الميزان في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٩٠

عشرة : بنو ليئة رأوبين بكر يعقوب وشمعون ولاوي ويهودا ويساكر وزنولون ، وابنا راحيل يوسف ، وبنيامين ، وابنا بلهة جارية راحيل دان ، ونفتالي ، وابنا زلفة جارية ليئة جاد ، وأشير. هؤلاء بنو يعقوب الذين ولدوا في فدان أرام.

قالت (١) يوسف إذ كان ابن سبع عشرة سنة كان يرعى مع إخوته الغنم وهو غلام عند بني بلهة وبني زلفة امرأتي أبيه ، وأتى يوسف بنميمتهم الردية إلى أبيهم ، وأما إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه لأنه ابن شيخوخته فصنع له قميصا ملونا فلما رأى إخوته أن أباهم أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام.

وحلم يوسف حلما فأخبر إخوته فازدادوا أيضا بغضا له فقال لهم : اسمعوا هذا الحلم الذي حلمت : فها نحن حازمون حزما في الحفل وإذا حزمتي قامت وانتصبت فاحتاطت حزمكم وسجدت لحزمتي. فقال له إخوته ألعلك تملك علينا ملكا أم تتسلط علينا تسلطا ، وازدادوا أيضا بغضا له من أجل أحلامه ومن أجل كلامه.

ثم حلم أيضا حلما آخر وقصه على إخوته فقال : إني قد حلمت حلما أيضا وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة لي ، وقصه على أبيه وعلى إخوته فانتهره أبوه وقال له : ما هذا الحلم الذي حلمت؟ هل يأتي أنا وأمك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض فحسده إخوته وأما أبوه فحفظ الأمر.

ومضى إخوته ليرعوا غنم أبيهم عند شكيم فقال إسرائيل ليوسف : أليس إخوتك يرعون عند شكيم؟ تعال فأرسلك إليهم ، فقال له : ها أنا ذا فقال له : اذهب انظر سلامة إخوتك وسلامة الغنم ورد لي خبرا فأرسله من وطاء حبرون فأتى إلى شكيم فوجده رجل وإذا هو ضال في الحفل فسأله الرجل قائلا : ما ذا تطلب؟ فقال : أنا طالب إخوتي أخبرني أين يرعون؟ فقال الرجل : قد ارتحلوا من هنا لأني سمعتهم يقولون : لنذهب إلى دوثان فذهب يوسف وراء إخوته فوجدهم في دوثان.

فلما أبصروه من بعيد قبل ما اقترب إليهم احتالوا له ليميتوه فقال بعضهم لبعض : هو

__________________

(١) الإصحاح ٣٧ من سفر التكوين.

٢٦١

ذا هذا صاحب الأحلام قادم فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى هذه الآبار ونقول : وحش ردي أكله فنرى ما ذا يكون أحلامه؟ فسمع رأوبين وأنقذه من أيديهم وقال : لا نقتله وقال لهم رأوبين : لا تسفكوا دما اطرحوه في هذه البئر التي في البرية ولا تمدوا إليه يدا لكي ينقذه من أيديهم ليرده إلى أبيه فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه القميص الملون الذي عليه وأخذوه وطرحوه في البئر وأما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء.

ثم جلسوا ليأكلوا طعاما فرفعوا عيونهم ونظروا وإذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد ، وجمالهم حاملة كتيراء وبلسانا ولادنا ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر فقال يهوذا لإخوته : ما الفائدة أن نقتل أخانا ونخفي دمه؟ تعالوا فنبيعه للإسماعيليين ولا تكن أيدينا عليه لأنه أخونا ولحمنا فسمع له إخوته.

واجتاز رجال مديانيون تجار فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة فأتوا بيوسف إلى مصر ، ورجع رأوبين إلى البئر وإذا يوسف ليس في البئر فمزق ثيابه ثم رجع إلى إخوته وقال : الولد ليس موجودا ، وأنا إلى أين أذهب؟.

فأخذوا قميص يوسف وذبحوا تيسا من المعزى وغمسوا القميص في الدم ، وأرسلوا القميص الملون وأحضروه إلى أبيهم وقالوا : وجدنا هذا ، حقق أقميص ابنك هو أم لا؟ فتحققه وقال : قميص ابني وحش ردي أكله افترس يوسف افتراسا فمزق يعقوب ثيابه ووضع مسحا على حقويه وناح على ابنه أياما كثيرة فقام جميع بنيه وجميع بناته ليعزوه فأبى أن يتعزى وقال : إني أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية وبكى عليه أبوه.

( قالت (١) التوراة « : وأما يوسف فأنزل إلى مصر واشتراه ـ فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط رجل مصري ـ من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه إلى هناك ، وكان الرب مع يوسف ـ فكان رجلا ناجحا وكان في بيت سيده المصري.

ورأى سيده أن الرب معه ، وأن كل ما يصنع كان الرب ينجحه بيده ـ فوجد يوسف

__________________

(١) الإصحاح ٣٩ من سفر التكوين.

٢٦٢

نعمة في عينيه وخدمه فوكله إلى بيته ـ ودفع إلى يده كل ما كان له ، وكان من حين وكله على بيته ـ وعلى كل ما كان له أن الرب بارك بيت المصري بسبب يوسف ، وكانت بركة الرب على كل ما كان له في البيت ـ وفي الحفل فترك كل ما كان له في يد يوسف ـ ولم يكن معه يعرف شيئا إلا الخبز الذي يأكل ، وكان يوسف حسن الصورة وحسن المنظر.

وحدث بعد هذه الأمور ـ أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف ـ وقالت : اضطجع معي فأبى ـ وقال لامرأة سيده : هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت ـ وكل ماله قد دفعه إلي ليس هو في هذا البيت ، ولم يمسك عني شيئا غيرك لأنك امرأته ـ فكيف أصنع هذا الشر العظيم؟ وأخطئ إلى الله؟ وكان إذ كلمت يوسف يوما فيوما ـ أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها.

ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله ـ ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت ـ فأمسكته بثوبه قائلة : اضطجع معي ـ فترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى خارج ، وكان لما رأت أنه ترك ثوبه في يدها وهرب إلى خارج ـ أنها نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلة : انظروا! قد جاء إلينا برجل عبراني ليداعبنا. دخل إلي ليضطجع معي فصرخت بصوت عظيم ، وكان لما سمع أني رفعت صوتي ـ وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبي وهرب وخرج إلى خارج.

فوضعت ثوبه بجانبها حتى جاء سيده إلى بيته ـ فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة : دخل إلي العبد العبراني الذي جئت به إلينا ليداعبني ـ وكان لما رفعت صوتي ـ وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبي وهرب إلى خارج.

فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذي كلمته به قائلة ـ بحسب هذا الكلام صنع بي عبدك أن غضبه حمي ـ فأخذ يوسف سيده ووضعه في بيت السجن ـ المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه ، وكان هناك في بيت السجن.

ولكن الرب كان مع يوسف وبسط إليه لطفا ـ وجعل نعمة له في عيني رئيس بيت السجن ـ فدفع رئيس بيت السجن إلى يد يوسف جميع الأسرى ـ الذين في بيت السجن ، وكل ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل ، ولم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئا البتة مما في يده ـ لأن الرب كان معه ، ومهما صنع كان الرب ينجحه.

٢٦٣

ثم (١) ساقت التوراة قصة صاحبي السجن ورؤياهما ورؤيا فرعون مصر ـ وملخصه أنهما كانا رئيس سقاة فرعون ورئيس الخبازين ـ أذنباه فحبسهما فرعون في سجن رئيس الشرط عند يوسف ـ فرأى رئيس السقاة في منامه أنه يعصر خمرا ، والآخر أن الطير تأكل من طعام حمله على رأسه ـ فاستفتيا يوسف فعبر رؤيا الأول ـ برجوعه إلى سقي فرعون شغله السابق ، والثاني بصلبه وأكل الطير من لحمه ، وسأل الساقي أن يذكره عند فرعون ـ لعله يخرج من السجن لكن الشيطان أنساه ذلك.

ثم بعد سنتين رأى فرعون في منامه ـ سبع بقرات سمان حسنة المنظر خرجت من نهر ـ وسبع بقرات مهزولة قبيحة المنظر وقفت على الشاطئ ـ فأكلت المهازيل السمان فاستيقظ فرعون ـ ثم نام فرأى سبع سنابل خضر حسنة سمينة ـ وسبع سنابل رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها ـ فأكلت الرقيقة السمينة فهال فرعون ذلك ـ وجمع سحرة مصر وحكمائها ـ وقص عليهم رؤياه فعجزوا عن تعبيره.

وعند ذلك ادكر رئيس السقاة يوسف ـ فذكره لفرعون وذكر ما شاهده من عجيب تعبيره للمنام ـ فأمر فرعون بإحضاره ـ فلما أدخل عليه كلمه ـ واستفتاه فيما رآه في منامه مرة بعد أخرى ـ فقال يوسف لفرعون حلم فرعون واحد ـ قد أخبر الله فرعون بما هو صانع : البقرات السبع الحسنة في سبع سنين ـ وسنابل سبع الحسنة في سبع سنين هو حلم واحد ، والبقرات السبع الرقيقة القبيحة ـ التي طلعت وراءها هي سبع سنين ـ والسنابل السبع الفارغة الملفوحة بالريح الشرقية ـ يكون سبع سنين جوعا.

هو الأمر الذي كلمت به فرعون ـ قد أظهر الله لفرعون وما هو صانع ، هو ذا سبع سنين قادمة شعبا عظيما في كل أرض مصر ـ ثم تقوم بعدها سبع سنين جوعا ـ فينسى كل السبع في أرض مصر ويتلف الجوع الأرض ، ولا يعرف السبع في الأرض من أجل ذلك الجوع بعده ـ لأنه يكون شديدا جدا ، وأما عن تكرار الحلم على فرعون مرتين ـ فلأن الأمر مقرر من عند الله والله مسرع لصنعه.

فالآن لينظر فرعون رجلا بصيرا وحكيما ـ ويجعله على أرض مصر يفعل فرعون

__________________

(١) الإصحاح ٤١ من سفر التكوين.

٢٦٤

فيوكل نظارا على الأرض ـ ويأخذ خمس غلة أرض مصر في سبع سني الشبع ـ فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة ـ ويخزنون قمحا تحت يد فرعون طعاما في المدن ـ ويحفظونه فيكون الطعام ذخيرة للأرض ـ لسبع سني الجوع التي تكون في أرض مصر ـ فلا تنقرض الأرض بالجوع.

قالت التوراة ما ملخصه ـ أن فرعون استحسن كلام يوسف وتعبيره وأكرمه ـ وأعطاه إمارة المملكة في جميع شئونها ـ وخلع عليه بخاتمه وألبسه ثياب بوص ـ ووضع طوق ذهب في عنقه ـ وأركبه في مركبته الخاصة ونودي أمامه : أن اركعوا ، وأخذ يوسف يدبر الأمور في سني الخصب ـ ثم في سني الجدب أحسن إدارة.

ثم (١) قالت التوراة ما ملخصه ـ أنه لما عمت السنة أرض كنعان ـ أمر يعقوب بنيه أن يهبطوا إلى مصر ـ فيأخذوا طعاما فساروا ودخلوا على يوسف ـ فعرفهم وتنكر لهم وكلمهم بجفاء وسألهم من أين جئتم؟ قالوا : من أرض كنعان لنشتري طعاما ـ قال يوسف : بل جواسيس أنتم جئتم إلى أرضنا لتفسدوها ـ قالوا : نحن جميعا أبناء رجل واحد في كنعان ـ كنا اثني عشر أخا فقد منا واحد ـ وبقي أصغرنا ها هو اليوم عند أبينا ، والباقون بحضرتك ـ ونحن جميعا أمناء لا نعرف الفساد والشر.

