سلمان الفارسي في مواجهة التحدّي

السيد جعفر مرتضى العاملي

سلمان الفارسي في مواجهة التحدّي

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣
٦١

الفصل الرابع

يعارضهم .. ويشاركهم (!!)

٦٢
٦٣

مشاركة المعارضة في الحكم :

ولعله يصح لنا : أن نعتبر أمثال سلمان الفارسي ، وعمار بن ياسر ، والاشتر وو ... إلخ. من الفئة التي كانت تعارض الحكم القائم آنذاك وتنتقده ، على اعتبار : أن هؤلاء ، ونظائرهم ، كانوا يرون : أن الخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هي من حق علي أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ؛ استناداً إلى كثير من المواقف ، والاقوال ، والنصوص ، التي رأوها وسمعوها من النبيّ الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرون أيضاً أن الآخرين قد تعدّوا وظلموا علياً عليه‌السلام في هذا الأمر ، واستأثروا به دونه ..

بل إن المعتزلي الحنفي يروي لنا : عن البراء بن عازب: أنه حين بويع أبو بكر رآه ـ البراء ـ أقبل ومعه عمر ، وأبو عبيدة ، وجماعة ؛ لا يرون أحداً إلا خبطوه ، وقدموه ؛ فمدوا يده ؛ فمسحوها على يد أبي بكر ، يبايعه ، شاء ذلك أم أبى.

قال البراء : « فأنكرت عقلي ، وخرجت أشتد ، حتى انتهيت إلى بني هاشم ، والباب مغلق .. إلى أن قال :

فمكثت اكابد ما في نفسي ، ورأيت في الليل : المقداد ، وسلمان ، وأبا ذر ، وعبادة بن الصامت ، وأبا الهيثم بن التيهان ، وحذيفة ، وعماراً ، وهم يريدون أن

٦٤

يعيدوا الاُمر شورى بين المهاجرين » (١).

إلى غير ذلك من نصوص اُخرى توضح معارضة هؤلاء لانحراف الامر عن علي عليه‌السلام ، فليراجعها من أراد.

السؤال الصريح :

وهنا يرد سؤال ، لابد من الاجابة عليه ، وهو :

أننا نرى هؤلاء وسواهم ، ممن هم على رأيهم ، في مواقع قيادية في هيكلية نفس هذا الحكم الذي يعارضونه ، ولا يرون مشروعية (٢) ، فهذا يلي الكوفة ، كعمار ، وذاك يلي المدائن ، كسلمان ، وذلك كالاشتر وحذيفة يتولى قيادة الجيوش ، أو يشارك في الحروب .. وهكذا ..

مع أن المعروف والمتوقع من الفئة المعارضة ، هو أن تقاطع الحكم ، وترفض المشاركة فيه .. كما أن الفئة الموالية هي التي تستأثر بالمراكز ، ولا تسمح للخصوم بالمشاركة والوصول إليها ما وجدت إلى ذلك سبيلاً .. فما هو السر في مشاركة هؤلاء؟ ، وما هو السر في قبول أولئك؟

إجابة واضحة :

ونحن في مقام الاجابة على ذلك نشير إلى النقاط التالية :

أ : إن هؤلاء الاشخاص ، وهو النخبة الخيِّرة ، والطليعة الواعية ، من صحابة الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى رأسهم سيدهم ، وأميرهم ، وقائدهم علي عليه‌السلام .. قد رباهم الاسلام ، وذابوا وانصهروا في تعاليمه ، ولم

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، للمعتزلي الخنفي ج ١ ص ٢١٩/٢٢٠ وج ٢ ص ٥١/٥٢.

(٢) استدل بذلك المعتزلي الحنفي في شرح نهج البلاغة ج ١٨ ص ٣٩ واستنتج : أن هؤلاء لم يكونوا من المعارضة ، والا لما شاركوا في السلطة.

٦٥

يكن يهمهم إلاّ رضا الله سبحانه ، وظهور الدين ، وفلج الحق ، ولا يغضبون إلا لله تعالى ، ولا يرضون إلا لرضاه ، مهما كان ذلك صعباً ، ومراً بالنسبة إليهم ..

وإذا كان علي امير المؤمنين عليه‌السلام على استعداد لتحمل الهجوم عليه في بيته ، وضرب زوجته ، وهي بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واسقاط جنينها ، واستصفاء أموالها ـ بل لقد روي أن عثمان قد ضرب علياً نفسه مباشرة (١) ـ إلى غير ذلك مما واجهه عليه‌السلام ، من الاهانات الكثيرة ، والرزايا الخطيرة ، مما هو معروف ، ومشهور ومسطور.

