للحكم ، وهذا هو الكفر أو الردة باطناً ، ولو لم يتلفظ في لسانه بما يدلّ على ذلك فانّ من عاد إلى ذنب ولم ينته عنه ولو بالندم ، فهو غير مسلم للحكم تحقيقاً ولا يفلح أبداً. ٢

وعموم جمهور المفسرين حملوا هذه الآية على الآكل المستحل له وهذا لا يكون إلّا كافراً. ٣

________________

١. البقرة ، ٢٧٥.

٢. تفسير الميزان ، ج ٢ ، ص ٤١٨.

٣. راجع : تهذيب الاحكام ، ج ٢ ص ٣٦٢ ؛ مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٣٩٠ ؛ التفسير الكبير ، ج ٧ ، ص ١٠١ ؛ تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٩٨ ؛ روح المعاني ، ج ٣ ، ص ٥١ ؛ تفسير المبيضاوي ، ج ١ ، ص ٥٧٥.

١٠٤

الخلاصة

عند الامعان في الآيات القرآنية التي أوعدت العاصين بالخلود في النار أو بالعذاب المقيم أو بغيره من الألفاظ التي تعطي معنى الخلود في النار ، نجد أنها تشير إلى مصاديق عديدة من المخلدين ، وبعناوين مختلفة ، مثل الكفار والمشركين والمنافقين وقاتل المؤمن وآكل الربا وغيره من العناوين.

فعندما يتحدث القرآن الكريم عن خلود الكفار نرى أنه يركز على نوع خاص من الكفار ، ويقرنهم بأوصاف معينة ، فيصفهم تارة بالمكذبين ، وتارة اُخرى بالمستهزئين ، وتارة ثالثة بالمستكبرين وهكذا ، ومن هنا نجد أن القرآن الكريم لم يخلد مطلق الكفار في النار ، بل يستثني بعضاً من الكفار ، فيسميهم تارة بالمستضعفين ، وتارة اُخرى بالمرجون لأمر الله ، واعتبرهم من الناجين من الخلود الأبدي في النار ، والمشمولين بالعفو الالهي.

وأما بخصوص المشركين فالقرآن الكريم لم يخلد أيضاً مطلق المشركين في النار ، بل المخلدون في نظر القرآن هم المشركون شرك عبادة ، أو ما يسمي بالشرك الجلي ، فاستثنى منهم المشركين بشرك خفي ، واعتبرهم في عداد الناجين من الخلود في النار.

وبالنسبة للمنافقين فقد ذكرهم القرآن الكريم في العشرات من سوره ، وفضح عن كيدهم وتآمرهم ضد الاسلام ، وكذبهم وخداعهم للمسلمين باظهار الايمان ، ووصفهم بأقبح الأوصاف ، ولاستغراقهم في الكفر والضلالة فقد سلب سبحانه مغفرته عنهم ، كما صرّحت به الآيات القرآنية ، وفي النتيجة فقد هددهم ووعدهم بالخلود في النار ، وقدمهم على الكفار في الوعيد بالخلود في أكثر من آية ، وذلك لكون خطرهم على الاسلام والمسلمين أشد من الكفار.

وهناك جماعة من المذنبين قد هددهم القرآن الكريم بالخلود في النار ،

١٠٥

وهؤلاء يمكن تسميتهم بالغارقين في الذنوب ، لأن الذنوب لوحدها لا توجب الخلود في النار إلّا إذا تكررت بحيث تؤدي إلى إحاطة السيئة بالانسان ، كما صرحت به آيات القرآن الكريم ، أو إلى سواد قلب كما جاء في الروايات عن المعصومين ، وإحاطة الخطيئة بالانسان وسواد قلبه يسوق الانسان إلى الكفر والشرك والتكذيب بآيات الله ، فعند ذلك تكون عاقبته الخلود في النار.

والقسم الآخر من الموعدين بالخلود في النار هو المؤمن الذي يقتل مؤمناً آخر على سبيل العمد والوعيد بالخلود في النار ، يتعارض مع ما اتفق عليه المسلمون من اختصاص الخلود في جهنم بالكفار ، ولحل هذه المعضلة حمل بعضهم الخلود على المكث الطويل ، وبعضهم قال بعدم قبول توبته ، والبعض الآخر حمل قتل العمد على الاستحلال ، وبعد التحقيق في هذه الأقوال ثبت صحة الوجه الثالث ، ويؤيده ما روي من أن معنى قتل العمد هو أن يقتله لدينه الذي هو عين الاستحلال لا لسبب آخر ، فيكون القاتل في هذه الحالة كافراً ، فيستحق الخلود في النار.