قال يوسف : لا وحياة فرعون نحن نراكم جواسيس ـ ولا نخلي سبيلكم حتى تحضرونا أخاكم الصغير ـ حتى نصدقكم فيما تدعون فأمر بهم فحبسوا ثلاثة أيام ـ ثم أحضرهم وأخذ من بينهم شمعون وقيده أمام عيونهم ـ وأذن لهم أن يرجعوا إلى كنعان ويجيئوا بأخيهم الصغير.

ثم أمر أن يملأ أوعيتهم قمحا وترد فضة كل واحد منهم إلى عدله ـ ففعل فرجعوا إلى أبيهم وقصوا عليه القصص ـ فأبى يعقوب أن يرسل بنيامين معهم ـ وقال. أعدمتموني الأولاد يوسف مفقود وشمعون مفقود ـ وبنيامين تريدون أن تأخذوه لا يكون ذلك أبدا ـ وقال : قد أسأتم في قولكم للرجل : إن لكم أخا تركتموه عندي قالوا : إنه سأل عنا وعن عشيرتنا قائلا : هل أبوكم حي بعد؟ وهل لكم أخ آخر ـ فأخبرناه كما سألنا وما كنا نعلم أنه سيقول. جيئوا إلي بأخيكم.

__________________

(١) الإصحاح ٤٢ ـ ٤٣ من سفر التكوين.

٢٦٥

فلم يزل يعقوب يمتنع ـ حتى أعطاه يهودا الموثق أن يرد إليه بنيامين ـ فأذن في ذهابهم به معهم ، وأمرهم أن يأخذوا من أحسن متاع الأرض هدية إلى الرجل ـ وأن يأخذوا معهم أصرة الفضة ـ التي ردت إليهم في أوعيتهم ففعلوا.

ولما وردوا مصر لقوا وكيل يوسف على أموره ـ وأخبروه بحاجتهم وأن بضاعتهم ردت إليهم في رحالهم ـ وعرضوا له هديتهم فرحب بهم وأكرمهم ـ وأخبرهم أن فضتهم لهم وأخرج إليهم شمعون الرهين ـ ثم أدخلهم على يوسف فسجدوا له وقدموا إليه هديتهم ـ فرحب بهم واستفسرهم عن حالهم وعن سلامة أبيهم ـ وعرضوا عليه أخاهم الصغير فأكرمه ودعا له ـ ثم أمر بتقديم الطعام فقدم له وحده ، ولهم وحدهم ولمن عنده من المصريين وحدهم.

ثم أمر وكيله أن يملأ أوعيتهم طعاما ـ وأن يدس فيها هديتهم ـ وأن يضع طاسة في عدل أخيهم الصغير ففعل ـ فلما أضاء الصبح من غد شدوا الرحال على الحمير وانصرفوا.

فلما خرجوا من المدينة ـ ولما يبتعدوا قال لوكيله أدرك القوم وقل لهم : بئس ما صنعتم جازيتم الإحسان بالإساءة ـ سرقتم طاس سيدي الذي يشرب فيه ـ ويتفأل به فتبهتوا من استماع هذا القول ، وقالوا : حاشانا من ذلك ، هو ذا الفضة التي وجدناها في أفواه عدالنا جئنا بها إليكم من كنعان ـ فكيف نسرق من بيت سيدك فضة أو ذهبا ، من وجد الطاس في رحله يقتل ـ ونحن جميعا عبيد سيدك ـ فرضي بما ذكروا له من الجزاء فبادروا إلى عدولهم ، وأنزل كل واحد منهم عدله وفتحه ـ فأخذ يفتشها وابتدأ من الكبير ـ حتى انتهى إلى الصغير وأخرج الطاس من عدله.

فلما رأى ذلك إخوته مزقوا ثيابهم ـ ورجعوا إلى المدينة ودخلوا على يوسف ـ وأعادوا عليه قولهم معتذرين معترفين بالذنب ـ وعليهم سيماء الصغار والهوان والخجل ـ فقال : حاشا أن نأخذ إلا من وجد متاعنا عنده ، وأما أنتم فارجعوا بسلام إلى أبيكم.

فتقدم إليه يهوذا وتضرع إليه واسترحمه ـ وذكر له قصتهم مع أبيهم ـ حين أمرهم يوسف بإحضار بنيامين ـ فسألوا أباهم ذلك فأبى أشد الإباء ـ حتى آتاه يهوذا الميثاق على أن يرد بنيامين إليه ـ وذكر أنهم لا يستطيعون أن يلاقوا أباهم ـ وليس معهم بنيامين ، وأن أباهم الشيخ لو سمع منهم ذلك لمات من وقته ـ ثم سأله أن يأخذه مكان بنيامين عبدا لنفسه ويطلق بنيامين ـ لتقر بذلك عين أبيهم المستأنس به بعد فقد أخيه من أمه يوسف.

٢٦٦

قالت التوراة : فلم يستطع يوسف أن يضبط نفسه لدى جميع الواقفين عنده ـ فصرخ أخرجوا كل إنسان عني فلم يقف أحد عنده ـ حين عرف يوسف إخوته بنفسه فأطلق صوته بالبكاء ـ فسمع المصريون وسمع بيت فرعون ، وقال يوسف لإخوته : أنا يوسف أحي أبي بعد؟ فلما يستطيع إخوته أن يجيبوه لأنهم ارتاعوا منه.

وقال يوسف لإخوته : تقدموا إلي ، فتقدموا فقال : أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر ـ والآن لا تتأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا ـ لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم ـ لأن للجوع في الأرض الآن سنتين وخمس سنين أيضا ـ لا يكون فيها فلاحة ولا حصاد ـ فقد أرسلني الله قدامكم ليجعل لكم بقية في الأرض ـ وليستبقي لكم نجاة عظيمة فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا ـ بل الله وهو قد جعلني أبا لفرعون وسيدا لكل بيته ـ ومتسلط على كل أرض مصر.

