الميزان في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٩٠

الناس ـ إن إبراهيم بعث يعقوب إلى راهب من الرهبان ـ عابد من العباد في حاجة ـ فلما رآه الراهب حسبه إبراهيم ـ فوثب إليه فاعتنقه ثم قال : مرحبا بخليل الرحمن ـ فقال له يعقوب : لست بخليل الرحمن ـ ولكن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، قال له الراهب : فما الذي بلغ بك ما أرى من الكبر؟ قال : الهم والحزن والسقم.

قال : فما جاز عتبة الباب حتى أوحى الله إليه : يا يعقوب شكوتني إلى العباد فخر ساجدا عند عتبة الباب يقول : رب لا أعود فأوحى الله إليه أني قد غفرت لك ـ فلا تعد إلى مثلها فما شكى شيئا مما أصابه من نوائب الدنيا ـ إلا أنه قال يوما : « إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ـ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ».

وفي الدر المنثور ، أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من بث لم يصبر ثم قرأ « إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ».

أقول : ورواه أيضا عن ابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله

وفي الكافي ، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : أخبرني عن قول يعقوب لبنيه : « اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ » إنه كان يعلم أنه حي وقد فارقهم منذ عشرين سنة؟ قال : نعم. قلت : كيف علم؟ قال : إنه دعا في السحر ـ وقد سأل الله أن يهبط عليه ملك الموت فهبط عليه تربال ـ وهو ملك الموت فقال له تربال : ما حاجتك يا يعقوب؟ قال : أخبرني عن الأرواح ـ تقبضها مجتمعة أو متفرقة؟ فقال : بل أقبضها متفرقة روحا روحا. قال : فمر بك روح يوسف؟ قال : لا ، فعند ذلك علم أنه حي فعند ذلك قال لولده : « اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ».

أقول : ورواه في المعاني ، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبيه عنه عليه‌السلام وفيه : قال يعني يعقوب لملك الموت : أخبرني عن الأرواح تقبضها جملة أو تفاريق؟ قال : يقبضها أعواني متفرقة وتعرض علي مجتمعة ـ قال : فأسألك بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ـ هل عرض عليك في الأرواح روح يوسف؟ قال : لا ، فعند ذلك علم أنه حي.

وفي الدر المنثور ، أخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره وابن أبي الدنيا في كتاب

٢٤١

الفرج بعد الشدة وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيه : أتى جبريل فقال : يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك : أبشر وليفرح قلبك فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك ـ فاصنع طعاما للمساكين ـ فإن أحب عبادي إلي الأنبياء والمساكين. وتدري لم أذهبت بصرك ـ وقوست ظهرك وصنع إخوة يوسف به ما صنعوا؟ إنكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين وهو صائم فلم تطعموه منه شيئا.

فكان يعقوب عليه‌السلام إذا أراد الغداء أمر مناديا ينادي ـ ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب ـ وإذا كان صائما أمر مناديا فنادى ـ ألا من كان صائما من المساكين ـ فليفطر مع يعقوب.

وفي المجمع ، : في قوله تعالى : « فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً » الآية : ورد في الخبر : أن الله سبحانه قال : فبعزتي لأردنهما إليك من بعد ما توكلت علي.

( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ

٢٤٢

إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) ).

( بيان )

ختام قصة يوسف عليه‌السلام وتتضمن الآيات أمر يوسف إخوته بحمل قميصه إلى أبيه وإتيانهم إليه بأهلهم أجمعين ثم دخولهم مصر ولقاؤه أبويه.

قوله تعالى : « اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ » تتمة كلام يوسف عليه‌السلام يأمر فيه إخوته أن يذهبوا بقميصه إلى أبيه فيلقوه على وجهه ليشفي الله به عينيه ويأتي بصيرا بعد ما صار من كثرة الحزن والبكاء ضريرا لا يبصر.

٢٤٣

وهذا آخر العنايات البديعة التي أظهرها الله سبحانه في حق يوسف عليه‌السلام على ما يقصه في هذه السورة مما غلب الله الأسباب فحولها إلى خلاف الجهة التي كانت تجري إليها حسده إخوته فاستذلوه وغربوه عن مستقره بإلقائه في الجب وبيعه من السيارة بثمن بخس فجعل الله سبحانه هذا السبب بعينه سببا لقراره في بيت عزيز مصر في أكرم مثوى ثم أقره في أريكة عزة تضرع إليه أمامها إخوته بقولهم « يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ».

ثم أحبته امرأة العزيز ونسوة مصر فراودنه عن نفسه ليوردنه في مهلكة الفجور فحفظه الله وجعل ذلك سببا لظهور براءة ساحته وكمال عفته ، ثم استذلوه فسجنوه فجعله الله سببا لعزته وملكه.

وجاء إخوته إلى أبيه يوم ألقوه في غيابة الجب بقميصه الملطخ بالدم فأخبروه بموته كذبا فكان القميص سببا لحزن أبيه وبكائه في فراق ابنه حتى ابيضت عيناه وذهب بصره فرد الله سبحانه به بصره إليه وبالجملة اجتمعت الأسباب على خفضه وأراد الله سبحانه رفعه فكان ما أراده الله دون الذي توجهت إليه الأسباب والله غالب على أمره.

وقوله : « وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ » أمر منه بانتقال بيت يعقوب من يعقوب وأهله وبنيه وذراريه جميعا من البدو إلى مصر ونزولهم بها.