أما المتعاملون بالربا فقد وعدهم القرآن الكريم أيضاً بالخلود في النار ، وواضح بأن الوعيد بالخلود في آية الربا مطلق بحيث يشمل الكفار والمؤمنون معاً ، وعلى هذا فيترتب عليه نفس إشكال قتل العمد في كيفية شمول وعيد الخلود في النار للمؤمنين ، وأجيب بأن هذا الوعيد ليس لمطلق أكل الربا ، بل الأكل المقترن بالعود وعدم الانتهاء بعد التحريم الذي هو بمعنى الاستحلال الملازم للكفر ، ولهذا حمل جمهور المفسرين الآية على الآكل المستحل.

١٠٦



٤

الخلود في جهنم عند المتكلمين

إتفق المتكلمون إلّا من شدّ على أنّ الكفار مخلدون في النار على سبيل الدوام.

قال صاحب المواقف : أجمع المسلمون على أنّ الكفار مخلدون في النار أبداً لا ينقطع عذابهم. ١

قال التفتازاني ( المتوفى ٧٩٣ ه‍ ) : أجمع المسلمون على خلود أهل الجنة في الجنة ، وخلود الكفار في النار. ٢

قال عبد القاهر البغدادي ( المتوفىٰ ٤٢٩ ه‍ ) : أجمع أهل السنة وكلّ من سلف من خيار الاُمة على دوام بقاء الجنة والنار ، وعلى دوام نعيم أهل الجنة ودوام عذاب الكفرة في النار. ٣

وقال السيد المرتضى علم الهدى ( المتوفى ٤٣٦ ه‍ ) : والذي نذهب اليه أن عقاب الكفر دائم ، لأنه لا خلاف بين الاُمة في دوامه. ٤

________________

١. الشريف الجرجاني ، شرح المواقف ، ج ٤ ، ص ٣٥٥.

٢. سعد الدين التفتازاني ، شرح المقاصد ، ج ٥ ، ص ١٣٤.

٣. عبد القاهر البغدادي ، اصول الدين ، ص ٢٣٨.

٤. السيد المرتضى علم الهدى ، الذخيرة في علم الكلام ، ص ٣٠٠.

١٠٧

وقال الشيخ الصدوق (ره) ( ٣٨١ ه‍ ) : واعتقادنا في النار أنها دار الهوان ودار الانتقام من أهل الكفر والعصيان ولا يخلد فيها إلّا أهل الكفر والشرك. ١

وقال أحمد بن يحيى الصعدي ٢ ( المتوفىٰ ١٠٦١ ه‍ ) : أن من توعده الله تعالى بالنار من الكفار ، فانّه إذا مات مصراً على كفره غير تائب عنه فإنه صائر إلى النار ومخلد فيها خلوداً دائماً.

واختلفوا في مرتكب الكبيرة والفساق من أهل القبله ، هل إن عذابهم دائم أم منقطع ؟ فذهبت بعض الفرق والمذاهب إلى القول بدوام العذاب والخلود في النار لمرتكب الكبيرة ، فيما قالت أخرى بانقطاع العذاب لمرتكب الكبيرة فلا يكون مخلداً في النار.

وفيما يلي استعراض لآراء عدد من هذه المذاهب في وعيد الفساق من أهل القبلة :

المعتزلة

وهي فرقة كلامية ظهرت في أواخر العصر الاموي إبّان خلافه عبد الملك بن مروان ( ٦٥ ـ ٦٨ ه‍ ) ، ولكنها ازدهرت وشغلت الفكر الاسلامي في العصر العباسي ردحاً طويلاً من الزمن. وكان سبب ظهورها هو الخلاف الذي وقع بين الحسن البصري ( ٢١ ـ ١١٠ ه‍ ) وتلميذه واصل بن عطاء الغزّال ( ٨٠ ـ ١٣١ ه‍ ) في مرتكب الكبيرة ، فسماء الحسن بالمنافق ، وخالف واصل استاذه فقال : إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا بكافر ، بل هو في منزلة بين المنزلتين ، ثم اعتزل مجلس الحسن واتخذ له مجلساً آخر في المسجد ، والمعتزلة في كتبهم يرون أن مذهبهم أقدم نشأة من واصل ، فيعدون من رجال مذهبهم كثير من

________________

١. الشيخ الصدوق ، الاعتقادات ، ص ٧٧.