أسرعوا وأصعدوا إلى أبي وقولوا له ـ هكذا يقول ابنك يوسف : أنزل إلي لا تقف فتسكن في أرض جاسان ـ وتكون قريبا مني أنت وبنوك وبنو بيتك ـ وغنمك وبقرك وكل ما لك ، وأعولك هناك لأنه يكون أيضا خمس سنين جوعا ـ لئلا تفتقر أنت وبيتك وكل ما لك ، وهو ذا عيونكم ترى وعينا أخي بنيامين ـ أن فمي هو الذي يكلمكم ، وتخبرون أني بكل مجدي في مصر وبكل ما رأيتم وتستعجلون ـ وتنزلون بأبي إلى هنا ثم وقع على عين بنيامين أخيه وبكى ، وبكى بنيامين على عنقه وقبل جميع إخوته وبكى عليهم.

ثم قالت التوراة : ما ملخصه ـ أنه جهزهم أحسن التجهيز وسيرهم إلى كنعان ـ فجاءوا أباهم وبشروه بحياة يوسف ـ وقصوا عليه القصص فسر بذلك وسار بأهله جميعا إلى مصر ـ وهم جميعا سبعون نسمة ووردوا أرض جاسان من مصر ـ وركب يوسف إلى هناك يستقبل أباه ـ ولقيه قادما فتعانقا وبكى طويلا ـ ثم أنزله وبنيه وأقرهم هناك ـ وأكرمهم فرعون إكراما بالغا وآمنهم ـ وأعطاهم ضيعة في أفضل بقاع مصر ـ وعالهم يوسف ما دامت السنون المجدبة ـ وعاش يعقوب في أرض مصر بعد لقاء يوسف سبع عشرة سنة ).

هذا ما قصته التوراة من قصة يوسف فيما يحاذي القرآن أوردناها ملخصه إلا في بعض فقرأتها لمسيس الحاجة.

٢٦٧

( كلام في الرؤيا في فصول )

١ ـ الاعتناء بشأنها. كان الناس كثير العناية بأمر الرؤى والمنامات منذ عهود قديمة لا يضبط لها بدء تاريخي ، وعند كل قوم قوانين وموازين متفرقة متنوعة يزنون بها المنامات ويعبرونها بها ويكشفون رموزها ، ويحلون بها مشكلات إشاراتها فيتوقعون بذلك خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا بزعمهم.

وقد اعتنى بشأنها في القرآن الكريم كما حكى الله سبحانه فيه رؤيا إبراهيم في ابنه عليه‌السلام قال : ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ـ إلى أن قال ـ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا » : الصافات : ١٠٥.

ومنها ما حكاه تعالى من رؤيا يوسف عليه‌السلام : « إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ » : يوسف : ٤.

ومنها رؤيا صاحبي يوسف في السجن : « قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ » : يوسف : ٣٦.

ومنها رؤيا الملك : « وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ » : يوسف : ٤٣.

ومنها رؤيا أم موسى قال تعالى : « إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ » : طه : ٣٩ على ما ورد في الروايات أنه كان رؤيا.

ومنها ما ذكر من رؤي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال تعالى : « إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ » : الأنفال : ٤٣ ، وقال : « لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ » : الفتح : ٢٧ وقال : « وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ » : الإسراء : ٦٠.

٢٦٨

وقد وردت من طريق السمع روايات كثيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة أهل البيت عليه‌السلام تصدق ذلك وتؤيده.

لكن الباحثين من علماء الطبيعة من أوربا لا يرون لها حقيقة ولا للبحث عن شأنها وارتباطها بالحوادث الخارجية وزنا علميا إلا بعضهم من علماء النفس ممن اعتنى بأمرها ، واحتج عليهم ببعض المنامات الصحيحة التي تنبئ عن حوادث مستقبلة أو أمور خفية إنباء عجيبا لا سبيل إلى حمله على مجرد الاتفاق والصدفة ، وهي منامات كثيرة جدا مروية بطرق صحيحة لا يخالطها شك ، كاشفة عن حوادث خفية أو مستقبلة أوردها في كتبهم.

٢ ـ وللرؤيا حقيقة. ما منا واحد إلا وقد شاهد من نفسه شيئا من الرؤى والمنامات دله على بعض الأمور الخفية أو المشكلات العلمية أو الحوادث التي ستستقبله من الخير أو الشر أو قرع سمعه بعض المنامات التي من هذا القبيل ، ولا سبيل إلى حمل ذلك على الاتفاق وانتفاء أي رابطة بينها وبين ما ينطبق عليها من التأويل. وخاصة في المنامات الصريحة التي لا تحتاج إلى تعبير.

نعم مما لا سبيل أيضا إلى إنكاره أن الرؤيا أمر إدراكي وللخيال فيها عمل ، والمتخيلة من القوى الفعالة دائما ربما تدوم في عملها من جهة الأنباء الواردة عليها من ناحية الحس كاللمس والسمع ، وربما تأخذ صورا بسيطة أو مركبة من الصور والمعاني المخزونة عندها فتحلل المركبات كتفصيل صورة الإنسان التامة إلى رأس ويد ورجل وغير ذلك وتركب البسائط كتركيبها إنسانا مما اختزن عندها من أجزائه وأعضائه فربما ركبته بما يطابق الخارج وربما ركبته بما لا يطابقه كتخيل إنسان لا رأس له أو له عشرة رءوس.

وبالجملة للأسباب والعوامل الخارجية المحيطة بالبدن كالحر والبرد ونحوها والداخلية الطارئة عليه كأنواع الأمراض والعاهات وانحرافات المزاج وامتلاء المعدة والتعب وغيرها تأثير في المتخيلة فلها تأثير في الرؤيا.

فترى أن من عملت فيه حرارة أو برودة بالغة يرى في منامه نيرانا مؤججة أو الشتاء والجمد ونزول الثلوج ، وأن من عملت فيه السخونة فألجمه العرق يرى الحمام وبركان الماء ونزول الأمطار ونحو ذلك ، وأن من انحرف مزاجه أو امتلأت معدته يرى رؤيا مشوشة لا ترجع إلى طائل.

