الميزان في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٩٠

من الوراء فقدته ولم ينقد إلا لأنه كان في حال الهرب مبتعدا منها وإلا لم ينشق طولا.

وقوله : « وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ » الإلفاء الوجدان يقال : ألفيته كذا أي وجدت والمراد بسيدها زوجها. قيل : إنه جري على عرف مصر وقد كانت النساء بمصر يلقبن زوجهن بالسيد ، وهو مستمر إلى هذا الزمان.

قوله تعالى : « قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ » لما ألفيا سيدها لدى الباب انقلب مجلس المراودة إلى موقف التحقيق ، وإنما أوجد هذا الموقف وجود العزيز لدى الباب وحضورهما والهيئة هذه الهيئة عنده ، ويتكفل ما جرى في هذا الموقف قوله : « وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ » إلى تمام خمس آيات.

فبدأت امرأة العزيز تشكو يوسف إليه وتسأله أن يجازيه فذكرت أنه أراد بها سوءا وعليه أن يسجنه أو يعذبه عذابا أليما لكنها لم تصرح بذلك ولا بشيء من أطراف الواقعة بل كنت وأتت بحكم عام عقلائي يتضمن مجازاة من قصد ذوات البعل بالفحشاء فقالت : « ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ » فلم يصرح باسم يوسف وهو المريد ، ولا باسم نفسها وهي الأهل ، ولا باسم السوء وهو الزنا بذات البعل كل ذلك تأدبا في حضرة العزيز وتقديسا لساحته.

ولم يتعين الجزاء بل رددته بين السجن والعذاب الأليم لأن قلبها الواله إليه المليء بحبه ما كان يساعدها على التعيين فإن في الإبهام نوعا من الفرج إلا أن في تعبيرها بقولها : « بِأَهْلِكَ » نوعا من التحريض عليه وتهييجه على مؤاخذته ولم يكن ذلك إلا كيدا منها للعزيز بالتظاهر بالوجد والأسى لئلا يتفطن بواقع الأمر فيؤاخذها أما إذا صرفته عن نفسها المجرمة فإن صرفه عن مؤاخذة يوسف عليه‌السلام لم يكن صعبا عليها تلك الصعوبة.

قوله تعالى : « قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي » لم يبدأ يوسف عليه‌السلام بالقول أدبا مع العزيز وصونا لها أن يرميها بالجرم لكن لما اتهمته بقصدها بالسوء لم ير بدا دون أن يصرح بالحق فقال : « هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي » وفي الكلام دلالة على القصر وهي من قصر القلب أي لم أردها بالسوء بل هي التي أرادت ذلك فراودتني عن نفسي.

وفي كلامه هذا ـ وهو خال عن أقسام التأكيد كالقسم ونحوه ـ دلالة على سكون

١٤١

نفسه عليه‌السلام وطمأنينته وأنه لم يحتشم ولم يجزع ولم يتملق حين دعوى براءته مما رمته به إذ كان لم يأت بسوء ولا يخافها ولا ما اتهمته وقد استعاذ بربه حين قال : « مَعاذَ اللهِ ».

قوله تعالى : « وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ » إلى آخر الآيتين. لما كانت الشهادة في معنى القول كان قوله : « إِنْ كانَ قَمِيصُهُ » « إلخ » بمنزلة مقول القول بالنسبة إليه فلا حاجة إلى تقدير القول قبل قوله : « إِنْ كانَ قَمِيصُهُ » « إلخ » ، وقد قيل : إن هذا القول لما أدى مؤدى الشهادة عبر عنه بلفظ الشهادة.

وقد أشار هذا الشاهد إلى دليل ينحل به العقدة ويتضح طريق القضية فتكلم فقال : « إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ » فإن من البين أن أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب ، وكون القد من قبل يدل على منازعتهما ومصارعتهما بالمواجهة فالقضاء لها عليه ، ( وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) فإن كون القد من دبر يدل على هربه منها وتعقيبها إياه واجتذابها له إلى نفسها فالقضاء له عليها. وهو ظاهر.

وأما من هذا الشاهد؟ فقد اختلف فيه المفسرون فقال بعضهم : كان رجلا حكيما أشار للعزيز بما أشار كما عن الحسن وقتادة وعكرمة ، وقيل : كان رجلا وهو ابن عم المرأة وكان جالسا مع زوجها لدى الباب ، وقيل : لم يكن من الإنس ولا الجن بل خلقا من خلق الله كما عن مجاهد ، ورد بمنافاته الصريحة لقوله تعالى : « من أهلها »

ومن طرق أهل البيت عليه‌السلام وبعض طرق أهل السنة أنه كان صبيا في المهد من أهلها ، وسيجيء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

والذي ينبغي أن ينظر فيه أن الذي أتى به هذا الشاهد بيان عقلي ودليل فكري يؤدي إلى نتيجة هي القاضية لأحد هذين المتداعيين على الآخر ، ومثل هذا لا يسمى شهادة عرفا فإنها هي البيان المتعمد على الحس أو ما في حكمه وبالجملة القول الذي لا يعتمد على التفكير والتعقل كما في قوله : « شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ » : حم السجدة : ٢٠ ، وقوله : « قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ » : المنافقون : ١ فإن الحكم بصدق الرسالة وإن كان في نفسه مستندا إلى التفكر والتعقل لكن المراد بالشهادة تأدية ما عنده من الحق المعلوم قطعا من غير ملاحظة كونه عن تفكر وتعقل كما في موارد يعبر عنه فيها

١٤٢

بالقول ونحوه.

فليس من البعيد أن يكون في التعبير عن قول هذا القائل بمثل « وَشَهِدَ شاهِدٌ » إشارة إلى كون ذلك كلاما صدر عنه من غير ترو وفكر فيكون شهادة لعدم اعتماده على تفكر وتعقل لا قولا يعبر به عرفا عن البيان الذي يبتني على ترو وتفكر ، وبهذا يتأيد ما ورد من الرواية أنه كان صبيا في المهد فقد كان ذلك بنوع من الإعجاز أيد الله سبحانه به قول يوسف عليه‌السلام.

قوله تعالى : « فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ » أي فلما رأى العزيز قميص يوسف والحال أنه مقدود مشقوق من خلف ، قال إن الأمر من كيدكن معاشر النساء إن كيدكن عظيم فمرجع الضمائر معلوم من السياق.