٢. احمد بن يحيى الصعدي ، شرح الثلاثين مسألة ، ص ٢٥٨.

١٠٨

آل البيت ، ويعدون من مذهبهم أيضاً الحسن البصري. ١

وتبنت المعتزلة خمسة اُصول ، معتبرة الايمان بها هو المعيار في كون الانسان معتزلياً ، فقال الخياط : وليس أحد يستحق اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالاصول الخمسة : ( التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) فاذا جمعت هذه الاُصول فهو معتزلي. ٢

ولمّا تولّى المتوكل العباسي الخلافة عام ٢٣٢ ه‍ انتصر لأهل الحديث ، وأكرم الامام أحمد بن حنبل ، وتصدىٰ للمعتزلة ، وكان ذلك بداية النهاية لمذهب المعتزلة. ٣

مباني المعتزلة في وعيد مرتكب الكبيرة

١. الايمان

الايمان عند المعتزلة من أفعال الجوارح فقط ، فهو عند أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم وأكثر معتزلة البصرة عبارة عن أداء الطاعات الفرائض دون النوافل واجتناب المقبحات ، وعند أبي الهذيل والقاضي عبد الجبار عبارة عن أداء الطاعات الفرائض منها والنوافل واجتناب المقبحات. ٤

٢. المنزلة بين المنزلتين

بما أن من شرائط الايمان عند المعتزلة هو اجتناب المقبحات والكبائر من الذنوب ، فالذي يرتكب الكبيرة يكون خارجاً من الايمان عندهم ، وبما أنه لم

________________

١. راجع : تاريخ المذاهب الاسلامية ، ص ١٠٢ ؛ الدكتور محمد جواد مشكور ، فرهنگ فرق اسلامى ، ص ٤١٥ ، ٤١٦.

٢. الخياط المعتزلي ، الانتصار ، ص ١٢٦ ، ١٢٧.

٣. راجع : الدكتور مانع بن حمّاد الجهني ، الموسوعة الميسرة في الاديان والمذاهب والاحزاب المعاصرة ، ج ١ ، ص ٦٩.

٤. راجع : شرح الاصول الخمسة ، ص ٧٠٧ ؛ حقائق الايمان ، ص ٥٤.

١٠٩

يقر بالكفر فهو ليس بكافر ، وعلى هذا سموه فاسقاً ، وجعلوه في منزلة بين منزلتي المؤمن والكافر. ١

٣. التحابط والتكفير

ذهب أبو علي الجبّائي الىٰ أن التحابط والتكفير يقعان في الطاعة والمعصية ، وقال أبو هاشم : إنهما يقعان في الثواب والعقاب. ٢ وبين القاضي عبد الجبار الاحباط والتكفير على القولين فقال : فاعلم أن المكلف لايخلو إما أن تخلص طاعاته ومعاصيه ، أو يكون قد جمع بينهما ، وإذا كان قد جمع بينهما فلا يخلو إما أن تتساوى طاعاته ومعاصيه ، أو يزيد أحدهما على الآخر ، فانه لابد من أن يسقط الأقل بالأكثر. وإن شئت أوردت ذلك على وجه آخر ، فقلت : إن المكلف لا يخلو إمّا أن يستحق من أحدهما أكثر مما يستحق من الآخر ، ولا يجوز أن يستحق من كل واحد منها قدراً واحداً ، وإذا استحق من أحدهما أكثر من الآخر فان الأقل لابد من أن يسقط بالأكثر ويزول ، وهذا هو القول بالاحباط والتكفير ، ٣ ويسمى إحباطاً إن تأخّرت المعصية ، وتكفيراً إن تأخّرت الطاعة. ٤

وقد اختلف أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم في كيفية وقوع الإحباط ، فقال أبو هاشم بالموازنة ، وأنكره أبو علي وكذلك ذهب إلى القول بالموازنة القاضي عبد الجبار ، وصورته أن يأتي المكلف بطاعة استحق عليها عشرة أجزاء من الثواب ، وبمعصية استحق عليها عشريق جزءاً من العقاب ، فمن مذهب أبي علي أنه يحسن من الله تعالى أن يفعل به في كل وقت عشرين جزءاً من العقاب ، ولا يثبت لما كان قد استحقه على الطاعة التي أتى بها تأثير بعدما إزداد عقابه عليه ، وقال أبو هاشم : لا بل يقبح من الله تعالى ذلك ، ولا

________________

١. راجع : المصدر السابق ص ١٣٧.