٢٦٩

وكذلك الأخلاق والسجايا الإنسانية شديدة التأثير في نوع تخيله فالذي يحب إنسانا أو عملا لا ينفك بتخيله في يقظته ويراه في نومته والضعيف النفس الخائف الذعران إذا فوجئ بصوت يتخيل إثره أمور هائلة لا إلى غاية ، وكذلك البغض والعداوة والعجب والكبر والطمع ونظائرها كل منها يجر الإنسان إلى تخيله صور متسلسلة تناسبه وتلائمه ، وقل ما يسلم الإنسان من غلبة بعض هذه السجايا على طبعه.

ولذلك كان أغلب الرؤى والمنامات من التخيلات النفسانية التي ساقها إليها شيء من الأسباب الخارجية والداخلية الطبيعية والخلقية ونحوها فلا تحكي النفس بحسب الحقيقة إلا كيفية عمل تلك الأسباب وأثرها فيها فحسب لا حقيقة لها وراء ذلك.

وهذا هو الذي ذكره منكرو حقيقة الرؤيا من علماء الطبيعة لا يزيد على تعداد هذه الأسباب المؤثرة في الخيال العمالة في إدراك الإنسان.

ومن المسلم ما أورده غير أنه لا ينتج إلا أن كل الرؤيا ليس ذا حقيقة وهو غير المدعى وهو أن كل منام ليس ذا حقيقة فإن هناك منامات صالحة ورؤيا صادقة تكشف عن حقائق ولا سبيل إلى إنكارها ونفي الرابطة بينها وبين الحوادث الخارجية والأمور المستكشفة كما تقدم.

فقد ظهر مما بينا أن جميع الرؤى لا تخلو عن حقيقة بمعنى أن هذه الإدراكات المتنوعة المختلفة التي تعرض النفس الإنسانية في المنام وهي المسماة بالرؤى لها أصول وأسباب تستدعي وجودها للنفس وظهورها للخيال وهي على اختلافها تحكي وتمثل بأصولها وأسبابها التي استدعتها فلكل منام تأويل وتعبير غير أن تأويل بعضها السبب الطبيعي العامل في البدن في حال النوم ، وتأويل بعضها السبب الخلقي وبعضها أسباب متفرقة اتفاقية كمن يأخذه النوم وهو متفكر في أمر مشغول النفس به فيرى في حلمه ما يناسب ما كان ذاهنا له.

وإنما البحث في نوع واحد من هذه المنامات ، وهي لرؤى التي لا تستند إلى أسباب خارجية طبيعية ، أو مزاجية أو اتفاقية ولا إلى أسباب داخلية خلقية أو غير ذلك ، ولها ارتباط بالحوادث الخارجية. والحقائق الكونية.

٣ ـ المنامات الحقة. المنامات التي لها ارتباط بالحوادث الخارجية وخاصة المستقبلة

٢٧٠

منها لما كان أحد طرفي الارتباط أمرا معدوما بعد كمن يرى أن حادثة كذا وقعت ثم وقعت بعد حين كما رأى. ولا معنى للارتباط الوجودي بين موجود ومعدوم ، أو أمرا غائبا عن النفس لم يتصل بها من طريق شيء من الحواس كمن رأى أن في مكان كذا دفينا فيه من الذهب المسكوك كذا ومن الفضة كذا في وعاء صفته كذا وكذا ثم مضى إليه وحفر كما دل عليه فوجده كما رأى ، ولا معنى للارتباط الإدراكي بين النفس وبين ما هو غائب عنها لم ينله شيء من الحواس.

ولذا قيل : إن الارتباط إنما استقر بينها وبين النفس النائمة من جهة اتصال النفس بسبب الحادثة الواقعة الذي فوق عالم الطبيعة فترتبط النفس بسبب الحادثة ومن طريق سببها بنفسها.

توضيح ذلك أن العوالم ثلاثة : عالم الطبيعة وهو العالم الدنيوي الذي نعيش فيه والأشياء الموجودة فيها صور مادية تجري على نظام الحركة والسكون والتغير والتبدل.

وثانيها : عالم المثال وهو فوق عالم الطبيعة وجودا ، وفيه صور الأشياء بلا مادة منها تنزل هذه الحوادث الطبيعة وإليها تعود ، وله مقام العلية ونسبة السببية لحوادث عالم الطبيعة.

وثالثها : عالم العقل وهو فوق عالم المثال وجودا وفيه حقائق الأشياء وكلياتها من غير مادة طبيعية ولا صورة ، وله نسبة السببية لما في عالم المثال.

والنفس الإنسانية لتجردها لها مسانخة مع العالمين عالم المثال وعالم العقل فإذا نام الإنسان وتعطل الحواس انقطعت النفس طبعا عن الأمور الطبيعية الخارجية ورجعت إلى عالمها المسانخ لها وشاهدت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الاستعداد والإمكان.

فإن كانت النفس كاملة متمكنة من إدراك المجردات العقلية أدركتها واستحضرت أسباب الكائنات على ما هي عليها من الكلية والنورية ، وإلا حكتها حكاية خيالية بما تأنس بها من الصور والأشكال الجزئية الكونية كما نحكي نحن مفهوم السرعة الكلية بتصور جسم سريع الحركة ، ونحكي مفهوم العظمة بالجبل ، ومفهوم الرفعة والعلو بالسماء وما فيها من الأجرام السماوية ونحكي الكائد المكار بالثعلب والحسود بالذئب

٢٧١

والشجاع بالأسد إلى غير ذلك.

وإن لم تكن متمكنة من إدراك المجردات على ما هي عليها والارتقاء إلى عالمها توقفت في عالم المثال مرتقية من عالم الطبيعة فربما شاهدت الحوادث بمشاهدة عللها وأسبابها من غير أن تتصرف فيها بشيء من التغيير ، ويتفق ذلك غالبا في النفوس السليمة المتخلقة بالصدق والصفاء ، وهذه هي المنامات الصريحة.

وربما حكت ما شاهدته منها بما عندها من الأمثلة المأنوس بها كتمثيل الازدواج بالاكتساء والتلبس ، والفخار بالتاج والعلم بالنور والجهل بالظلمة وخمود الذكر بالموت ، وربما انتقلنا من الضد إلى الضد كانتقال أذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغنى وانتقالنا من تصور النار إلى تصور الجمد ومن تصور الحياة إلى تصور الموت وهكذا ، ومن أمثلة هذا النوع من المنامات ما نقل أن رجلا رأى في المنام أن بيده خاتما يختم به أفواه الناس وفروجهم فسأل ابن سيرين عن تأويله فقال : إنك ستصير مؤذنا في شهر رمضان فيصوم الناس بأذانك.