إذا كان علي عليه‌السلام على استعداد لتحمل ذلك .. فانه هو نفسه ذلك الذي يشهر سيفه بعد خمس وعشرين سنة من تحمل الظلم ، ويخوض الحروب الطاحنة ، التي تستأصل عشرات الالوف من الناس.

ما ذلك إلا لانه رأى في السكوت أولاً رضا ‏الله سبحانه ؛ فيرضى به ؛ يقول : لاسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ، ويرى في الحرب أخيراً عملاً بالتكليف الشرعي ، فلا يتوانى فيه ؛ ولا يتردّد ..

وكذلك الحال بالنسبة لهؤلاء الصفوة الاخيار من اصحابه عليه‌السلام ، فانهم لا يقدمون إلاّ على ما يرون فيه رضا الله سبحانه ، وظهور دينه ، وصلاح عباده ..

ب : وبعد .. فان علياً عليه الصلاة والسلام ، وأصحابه الاكارم رضوان الله تعالى عليهم يرون : أن الاسلام يرفض السلبية ، من أجل السلبية نفسها؛ فانها تعني العجز ، والانهزامية ، والهروب من مواجهة الواقع ، وتحمل مسؤولياته ، لان هذه سلبية مضرة وهدامة ، وممقوتة.

كما أن هؤلاء الصفوة لا يرون في الحكم مكسباً شخصياً ، ولا مطلباً فردياً ، لابد من التضحية بكل شيء من أجله ، وفي سبيله ، وإنما يرون فيه مسؤولية ،

__________________

(١) الموفقيات ص ٦١٢ القسم الضائع من الموفقيات. وشرح النهج للمعتزلي ج ٩ ص ١٦.

٦٦

وفرصة لتحقيق رضا الله سبحانه بخدمة عباده ، ورعايتهم وهدايتهم.

ويرون كذلك : أن الايجابية هي أساس الحياة ، ورائد العمل ، وطريق النجاة .. وحتى حينما يتخذون بعض المواقف ، التي تكون سلبية بظاهرها ، فانما تكون سلبية من موقع المسؤولية ، يراد لها : أن تتمخض عن إيجابية بنّاءة وخيِّرة ، تعود بالخير وبالبركات ، حينما يقصد منها : أن تكون اسلوباً لتذليل الصعوبات ، وازالة الموانع من طريق العمل والعاملين.

ولاجل ذلك نجد أمير المؤمنين عليه‌السلام ، الذي ذاق الأمرّين ، من غصب حقه ، والهجوم على بيته ، ومنع زوجته إرثها ونحلتها من أبيها .. إلى كثير من الاهانات والموبقات الكثيرة التي ارتكبت في حقه صلوات الله وسلامه عليه ، من قبل الذين بيدهم ازمة الامور بالفعل ، الامر الذي يجعل الجميع يتوقعون منه السلبية المطلقة في تعامله مع هؤلاء الذين غصبوه حقه ، وصغروا عظيم منزلته على حد تعبيره.

نعم .. إننا نجده عليه‌السلام يخالف كل التوقعات ، ويتجاوز جميع التصورات ، فهو يهتم بإقامة علاقات مع نفس هؤلاء الغاصبين ، تكاد تكون طبيعية ، ويشارك في كثير من الامور بمستوى معين ، ويقدم لهم النصح ، ويعطي رأي الاسلام الاصيل في كل كبيرة وصغيرة ، كلما أمكنته الفرصة ، ووجد إلى ذلك سبيلاً ، ولا يألوا جهداً في تقديم العون لهم في كل ما فيه نصرة للدين ، وخير ومصلحة المسلمين .. ولعلهم كانوا غير راغبين كثيراً بالاستجابة لمبادراته هذه ..

ثم هو يعطي الضابطة لمسلكيته هذه ، حين يقول :

« .. فوالله ، لاسلمنّ ما سلمت امور المسلمين ، ولم يكن فيها جور إلاّ علي خاصة ، التماساً لاجر ذلك وفضله ، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه » (١).

__________________

(١) نهج البلاغة بشرح عبده ج ١ ص ١٢٠/١٢١ ، الخطبة رقم ٧١.