٢. راجع : المصدر السابق ، ص ٦٢٧.

٣. راجع : القاضي عبد الجبار ، شرح الاصول الخمسة ، ص ٦٢٤.

٤. المقداد السّيوري ، اللوامع الالهية ، ص ٣٨٨.

١١٠

يحسن منه أن يفعل به من العقاب إلّا عشرة أجزاء ، فأما العشرة الأخرى فإنها تسقط بالثواب الذي قد استحقه على ما أتى به من الطاعة ، ١ وهذا هو القول بالموازنة.

٤. العفو الالهي

إتفقت المعتزلة البصريون والبغداديون على عدم جواز العفو عن مرتكب الكبيرة سمعاً ، واختلفوا في جوازه عقلاً ، فقال البصريون : إنه يحسن من الله تعالى أن يعفو عن العصاة ، وأن لا يعاقبهم ، ولكنه أخبرنا أنه يفعل بهم ما يستحقونه ، وقال البغداديون : إن ذلك لا يحسن من الله تعالى إسقاطه ، بل يجب عليه أن يعاقب المستحق للعقوبة لا محالة ، واستدلوا على عدم جوازه بكون العقاب لطفاً من جهة الله تعالى ، واللطف يجب أن يكون مفعولاً بالمكلف على أبلغ الوجوه ، ولكن يكون ذلك إلا والعقاب واجب على الله تعالى. ٢

واستدل القاضي عبد الجبار على جواز العفو عقلاً وفساد مذهب البغداديين بقوله : إن العقاب حق الله تعالى على الخصوص ، وليس في إسقاطه إساقط حق ليس من توابعه وإليه استبقاؤه فله استقاطه كالدين ، فانه لمّا كان حقاً لصاحب الدين خالصاً ، ولم يتضمن إسقاط حق ليس من توابعه ، وكان اليه استبقاؤه ، كان له أن يسقطه ، كما أن له أن يستوفيه كذلك في مسألتنا. ٣

٥. الشفاعة

اتفقت الاُمة الاسلامية على أن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعة ثابتة للأمة ، واختلفوا فيمن تثبت له الشفاعة ، فقالت المعتزلة إن الشفاعة للتائبين من المؤمنين لأنّ الشفاعة عندهم لزيادة المنافع ، ٤ فلا تشمل الفساق لأنّ الشفاعة مع الاصرار

________________

١. راجع : شرح الاصول الخمسة ، ص ٦٢٨ ، ٦٢٩.

٢. راجع : شرح الاصول الخمسة ، ص ٦٤٣ ؛ المرتضى علم الهدى ، شرح جمل العلم والعمل ص ١٤٤.

٣. راجع : المصدر السابق.

٤. رجع : المصدر السابق ، ص ٦٨٧ ، ٦٨٨ ؛ شرح جمل العلم والعمل ، ص ١٥٦.

١١١

على الذنب القبيح. فقال القاضي عبد الجبار : إن شفاعة الفساق الذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا ، تتنزّل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير وترصّد للآخر حتى يقتله ، فكما أن ذلك يقبح فكذلك هاهنا. ١ وعن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إدّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ». قالوا : إن هذا الخبر لم تثبت صحته أولاً ، ولو صحّ فانه منقول بطريق الآحاد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومسألتنا طريقها العلم ، فلا يصحّ الاحتجاج به. ٢

رأي المعتزلة في مرتكب الكبيرة

بما أن مرتكب الكبيرة على رأي المعتزلة غير مشمول بالعفو الالهي ولا بالشفاعة ، وأن ثواب طاعاته محبطة بالكبيرة التي ارتكبها ، فلا يبقى له إلّا أن يكون مخلداً في النار ، قال القاضي عبد الجبار : إن الفاسق يخلد في النار ويعذب فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين ، ويستحق العقاب على طريق الدوام. ٣

أدلة المعتزلة في خلود مرتكب الكبيرة في النار

تمسكت المعتزلة في إثبات خلود مرتكب الكبيرة في النار بأدلة عقلية ، واُخرى مركبة من العقل والنقل ، بالاضافة إلى الأدلة النقلية من الآيات والروايات ، وهي ما يلي :

الأدلة العقلية

١. دليل المنع عن الاستحقاق والتفضّل لمرتكب الكبيرة

إن الفاسق لو خرج من النار فإما أن يدخل الجنة أو لا ، فإن لم يدخل الجنة لم يصح لأنّه لا دار بين الجنة والنار ، فاذا لم يكن في النار وجب أن يكون في

________________

١. شرح الاصول الخمسة ، ص ٦٨٨.