قوله تعالى : « وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ » الفصل القطع والانقطاع والتفنيد تفعيل من الفند بفتحتين وهو ضعف الرأي ، والمعنى لما خرجت العير الحاملة لقميص يوسف من مصر وانقطعت عنها قال أبوهم يعقوب لمن عنده من بنيه : إني لأجد ريح يوسف لو لا أن ترموني بضعف الرأي أي إني لأحس بريحه وأرى أن اللقاء قريب ومن حقه أن تذعنوا بما أجده لو لا أن تخطئوني لكن من المحتمل أن تفندوني فلا تذعنوا بقولي.

قوله تعالى : « قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ » القديم مقابل الجديد والمراد به المتقدم وجودا ، وهذا ما واجهه به بعض بنيه الحاضرين عنده ، وهو من سيء حظهم في هذه القصة تفوهوا بمثله في بدء القصة إذ قالوا : « إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ » وفي ختمها وهو قولهم هذا : « تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ».

والظاهر أن مرادهم بالضلال هاهنا هو مرادهم بالضلال هناك وهو المبالغة في حب

٢٤٤

يوسف وذلك أنهم كانوا يرون أنهم أحق بالحب من يوسف وهم عصبة إليهم تدبير بيته والدفاع عنه لكن أباهم قد ضل عن مستوى طريق الحكمة وقدم عليهم في الحب طفلين صغيرين لا يغنيان عنه شيئا فأقبل بكله إليهما ونسيهم ، ثم لما فقد يوسف جزع له ولم يزل يجزع ويبكي حتى ذهبت عيناه وتقوس ظهره.

فهذا هو مرادهم من كونه في ضلاله القديم ليسوا يعنون به الضلال في الدين حتى يصيروا بذلك كافرين.

أما أولا : فلأن ما ذكر من فصول كلامهم في خلال القصة يشهد على أنهم كانوا موحدين على دين آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليه‌السلام.

وأما ثانيا : فلأن المقام هاهنا وكذا في بدء القصة حين قالوا : « إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ » لا مساس له بالضلال في الدين حتى يحتمل رميهم أباهم فيه ، وإنما يمس أمرا عمليا حيويا وهو حب أب لبعض أولاده وتقديمه في الكرامة على آخرين فهو المعنى بالضلال.

قوله تعالى : « فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ » البشير حامل البشارة وكان حامل القميص وقوله « أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ » يشير عليه‌السلام إلى قوله لهم حين لاموه على ذكر يوسف : « إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ » ، ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى : « قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ » القائلون بنو يعقوب بدليل قولهم : « يا أَبانَا » ويريدون بالذنوب ما فعلوه به في أمر يوسف وأخيه ، وأما يوسف فقد كان استغفر لهم قبل.

قوله تعالى : « قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » أخر عليه‌السلام الاستغفار لهم كما هو مدلول قوله : « سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي » ولعله إنما أخره ليتم له النعمة بلقاء يوسف وتطيب نفسه به كل الطيب بنسيان جميع آثار الفراق ثم يستغفر لهم وفي بعض الأخبار : أنه أخره إلى وقت يستجاب فيه الدعاء وسيجيء إن شاء الله.

قوله تعالى : « فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ » في الكلام حذف والتقدير فخرج يعقوب وآله من أرضهم وساروا إلى مصر

٢٤٥

ولما دخلوا « إلخ ».

وقوله : « آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ » فسروه بضمهما إليه ، وقوله : « وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ » إلخ. ظاهر في أن يوسف خرج من مصر لاستقبالهما وضمهما إليه هناك ثم عرض لهما دخول مصر إكراما وتأدبا وقد أبدع عليه‌السلام في قوله : « إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ » حيث أعطاهم الأمن وأصدر لهم حكمه على سنة الملوك وقيد ذلك بمشية الله سبحانه للدلالة على أن المشية الإنسانية لا تؤثر أثرها كسائر الأسباب إلا إذا وافقت المشية الإلهية على ما هو مقتضى التوحيد الخالص ، وظاهر هذا السياق أنه لم يكن لهم الدخول والاستقرار في مصر إلا بجواز من ناحية الملك ، ولذا أعطاهم الأمن في مبتدإ الأمر.

وقد ذكر سبحانه « أَبَوَيْهِ » والمفسرون مختلفون في أنهما كانا والديه أباه وأمه حقيقة أو أنهما يعقوب وزوجه خالة يوسف بالبناء على أن أمه ماتت وهو صغير ، ولا يوجد في كلامه تعالى ما يؤيد أحد المحتملين غير أن الظاهر من الأبوين هما الحقيقيان.

ومعنى الآية « فَلَمَّا دَخَلُوا » أي أبواه وإخوته وأهلهم « عَلى يُوسُفَ » وذلك في خارج مصر « آوى » وضم « إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ » لهم مؤمنا لهم « ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ».

قوله تعالى : « وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ » إلى آخر الآية ، العرش هو السرير العالي ويكثر استعماله فيما يجلس عليه الملك ويختص به ، والخرور السقوط على الأرض والبدو البادية فإن يعقوب كان يسكن البادية.

وقوله : « وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ » أي رفع يوسف أبويه على عرش الملك الذي كان يجلس عليه ومقتضى الاعتبار وظاهر السياق أنهما رفعا على العرش بأمر من يوسف تصداه خدمه لا هو بنفسه كما يشعر به قوله : « وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً » فإن الظاهر أن السجدة إنما وقعت لأول ما طلع عليهم يوسف فكأنهم دخلوا البيت واطمأن بهم المجلس ثم دخل عليهم يوسف فغشيهم النور الإلهي المتلألئ من جماله البديع فلم يملكوا أنفسهم دون أن خروا له سجدا.