وقد تبين مما قدمناه أن المنامات الحقة تنقسم انقساما أوليا إلى منامات صريحة لم تتصرف فيها نفس النائم فتنطبق على ما لها من التأويل من غير مئونة ، ومنامات غير صريحة تصرفت فيها النفس من جهة الحكاية بالأمثال والانتقال من معنى إلى ما يناسبه أو يضاده ، وهذه هي التي تحتاج إلى التعبير بردها إلى الأصل الذي هو المشهود الأولي للنفس كرد التاج إلى الفخار ، ورد الموت إلى الحياة والحياة إلى الفرج بعد الشدة ورد الظلمة إلى الجهل والحيرة أو الشقاء.

ثم هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين أحدهما ما تتصرف فيه النفس بالحكاية فتنتقل من الشيء إلى ما يناسبه أو يضاده ووقفت في المرة والمرتين مثلا بحيث لا يعسر رده إلى أصله كما مر من الأمثلة. وثانيهما ما تتصرف فيه النفس من غير أن تقف على حد كان تنتقل مثلا من الشيء إلى ضده ومن الضد إلى مثله ومن مثل الضد إلى ضد المثل وهكذا بحيث يتعذر أو يتعسر للمعبر أن يرده إلى الأصل المشهود ، وهذا النوع من المنامات هي المسماة بأضغاث الأحلام ولا تعبير لها لتعسره أو تعذره.

وقد بان بذلك أن هذه المنامات ثلاثة أقسام كلية : وهي المنامات الصريحة ولا

٢٧٢

تعبير لها لعدم الحاجة إليه ، وأضغاث الأحلام ولا تعبير فيها لتعذره أو تعسره والمنامات التي تصرفت فيها النفس بالحكاية والتمثيل وهي التي تقبل التعبير.

هذا إجمال ما أورده علماء النفس من قدمائنا في أمر الرؤيا واستقصاء البحث فيها أزيد من هذا المقدار موكول إلى كتبهم في هذا الشأن.

٤ ـ وفي القرآن ما يؤيد ذلك ـ : قال تعالى : « وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ » : الأنعام : ٦٠ ، وقال : « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى » : الزمر : ٤٢ وظاهره أن النفوس متوفاة ومأخوذة من الأبدان مقطوعة التعلق بالحواس الظاهرة راجعة إلى ربها نوعا من الرجوع يضاهي الموت.

وقد أشير في كلامه إلى كل واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة فمن القسم الأول ما ذكر من رؤيا إبراهيم عليه‌السلام ورؤيا أم موسى وبعض رؤي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن القسم الثاني ما في قوله تعالى : « قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ » الآية : يوسف : ٤٤ ومن القسم الثالث رؤيا يوسف ومناما صاحبيه في السجن ورؤيا ملك مصر المذكورة في سورة يوسف.

( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي

٢٧٣

أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١) ).

( بيان )

الآيات خاتمة السورة يذكر فيها أن الإيمان الكامل وهو التوحيد الخالص عزيز المنال لا يناله إلا أقل قليل من الناس وأما الأكثرون فليسوا بمؤمنين ولو حرصت بإيمانهم واجتهدت في ذلك جهدك ، والأقلون وهم المؤمنون ما لهم إلا إيمان مشوب بالشرك فلا يبقى للإيمان المحض والتوحيد الخالص إلا أقل قليل.

وهذا التوحيد الخالص هو سبيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يدعو إليه على بصيرة هو ومن اتبعه ، وأن الله ناصره ومنجي من اتبعه من المؤمنين من المهالك التي تهدد توحيدهم وإيمانهم وعذاب الاستئصال الذي سيصيب المشركين كما كان ذلك عادة الله في أنبيائه الماضين كما يظهر من قصصهم.

٢٧٤

وفي قصصهم عبرة وبيان للحقائق وهدى ورحمة للمؤمنين.

قوله تعالى : « وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ » أي ليس من شأن أكثر الناس لانكبابهم على الدنيا وانجذاب نفوسهم إلى زينتها وسهوهم عما أودع في فطرهم من العلم بالله وآياته أن يؤمنوا به ، ولو حرصت وأحببت إيمانهم ، والدليل على هذا المعنى الآيات التالية.

قوله تعالى : « وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ » الواو حالية أي ما هم بمؤمنين والحال أنك ما تسألهم على إيمانهم أو على هذا القرآن الذي ننزله عليك وتتلوه عليهم من أجر حتى يصدهم الغرامة المالية وإنفاق ما يحبونه من المال عن قبول دعوته والإيمان به.

وقوله : « إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ » بيان لشأن القرآن الواقعي وهو أنه ممحض في أنه ذكر للعالمين يذكرون به ما أودع الله في قلوب جماعات البشر من العلم به وبآياته فما هو إلا ذكر يذكرون به ما أنستهم الغفلة والإعراض وليس من الأمتعة التي يكتسب بها الأموال أو ينال بها عزة أو جاه أو غير ذلك.

قوله تعالى : « وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ » الواو حالية ويحتمل الاستئناف والمرور على الشيء هو موافاته ثم تركه بموافاة ما وراءه فالمرور على الآيات السماوية والأرضية مشاهدتها واحدة بعد أخرى.

والمعنى أن هناك آيات كثيرة سماوية وأرضية تدل بوجودها والنظام البديع الجاري فيها على توحيد ربهم وهم يشاهدونها واحدة بعد أخرى فتتكرر عليهم والحال أنهم معرضون عنها لا يتنبهون.

ولو حمل قوله : « يَمُرُّونَ عَلَيْها » على التصريح دون الكناية كان من الدليل على ما يبتني عليه الهيأة الحديثة من حركة الأرض وضعا وانتقالا فإنا نحن المارون على الأجرام السماوية بحركة الأرض الانتقالية والوضعية لا بالعكس على ما يخيل إلينا في ظاهر الحس.