٦٧

ولكن هذه المعونة وتلك المشاركة .. قد رافقها الحفاظ على اصالة خطه الرسالي ، ومواصلة اظهار المظلومية ، والشكوى من انحرافهم عن الجادة ، ومخالفتهم للنبيّ الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

نعم .. وهذه هي المشاركة البنّاءة ، والتي هي في خط الرسالة وخدمة لها.

وأما حين تكون المشاركة إمضاءً لممارسات الحكم اللامشروعة ، وسبباً ، أو فقل : عاملاً مساعداً في تركيز الانحراف ، وفي زيادة البعد عن الخط الاسلامي الاصيل .. وحيث يصبح الانسان أداةً بيد الحكم ، يستفيد منها لتكريس انحرافاته ، وتبرير أخطائه ، أو يتخذ منه واجهة تختفي وراءها شتى أنواع الفساد والظلم ، والهرطقة ، واللادينية .. فان هذه المشاركة تصبح خيانة للامة ، وللدين ، ولانسانية الانسان ، مهما كان ذلك الرجل شريفاً ، ونبيلاً في نفسه ، ومستقيم الطريقة في سلوكه الشخصي ، وفي ملكاته النفسية الخاصة ..

ولاجل ذلك نجد الائمة عليهم‌السلام ، ليس فقط لا يشاركون في الحكم الاموي والعباسي ، ولا يمدون لهما يد العون .. وإنما يعتبرون أدنى عون ، أو تأييد له ، حتى ولو بمثل أن يؤجّر الرجل جماله للحاكم ؛ ليحج عليها ، الامر الذي يستلزم أن يحب بقاء ذلك الحاكم الظالم حياً ، إلى حين انتهاء مدة الاجارة (١) يعتبرون حتى هذا القدر ، من الذنوب الكبيرة ، والجرائم الخطيرة ، التي لا يمكن التساهل فيها ، أو الاغضاء عنها ..

ج : وأما في صدر الاسلام ، حيث دور التأسيس ، وتركيز وتعميق القيم والمفاهيم الاسلامية ، والاساسية ، وحيث كان لابد من تأصيل الاصول ، ونشأة العقائد وتكونها ، الاُمر الذي يستدعي طرح وتركيز العقائد الصحيحة ، ورعايتها ، والحفاظ عليها ، وطرد كل ما هو دخيل ، وغريب .. فان أي انحراف ، أو تساهل ، لسوف يترك أثره على اصل الاسلام وأساسه ، ومفاهيمه ومبانيه ،

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ، المعروف برجال الكشي ص ٤٤١ وقاموس الرجال ج ٥ ص ١٢٧.

٦٨

ولسوف لا يختص ذلك بجيل دون جيل ، ولابامة دون اخرى ، بل ستبقى تلك الآثار على مر الدهور ، وفي جميع العصور.

وذلك يؤكد ضرورة وجود شخصية قوية وفاعلة ، واضحة الاتجاه ، سليمة الخط ، لا تذوب في الآخرين ، ولا تنفذ ارادات الحكم بصورة عمياء ، بل تزن كل شيء بميزان الحق والشرع ، وعلى أساس ذلك يكون الرفض أو القبول ..

ثم يسجل التاريخ ذلك ، إلى أن يأتي اليوم الذي تعي فيه الامة أحداث الماضي ، وتصبح قادرة على وضع الامور في نصابها ، وتجد الدوافع ، وتتهيأ الظروف للتعرف على الاسلام الحقيقي ، ولو بصورة تدريجية ، كما حصل ذلك ، ولا يزال يحصل بالفعل ..

د : ولا يتأتى القيام بهذه المهمة ، إلاّ بشيء من المرونة والايجابية ، ضمن حدود ، وبالمقدار الذي لا تضيع معه معالم الخط السياسي الاصيل ، ولا تذوب فيه هذه الفئة الصالحة ، ولا تستهلك أفكارها ورؤيتها في خضم التيار ، وإنما تطرح نفسها ، وافكارها ، وطروحاتها الواقعية ، التي تختزل التيار ، وتحتويه ؛ ليكون تياراً واعياً ومسؤولاً ، ولو على المدى البعيد ، بعد حين ..