وقوله : « وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً » الضمير ليوسف كما يعطيه السياق فهو المسجود له ، وقول بعضهم : إن الضمير لله سبحانه نظرا إلى عدم جواز السجود لغير الله لا دليل عليه من جهة اللفظ ، وقد وقع نظيره في القرآن الكريم في قصة آدم والملائكة قال تعالى :

٢٤٦

« وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ » طه : ١١٦.

والدليل على أنها لم تكن منهم سجدة عبادة ليوسف أن بين هؤلاء الساجدين يعقوب عليه‌السلام وهو ممن نص القرآن الكريم على كونه مخلصا ـ بالفتح ـ لله لا يشرك به شيئا ، ويوسف عليه‌السلام ـ وهو المسجود له ـ منهم بنص القرآن وهو القائل لصاحبيه في السجن : ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ولم يردعهم.

فليس إلا أنهم إنما أخذوا يوسف آية لله فاتخذوه قبلة في سجدتهم وعبدوا الله بها لا غير كالكعبة التي تؤخذ قبلة فيصلي إليها فيعبد بها الله دون الكعبة ، ومن المعلوم أن الآية من حيث إنها آية لا نفسية لها أصلا فليس المعبود عندها إلا الله سبحانه وتعالى ، وقد تكرر الكلام في هذا المعنى فيما تقدم من أجزاء الكتاب.

ومن هنا يظهر أن ما ذكروه في توجيه الآية كقول بعضهم : إن تحية الناس يومئذ كانت هي السجدة كما أنها في الإسلام السلام ، وقول بعضهم : إن سنة العظيم كانت إذ ذاك السجدة ولم ينه عنها لغير الله بعد كما في الإسلام ، وقول بعضهم : كان سجودهم كهيئة الركوع كما يفعله الأعاجم كل ذلك غير وجيه.

قوله تعالى : « قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا » إلى آخر الآية لما شاهد عليه‌السلام سجدة أبويه وإخوته الأحد عشر ذكر الرؤيا التي رأى فيها أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين وأخبر بها أباه وهو صغير فأولها له ، فأشار إلى سجودهم له وقال : « يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها » ـ أي الرؤيا ـ « رَبِّي حَقًّا ».

ثم أثنى على ربه شاكرا له فقال : « وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ » فذكر إحسان ربه به في إخراجه من السجن وهو ضراء وبلاء دفعه الله عنه بتبديله سراء ونعمة من حيث لا يحتسب حيث جعله وسيلة لنيله العزة والملك.

ولم يذكر إخراجه من الجب قبل ذلك لحضور إخوته عنده وكان لا يريد أن يذكر ما يسوؤهم ذكره كرما وفتوة بل أشار إلى ذلك بأحسن لفظ يمكن أن يشار به إليه من غير أن يتضمن طعنا فيهم وشنآنا فقال : « وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي » والنزغ هو الدخول في أمر لإفساده.

٢٤٧

والمراد : وقد أحسن بي من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي فكان من الأمر ما كان فأدى ذلك إلى فراق بيني وبينكم فساقني ربي إلى مصر فأقرني في أرغد عيش وأرفع عزة وملك ثم قرب بيننا بنقلكم من البادية إلي في دار المدنية والحضارة.

يعني أنه كانت نوائب نزلت بي إثر إفساد الشيطان بيني وبين إخوتي ومما أخصه بالذكر من بينها فراق بيني وبينكم ثم رزية السجن فأحسن بي ربي ودفعها عني واحدة بعد أخرى ولم يكن من المحن والحوادث العادية بل رزايا صماء وعقودا لا تنحل لكن ربي نفذ فيها بلطفه ونفوذ قدرته فبدلها أسباب حياة ونعمة بعد ما كانت أسباب هلاك وشقاء ولهذه الثلاثة الأخيرة عقب قوله : « وَقَدْ أَحْسَنَ بِي » إلخ بقوله : « إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ ».

فقوله : « إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ » تعليل لإخراجه من السجن ومجيئهم من البدو ، ويشير به إلى ما خصه الله به من العناية والمنة وإن البلايا التي أحاطت به لم تكن لتنحل عقدتها أو لتنحرف عن مجراها لكن الله لطيف لما يشاء نفذ فيها فجعل عوامل الشدة عوامل رخاء وراحة وأسباب الذلة والرقية وسائل عزة وملك.

واللطيف من أسمائه تعالى يدل على حضوره وإحاطته تعالى بما لا سبيل إلى الحضور فيه والإحاطة به من باطن الأشياء وهو من فروع إحاطته تعالى بنفوذ القدرة والعلم قال تعالى : « أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ » : الملك : ١٤ والأصل في معناه الصغر والدقة والنفوذ يقال : لطف الشيء بالضم يلطف لطافة إذا صغر ودق حتى نفذ في المجاري والثقب الصغار ، ويكنى به عن الإرفاق والملاءمة والاسم اللطف.

وقوله : « هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ » تعليل لجميع ما تقدم من قوله : « يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا » إلخ ، وقد علل عليه‌السلام الكلام وختمه بهذين الاسمين محاذاة لأبيه حيث تكلم في رؤياه وقال : « وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ـ إلى أن قال ـ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » وليس يبعد أن يفيد اللام في قوله : « الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ » معنى العهد فيفيد تصديقه لقول أبيه عليه‌السلام والمعنى : وهو ذاك العليم الحكيم الذي وصفته لي يوم أولت رؤياي.