ونسبة الكيد إلى جماعة النساء مع كونه من امرأته للدلالة على أنه إنما صدر منها بما أنها من النساء ، وكيدهن معهود معروف ، ولذا استعظمه وقال ثانيا : « إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ » وذلك أن الرجال أوتوا من الميل والانجذاب إليهن ما ليس يخفى وأوتين من أسباب الاستمالة والجلب ما في وسعهن أن يأخذن بمجامع قلوب الرجال ويسخرن أرواحهم بجلوات فتانة وأطوار سحارة تسلب أحلامهم ، وتصرفهم إلى إرادتهن من حيث لا يشعرون وهو الكيد وإرادة الإنسان بالسوء ومفاد الآية أن العزيز لما شاهد أن قميصه مقدود من خلف قضى ليوسف عليه‌السلام على امرأته.

قوله تعالى : « يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ » من مقول قول العزيز أي إنه بعد ما قضى له عليها أمر يوسف أن يعرض عن الأمر وأمر امرأته أن تستغفر لذنبها ومن خطيئتها.

فقوله : « يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا » يشير إلى ما وقع من الأمر ويعزم على يوسف أن يعرض عنه ويفرضه كأن لم يكن فلا يحدث به ولا يذيعه ، ولم يرد في كلامه تعالى ما يدل على أن يوسف عليه‌السلام حدث به أحدا وهو الظن به عليه‌السلام كما نرى أنه لم يظهر حديث المراودة للعزيز حتى اتهمته بسوء القصد فذكر الحق عند ذلك لكن كيف يخفى حديث استمر عهدا ليس بالقصير ، وقد استولى عليها الوله وسلب منها الغرام كل حلم وحزم ، ولم تكن المراودة مرة أو مرتين والدليل على ذلك ما سيأتي من قول النسوة : « امْرَأَتُ الْعَزِيزِ

١٤٣

تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا ».

وقوله : « وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ » يقرر لها الذنب ويأمرها أن تستغفر ربها لذلك الذنب لأنها كانت بذلك من أهل الخطيئة ، ولذلك قيل : « مِنَ الْخاطِئِينَ » ولم يقل من الخاطئات.

وهذا كله من كلام العزيز على ما يعطيه السياق لا من كلام الشاهد لأنه قضاء وحكم والقضاء للعزيز لا للشاهد.

ومن الخطإ قول بعضهم : إن معنى « وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ » سلي زوجك أن لا يعاقبك على ذنبك انتهى. بناء على أن الجملة من كلام الشاهد لا من كلام العزيز وكذا قول آخر : معناه : استغفري الله من ذنبك وتوبي إليه فإن الذنب كان منك لا من يوسف فإنهم كانوا يعبدون الله تعالى مع عبادة الأصنام. انتهى.

وذلك أن الوثنيين يقرون بالله سبحانه في خالقيته لكنهم لا يعبدون إلا الآلهة والأرباب من دون الله سبحانه ـ وقد تقدم الكلام في ذلك في الجزء السابق من الكتاب ـ على أن الآية لا تشتمل إلا على قوله : « وَاسْتَغْفِرِي » من دون أن يذكر المتعلق ، وهو ربها المعبود لها في مذهبها.

وربما قيل : إن الآية تدل على أن العزيز كان فاقدا للغيرة ، والحق أن الذي تدل عليه أنه كان شديد الحب لامرأته.

قوله تعالى : « وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » قصة نسوة مصر مع يوسف في بيت العزيز تتضمنها الآية إلى تمام ست آيات.

والذي يعطيه التدبر فيها بما ينضم إليها من قرائن الأحوال وما يستوجبه طبع القصة أنه لما كان من أمر يوسف والعزيزة ما كان ، شاع الخبر في المدينة تدريجا ، وصارت النساء وهن سيدات المدينة يتحدثن به في مجامعهن ومحافلهم فيما بينهن ويعيرن بذلك عزيزة مصر ويعبنها أنها تولهت إلى فتاها وافتتنت به وقد أحاط بها حبا فظلت تراوده عن نفسه ، وضلت به ضلالا مبينا.

١٤٤

وكان ذلك مكرا منهن بها على ما في طبع أكثر النساء من الحسد والعجب فإن المرأة تغلبه العواطف الرقيقة والإحساسات اللطيفة وركوز لطف الخلقة وجمال الطبيعة فيها مشعوفة القلب بالزينة والجمال متعلقة الفؤاد برسوم الدلال ، ويورث ذلك فيها وخاصة في الفتيات إعجابا بالنفس وحسدا للغير.

وبالجملة كان تحديثهن بحديث الحب والمراودة مكرا منهن بالعزيزة ـ وفيه بعض السلوة لنفوسهن والشفاء لغليل صدورهن ـ ولما يرين يوسف ، ولا شاهدن منه ما شاهدته العزيزة فولها وهتك سترها وإنما كن يتخيلن شيئا ويقايسن قياسا ، وأين الرواية من الدراية والبيان من العيان.

وشاع التحديث به في المسامرات حق بلغ الخبر امرأة العزيز تلك التي لا هم لها إلا أن تفوز في طلب يوسف وبلوغ ما تريد منه ولا تعبأ في حبه بشيء من الملك والعزة إلا لأن تتوصل به إلى حبه لها وميله إليها وإنجاحه لطلبتها فاستيقظت من رقدتها وعلمت بمكرهن بها فأرسلت إليهن للحضور لديها وأنهن سيدات ونساء أشراف المدينة وأركان البلاد ممن له رابطة المعاشرة مع بيت العزيز أو لياقة الحضور فيه.

فتهيأن للحضور وتبرزن بأحسن الجمال وأوقع الزينة على ما هو الدأب في أمثال هذه الاحتفالات من أمثال هؤلاء السيدات ، وكل تتمنى أن ترى يوسف وتشاهد ما عنده من الحسن الذي أوقع على العزيزة ما أوقع وفضحها.

والعزيزة لا هم لها يومئذ إلا أن تراهن يوسف حتى يعذرنه ويشتغلن عنها بأنفسهن فتتخلص من لسانهن فتأمن مكرهن ، وهي لا تعبأ بافتتانهن بيوسف ولا تخاف عليه منهن لأنها ـ على ما تزعم ـ مولاته وصاحبته ومالكة أمره ، وهو فتاها المخصوص بها ، وهي تعلم أن يوسف ليس بالذي يرغب فيهن أو يصبو إليهن وهو لا ينقاد لها فيما تريده منه بما عنده من الاستعصام والاعتزاز عن هذه الأهواء والأميال.