وإذا كانت سياسة الحكم والحكومات ، قد كانت تتجه إلى إيجاد بدائل لاُهل البيت ، ولصحابتهم الاخيار ، الذين كانوا علماء الامة ، واكابر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذين كان لاقوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم ، وفي بيان فضلهم ، وعلمهم ، وتقواهم ، أثر كبير في توجيه الناس نحو الاُخذ والاستفادة منهم ، واتخاذهم قدوة واسوة ، فان السلطة ، والقرشيين بالذات ، قد عملت على أن ينسى الناس أهل البيت ، وكل الاخيار ، من أصحابهم ، وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. ليحل محلهم آخرون ، ينسجمون مع طروحات الحكم وطموحاته .. فكان أن مجدوا هؤلاء البدائل وعظموهم وأطروهم ، بما لا مزيد عليه ، حتى ليخيل للناظر :

٦٩

أن هؤلاء ، وهؤلاء فقط ، هم شخصيات الاسلام ، ورجالاته ، وعظماء الامة وروادها.

مهما كانوا ـ في واقع الاُمر ـ منحرفين عن الاسلام وجاهلين بأحكامه ، وبعيدين عن مفاهيمه وتعاليمه ..

حتى لقد نسي الناس أهل البيت ، وخبت نارهم ، وانقطع صوتهم وصيتهم ، وقد أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى هذه الحقيقة ، وهو يتحدث عن الفتوحات ، التي لولا مشاركة الاخيار من الصحابة فيها ، لكانت وبالاً على الدين ، وشراً على المسلمين. ولكن مشاركة هؤلاء قد هيأت الفرصة لتعرف الكثيرين من غير العرب على تعاليم الاسلام ، بل لم تمض بضعة عقود من الزمن حتى أصبح علماء وفقهاء الاسلام ، ومفكروه من نفس هؤلاء الذين كان الحكم يريد أن يستعبدهم ، ويتخذهم خولاً واموالهم دولاً كما سنرى ..

نعم لقد اشار أمير المؤمنين إلى هذه الحقيقة ، وهو يتحدث عن هذه الفتوحات ؛ فقال : « فتأكد عند الناس نباهة قوم ، وخمول آخرين ، فكنا نحن ممن خمل ذكره ، وخبت ناره ، وانقطع صوته وصيته ، حتى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والاحقاب بما فيها ، ومات كثير ممن يعرف ، ونشأ كثير ممن لا يعرف » (١).

ويكفي أن نشير هنا : إلى مكانة وموقع الامامين الحسن والحسين عليهما‌السلام في الامة ، هي من الامور الواضحة ، التي لا يكاد يجهلها أحد ، وكانت الامة قد سمعت ورأت الكثير من أقوال ومواقف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاههما .. ورغم أنهما قد عاشا بعد النبيّ الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حوالي أربعين إلى خمسين سنة أو أكثر ، فاننا لا نجد فيما بأيدينا من نصوص إلاّ ما ندر وشذ : أنهما قد سئلا ، أو نقل عنهما شيء من امور الفقه ، والمعارف

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٢٠ ص ٢٩٩.

٧٠

الاسلامية .. رغم أنهما كانا يعيشان مع الناس ، ويتعاملان معهم ، وكانت الامة تعرف موقعهما ومكانتهما وحقهما.

هذا مع أن الجهل بالاسلام وبتعاليمه قد بلغ حداً جعل أمير المؤمنين عليه‌السلام يعتبر : أنه لم يبق من الاسلام إلاّ إسمه ، ومن الدين إلا رسمه.

كما أن البعض قد أوضح أنه لم يبق من الدين إلاّ الاذان بالصلاة ، إلى غير ذلك من نصوص ذكرنا شطراً منها في كتابنا : الصحيح من سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في تمهيد الكتاب ـ.

وخلاصة الامر : إن سياسة الحكام وقريش بالذات كانت هي ابعاد أهل البيت عليهم‌السلام والاخبار من صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الساحة ، وايجاد بدائل عنهم في مختلف المجالات.

وقد كانت مصلحة الاسلام تقضي بمقاومة هذه السياسة وافشالها ، ولا أقل من ابقاء صوت أهل البيت ، والخلَّص من رجالات الاسلام ، الذي هو صوت الدين والحق والخير ، بحيث يسمعه الناس البسطاء ، الذين يسعدهم أن يسمعوا شيئاً عن نبيهم ، ويعرفوا ما جاء به ، إذ لماذا يسمعون فقط من صنائع الحكم ومن أصحاب الاهواء والمآرب السياسية وغيرها ، من امثال سمرة بن جندب ، وعمرو بن العاص ، وكعب الاحبار ، وابن سلام ، وأبي هريرة ، والوليد بن عقبة وغيرهم؟!