قوله تعالى : « رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ » إلى آخر

٢٤٨

الآية لما أثنى عليه‌السلام على ربه وعد ما دفع عنه من الشدائد والنوائب أراد أن يذكر ما خصه به من النعم المثبتة وقد هاجت به المحبة الإلهية وانقطع بها عن غيره تعالى فترك خطاب أبيه وانصرف عنه وعن غيره ملتفتا إلى ربه وخاطب ربه عز اسمه فقال : « رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ».

وقوله : « فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ » إضراب وترق في الثناء ، ورجوع منه عليه‌السلام إلى ذكر أصل الولاية الإلهية بعد ما ذكر بعض مظاهرها الجلية كإخراجه من السجن والمجيء بأهله من البدو وإيتائه من الملك وتعليمه من تأويل الأحاديث فإن الله سبحانه رب فيما دق وجل معا ، ولي في الدنيا والآخرة جميعا.

وولايته تعالى أعني كونه قائما كل شيء في ذاته وصفاته وأفعاله منشأها إيجاده تعالى إياها جميعا وإظهاره لها من كتم العدم فهو فاطر السماوات والأرض ولذا يتوجه إليه تعالى قلوب أوليائه والمخلصين من عباده من طريق هذا الاسم الذي يفيد وجوده تعالى لذاته وإيجاده لغيره قال تعالى : « قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » : إبراهيم : ١٠.

ولذا بدأ به يوسف عليه‌السلام ـ وهو من المخلصين ـ في ذكر ولايته فقال : « فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ » أي إني تحت ولايتك التامة من غير أن يكون لي صنع في نفسي واستقلال في ذاتي وصفاتي وأفعالي أو أملك لنفسي شيئا من نفع أو ضر أو موت أو حياة أو نشور.

وقوله : « تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ » لما استغرق عليه‌السلام في مقام الذلة قبال رب العزة وشهد بولايته له في الدنيا والآخرة سأله سؤال المملوك المولى عليه أن يجعله كما يستدعيه ولايته عليه في الدنيا والآخرة وهو الإسلام ما دام حيا في الدنيا والدخول في زمرة الصالحين في الآخرة فإن كمال العبد المملوك أن يسلم لربه ما يريده منه ما دام حيا ولا يظهر منه ما يكرهه ولا يرتضيه فيما يرجع إليه من الأعمال الاختيارية وأن يكون صالحا لقرب مولاه لائقا لمواهبه السامية فيما لا يرجع إلى العبد واختياره ، وهو سؤاله عليه‌السلام الإسلام في الدنيا والدخول في زمرة الصالحين في الآخرة وهو الذي منحه الله سبحانه لجده إبراهيم عليه‌السلام : « وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

٢٤٩

إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ » : البقرة : ١٣١.

وهذا الإسلام الذي سأله عليه‌السلام أقصى درجات الإسلام وأعلى مراتبه ، وهو التسليم المحض لله سبحانه ، وهو أن لا يرى العبد لنفسه ولا لآثار نفسه شيئا من الاستقلال حتى لا يشغله شيء من نفسه ولا صفاتها ولا أعمالها من ربه ، وإذا نسب إليه تعالى كان إخلاصه عبده لنفسه.

ومما تقدم يظهر أن قوله : « تَوَفَّنِي مُسْلِماً » سؤال منه لبقاء الإخلاص واستمرار الإسلام ما دام حيا وبعبارة أخرى أن يعيش مسلما حتى يتوفاه الله فهو كناية عن أن يثبته الله على الإسلام حتى يموت ، وليس يراد به أن يموت في حال الإسلام ولو لم يكن قبل ذلك مسلما ، ولا سؤالا للموت وهو مسلم حتى يكون المعنى أني مسلم فتوفني.

ويتبين بذلك فساد ما روي عن عدة من قدماء المفسرين أن قوله : « تَوَفَّنِي مُسْلِماً » دعاء منه يسأل به الموت من الله سبحانه حتى قال بعضهم : لم يسأل أحد من الأنبياء الموت من الله ولا تمناه إلا يوسف عليه‌السلام.

قوله تعالى : « ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ » الإشارة إلى نبإ يوسف عليه‌السلام ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وضمير الجمع لإخوة يوسف والإجماع العزم والإرادة.

وقوله : « وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ » إلخ ، حال من ضمير الخطاب من « إِلَيْكَ » وقوله : « نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ » إلى آخر الآية بيان لقوله : « ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ » والمعنى أن نبأ يوسف من أنباء الغيب فإنا نوحيه إليك والحال أنك ما كنت عند إخوة يوسف إذ عزموا على أمرهم وهم يمكرون في أمر يوسف.

( بحث روائي )

في تفسير العياشي ، عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث طويل قال : قال يوسف لإخوته : « لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا » الذي

٢٥٠

بلته دموع عيني « فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً » ـ لو قد نشر ريحي « وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ » وردهم إلى يعقوب في ذلك اليوم ، وجهزهم بجميع ما يحتاجون إليه فلما فصلت عيرهم من مصر ـ وجد يعقوب ريح يوسف فقال لمن بحضرته من ولده ـ إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون.

قال : وأقبل ولده يحثون السير بالقميص فرحا وسرورا ـ بما رأوا من حال يوسف والملك الذي آتاه الله ـ والعز الذي صاروا إليه في سلطان يوسف ، وكان مسيرهم من مصر إلى بلد يعقوب تسعة أيام ـ فلما أن جاء البشير ألقى القميص على وجهه فارتد بصيرا ، وقال لهم : ما فعل ابن يامين؟ قالوا : خلفناه عند أخيه صالحا.