ثم لما حضرن عند العزيزة وأخذن مقاعدهن ، ووقع الأنس وجرت المحادثة والمفاوضة وأخذن في التفكه آتت كل واحد منهن سكينا وقد هيأت لهن وقدمت إليهن الفاكهة ، عند ذلك أمرت يوسف أن يخرج إليهن وقد كان مستورا عنهن.

١٤٥

فلما طلع يوسف عليهن ووقعت عليه أعينهن طارت عقولهن وطاحت أحلامهن ولم يدرين دون أن قطعن أيديهن مكان الفاكهة التي فيها لما دخل عليهن من البهت والذهول ، وهذه خاصة الوله والفزع فإن نفس الإنسان إذا انجذبت إلى شيء مما تفرط في حبه أو تخافه وتهوله اضطربت وبهتت ففاجأها الموت أو سلبت الشعور اللازم في تدبير القوى والأعضاء وتنظيم الأمر ، فربما أقدم مسرعا إلى الخطر الذي أدهشه لقاؤه وربما نسي الفرار فبقي كالجماد الذي لا حراك به ، وربما يفعل غير ما هو قاصده وفاعله اختباطا ، ونظائرها في جانب الحب كثيرة وحكايات المغرمين والمتولهين من العشاق مشهورة.

وكان هذا هو الفرق بين العزيزة وبينهن فإن استغراقها في حب يوسف إنما حصل لها تدريجا ، وأما نساء المدينة فإنهن فوجئن به دفعة فغشيت قلوبهن غاشية الجمال ، وغادرهن الحب ففضحهن وأطار عقلهن وأضل رأيهن فنسين الفاكهة وقطعن أيديهن وتركن كل تجلد واصطبار ، وأبدين ما في أنفسهن من وله الحب ، وقلن : « حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ».

هذا وهن في بيت العزيز وهو بيت يجب فيه التحفظ على كل أدب ووقار ، وكان يجب أن يتقينها ويحتشمن موقعها وهن شريفات ذوات جمال وذوات بعولة وذوات خدر وستر وهذه كلها جهات مانعة عن الخلاعة والتهتك ، وهن لم ينسين ما كن بالأمس يتحدثن به ويلمن ويذممن امرأة العزيز في حبها ليوسف وهما في بيت واحد منذ سنين.

فكان من الواجب على كل منهن أن تتقي صواحبها فلا تتهتك وهن يعلمن ما انجر إليه أمر امرأة العزيز من سوء الذكر وفضاحة الشهرة هذا كله ويوسف واقف أمامهن يسمع قولهن ويشاهد صنعهن.

لكن الذي شاهدنه على المفاجأة من حسن يوسف نسخ ما قدرنه من قبل في أنفسهن وبدل مجلس الأدب والاحتشام حفلة عيش لا يكتم محتفلوها من أنفسهم ضميرا ، ولا يبالي حضارها ما قيل أو يقال فيهم ولم يلبثن دون أن قلن « حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ » وقد قلن غير بعيد : « امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ».

وكلامهن هذا بعد قولهن ذاك إعذار منهن فمفاده أن الذي كنا نقوله قبل إنما هو

١٤٦

حق لو كان هذا بشرا وليس به وإنما يذم الإنسان ويعاب لو ابتلي بهوى بشر ومراودته وكان في وسعه أن يكتفي عنه بما يكافئه ويغني عنه ، وأما الجمال الذي لا يعادله جمال ، ويسلب كل حزم واختيار ، فلا لوم على هواه. ولا ذم في غرامة.

ولهذا انقلب المجلس دفعة ، وانقطعت قيود الاحتشام فانبسطن وتظاهرن بالقول في حسن يوسف وكل تتكلم بما في ضميرها منه ، وقالت امرأة العزيز : « فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ » فأبدت سرا ما كانت تعترف به قبل ثم هددت يوسف تجلدا وحفظا لمقامها عندهن وطمعا في مطاوعته وانقياده : « وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ».

وأما يوسف فلم يأخذه شيء من تلك الوجوه الحسان بألحاظها الفتانة ولا التفت إلى شيء من لطيف كلامهن ونعيم مراودتهن أو هائل تهديدها فقد كان وجهة نفسه جمال فوق كل جمال ، وجلال يذل عنده كل عزة وجلال فلم يكلمهن بشيء ولم يلتفت إلى ما كانت امرأة العزيز تسمعه من القول ، وإنما رجع إلى ربه فقال : « رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ».

وكلامه هذا إذا قيس إلى ما قاله لامرأة العزيز وحدها في مجلس المراودة : « مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » دل بسياقه على أن هذا المقام كان أشق وأمر على يوسف عليه‌السلام إذ كان بالأمس يقاوم هم امرأة العزيز ويعالج كيدها وحدها ، وقد توجهت إليه اليوم همهن ومكايدهن جميعا ، وكان ما بالأمس واقعة في خلوة على تستر منها ، وهي وهن اليوم متجاهرات في حبه متظاهرات في إغوائه ملجآت على مراودته ، وجميع الأسباب والمقتضيات اليوم قاضية لهن عليه أشد مما كانت عليه بالأمس.

ولذا تضرع إلى ربه سبحانه في دفع كيدهن هاهنا ، واكتفى بالاستعاذة إليه سبحانه هناك فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم.

ولنرجع إلى البحث عن الآيات.

فقوله تعالى : « وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها » إلخ ، النسوة اسم جمع للمرأة وتقييد بقوله : ( فِي الْمَدِينَةِ ) تفيد أنهن كن من جهة العدد أو الشأن بحال تؤثر

١٤٧

قولهن في شيوع الفضيحة.

وامرأة العزيز هي التي كان يوسف في بيتها وقد راودته عن نفسه والعزيز معناه معروف ، وقد كان يلقب به السيد الذي اشترى يوسف من السيارة وكان يلقب به الرؤساء بمصر كما لقب به يوسف بعد ما جعل على خزائن الأرض.

وفي قوله : « تُراوِدُ » دلالة على الاستمرار وهو أفحش المراودة ، والفتى الغلام الشاب والمرأة فتاة ، وقد شاع تسمية العبد فتى وكأنه بهذه العناية أضيف إلى ضميرها فقيل : « فَتاها ».