٢. المصدر السابق ، ص ٦٩٠.

٣. المصدر السابق ، ص ٦٦٦.

١١٢

الجنة لا محالة ، فاذا دخل الجنة فلا يخلو إما أن يدخلها مثاباً أو متفضلاً عليه ، لأنّ الاُمة إتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة فلابد من أن يكون حاله متميزاً عن حال الولدان المخلّدين وعن الأطفال والمجانين ، ولا يجوز أن يدخل الجنة مثاباً ، لأنّه غير مستحق ، وإثابة من لا يستحق قبيحة ، والله تعالى لا يفعل القبيح. ١

٢. دليل المنع من اجتماع استحقاق الثواب والعقاب

ان الفاسق بفسقه يستحق العقاب ، واستحقاق العقاب يبطل ما كان ثابتاً قبل ذلك من استحقاق الثواب ، وذلك لأنّ العقاب مضرة خالصة دائمة ، والثواب منفعة خالصة دائمة ، والجمع بينهما محال ، فكان الجمع بين استحقاقيهما محالاً ، فاذا ثبت استحقاق العقاب وجب أن يزول استحقاق الثواب. ٢

٣. دليل قبح ذم المحسن

يلزم حسن ذم من أحسن الينا بأعظم ما يمكن أن يكون من الاحسان على أقل ضرر صدر منه ، واللّازم باطل ، فالملزوم مثله. ٣

ويوضحه الشيخ الطوسي ( المتوفىٰ ٤٦٠ ه‍ ) بقوله : وقولهم إنه معلوم ضرورة قبح الذم على الإساءة الصغيرة ، نحو كسر قلم لمن له إحسان عظيم وإنعام جليل نحو تخليص النفس من الهلاك والإغناء بعد الفقر والإعزاز بعد الذل ، ولم يقبح ذلك إلا لبطلانها في جنب ذلك الاحسان بدلالة أنها لو انفردت

________________

١. راجع : المصدر السابق ، ص ٦٦٦ ، ٦٦٧ ؛ العلّامة الحلي ، مناهج اليقين في اصول الدين ، ص ٣٥٦.

٢. الفخر الرازي ، الاربعين في اصول الدين ، ص ٢٤٠ ؛ وراجع : مناهج اليقين في اصول الدين ، ص ٣٥٤ ؛ شرح المواقف ، ج ٤ ، ص ٣٣٢.

٣. مناهج اليقين في اصول الدين ، ص ٣٥٤.

١١٣

عنه لحسن ذمه على كسر القلم ، وإذا ثبت ذلك في المدح والذم ثبت مثله في الثواب والعقاب. ١

الأدلة النقلية

١. الآيات القرآنية

إستدلوا بعمومات آيات الوعيد ، وقالوا بأنها كما تدل على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة ، كذلك تدل على ان يخلد ، إذ ما من آية من هذه الآيات إلّا وفيها ذكر الخلود والتأبيد أو ما يجرى مجراهما. ٢ ومن هذه الآيات ٣ :

١. قوله تعالى : ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا ... ). ٤

٢. قوله تعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ). ٥

٣. قوله تعالى : ( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ). ٦

٤. قوله تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا ). ٧

٥. قوله تعالى : ( وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ). ٨

٦. قوله تعالى : ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ). ٩

________________

١. الشيخ الطوسي ، الاقتصاد ، ص ١٩٨.

٢. راجع : شرح الاصول الخمسة ، ص ٦٦٦.

٣. راجع شرح المقاصد ، ج ٥ ، ص ١٣٢ ، ١٣٣ ؛ شرح المواقف ، ج ٤ ، ص ٣٣٣ ؛ اللوامع الالهية ، ص ٣٩٧ ؛ الاربعين في اصول الدين ، ص ٣٤١.

٤. النساء ، ١٤.

٥. النساء ، ٩٣.

٦. البقرة ، ٨١.

٧. السجدة ، ٢٠.

٨. الانفطار ، ١٤ ـ ١٦.

٩. طه ، ٧٤.

١١٤

وقالوا : الخلود هو الدوام بالنقل عن أهل اللغة ، ولقوله تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ) ١ مع أنه تعالى قد جعل لكثير منهم المكث الطويل ، فلو كان الخلود عبارة عن المكث الطويل لم يكن لهذه الآية معنى ، وأيضاً يصح تأكيده بلفظ التأييد ، قال تعالى : ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) ، ٢ فلو لا أن لفظ الخلود يفيد الدوام وإلا لم يصح ، وأنه يصح أن يتسثنى من الخلود أي مقدار من الوقت أريد. ٣

٢. الروايات

تمسكوا بأحاديث يروونها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تدل على خلود مرتكب الكبيرة في النار ودوام عقابه ، ومن هذه الحديث ٤ :

١. قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا نمام ولا عاق ».