قال : فحمد الله يعقوب عند ذلك ، وسجد لربه سجدة الشكر ـ ورجع إليه بصره وتقوم له ظهره ، وقال لولده : تحملوا إلى يوسف في يومكم هذا بأجمعكم ـ فساروا إلى يوسف ومعهم يعقوب وخالة يوسف « ياميل » فأحثوا السير فرحا وسرورا ـ فساروا تسعة أيام إلى مصر.

أقول : كون امرأة يعقوب التي سارت معه إلى مصر وهي أم بنيامين خالة يوسف لا أمه الحقيقية وقعت في عدة الروايات وظاهر الكتاب وبعض الروايات أنها كانت أم يوسف وأنه وبنيامين كانا أخوين لأم وإن لم يكن ظهورا يدفع به تلك الروايات.

وفي المجمع ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله عز وجل : « وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ ـ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ » قال : وجد يعقوب ريح يوسف حين فصلت من مصر ـ وهو بفلسطين من مسيرة عشرة ليال.

أقول : وقد ورد في عدة روايات من طرق العامة والخاصة أن القميص الذي أرسله يوسف إلى يعقوب عليه‌السلام كان نازلا من الجنة ، وأنه كان قميص إبراهيم أنزله إليه جبريل حين ألقي في النار فألبسه إياه فكانت عليه بردا وسلاما ثم أورثه إسحاق ثم ورثه يعقوب ثم جعله يعقوب تميمة وعلقه على يوسف حين ولد فكان على عنقه حتى أخرجه يوسف من التميمة ففاحت ريح الجنة فوجدها يعقوب ، وهذه أخبار لا سبيل لنا إلى تصحيحها مضافا إلى ما فيها من ضعف الأسناد.

ومثلها روايات أخرى من الفريقين تتضمن كتابا كتبه يعقوب إلى يوسف وهو يحسبه

٢٥١

عزيز آل فرعون لاستخلاص بنيامين يذكر فيها أنه ابن إسحاق ذبيح الله الذي أمر الله جده إبراهيم بذبحه ثم فداه بذبح عظيم. وقد تقدم في الجزء السابق من الكتاب أن الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق.

وفي تفسير العياشي ، عن نشيط بن ناصح البجلي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أكان إخوة يوسف أنبياء؟ قال : لا ولا بررة أتقياء وكيف؟ وهم يقولون لأبيهم : ( تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ).

أقول : وفي الروايات من طرق أهل السنة وفي بعض الضعاف من روايات الشيعة أنهم كانوا أنبياء ، وهذه الروايات مدفوعة بما ثبت من طريق الكتاب والسنة والعقل من عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، وما ورد في الكتاب مما ظاهره كون الأسباط أنبياء كقوله تعالى : « وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ » : النساء : ١٦٣ غير صريح في كون المراد بالأسباط هم إخوة يوسف ، والأسباط تطلق على جميع الشعوب من بني إسرائيل الذين ينتهي نسبهم إلى يعقوب عليه‌السلام قال تعالى : « وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً » : الأعراف : ١٦٠.

وفي الفقيه ، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول يعقوب لبنيه : « سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي » قال : أخرهم إلى السحر من ليلة الجمعة.

أقول : وفي هذا المعنى بعض روايات أخر ، وفي الدر المنثور ، عن ابن جرير وأبي الشيخ عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : قول أخي يعقوب لبنيه : « سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي » يقول : حتى يأتي ليلة الجمعة.

وفي الكافي ، بإسناده عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خير وقت دعوتم الله فيه الأسحار ، وتلا هذه الآية في قول يعقوب « سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي » أخرهم إلى السحر.

أقول : وروي نظيره في الدر المنثور ، عن أبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل لم أخر يعقوب بنيه في الاستغفار؟ قال : أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجاب.

٢٥٢

وقد تقدم في بيان الآيات كلام في وجه التأخير ولقد أقبل يوسف عليه‌السلام على إخوته حين عرفوه بالفتوة والكرامة من غير أن يجبههم بأدنى ما يسوؤهم ولازم ذلك أن يعفو عنهم ويستغفر لهم بلا مهل ولم يكن موقف يعقوب معهم حين ارتد إليه بصره بإلقاء القميص عليه ذاك الموقف.

وفي تفسير القمي ، حدثني محمد بن عيسى : أن يحيى بن أكثم سأل موسى بن محمد بن علي بن موسى مسائل ـ فعرضها على أبي الحسن ، وكان أحدها : أخبرني عن قول الله : « وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً » أسجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء؟.

فأجاب أبو الحسن عليه‌السلام : أما سجود يعقوب وولده ليوسف فإنه لم يكن ليوسف ـ وإنما كان ذلك من يعقوب وولده طاعة لله وتحية ليوسف ـ كما كان السجود من الملائكة لآدم ولم يكن لآدم ـ وإنما كان ذلك منهم طاعة لله وتحية لآدم ـ فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكرا لله تعالى لاجتماع شملهم ـ ألم تر أنه يقول في شكره ذلك الوقت : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ـ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ـ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً ـ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ). الحديث.

أقول : وقد تقدم بعض الكلام في سجدتهم ليوسف في بيان الآيات ، وظاهر الحديث أن يوسف أيضا سجد معهم كما سجدوا وقد استدل عليه بقول يوسف في شكره : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) « إلخ » وفي دلالته على ذلك إبهام.

وقد روى الحديث العياشي في تفسيره ، عن محمد بن سعيد الأزدي صاحب موسى بن محمد بن الرضا عليه‌السلام : قال لأخيه : إن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل ـ فأخبرني عن قول الله : « وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً » أسجد يعقوب وولده ليوسف؟.