قوله تعالى : « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ » الضمير في « أَكْثَرُهُمْ » راجع إلى الناس باعتبار إيمانهم أي أكثر الناس ليسوا بمؤمنين وإن لم تسألهم عليه أجرا

٢٧٥

وإن كانوا يمرون على الآيات السماوية والأرضية على كثرتها والذين آمنوا منهم ـ وهم الأقلون ـ ما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم متلبسون بالشرك.

وتلبس الإنسان بالإيمان والشرك معا مع كونهما معنيين متقابلين لا يجتمعان في محل واحد نظير تلبسه بسائر الاعتقادات المتناقضة والأخلاق المتضادة إنما يكون من جهة كونها من المعاني التي تقبل في نفسها القوة والضعف فتختلف بالنسبة والإضافة كالقرب والبعد فإن القرب والبعد المطلقين لا يجتمعان إلا أنهما إذا كانا نسبيين لا يمتنعان الاجتماع والتصادق كمكة فإنها قريبة بالنسبة إلى المدينة بعيدة بالنسبة إلى الشام ، وكذا هي بعيدة من الشام إذا قيست إلى المدينة قريبة منه إذا قيست إلى بغداد.

والإيمان بالله والشرك به وحقيقتهما تعلق القلب بالله بالخضوع للحقيقة الواجبية وتعلق القلب بغيره تعالى مما لا يملك شيئا إلا بإذنه تعالى يختلفان بحسب النسبة والإضافة فإن من الجائز أن يتعلق الإنسان مثلا بالحياة الدنيا الفانية وزينتها الباطلة وينسى مع ذلك كل حق وحقيقة ، ومن الجائز أن ينقطع عن كل ما يصد النفس ويشغلها عن الله سبحانه ويتوجه بكله إليه ويذكره ولا يغفل عنه فلا يركن في ذاته وصفاته إلا إليه ولا يريد إلا ما يريده كالمخلصين من أوليائه تعالى.

وبين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين والبعد منه وهي التي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع ، ومن الدليل على ذلك الأخلاق والصفات المتمكنة في النفوس التي تخالف مقتضى ما تعتقده من حق أو باطل ، والأعمال الصادرة منها كذلك ترى من يدعي الإيمان بالله يخاف وترتعد فرائصه من أي نائبة أو مصيبة تهدده وهو يذكر أن لا قوة إلا بالله ، ويلتمس العزة والجاه من غيره وهو يتلو قوله تعالى : « إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً » ويقرع كل باب يبتغي الرزق وقد ضمنه الله ، ويعصي الله ولا يستحيي وهو يرى أن ربه عليم بما في نفسه سميع لما يقول بصير بما يعمل ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وعلى هذا القياس.

والمراد بالشرك في الآية بعض مراتبه الذي يجامع بعض مراتب الإيمان وهو المسمى باصطلاح فن الأخلاق بالشرك الخفي.

فما قيل : إن المراد بالمشركين في الآية مشركو مكة في غير محله ، وكذا ما قيل :

٢٧٦

إنهم المنافقون ، وهو تقييد لإطلاق الآية من غير مقيد.

قوله تعالى : « أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » الغاشية صفة سادة مسد الموصوف المحذوف لدلالة كلمة العذاب عليه ، والتقدير عقوبة غاشية تغشاهم وتحيط بهم.

والبغتة الفجأة. وقوله : « وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » حال من ضمير الجمع أي تفاجئهم الساعة في إتيانها والحال أنهم لا يشعرون بإتيانها لعدم مسبوقيتها بعلامات تعين وقتها وتشخص قيامها والاستفهام للتعجيب ، والمعنى أن أمرهم في إعراضهم عن آيات السماء والأرض وعدم إخلاصهم الإيمان لله وتماديهم في الغفلة عجيب أفأمنوا عذابا من الله يغشاهم أو ساعة تفاجئهم وتبهتهم؟.

قوله تعالى : « قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » لما ذكر سبحانه أن محض الإيمان به والإخلاص التوحيد له عزيز المنال وهو الحق الصريح الذي تدل عليه آيات السماوات والأرض أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبين لهم أن سبيله هو الدعاء إلى هذا التوحيد على بصيرة.

فقوله : « هذِهِ سَبِيلِي » إعلان لسبيله ، وقوله : « أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ » بيان للسبيل ، وقوله : « وَسُبْحانَ اللهِ » اعتراض للتنزيه ، وقوله : « وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » تأكيد لمعنى الدعوة إلى الله وبيان أن هذه الدعوة ليست دعوة إليه تعالى كيف كان بل دعوة على أساس التوحيد الخالص لا معدل عنه إلى شرك أصلا.

وأما قوله : « أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي » فتوسعة وتعميم لحمل الدعوة وأن السبيل وإن كانت سبيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مختصة به لكن حمل الدعوة والقيام به لا يختص به بل من اتبعه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم بها لنفسه.

لكن السياق يدل على أن الإشراك ليس بذاك العموم الذي يتراءى من لفظ « مَنِ اتَّبَعَنِي » فإن السبيل التي تعرفها الآية هي الدعوة عن بصيرة ويقين إلى إيمان محض وتوحيد خالص وإنما يشاركه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها من كان مخلصا لله في دينه عالما بمقام ربه ذا بصيرة ويقين وليس كل من صدق عليه أنه اتبعه على هذا النعت ، ولا أن الاستواء على هذا المستوي

٢٧٧

مبذول لكل مؤمن حتى الذين عدهم الله سبحانه في الآية السابقة من المشركين وذمهم بأنهم غافلون عن ربهم آمنون من مكره معرضون عن آياته ، وكيف يدعو إلى الله من كان غافلا عنه آمنا من مكره معرضا عن آياته وذكره؟ وقد وصف الله في آيات كثيرة أصحاب هذه النعوت بالضلال والعمى والخسران ولا تجتمع هذه الخصال بالهداية والإرشاد البتة.