٢. قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من تردّى من جبل فهو يتردّي من جبل في نار جهنم خالداً مخلداً ».

٣. قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالداً أبداً ».

٤. قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من يحتسي سماً فهو يحتسي سماً في نار جهنم خالداً أبداً ».

التحقيق في أدلة المعتزلة

١. نقد قولهم في الإيمان

عرّفوا الايمان بأنه عبارة عن أداء الطاعات واجتناب المقبحات ، وهذا قول باطل يبطله قوله تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ) ، ٥ وقوله تعالى :

________________

١. الانبياء ، ٣٤.

٢. البينة ، ٨.

٣. راجع : مناهج اليقين في اصول الدين ، ص ٣٥٦ ؛ الاربعين في اصول الدين ، ص ٣٤١ ؛ شرح المواقف ، ج ٤ ، ص ٣٣٣ ؛ المقداد السيوري ، ارشاد الطالبين ، ص ٤٢٤.

٤. راجع : شرح الاصول الخمسة ، ص ٦٧٣.

٥. الانعام ، ٨٢.

١١٥

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ١ حيث عطف سبحانه وتعالى العمل الصالح على الايمان ، والعطف يقتضي المغايرة ، ولو كان العمل من الايمان لكانت الآية تكريراً. ٢

فالايمان ليس من عمل الجوارح ، بل هو من أعمال القلب ، لقوله تعالى : ( ...أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ ... ) ، ٣ وقوله تعالى : ( ... إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ... ) ٤ ، ٥ وعلى هذا فمرتكب الكبيرة لا يخرج بارتكابه المعصية عن الايمان ، ويصدق عليه مؤمن ، ولكنه يقيد بالفسق ، فهو مؤمن بتصديقه ، وفاسق بارتكابه المعصية ، وبناءً على ذلك يبطل أيضاً قولهم بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين منزلتي المؤمن والكافر ، لأن مرتكب الكبيرة عندهم ليس بمؤمن.

٢. نقد قولهم في الاحباط

قال المتكلمون : إنه لا خلاف في أن الكفر يزيل استحقاق ثواب الطاعات السابقة والايمان يزيل استحقاق العقاب السابق ، فيمكن أن يقال باشتراط وصول ثواب الطاعات على عدم حصول الكفر والموت على الايمان ، وكذا حصول العقاب بالكفر مشروط بعدم الايمان والموت على الكفر ، والقرآن الكريم صريح في ذلك : ( ... لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ... ) ، ٦ وما يدلّ على قبول التوبة قبل الموت وسقوط الذنب حينئذ صريح في عكس ذلك. وإنما الخلاف في المؤمن الذي ارتكب الكبائر ، فهل يجوز في حقه اجتماع استحقاق الثواب والعقاب من غير أن يحبط أحدهما الآخر أم لا ؟ والمعتزلة ـ

________________

١. البقرة ، ٢٧٧ ؛ يونس ، ٩ ؛ هود ، ٢٣ ؛ الكهف ، ٣٠ ، ١٠٧.

٢. راجع : اللوامع الالهية ، ص ٣٩١ ؛ العلامة الحلي ، شرح الياقوت ، ص ١٧٩.

٣. المجادلة ، ٢٢.

٤. النحل ، ١٠٦.

٥. راجع : المصدر السابق.

٦. الزمر ، ٦٥

١١٦

كما هو واضح ـ قالوا بالاحباط وعدم جواز اجتماع استحقاق الثواب والعقاب ، وقد تصدّىٰ المتكلمون لابطال التحابط بقسميه الموازنة وعدم الموازنة وذهبوا إلى خلافه. ١

الأدلة على بطلان الاحباط

١. إن القول بالاحباط يوجب فيمن جمع بين الاحسان والاساءة إلى شخص بين العقلاء أن يكون بمنزلة من لم يحسن ولم يسيء اليه إن تساوى المستحق عليه من المدح والذم أو بمنزلة من لم يحسن إذا كان المستحق على الاساءة أكثر ، أو بمنزلة من لم يسيء إن كان المستحق على الاحسان أكثر ، وكل ذلك باطل بالضرورة. ٢ ويذهب الفاضل المقداد والخواجة الطوسي إلى أنّ ذلك ظلم فيكون قبيحاً. ٣