قال : فسألت أخي عن ذلك فقال : أما سجود يعقوب وولده ليوسف فشكرا لله تعالى لاجتماع شملهم ـ ألا ترى أنه يقول في شكر ذلك الوقت : « رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ـ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ » الآية.

وما رواه العياشي أوفق بلفظ الآية وأسلم من الإشكال مما رواه القمي.

وفي تفسير العياشي ، عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في

٢٥٣

قول الله : « وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ » قال : العرش السرير ، وفي قوله : « وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً » قال : كان سجودهم ذلك عبادة لله.

وفيه ، عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : فسار تسعة أيام إلى مصر فلما دخلوا على يوسف في دار الملك ـ اعتنق أباه فقبله وبكى ، ورفع خالته على سرير الملك ـ ثم دخل منزله فادهن واكتحل ولبس ثياب العز والملك ـ ثم رجع إليهم ـ وفي نسخة ثم خرج إليهم ـ فلما رأوه ـ سجدوا جميعا إعظاما وشكرا لله فعند ذلك قال : « يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ ـ إلى قوله ـ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ».

قال : ولم يكن يوسف في تلك العشرين السنة يدهن ولا يكتحل ولا يتطيب ولا يضحك ولا يمس النساء حتى جمع الله ليعقوب شمله ، وجمع بينه وبين يعقوب وإخوته ».

وفي الكافي ، بإسناده عن العباس بن هلال الشامي مولى أبي الحسن عليه‌السلام عنه قال : قلت له : جعلت فداك ما أعجب إلى الناس من يأكل الجشب ـ ويلبس الخشن ويخشع. فقال : أما علمت أن يوسف نبي ابن نبي ـ كان يلبس أقبية الديباج مزرورة بالذهب ـ فكان يجلس في مجالس آل فرعون يحكم ـ فلم يحتج الناس إلى لباسه وإنما احتاجوا إلى قسطه.

وإنما يحتاج من الإمام في أن إذا قال صدق ، وإذا وعد أنجز ، وإذا حكم عدل ـ لأن الله لا يحرم طعاما ولا شرابا من حلال ـ وحرم الحرام قل أو كثر وقد قال الله : « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ ـ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ».

وفي تفسير العياشي ، عن محمد بن مسلم قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر ـ بعد ما جمع الله ليعقوب شمله ، وأراه تأويل رؤيا يوسف الصادقة؟ قال : عاش حولين. قلت : فمن كان يومئذ الحجة لله في الأرض؟ يعقوب أم يوسف؟ قال : كان يعقوب الحجة وكان الملك ليوسف ـ فلما مات يعقوب ـ حمل يوسف عظام يعقوب في تابوت إلى أرض الشام ـ فدفنه في بيت المقدس ثم كان يوسف ابن يعقوب الحجة.

أقول : والروايات في قصته عليه‌السلام كثيرة اقتصرنا منها بما فيها مساس بالآيات الكريمة على أن أكثرها لا يخلو من تشوش في المتن وضعف في السند.

ومما ورد في بعضها أن الله سبحانه جعل النبوة من آل يعقوب في صلب لاوي وهو

٢٥٤

الذي منع إخوته عن قتل يوسف حيث قال : « لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ » الآية وهو القائل لإخوته حين أخذ يوسف أخاه باتهام السرقة : « فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ » فشكر الله له ذلك.

ومما ورد في عدة منها أن يوسف عليه‌السلام تزوج بامرأة العزيز وهي التي راودته عن نفسه ، وذلك بعد ما مات العزيز في خلال تلك السنين المجدبة ، ولا يبعد أن يكون ذلك شكرا منه تعالى لها حين صدقت يوسف بقولها : « الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ » لو صح الحديث.

( كلام في قصة يوسف في فصول )

١ ـ قصته في القرآن : هو يوسف النبي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل كان أحد أبناء يعقوب الاثني عشر وأصغر إخوته غير أخيه بنيامين أراد الله سبحانه أن يتم عليه نعمته بالعلم والحكم والعزة والملك ويرفع به قدر آل يعقوب فبشره وهو صغير برؤيا رآها كان أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدة له فذكر ذلك لأبيه فوصاه أبوه أن لا يقص رؤياه على إخوته فيحسدوه ثم أول رؤياه أن الله سيجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق.

كانت هذه الرؤيا نصب عين يوسف آخذة بمجامع قلبه ، ولا يزال تنزع نفسه إلى حب ربه والتوله إليه على ما به من علو النفس وصفاء الروح والخصائص الحميدة ، وكان ذا جمال بديع يبهر القول ويدهش الألباب.

وكان يعقوب يحبه حبا شديدا لما يشاهد فيه من الجمال البديع ويتفرس فيه من صفاء السريرة ولا يفارقه ولا ساعة فثقل ذلك على إخوته الكبار واشتد حسدهم له حتى اجتمعوا وتآمروا في أمره فمن مشير على قتله ، ومن قائل : اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ، ثم اجتمع رأيهم على ما أشار به عليهم بعضهم وهو أن يلقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة وعقدوا على ذلك.

٢٥٥

فلقوا أباهم وكلموه أن يرسل يوسف معهم غدا يرتع ويلعب وهم له حافظون فلم يرض به يعقوب واعتذر أنه يخاف أن يأكله الذئب فلم يزالوا به يراودونه حتى أرضوه وأخذوه منه وذهبوا به معهم إلى مراتع أغنامهم بالبر فألقوه في جب هناك وقد نزعوا قميصه.