نعم .. لماذا يسمعون فقط من هؤلاء ويتركز في أذهانهم مفهوم خاطىء ، وهو أن هؤلاء يمثلون النموذج الحي لتربية الاسلام وهم المصدر لمعارفه وتعاليمه؟!

ولماذا لا يتعرفون على عمار بن ياسر ، وعلى سلمان ، وغيرهما من أخيار الصحابة ، وابرار الامة وعلماء الاسلام الحقيقيين؟! وليرجع الناس إلى فطرتهم ، وإلى عقولهم ، فانهم لسوف يكونون قادرين ـ ولو بعد حين ـ على التمييز ، والتعرف ، ثم

٧١

اختيار العلماء الحقيقيين ، والاخيار ، والابتعاد عن المزيفين ، أصحاب الاهواء ، ووعاظ السلاطين ، الذين هم صنائع الحكم والحاكمين.

وأمّا بعد أن تأسّس أساس الاسلام ، واتضحت معالمه ، وظهرت شرائعه واحكامه كما هو الحال في زمن الامويين والعباسيين ، فان المشاركة في الحكم لا تعني إلا الاعانة على الظلم والانحراف ، وتبرير جرائم الحكم والحكام ، والموبقات التي يرتكبونها .. وليكون هؤلاء الواجهة التي تختفي وراءها كل المفاسد ، والمعول الذي يهدم به اساس الاسلام ، وإذن .. فلا تجوز المشاركة ، ولا مدّ يد العون لهم ، ولو بمثل أن يكري الرجل جمله للحاكم ليحج عليه .. اللهم إلاّ أن يكون في موقع حساس يسمح له بأن يقوم بخدمة كبرى للاسلام وللمسلمين ، كأن يمنع من استئصال شأفة المؤمنين ، ويحفظ لهم ولو الحد الادنى من وجودهم ، إما مباشرة ، أو بأن يكون في مركز يخوله الاطلاع على خطط الحكم ومؤامراته ، ليمكن مواجهتها بالموقف المرن والمسؤول ، ومن موقع الوعي والحذر ..

هذا كلّه .. بالنسبة لمشاركة هؤلاء في الحكم .. وأما بالنسبة لاشراك الحكام لهؤلاء فيظهر : أنه كان لاهداف غير حميدة ، ولعل المراد اسكاتهم ، أو تلويثهم ، أو اظهار مشروعية حكمهم .. إلى غير ذلك من اهداف ، لسنا هنا بصدد تتبعها ولعل فيما ذكرنا ـ حول أهداف المأمون من تولية الامام الرضا عليه‌السلام العهد بعده ـ ما يفيد في هذا المجال.

بل لقد قال ابن شهرآشوب : « كان عمر وجّه سلمان أميراً إلى المدائن ، وانما أراد له الختلة ، فلم يفعل إلاّ بعد أن استأذن أمير المؤمنين ، فمضى فاقام بها إلى أن توفي ، وكان يحطب في عباءة يفترش نصفها .. إلخ » (١).

__________________

(١) الدرجات الرفيعة ص ٢١٥.

٧٢
٧٣

الباب الثاني

سياسات ... ونتائج ...

٧٤
٧٥

الفصل الاُوّل :

في مواجهة التحدّي

٧٦
٧٧

بداية :

التمييز العنصري معناه : أن يُعطى أحد امتيازاً على أساس العرق ، أو اللون ، أو ما إلى ذلك ، ويحرم الآخرون ، أو يظلمون على هذا الاساس أيضاً ..

وهو من الامور القبيحة ، التي ترفضها الفطرة ، ويدينها العقل ، ويأباها ، وينكرها الوجدان ، حتى من قبل الكثيرين ، من الذين يمارسونه عملاً ، ويحاولون إعطاءه طابعاً تضليلياً ، أو لوناً حضارياً خادعاً ..

وليس التمييز العنصري هذا بالامر الجديد ، والمستحدث ، وإنما هو قديم ، قديم ، حتى لقد اعطي صفة القداسة ، والبس لباس الشرعية ، حينما اعتبره اليهود ، أحد تعاليمهم الدينية الاساسية ، التي يتعاملون مع الآخرين على أساسها ..

الاسلام يرفض سياسة التمييز العنصري :

إن من الواضح : أن رأي الاسلام الواقعي هو أنه ليس لعربي على عجمي فضل إلاّ بالتقوى ، كما قرره نبي الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع (١).