وقال ابن نوبخت : إن العقل لا يقضي بمحو الاحسان الكثير بالإساءة القليلة. ٤

٢. قوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ). ٥ وعلى القول بالاحباط لم تصدق هذه الآية ، وكذا قوله تعالى : ( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) ٦. ٧

٣. إن الخصم اعترف بأن المؤمن استحق الثواب بايمانه ، فاذا فعل الكبيرة فالاستحقاق الأول إما أن يبقى أولا يبقى ، فإن بقي وجب إيصال الثواب إليه ، ولا طريق اليه إلّا بنقله من النار إلى الجنة ، وإن لم يبق فهو محال لوجوه :

________________

١. راجع : العلامة الحلي ، مناهج اليقين في اصول الدين ، ص ٣٥٢ ؛ أحمد الأردبيلي ، الحاشية على الهيات الشرح الجديد للتجريد ، ص ٤٦٩.

٢. راجع : محمود المحصي الرازي ، المنقذ من التقليد ، ج ٢ ، ص ٤٢ ؛ العلامة الحلي ، مناهج اليقين في اصول الديل ، ص ٣٥٣.

٣. راجع : اللوامع الالهية ، ص ٣٨٨ ؛ الخواجة الطوسي ، شرح التجريد ، ص ٤٣٩.

٤. شرح الياقوت ، ص ١٧٢.

٥. الزلزلة ، ٧ ، ٨.

٦. النساء ، ١٢٣.

٧. راجع : ارشاد الطالبين ، ص ٣٨٨ ؛ شرح التجريد ، ص ٤٤٠.

١١٧

الأول : وهو أنه ليس انتفاء الباقي لطريان الحادث أولى من اندفاع الحادث لوجود الباقي.

الثاني : وهو أنهما لو كانا متنافيين أي ضدّين كان طريان الاستحقاق الطاري مشروطاً بزوال الاستحقاق السابق ، لاستحالة اجتماع الضدين ، فلو كان زوال السابق لأجل طريان هذا الحادث لزم الدور. ١

٤. إذا استحق عشرة أجزاء من الثواب ثم فعل ما به يستحق عشرة أجزاء من العقاب ، فالطاريء إما أن يحبط الأول ولا ينحبط كما هو قول أبي علي ، أو يحبط وينحبط كما هو قول أبي هاشم في الموازنة ، والثاني باطل لأنّ سبب زوال الاستحقاق الأول وجود الاستحقاق الثاني ، فإذا لم يوجد الاستحقاق الثاني لا يزول الاستحقاق الأول ، وإذا وجد الاستحقاق الثاني وزال به الأول استحال أن يزول هذا الاستحقاق الثاني ، لأنه ليس له مزيل ، فيصير هذا هو القسم الأول الذي كان مذهباً لأبي علي وقد أبطلناه. فبقي أن يقال : كل واحد من الاستحقاقين يزول بالآخر دفعة واحدة ، لكن هذا محال لأنّ علة عدم كل واحد منهما وجود الآخر ، فلو عدما دفعةً لوجدا دفعةً. لكن العلة موجودة في حال حدوث المعلول ، فهما موجودان حال كونهما معدومين ، وهو محال. ٢ وبهذا يبطل الاحباط والموازنة معاً.

الادلة على بطلان الموازنة

١. قال الخواجة الطوسي ( المتوفىٰ ٦٧٢ ه‍ ) : ولعدم الأولوية إذا كان الآخر ضعفاً ، وحصول المتناقضين مع التساوي.

________________

١. راجع : الخواجة الطوسي ، تلخيص المحصل ، ص ٣٩٧ ، شرح الياقوت ، ص ١٧٣.

٢. المصدر السابق ، ص ٣٩٨ ، ٣٩٩ ؛ وراجع : مناهج اليقين ، ص ١٧٣ ، شرح المقاصد ، ج ٥ ، ص ١٤.