وفي المفردات ، : « شَغَفَها حُبًّا » أي أصاب شغاف قلبها أي باطنه. عن الحسن ، وقيل : وسطه. عن أبي علي ، وهما يتقاربان انتهى. وشغاف القلب غلافه المحيط به.

والمعنى : وقال عدة من نساء المدينة لا يخلو قولهن من أثر فيها وفي حقها : امرأة تستمر في مراودة عبدها عن نفسه ولا يحري بها ذلك لأنها مرأة ومن القحة أن تراود المرأة الرجل بل ذاك ـ إن كان ـ من طبع الرجال وأنها امرأة العزيز فهي عزيزة مصر فمن الواجب الذي لا معدل عنه أن تراعي شرف بيتها وعزة زوجها ومكانة نفسها ، وإن الذي علقت به عبدها من الشنيع أن يتوله مثلها وهي عزيزة مصر بعبد عبراني من جملة عبيده ، وأنها أحبته وتعدت ذلك إلى مراودته فامتنع من إجابتها فلم تنته حتى ألحت واستمرت على مراودته وذلك أقبح وأشنع وأمعن في الضلال.

ولذلك عقبن قولهن : « امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ » إلخ بقولهن : « إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ».

قوله تعالى : « فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً » قال في المجمع ، : المكر هو الفتل بالحيلة على ما يراد من الطلبة. انتهى. وتسمية هذا القول منهن مكرا بامرأة العزيز لما فيه من فضاحتها وهتك سترها من ناحية رقيباتها حسدا وبغيا ، وإنما أرسلت إليهن لتريهن يوسف وتبتليهن بما ابتليت به نفسها فيكففن عن لومها ويعذرنها في حبه.

وعلى هذا إنما سمي قولهن مكرا ونسب السمع إليه لأنه صدر منهن حسدا وبغيا لغاية

١٤٨

فضاحتها بين الناس.

وقيل : إنما كان قولهن مكرا لأنهن جعلناه ذريعة إلى لقاء يوسف لما سمعن من حسنه البديع فإنما قلن هذا القول لتسمعه امرأة العزيز فترسل إليهن ليحضرن عندها فتريهن إياه ليعذرنها فيما عزلنها له فيتخذن ذلك سبيلا إلى أن يراودنه عن نفسه هذا ، والوجه الأول أقرب إلى سياق الآيات.

وقوله : « أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ » معناه معلوم وهو كناية عن الدعوة إلى الحضور عندها.

وقوله : « وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً » الاعتاد الإعداد والتهيئة أي أعدت وهيأت ، والمتكأ بضم الميم وتشديد التاء اسم المفعول من الاتكاء ، والمراد به ما يتكأ عليه من نمرق أو كرسي كما كان معمولا في بيوت العظماء. وفسر المتكأ بالأترج وهو نوع من الفاكهة كما قرئ في الشواذ « مُتَّكَأً » بالضم فالسكون وهو الأترج وقرئ « مُتَّكَأً » بضم الميم وتشديد التاء من غير همز.

وقوله : « وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً » أي لقطع ما يرون أكله من الفاكهة كالأترج أو ما يشابهه من الفواكه المأكولة بالقطع وقوله : « وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ » أي أمرت يوسف أن يخرج عليهن وهن خاليات الأذهان فارغات القلوب مشتغلات بأخذ الفاكهة وقطعها ، وفي اللفظ دلالة على أنه عليه‌السلام كان غائبا عنهن وكان في مخدع هناك أو بيت آخر في داخل بيت المأدبة الذي كن فيه فإنها قالت : « اخْرُجْ عَلَيْهِنَ » ولو كان في خارج من البيت لقالت : « ادخل عليهن ».

وفي السياق دلالة على أن هذا التدبير كان مكرا منها تجاه مكرهن ليفتضحن به فيعذرنها فيما عذلنها وقد أصابت في رأيها حيث نظمت برنامج الملاقاة فاعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا ، وأخفت يوسف عن أعينهن ثم فاجأتهن بإظهاره دفعة لهن ليغبن عن عقولهن ، ويندهشن بذاك الجمال البديع ويأتين بما لا يأتي به ذو شعور البتة وهو تقطيع الأيدي مكان الفواكه لا من الواحدة والثنتين منهن بل من الجميع.

قوله تعالى : « فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ » الإكبار الإعظام وهو كناية عن اندهاشهن وغيبتهن عن شعورهن

١٤٩

وإرادتهن بمفاجأة مشاهدة ذاك الحسن الرائع طبقا للناموس الكوني العام وهو خضوع الصغير للكبير وقهر العظيم للحقير فإذا ظهر العظيم الكبير بعظمته وكبريائه لشعور الإنسان قهر سائر ما في ذهنه من المقاصد والأفكار فأنساها وصار يتخبط في أعماله.

ولذلك لما رأينه قهرت رؤيته شعورهن فقطعن أيديهن تقطيعا مكان الفاكهة التي كن يردن قطعها ، وفي صيغة التفعيل دلالة على الكثرة يقال : قتل القوم تقتيلا وموتهم الجدب تمويتا.

وقوله : « وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ » تنزيه لله سبحانه في أمر يوسف وهذا كقوله تعالى : « ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ » : النور : ١٦ وهو من أدب الكلام عند المليين إذا جرى القول في أمر فيه نوع تنزيه وتبرئة لأحد يبدأ فينزه الله سبحانه ثم يشتغل بتنزيه من أريد تنزيهه فهن لما أردن تنزيهه عليه‌السلام بقولهن « ما هذا بَشَراً » إلخ ، بدأن بتنزيهه تعالى ، ثم أخذن ينزهنه.

وقوله : « ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ » نفي أن يكون يوسف عليه‌السلام بشرا وإثبات أنه ملك كريم ، وهذا بناء على ما يعتقده المليون ومنهم الوثنيون أن الملائكة موجودات شريفة هم مبادئ كل خير وسعادة في العالم منهم يترشح كل حياة وعلم وحسن وبهاء وسرور وسائر ما يتمنى ويؤمل من الأمور ففيهم كل جمال صوري ومعنوي ، وإذا مثلوا تخيلوا في حسن لا يقدر بقدر ، ويتصوره أصحاب الأصنام في صور إنسانية حسنة بهية.