ثم جاءوا بقميصه ملطخا بدم كذب إلى أبيهم وهو يبكون فأخبروه أنهم ذهبوا اليوم للاستباق وتركوا يوسف عند متاعهم فأكله الذئب وهذا قميصه الملطخ بدمه.

فبكى يعقوب وقال : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ ) ، ولم يقل ذلك إلا بتفرس إلهي ألقي في روعه ، ولم يزل يعقوب يذكر يوسف ويبكي عليه ولا يتسلى عنه بشيء حتى ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم.

ومضى بنوه يراقبون الجب حتى جاءت سيارة فأرسلوا واردهم للاستقاء فأدلى دلوه فتعلق يوسف بالدلو فخرج فاستبشروا به فدنى منهم بنو يعقوب وادعوا أنه عبد لهم ثم ساوموهم حتى شروه بثمن بخس دراهم معدودة.

وسارت به السيارة إلى مصر وعرضوه للبيع فاشتراه عزيز مصر وأدخله بيته وقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وذلك لما كان يشاهد في وجهه من آثار الجلال وصفاء الروح على ما له من الجمال البديع فاستقر يوسف في بيت العزيز في كرامة وأهنإ عيش ، وهذا أول ما ظهر من لطيف عناية الله بيوسف وعزيز ولايته له حيث توسل إخوته بإلقائه في الجب وبيعه من السيارة إلى إماتة ذكره وتحريمه كرامة الحياة في بيت أبيه أما إماتة الذكر فلم ينسه أبوه قط ، وأما مزية الحياة فإن الله سبحان بدل له بيت الشعر وعيشة البدوية قصرا ملكيا وحياة حضرية راقية فرفع الله قدره بعين ما أرادوا أن يحطوه ويضعوه ، وعلى ذلك جرى صنع الله به ما سار في مسير الحوادث.

وعاش يوسف في بيت العزيز في أهنإ عيش حتى كبر وبلغ أشده ولم يزل تزكو نفسه ويصفو قلبه ويشتغل بربه حتى توله في حبه وأخلص له فصار لا هم له إلا فيه فاجتباه الله وأخلصه لنفسه وآتاه حكما وعلما وكذلك يفعل بالمحسنين.

وعشقته امرأة العزيز وشغفها حبه حتى راودته عن نفسه وغلقت الأبواب ودعته

٢٥٦

إلى نفسها و: « قالَتْ هَيْتَ ». لك فامتنع يوسف واعتصم بعصمة إلهية و ( قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) ، واستبقا الباب واجتذبته وقدت قميصه من خلف وألفيا سيدها لدى الباب فاتهمت يوسف بأنه كان يريد بها سوءا وأنكر يوسف ذلك غير أن العناية الإلهية أدركته فشهد صبي هناك في المهد ببراءته فبرأه الله.

ثم ابتلي بحب نساء مصر ومراودتهن وشاع أمر امرأة العزيز حتى آل الأمر إلى دخوله السجن ، وقد توسلت امرأة العزيز بذلك إلى تأديبه ليجيبها إلى ما تريد ، والعزيز إلى أن يسكت هذه الأراجيف الشائعة التي كانت تذهب بكرامة بيته وتشوه جميل ذكره.

فدخل يوسف السجن ودخل معه السجن فتيان للملك فذكر أحدهما أنه رأى في منامه أنه يعصر خمرا والآخر رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه ، وسألاه أن يؤول منامهما فأول رؤيا الأول أنه سيخرج فيصير ساقيا للملك ، ورؤيا الثاني أنه سيصلب فتأكل الطير من رأسه فكان كما قال : وقال يوسف للذي رأى أنه ناج منهما : ( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ).

وبعد بضع من السنين رأى الملك رؤيا هالته فذكرها لملإه وقال : ( إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ. قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ، وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ ) ، وعند ذلك ادكر الساقي يوسف وتعبيره لمنامه فذكر ذلك للملك واستأذنه أن يراجع السجن ويستفتي يوسف في أمر الرؤيا فأذن له في ذلك وأرسله إليه.

ولما جاءه واستفتاه في أمر الرؤيا وذكر أن الناس ينتظرون أن يكشف لهم أمرها قال : ( تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ).

فلما سمع الملك ما أفتى به يوسف أعجبه ذلك وأمر بإطلاقه وإحضاره ولما جاءه الرسول لتنفيذ أمر الملك أبى الخروج والحضور إلا أن يحقق الملك ما جرى بينه وبين

٢٥٧

النسوة ويحكم بينه وبينهن ولما أحضرهن وكلمهن في أمره اتفقن على تبرئته من جميع ما اتهم به وقلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ، وقالت امرأة العزيز : ( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) فاستعظم الملك أمره في علمه وحكمه واستقامته وأمانته فأمر بإطلاقه وإحضاره معززا وقال : ( ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا ) حضر و ( كَلَّمَهُ قالَ : إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ) وقد محصت أحسن التمحيص واختبرت أدق الاختبار.

قال يوسف : ( اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ) أرض مصر ( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) حتى أهيئ الدولة في هذه السنين السبع المخصبة التي تجري على الناس لإنجائهم مما يهددهم من السنين السبع المجدبة فأجابه الملك على ذلك فقام يوسف بالأمر وأمر بإجادة الزرع وإكثاره وجمع الطعام والميرة وحفظه في المخازن بالحزم والتدبير حتى إذا دهمهم السنون المجدبة وضع فيهم الأرزاق وقسم بينهم الطعام حتى أنجاهم الله بذلك من المخمصة ، وفي هذه السنين انتصب يوسف لمقام عزة مصر ، واستولى على سرير الملك فكان السجن طريقا له يسلك به إلى أريكة العزة والملك بإذن الله ، وقد كانوا تسببوا به إلى إخماد ذكره ، وإنسائه من قلوب الناس ، وإخفائه من أعينهم.