١١٨

ووضحه العلامة الحلي ( المتوفىٰ ٧٢٦ ه‍ ) بقوله : إنّا إذا فرضنا استحقاق المكلف خمسة أجزاء من الثواب وعشرة أجزاء من العقاب ، وليس إسقاط إحدى الخمستين من العقاب الخمسة من الثواب أولى من الأخرى ، فأما أن يسقطا معاً وهو خلاف مذهبه ، أو لا يسقط شيء منهما وهو المطلوب. ولو فرضنا أنه فعل خمسة أجزاء من الثواب وخمسة أجزاء من العقاب فإن تقدم إسقاط أحدهما للآخر لم يسقط الباقي بالمعدوم ، لاستحالة صيرورة المعدوم والمغلوب غالباً ومؤثراً ، وإن تقارنا لزم وجودهما معاً لان وجود كل منهما ينفي وجود الآخر ، فيلزم وجودهما حال عدمهما ، وذلك جمع بين القيضين. ١

٢. إن الايمان هو التصديق ، وهو علة في استحقاق الثواب ، وهو باقٍ قبل المعصية وبعدها ، فاذا كانت العلة موجودة وجب وجود معلولها وهو المطلوب ، فيبطل الاحباط والموازنة معاً. ٢

نقد الأدلة المعتزلة في خلود مرتكب الكبيرة في النار

١. الأدلة العقلية

الأول : دليل المنع عن الاستحقاق والتفضل ، وهذا الدليل مبني على الاحباط ، لأن المستدل قال : ولا يجوز أن يدخل الجنة مثاباً لأنه غير مستحق ، بناءً على أن طاعاته قد أحبطت بارتكاب الكبيرة فلا يستحق ثواباً. وقد أبطلنا الاحباط ، فيبطل الدليل أيضاً.

الثاني : دليل المنع من اجتماع استحقاق الثواب والعقاب ، وهذا الدليل باطل أيضاً لوجوه :

________________

١. شرح التجريد ، ص ٤٤٠ ؛ وراجع : مناهج اليقين في اصول الدين ، ص ٣٥٣ ، تلخيص المحصل ، ص ٣٩٨ ؛ اللوامع الالهية ، ص ٣٨٩ ؛ شرح المواقف ، ج ٤ ، ص ٣٣٨ ، ٣٣٩.

٢. اللوامع الالهية ، ص ٣٨٩.

١١٩

١. إنه مبني على الاحباط ، وقد أبطلناه.

٢. قال الشيخ الطوسي : إنه لا تنافي بين الطاعة والمعصية ، ولا بين المستحق عليها من الثواب والعقاب... وإنما قلنا لا تضاد بين الطاعة والمعصية ، لأنهما من جنس واحد ، بل نفس مايقع طاعة كان يجوز أن يقع معصية ، ألا ترى أن قعود الانسان في دار غيره غصباً معصية ، وهو من جنس قعوده فيها باذنه ، وهو حسن مباح ، وهما من جنس واحد ، وكذلك لا تضاد بين المستحق عليهما لمثل ذلك بعينه ، لأنّ الثواب من جنس العقاب ، بل نفس ما يقع ثواباً كان يجوز أن يقع عقاباً ، لأنّ الثواب هو النفع الواقع على بعض الوجوه ، ولا شيء يقع نفعاً إلا وكان يجوز أن يقع ضرراً وعقاباً بأن يصادفه نفاراً ، ولو كان بينهما تضاد على تسليمه لما تنافي الثواب والعقاب وهما معدومان ، لأنّ الضد الحقيقي لا ينافي ضده في حال عدمه ، لأنّ السواد والبياض قد يجتمعان في العدم. ١ وإشار إلى هذا المعنى أيضاً العلامة الرازي الحمصي. ٢

٣. إن الاستحقاقين إما أن يتنافيا لذاتيهما وهو باطل لتساويهما في الماهية ، فول أثر أحدهما خاصة لزم الترجيح بلا مرجح ، وإن أثرا لزم اجتماع الوجود والعدم ، أو لأمر لازم لكل منهما ، وهو باطل أيضاً لوجوب تساوي الماهيات المتحدة في اللوام ، أو لأمر عارض ، وذلك يجوز زواله ، فيزول ما به حصلت المنافاة ، فجاز الاجتماع فوجب إيصالهما. ٣

الثالث : وهو دليل قبح ذم المحسن. وجوابه المنع من قبح الذم ، إذ يجوز عندنا أن يذمّ بالاساءة الصغيرة على إحسانه الكثير لحسن ذمه على الاساءة الصغيرة ، فلو كان أحبط لما حسن ذلك ، لأنّ ما انحبط لا يرجع عند المخالف.

________________

١. تهذيب الاحكام ، ص ١٩٣ ، ١٩٤.

٢. راجع : المنقذ من التقليد ، ج ٢ ، ص ٤٢.

٣. راجع : اللوامع الالهية ، ص ٣٨٩.

١٢٠