ولعل هذا هو السبب في قولهن : « إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ » حيث لم يصفنه بما يدل على حسن الوجه وجمال المنظر مع أن الذي فعل بهن ما فعل هو حسن وجهه واعتدال صورته بل سمينة ملكا كريما لتكون فيه إشارة إلى حسن صورته وسيرته معا ، وجمال خلقه وخلقه وظاهره وباطنه جميعا. والله أعلم.

وتقدم قولهن هذا على قول امرأة العزيز : « فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ » يدل على أنهن لم يفهمن بهذا الكلام إعذار لامرأة العزيز في حبها له وتيمها وغرامها به ، وإنما كان ذلك اضطرارا منهن على الثناء عليه وإظهارا قهريا لانجذاب نفوسهن وتوله قلوبهن إليه فقد كان فيه فضاحتهن ، ولم تقل امرأة العزيز : « فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ » إلا بعد ما فضحتهن

١٥٠

فعلا وقولا بتقطيع الأيدي وتنزيه الحسن فلم يبق لهن إلا أن يصدقنها فيما تقول ويعذرنها فيما تفعل.

قوله تعالى : « قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ » إلى آخر الآية ، الكلام في موضع دفع الدخل كان قائلا يقول : فما ذا قالت امرأة العزيز لهن؟فقيل : « قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ».

وقد فرعت كلامها على ما تقدمه من قولهن وفعلهن وأشارت إلى شخص الذي لمنها فيه ووصفته بأنه الذي لمنها فيه ليكون هو بعينه جوابا لما رمينها به من ترك شرف بيتها وعزة زوجها وعفة نفسها في حبه ، وعذرا قبال لومهن إياها في مراودته ، وأقوى البيان أن يحال السامع إلى العيان ، ومن هذا الباب قوله تعالى « أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ » : الأنبياء : ٣٦ ، وقوله : « رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا » : الأعراف : ٣٨.

ثم اعترفت بالمراودة وذكرت لهن أنها راودته لكنه أخذ بالعفة وطلب العصمة ، وإنما استرسلت وأظهرت لهن ما لم تزل تخفيه لما رأت موافقة القلوب على التوله فيه فبثت الشكوى لهن ونبهت يوسف أنها غير تاركته فليوطن نفسه على طاعتها فيما تأمر به ، وهذا معنى قولها : « وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ».

ثم ذكرت لهن ما عزمت عليه من إجباره على الموافقة وسياسته لو خالفت فقالت : « وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ » وقد أكدت الكلام بوجوه من التأكيد كالقسم والنون واللام ونحوها ليدل على أنها عزمت على ذلك عزيمة جازمة ، وعندها ما يجبره على ما أرادته ولو استنكف فليوطن نفسه على السجن بعد الراحة ، والصغار والهوان بعد الإكرام والاحترام ، وفي الكلام تجلد ونوع تعزز وتمنع بالنسبة إليهن ونوع تنبيه وتهديد بالنسبة إلى يوسف عليه‌السلام.

وهذا التهديد الذي يتضمنه قولها : « وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ » أشد وأهول مما سألته زوجها يوم المراودة بقولها : « ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ ».

أما أولا : فلأنها رددت الجزاء هناك بين السجن والعذاب الأليم وجمع هاهنا بين الجزاءين

١٥١

وهو السجن والكون من الصاغرين.

وأما ثانيا فلأنها هاهنا قامت بالتهديد بنفسها لا بأن تسأل زوجها ، وكلامها كلام من لا يتردد فيما عزم عليه ولا يرجع عما جزم به. وقد حققت أنها تملك قلب زوجها وتقدر أن تصرفه مما يريده إلى ما تريده ، وتقوى على التصرف في أمره كيفما شاءت؟.

قوله تعالى : « قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ » قال الراغب في المفردات ، : صبا فلان يصبو صبوا وصبوة إذا نزع واشتاق وفعل فعل الصبيان ، قال تعالى : « أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ » انتهى وفي المجمع ، : الصبوة لطافة الهوى. انتهى.

تفاوضت امرأة العزيز والنسوة فقالت وقلن واسترسلن في بت ما في ضمائرهن ويوسف عليه‌السلام واقف أمامهن يدعونه ويراودنه عن نفسه لكن يوسف عليه‌السلام لم يلتفت إليهن ولا كلمهن ولا بكلمة بل رجع إلى ربه الذي ملك قلبه بقلب لا مكان فيه إلا له ولا شغل له إلا به و « قالَ : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ » إلخ.

وقوله هذا ليس بدعاء على نفسه بالسجن وأن يصرف الله عنه ما يدعونه إليه بإلقائه في السجن ، وإنما هو بيان حال لربه وأنه عن تربية إلهية يرجح عذاب السجن في جنب الله على لذة المعصية والبعد منه ، فهذا الكلام منه نظير ما قاله لامرأة العزيز حين خلت به وراودته عن نفسه : « مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » ففي الكلامين معا تمنع وتعزز بالله ، وإنما الفرق أنه يخاطب بأحدهما امرأة العزيز وبالآخر ربه القوي العزيز وليس شيء من الكلامين دعاء البتة.

وفي قوله : « رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ » إلخ ، نوع توطئة لقوله « وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ » إلخ ، الذي هو دعاء في صورة بيان الحال.

فمعنى الآية : رب إني لو خيرت بين السجن وبين ما يدعونني إليه لاخترت السجن على غيره وأسألك أن تصرف عني كيدهن فإنك إن لا تصرف عني كيدهن أنتزع وأمل إليهن وأكن من الجاهلين فإني إنما أتوقى شرهن بعلمك الذي علمتنيه وتصرف به عني كيدهن فإن أمسكت عن إفاضته علي صرت جاهلا ووقعت في مهلكة الصبوة والهوى.

١٥٢

وقد ظهر من الآية بمعونة السياق :

أولا : أن قوله : « رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ » إلخ ، ليس دعاء من يوسف عليه‌السلام على نفسه بالسجن بل بيان حال منه لربه بالإعراض عنهن والرجوع إليه ، ومعنى « أَحَبُّ إِلَيَ » أني أختاره على ما يدعونني إليه لو خيرت ، وليس فيه دلالة على كون ما يدعونه إليه محبوبا عنده بوجه إلا بمقدار ما تدعو إليه داعية الطبع الإنساني والنفس الأمارة.