__________________

(١) العقد الفريد ج ٣ ص ٤٠٤ و ٤٠٨ وتاريخ اليعقوبي ط النجف ج ٢ ص ٩١ ومجمع الزوائد ج ٣ ص ٣٦٦ و ٢٧٢ وزاد المعاد ج ٢ ص ٢٢٦ والغدير ج ٦ ص ١٨٨ والبيان والتبيين ج ٢ ص ٣٣.

٧٨

كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اعتبر أن كل : من ولد في الاسلام فهو عربي ، ومن دخل في الاسلام طوعاً فهو مهاجري (١) ورويت الفقرة الاولى التي تشير إلى معيار العروبة للانسان عن الامام الباقر عليه الصلاة والسلام (٢).

وعن أبي هريرة ، رفعه ، قال : « من تكلم بالعربية فهو عربي ومن أدرك له أبوان (أو اثنان) في الاسلام ، فهو عربي (٣).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنه صعد المنبر يوم فتح مكة ، وقال : « أيها الناس ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتفاخرها بآبائها. الا إنكم من آدم ، وآدم من طين. الا إن خيار عباد الله عبد اتّقاه ، إن العربية ليست بأب والد ، ولكنها لسان ناطق ، فمن قصر به عمله ، لم يبلغه حسبه ... إلخ .. » (٤).

وسيأتي في جواب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقيس بن مطاطية قوله : من تكلم بالعربية فهو عربي ..

وعن أنسب بن مالك ، قال :

« كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موليان : حبشي ، وقبطي؛ فاستبّا يوماً ؛ فقال أحدهما : يا حبشي. وقال الآخر : يا قبطي.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تقولوا هكذا .. إنما أنتما رجلان من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥).

وبعد .. فقد قال الله تعالى : يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا انّ اكرمكم عند الله اتقاكم (٦).

__________________

(١) راجع : الجعفريات ص ١٨٥ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٣ ص ٢٠٧ عنه ومستدرك وسائل الشيعة ج ٢ ص ٢٦٨ عن روضة الكافي.

(٢) اقتضاء الصراط المستقيم ص ١٦٨.

(٣) المصدر السابق.

(٤) الكافي ج ٨ ص ٢٤٦ والبحار ج ٢١ ص ١٣٧ و ١٣٨.

(٥) المعجم الصغير ج ١ ص ٢٠٧.

(٦) الحجرات ١٣.

٧٩

وقد علمنا : أن رسول الله قد قال عن سلمان الفارسي : سلمان منا أهل البيت.

ثم إنه قد ورد النهي للصحابة عن أن يقولوا : سلمان الفارسي ، ولكن قولوا سلمان المحمّدي ..

إلى غير ذلك من نصوص ومواقف معبرة وصريحة في هذا الامر ، ولا مجال لتأويلها ، ولا للتلاعب فيها .. وهي كثيرة جداً لا طاقة لنا بجمعها وإحصائها في عجالة كهذه.

التمييز العنصري بين الجبر والاختيار :

وإذا كان معنى التمييز العنصري هو : أن يجعل العرق ، أو اللون ، أو الطبقة ، أو نحوها أساساً للتمييز والتفاضل بين البشر ، فبملاحظته يستحق هذا امتيازاً؛ فيعطى له ، ولا يستحقه ذاك ، فيحرم منه ـ إذا كان كذلك ـ.

فإن من الواضح .. أن هذه أمر يأباه العقل ، وترفضه الفطرة ، ويدينه الوجدان ، لاُن الإنسان اغلى من كل شيء في الوجود ، لان كلّ شيء مخلوق من أجله ومسخّر له ، فلا يصح أن نضحي بإنسانية الانسان وبكرامته من أجل أي شيء آخر مهما غلا فكيف إذا كان تافهاً وحقيراً ، من قبيل اللون ، والعرق ، والجغرافيا ، وما إلى ذلك ..

أضف إلى ذلك : أن اللون ، أو العرق ، ليسا من الامور الاختيارية ، التي تساهم إرادة الانسان في صنعها ، وايجادها. كي تدفعه في حركته الدائبة نحو الحصول على خصائصه ، وكمالاته الانسانية ، وباتجاه هدفه الاسمى ، الذي وجد من أجله ..

كما أنهما لا يحلان للانسان آية مشكلة ، ولا دور لهما في تغلبه على المصاعب والمتاعب ، ولا في ازالة العوائق ، التي تعترض طريق تقدمه ، نحو هدفه المنشود ..

وكذلك فانهما لا يساهمان في سعادة الانسان بالحياة ، فلا يجعلانه يلتذ بها ،

٨٠