وفي بعض تلك السنين المجدبة دخل على يوسف إخوته لأخذ الطعام فعرفهم وهم له منكرون فاستفسرهم عن شأنهم وعن أنفسهم فذكروا له أنهم أبناء يعقوب وأنهم أحد عشر أخا أصغرهم عند أبيهم يأنس به ولا يدعه يفارقه قط فأظهر يوسف أنه يشتاق أن يراه فيعرف ما باله يخصه أبوه بنفسه فأمرهم أن يأتوه به إن رجعوا إليه ثانيا للامتيار ، وزاد في إكرامهم وإيفاء كيلهم فأعطوه العهد بذلك ، وأمر فتيانه أن يدسوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون.

ولما رجعوا إلى أبيهم حدثوه بما جرى بينهم وبين عزيز مصر وأنه منع منهم الكيل إلا أن يرجعوا إليه بأخيهم بنيامين فامتنع أبوهم من ذلك ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم فراجعوا أباهم وذكروا له ذلك وأصروا على إرسال بنيامين معهم إلى مصر وهو يأبى حتى وافقهم على ذلك بعد أن أخذ منهم موثقا من الله ليأتنه به إلا أن يحاط بهم.

٢٥٨

ثم تجهزوا ثانيا وسافروا إلى مصر ومعهم بنيامين ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه وعرفه نفسه وقال : إني أنا أخوك وأخبره أنه يريد أن يحبسه عنده فعليه أن لا يبتئس بما سيشاهد من الكيد.

( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قالُوا ـ وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ـ ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا : نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ قالُوا : تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ. قالُوا : فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا : جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) كذلك نجزي السارق فيما بيننا ( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ) ثم أمر بالقبض عليه واسترقه بذلك.

فراجعه إخوته في إطلاقه حتى سألوه أن يأخذ أحدهم مكانه رحمة بأبيه الشيخ الكبير فلم ينفع فرجعوا إلى أبيهم آيسين غير أن كبيرهم قال لهم : ( أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) فبقي بمصر وساروا.

فلما رجعوا إلى أبيهم وقصوا عليه القصص قال : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) ثم تولى عنهم ( وَقالَ ، يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) فلما لاموه على حزنه الطويل ووجده ليوسف قال : ( إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) ثم قال لهم : ( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ) فإني أرجو أن تظفروا بهما.

فسار نفر منهم إلى مصر واستأذنوا على يوسف فلما شخصوا عنده تضرعوا إليه واسترحموه في أنفسهم وأهلهم وأخيهم الذي استرقه قائلين : ( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ) بالجدب والسنة وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا بأخينا الذي تملكته بالاسترقاق إن الله يجزي المتصدقين.

وعند ذلك حقت كلمته تعالى ليعزن يوسف بالرغم من استذلالهم له وليرفعن قدره وقدر أخيه وليضعن الباغين الحاسدين لهما فأراد يوسف أن يعرفهم نفسه وقال لهم : ( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ؟ قالُوا : أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ قالَ : أَنَا

٢٥٩

يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قالُوا : تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) فاعترفوا بذنبهم وشهدوا أن الأمر إلى الله يعز من يشاء ويذل من يشاء وأن العاقبة للمتقين وأن الله مع الصابرين. فقابلهم يوسف بالعفو والاستغفار وقال : ( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ ) وقربهم إليه وزاد في إكرامهم.

ثم أمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم ويذهبوا بقميصه فيلقوه على وجه أبيه يأت بصيرا فتجهزوا للسير ولما فصلت العير قال يعقوب لمن عنده من بنيه : ( إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) قال من عنده من بنيه : ( تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) ، ولما جاءه البشير ألقى القميص على وجهه فارتد بصيرا فرد الله سبحانه إليه بصره بعين ما ذهب به وهو القميص قال يعقوب لبنيه : ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ : إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ قالُوا : يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ : سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ).

ثم تجهزوا للمسير إلى يوسف واستقبلهم يوسف وضم إليه أبويه وأعطاهم الأمن وأدخلهم دار الملك ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا يعقوب وامرأته وأحد عشر من ولده ، ( قالَ ) يوسف ( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ) ثم شكر الله على لطيف صنعه في دفع النوائب العظام عنه وإيتائه الملك والعلم.

وبقي آل يعقوب بمصر ، وكان أهل مصر يحبون يوسف حبا شديدا لفضل نعمته عليهم وحسن بلائه فيهم ، وكان يدعوهم إلى دين التوحيد وملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليه‌السلام ( كما ورد في قصة السجن وفي سورة المؤمن ).

٢ ـ ما أثنى الله عليه ومنزلته المعنوية : ـ كان عليه‌السلام من المخلصين وكان صديقا وكان من المحسنين ، وقد آتاه الله حكما وعلما وعلمه من تأويل الأحاديث وقد اجتباه الله وأتم نعمته عليه وألحقه بالصالحين ( سورة يوسف ) وأثنى عليه بما أثنى على آل نوح وإبراهيم عليه‌السلام من الأنبياء وقد ذكره فيهم ( سورة الأنعام ).

٣ ـ قصته في التوراة الحاضرة : قالت التوراة : وكان (١) بنو يعقوب اثني

__________________

(١) الإصحاح ٣٥ من سفر التكوين تذكر التوراة أن ليئة وراحيل امرأتي يعقوب بنتا لابان الأرامي وأن راحيل أم يوسف ماتت حين وضعت بنيامين.

٢٦٠