وإن قوله تعالى : « فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ » إشارة إلى استجابة ما يشتمل عليه قوله : « وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ » إلخ ، من معنى الدعاء. ويؤيده تعقيبه بقوله : « فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ » ، وليس استجابة لدعائه بالسجن على نفسه كما توهمه بعضهم.

ومن الدليل عليه قوله بعد في قصة دخوله السجن : « ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ » ولو كان دعاء بالسجن واستجابة الله سبحانه وقدر له السجن لم يكن التعبير بثم وفصل المعنى عما تقدمه بأنسب فافهم.

وثانيا : أن النسوة دعونه وراودنه كما دعته امرأة العزيز إلى نفسها وراودته عن نفسه ، وأما أنهن دعونه إلى أنفسهن أو إلى امرأة العزيز أو أتين بالأمرين فدعينه بحضرة من امرأة العزيز إليها ثم أسرت كل واحدة منهن داعية إياه إلى نفسها فالآية ساكتة عن ذلك سوى ما يستفاد من قوله : « وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ » إذ لو لا دعوة منهن إلى أنفسهن لم يكن معنى ظاهر للصبوة إليهن.

والذي يشعر به قوله تعالى حكاية عن قوله في السجن لرسول الملك : « ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ ـ إلى أن قال ـ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ » : الآيات : ٥٠ ـ ٥٢ من السورة.

أنهن دعينه إلى امرأة العزيز وقد أشركهن في القصة ثم قال : « لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ » ولم يقل : لم أخن بالغيب ولا قال : لم أخنه وغيره فتدبر فيه.

ومع ذلك فمن المحال عادة أن يرين منه ما يغيبهن عن شعورهن ويدهش عقولهن ويقطعن

١٥٣

أيديهن ثم ينسللن انسلالا ولا يتعرض له أصلا ويذهبن لوجوههن بل العادة قاضية أنهن ما فارقن المجلس إلا وهن متيمات فيه والهات لا يصبحن ولا يمسين إلا وهو همهن وفيه هواهن يفدينه بالنفس ويطمعنه بأي زينة في مقدرتهن ويعرضن له أنفسهن ويتوصلن إلى ما يردنه منه بكل ما يستطعن.

وهو ظاهر مما حكاه الله من يوسف في قوله : « رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ » فإنه لم يعرض عن تكليمهن إلى مناجاة ربه الخبير بحاله السميع لمقاله إلا لشدة الأمر عليه وإحاطة المحنة والمصيبة من ناحيتهن به.

وثالثا : أن تلك القوة القدسية التي استعصم بها يوسف عليه‌السلام كانت كأمر تدريجي يفيض عليه آنا بعد آن من جانب الله سبحانه ، وليست الأمر الدفعي المفروغ عنه وإلا لانقطعت الحاجة إليه تعالى ، ولذا عبر عنه بقوله : « وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي » ولم يقل : وإن لم تصرف عني وإن كانت الجملة الشرطية منسلخة الزمان لكن في الهيئة إشارات.

ولذلك أيضا قال تعالى : « فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ » إلخ فنسب دفع الشر عنه إلى استجابة وصرف جديد.

ورابعا : أن هذه القوة القدسية من قبيل العلوم والمعارف ولذا قال عليه‌السلام : « وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ » ولم يقل : وأكن من الظالمين ، كما قال لامرأة العزيز : « إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » أو أكن من الخائنين كما قال للملك : « وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ » وقد فرق في نحو الخطاب بينهما وبين ربه فخاطبهما بظاهر الأمر رعاية لمنزلتهما في الفهم فقال : إنه ظلم والظالم لا يفلح ، وإنه خيانة والله لا يهدي كيد الخائن ، وخاطب ربه بحقيقة الأمر وهو أن الصبوة إليهن من الجهل.

وستوافيك حقيقة الحال في هذين الأمرين (١) في أبحاث ملحقة بالبيان إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : « فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » أي استجاب الله مسألته في صرف كيدهن عنه حين قال : « وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ »

__________________

(١) أي الأمر الثالث والرابع.

١٥٤

إنه هو السميع بأقوال عباده العليم بأحوالهم.

( أبحاث حول التقوى الديني ودرجاته )

في فصول

١ ـ القانون والأخلاق الكريمة والتوحيد : لا يسعد القانون إلا بإيمان تحفظه الأخلاق الكريمة والأخلاق الكريمة لا تتم إلا بالتوحيد فالتوحيد هو الأصل الذي عليه تنمو شجرة السعادة الإنسانية وتتفرع بالأخلاق الكريمة ، وهذه الفروع هي التي تثمر ثمراتها الطيبة في المجتمع ، قال تعالى : « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ » : إبراهيم : ٢٦. فجعل الإيمان بالله كشجرة لها أصل وهو التوحيد لا محالة وأكل تؤتيه كل حين بإذن ربها » وهو العمل الصالح ، وفرع وهو الخلق الكريم كالتقوى والعفة والمعرفة والشجاعة والعدالة والرحمة ونظائرها.

وقال تعالى : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » : الفاطر : ١٠ فجعل سعادة الصعود إلى الله وهو القرب منه تعالى للكلم الطيب وهو الاعتقاد الحق وجعل العمل الذي يصلح له ويناسبه هو الذي يرفعه ويمده في صعوده.

بيان ذلك : أن من المعلوم أن الإنسان لا يتم له كماله النوعي ولا يسعد في حياته التي لا بغية له أعظم من إسعادها إلا باجتماع من أفراد يتعاونون على أعمال الحياة على ما فيها من الكثرة والتنوع وليس يقوى الواحد من الإنسان على الإتيان بها جميعا.

وهذا هو الذي أحوج الإنسان الاجتماعي إلى أن يتسنن بسنن وقوانين يحفظ بها حقوق الأفراد عن الضيعة والفساد حتى يعمل كل منهم ما في وسعه العمل به ثم يبادلوا أعمالهم فينال كل من النتائج المعدة ما يعادل عمله ويقدره وزنه الاجتماعي من غير أن يظلم القوي المقتدر أو يظلم الضعيف العاجز.