قوله تعالى : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى » إلى آخر الآية ، لما ذكر سبحانه حال الناس في الإيمان به ثم حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوته إياهم عن رسالة إلهية من غير أن يسألهم فيها أجرا أو يجر لنفسه نفعا بين أن ذلك ليس ببدع من الأمر بل مما جرت عليه السنة الإلهية في الدعوة الدينية فلم يكن الرسل الماضون ملائكة وإنما بعثوا من بين هؤلاء الناس وكانوا رجالا من أهل القرى يخالطون الناس ويعرفون عندهم أوحى الله إليهم وأرسلهم نحوهم يدعونهم إليه كما أن النبي كذلك ، ومن الممكن أن يسير هؤلاء المدعوون في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم فبلادهم الخربة ومساكنهم الخالية تفصح عما آل إليه أمرهم ، وتنبئ عن عاقبة كفرهم وجحودهم وتكذيبهم لآيات الله.

فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدعوهم إلا كما كان يدعوهم الأنبياء من قبله ، وليس يدعوهم إلا إلى ما فيه خيرهم وصلاح حالهم وهو أن يتقوا الله فيفلحوا ويفوزوا بسعادة خالدة ونعيم مقيم في دار باقية ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون.

فقوله : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى » تطبيق لدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على دعوة من قبله من الرسل. ولعل توصيفهم بأنهم كانوا من أهل القرى للدلالة على أنهم كانوا من أنفسهم يعيشون بينهم ومعروفين عندهم بالمعاشرة والمخالطة ولم يكونوا ملائكة ولا من غير أنفسهم ، ويؤيد ذلك توصيفهم بأنهم كانوا رجالا فإن الرجال كانوا أقرب إلى المعرفة من النساء ذوات الخدر.

وقوله : « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » إنذار لأمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمثل ما أنذر به الأمم الخالية فلم يسمعوا فذاقوا وبال أمرهم.

وقوله : « وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ » بيان النصح وأن ما يدعون إليه وهو التقوى ليس وراءه إلا ما فيه كل خيرهم وجماع سعادتهم.

٢٧٨

قوله تعالى : « حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا » إلى آخر الآية ذكروا أن يأس واستيئس بمعنى ، ولا يبعد أن يقال : إن الاستيئاس هو الاقتراب من اليأس بظهور آثاره لمكان هيئة الاستفعال وهو مما يعد يأسا عرفا وليس باليأس القاطع حقيقة.

وقوله : « حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ » إلخ متعلق الغاية بما يتحصل من الآية السابقة والمعنى تلك الرسل الذين كانوا رجالا أمثالك من أهل القرى وتلك قراهم البائدة دعوهم فلم يستجيبوا وأنذروهم بعذاب الله فلم ينتهوا حتى إذا استيئس الرسل من إيمان أولئك الناس ، وظن الناس أن الرسل قد كذبوا أي أخبروا بالعذاب كذبا جاء نصرنا فنجيء بذلك من نشاء وهم المؤمنون ولا يرد بأسنا أي شدتنا عن القوم المجرمين.

أما استيئس الرسل من إيمان قومهم فكما أخبر في قصة نوح : « وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ » : هود : ٣٦ « وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً » : نوح : ٢٧ ويوجد نظيره في قصص هود وصالح وشعيب وموسى وعيسى عليه‌السلام.

وأما ظن أممهم أنهم قد كذبوا فكما أخبر عنه في قصة نوح من قولهم : « بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ » : هود : ٢٧ ، وكذا في قصة هود وصالح وقوله : « فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً » : أسرى ١٠١.

وأما تنجية المؤمنين بالنصر فكقوله تعالى : « وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ » الروم : ٤٧ وقد أخبر به في هلاك بعض الأمم أيضا كقوله : « نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ » : هود : ٥٨ « نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ » : هود : ٦٦ « نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ » : هود : ٤ ، إلى غير ذلك.

وأما إن بأس الله لا يرد عن المجرمين فمذكور في آيات كثيرة عموما وخصوصا كقوله : « وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ » يونس : ٤٧ ، وقوله : « وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ » : الرعد : ١١ إلى غير ذلك من الآيات.

٢٧٩

هذا أحسن ما أوردوه في الآية من المعاني ، والدليل عليه كون الآية بمضمونها غاية لما تتضمنه سابقتها كما قدمناه ، وقد أوردوا لها معاني أخرى لا يخلو شيء منها من السقم والإضراب عنها أوجه.

قوله تعالى : « لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ » إلى آخر الآية قال الراغب أصل العبر تجاوز من حال إلى حال فأما العبور فيختص بتجاوز الماء ـ إلى أن قال ـ والاعتبار والعبرة بالحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد قال تعالى : ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً ). انتهى.

والضمير في قصصهم للأنبياء ومنهم يوسف صاحب القصة في السورة ، واحتمل رجوعه إلى يوسف وإخوته والمعنى أقسم لقد كان في قصص الأنبياء أو يوسف وإخوته عبرة لأصحاب العقول ، ما كان القصص المذكور في السورة حديثا يفتري ولكن تصديق الذي بين يدي القرآن ، وهو التوراة المذكور فيها القصة يعني توراة موسى عليه‌السلام.

وقوله : « وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ » إلخ أي بيانا وتمييزا لكل شيء مما يحتاج إليه الناس في دينهم الذي عليه بناء سعادتهم في الدنيا والآخرة ، وهدى إلى السعادة والفلاح ورحمة خاصة من الله سبحانه لقوم يؤمنون به فإنه رحمة من الله لهم يهتدون بهدايته إلى صراط مستقيم.

( بحث روائي )

في تفسير القمي ، بإسناده عن الفضيل عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قول الله تعالى : « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ » قال شرك طاعة وليس شرك عبادة ، والمعاصي التي يرتكبون فهي شرك طاعة ـ أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله الطاعة لغيره ـ وليس بإشراك عبادة أن يعبدوا غير الله.

وفي تفسير العياشي ، عن محمد بن الفضيل عن الرضا عليه‌السلام قال : شرك لا يبلغ به الكفر.

٢٨٠