ومن المسلم أن هذه السنن والقوانين لا تثبت مؤثرة إلا بسنن وقوانين أخرى جزائية

١٥٥

تهدد المتخلفين عن السنن والقوانين المتعدين على حقوق ذوي الحقوق ، وتخوفهم بالسيئة قبال السيئة وبأخرى تشوقهم وترغبهم في عمل الخيرات وتضمن إجراء الجميع القوة الحاكمة التي تحكم فيهم وتتسيطر عليهم بالعدل والصدق.

وإنما تتحقق هذه الأمنية إذا كانت القوة المجرية للقوانين عالمة بالجرم وقوية على المجرم ، وأما إذا جهلت ووقع الأجرام على جهل منها أو غفلة ـ وكم له من وجود ـ فلا مانع يمنع من تحققه ، والقوانين لا أيدي لها تبطش بها ، وكذا إذا ضعفت الحكومة بفقد القوى اللازمة أو مساهلة في السياسة والعمل فظهر عليها المجرم أو كان المجرم أشد قوة ضاعت القوانين وفشت التخلفات والتعديات على حقوق الناس ، والإنسان ـ كما مر مرارا في المباحث السابقة من هذا الكتاب ـ مستخدم بالطبع يجر النفع إلى نفسه ولو أضر غيره.

ويشتد هذا البلوى إذا تمركزت هذه القوة في القوة المجرية أو من يتولى أزمة جميع الأمور فاستضعف الناس وسلب منهم القدرة على رده إلى العدل وتقويمه بالحق فصار ذا قوة وشوكة لا يقاوم في قوته ولا يعارض في إرادته.

والتواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة والطواغيت وتحكماتهم الجائرة على الناس ، وهو ذا نصب أعيننا في أكثر أقطار الأرض.

فالقوانين والسنن وإن كانت عادلة في حدود مفاهيمها ، وأحكام الجزاء وإن كانت بالغة في شدتها لا تجري على رسلها في المجتمع ولا تسد باب الخلاف وطريق التخلف إلا بأخلاق فاضلة إنسانية تقطع دابر الظلم والفساد كملكة اتباع الحق واحترام الإنسانية والعدالة والكرامة والحياة ونشر الرحمة ونظائرها.

ولا يغرنك ما تشاهده من القوة والشوكة في الأمم الراقية والانتظام والعدل الظاهر فيما بينهم ولم يوضع قوانينهم على أسس أخلاقية حيث لا ضامن لإجرائها فإنهم أمم يفكرون فكرة اجتماعية لا يرى الفرد منهم إلا نفع الأمة وخيرها ولا يدفع إلا ما يضر أمته ، ولا هم لأمته إلا استرقاق سائر الأمم الضعيفة واستدرارهم ، واستعمار بلادهم ، واستباحة نفوسهم وأعراضهم وأموالهم فلم يورثهم هذا التقدم والرقي إلا نقل ما كان يحمله الجبابرة الماضون على الأفراد إلى المجتمعات فقامت الأمة اليوم مقام الفرد بالأمس ،

١٥٦

وهجرت الألفاظ معانيها إلى أضدادها تطلق الحرية والشرافة والعدالة والفضيلة ولا يراد بها إلا الرقية والخسة والظلم والرذيلة.

وبالجملة السنن والقوانين لا تأمن التخلف والضيعة إلا إذا تأسست على أخلاق كريمة إنسانية واستظهرت بها.

ثم الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع ولا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلا إذا اعتمدت على التوحيد وهو الإيمان بأن للعالم ـ ومنه الإنسان ـ إلها واحدا سرمديا لا يعزب عن علمه شيء ، ولا يغلب في قدرته عن أحد خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها وسيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بإساءته ثم يخلدون منعمين أو معذبين.

ومن المعلوم أن الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان هم إلا مراقبة رضاه تعالى في أعماله ، وكان التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم ولو لا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة عقيدة التوحيد لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلا التمتع بمتاع الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية ، وأقصى ما يمكنه أن يعدل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعية الحيوية أن يفكر في نفسه أن من الواجب عليه أن يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشي وللاجتماع من الفساد ، وإن من اللازم عليه أن يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي ، ويثني عليه الناس ويمدحوه ما دام حيا أو يكتب اسمه في أوراق التاريخ بخطوط ذهبية.

أما ثناء الناس وتقديرهم العمل فإنما يجري في أمور هامة علموا بها أما الجزئيات وما لم يعلموا بها كالأعمال السرية فلا وقاء يقيها وأما الذكر الجاري والاسم السامي ويؤثر غالبا فيما فيه تفدية وتضحية من الأمور كالقتل في سبيل الوطن وبذل المال والوقت في ترفيع مباني الدولة ونحو ذلك فليس ممن يبتغيه ويذعن به ثم لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا إلا اعتقادا خرافيا إذ لا إنسان ـ على هذا ـ بعد الموت والفوت حتى يعود إليه شيء من النفع بثناء أو حسن ذكر وأي عاقل يشتري تمتع غيره بحرمان نفسه من غير أي فائدة عائدة أو يقدم الحياة لغيره باختيار الموت لنفسه وليس عنده بعد الموت إلا البطلان والاعتقاد الخرافي يزول بأدنى تنبه والتفات.

١٥٧

فقد تبين أن شيئا عن هذه الأمور ليس من شأنه أن يقوم مقام التوحيد ، ولا أن يخلفه في صد الإنسان عن المعصية ونقض السنن والقوانين وخاصة إذا كان العمل مما من طبعه أن لا يظهر للناس وخاصة إذا كان من طبعه أن لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه لأسباب تقتضي ذلك كالتعفف الذي يزعم أنه كان شرها وبغيا كما تقدم من حديث مراودة امرأة العزيز يوسف عليه‌السلام ، وقد كان أمره يدور بين خيانة العزيز في امرأته وبين اتهام المرأة إياه عند العزيز بقصدها بالسوء فلم يمنعه عليه‌السلام ـ ولا كان من الحري أن يمنعه ـ شيء إلا العلم بمقام ربه.

٢ ـ يحصل التقوى الديني بأحد أمور ثلاثة وإن شئت فقل : إنه سبحانه يعبد بأحد طرق ثلاثة : الخوف والرجاء والحب ، قال تعالى : « فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ » : الحديد : ٢٠ فعلى المؤمن أن يتنبه لحقيقة الدنيا وهي أنها متاع الغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فعليه أن لا يجلعها غاية لأعماله في الحياة ، وأن يعلم أن له وراءها دارا وهي الدار الآخرة فيها ينال غاية أعماله ، وهي عذاب شديد للسيئات يجب أن يخافه ويخاف الله فيه ، ومغفرة من الله قبال أعماله الصالحة يجب أن يرجوها ويرجو الله فيها ، ورضوان من الله يجب أن يقدمه لرضى نفسه.

وطباع الناس مختلفة في إيثار هذه الطرق الثلاثة واختيارها فبعضهم وهو الغالب يغلب على نفسه الخوف ، وكلما فكر فيما أوعد الله الظالمين والذين ارتكبوا المعاصي والذنوب من أنواع العذاب الذي أعد لهم زاد في نفسه خوفا ولفرائصه ارتعادا ويساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفا من عذابه.

وبعضهم يغلب على نفسه الرجاء وكلما فكر فيما وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة زاد رجاء وبالغ في التقوى والتزام الأعمال الصالحات طمعا في المغفرة والجنة.

وطائفة ثالثا وهم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه ولا طمعا في ثوابه وإنما يعبدونه لأنه أهل للعبادة وذلك لأنهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى والصفات العليا فعلموا أنه ربهم الذي يملكهم وإرادتهم ورضاهم وكل شيء غيرهم ، ويدبر الأمر

١٥٨

وحده وليسوا إلا عباد الله فحسب ، وليس للعبد إلا أن يعبد ربه ، ويقدم مرضاته وإرادته على مرضاته وإرادته ، فهم يعبدون الله ولا يريدون في شيء من أعمالهم فعلا أو تركا إلا وجهه ، ولا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوفهم ، ولا إلى ثواب يرجيهم ، وإن خافوا عذابه ورجوا رحمته ، وإلى هذا يشير قوله عليه‌السلام : « ما عبدتك خوفا من نارك ولا رغبة في جنتك ـ بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ».

وهؤلاء لما خصوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضات ربهم ومحضوا أعمالهم في طلب غاية هو ربهم تظهر في قلوبهم المحبة الإلهية وذلك أنهم يعرفون ربهم بما عرفهم به نفسه ، وقد سمى نفسه بأحسن الأسماء ووصف ذاته بكل صفة جميلة ومن خاصة النفس الإنسانية أن تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الإطلاق وقال تعالى : « ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ » : الأنعام : ١٠٢ ثم قال : « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » : الم السجدة : ٧ فأفاد أن الخلقة تدور مدار الحسن وأنهما متلازمان متصادقان ثم ذكر سبحانه في آيات كثيرة أن ما خلقه من شيء آية تدل عليه وإن في السماوات والأرض لآيات لأولي الألباب فليس في الوجود ما لا يدل عليه تعالى ولا يحكي شيئا من جماله وجلاله.

فالأشياء من جهة أنواع خلقها وحسنها تدل على جماله الذي لا يتناهى ويحمده ويثني على حسنه الذي لا يفنى ، ومن جهة ما فيها من أنواع النقص والحاجة تدل على غناه المطلق وتسبح وتنزه ساحة القدس والكبرياء كما قال تعالى : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ » : إسراء : ٤٤.

فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريق هداهم إليه ربهم وعرفها لهم وهو أنها آيات له وعلامات لصفات جماله وجلاله ، وليس لها من النفسية والأصالة والاستقلال إلا أنها كمرائي تجلى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي وبفقرها وحاجتها ما أحاط بها من الغنى المطلق ، وبذلتها واستكانتها ما فوقها من العزة والكبرياء ، ولا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون أن تنجذب نفسه إلى ساحة العزة والعظمة ويغشى قلبه من المحبة الإلهية ما ينسيه نفسه وكل شيء ، ويمحو رسم الأهواء والأميال النفسانية عن باطنه ، ويبدل فؤاده قلبا سليما ليس فيه إلا الله عز اسمه قال تعالى : « وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ » : البقرة : ١٦٥.

ولذلك يرى أهل هذا الطريق أن الطريقين الآخرين أعني طريق العبادة خوفا

١٥٩

وطريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك فإن الذي يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه كما أن من يعبده طمعا في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة ، ولو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده ولا حام حول معرفته ، وقد تقدمت الرواية ـ عن الصادق عليه‌السلام : « هل الدين إلا الحب » وقوله عليه‌السلام في حديث : « وإني أعبده حبا له وهذا مقام مكنون ـ لا يمسه إلا المطهرون » الحديث ، وإنما كان أهل الحب مطهرين لتنزههم عن الأهواء النفسانية والألواث المادية فلا يتم الإخلاص في العبادة إلا من طريق الحب.

٣ ـ كيف يورث الحب الإخلاص؟ عبادته تعالى : خوفا من العذاب تبعث الإنسان إلى التروك وهو الزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة فالزاهد من شأنه أن يتجنب المحرمات أو ما في معنى الحرام أعني ترك الواجبات ، وعبادته تعالى طمعا في الثواب تبعث إلى الأفعال وهو العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نعم الآخرة والجنة فالعابد من شأنه أن يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب وهو ترك الحرام ، والطريقان معا إنما يدعوان إلى الإخلاص للدين لا لرب الدين.

وأما محبة الله سبحانه فإنها تطهر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا وزينتها من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتى النفس وما لها من حظوظ وآمال ، وتقصر القلب في التعلق به تعالى وبما ينسب إليه من دين أو نبي أو ولي وسائر ما يرجع إليه تعالى بوجه فإن حب الشيء حب لآثاره.

فهذا الإنسان يحب من الأعمال ما يحبه الله ويبغض منها ما يبغضه الله ويرضى برضا الله ولرضاه ويغضب بغضب الله ولغضبه ، وهو النور الذي يضيء له طريق العمل ، قال تعالى : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ » : الأنعام : ١٢٢. والروح الذي يشير إليه بالخيرات والأعمال الصالحات ، قال تعالى : « وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » : المجادلة : ٢٢ وهذا هو السر في أنه لا يقع منه إلا الجميل والخير ويتجنب كل مكروه وشر.

وأما الموجودات الكونية والحوادث الواقعة فإنه لا يقع بصره على شيء منها خطير أو حقير ، كثير أو يسير إلا أحبه واستحسنه لأنه لا يرى منها إلا أنها آيات محضة تجلى له

١٦٠