سلمان الفارسي في مواجهة التحدّي

السيد جعفر مرتضى العاملي

سلمان الفارسي في مواجهة التحدّي

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

ويأنس ، أو يتعب من أجلها ويضحي ، أو يأمل بها ويطمح .. وما إلى ذلك ..

ومن هنا .. فقد كان من الطبيعي أن يرفض الاسلام اعطاء الامتيازات ، وتفضيل الناس ، بعضهم على بعض على اساس العرق أو اللون ، أو غير ذلك مما لا خيار فيه للانسان ، ولا هو خاضع لارادته.

ولكنه جعل التفاضل بين الناس في أمر يمكن أن يكون له دور رئيس في تكاملهم ، وفي تحقيق سعادتهم ، ويؤثر في حركتهم الدائبة نحو هدفهم الاسمى .. وهو في نفس الوقت أمر اختياري للانسان ، يمكنه ، أن يحصل عليه ، ويمكنه أن لا يحصل عليه .. ألا وهو التقوى ، والعمل الصالح ، والسجايا الفاضلة ، والعلم النافع المعطاء ؛ فقال تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم (١).

وقال : هو يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (٢).

وقال تعالى : ألم تر كيف ضرب الله مثلاً : كلمة طيبة كشجرة طيبة (٣).

قال : ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض (٤).

وقال تعالى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير اولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله (٥).

وقال : قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو اعجبك كثرة الخبيث (٦).

إلى غير ذلك من آيات كثيرة ، لا مجال لا يرادها هنا ..

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا أسود على أحمر ، ولا أحمر على أسود إلاّ بالتقوى (٧).

وإذا كان كل ما تقدم هو المنطلق للتفاضل ، والحصول على الامتيازات والاوسمة ؛ فان من شأنه : أن يقود الانسان نحو الكمال ، ويجعل التسابق باتجاه

__________________

(١) الحجرات ١٣.

(٢) الزمر ٩.

(٣) ابراهيم ٢٤.

(٤) ابراهيم ٢٦.

(٥) النساء ٩٥.

(٦) المائدة ١٠٠.

(٧) مجمع الزوائد ج ٣ ص ٢٦٦ و ٢٧٢ والبيان والتبيين ج ٢ ص ٣٣ والعقد الفريد ج ٣ ص ٤٠٨ والغدير ج ٦ ص ١٨٧/١٨٨ عن عدد من المصادر.

٨١

كل ما هو خير ، وصلاح ، وفلاح : « فاستبقوا الخيرات » (١) « وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض » (٢) « ومنهم سابق بالخيرات » (٣).

نعم .. وهذه هي الحركة الطبيعية ، التي تنسجم مع فطرة الانسان السليمة والصافية ، ومع طموحاته الواقعية ، وأمانيه الواسعة ، وآماله العراض ..

سلبيات ظاهرة :

وبعد .. فان من أبسط نتائج سياسات التمييز على أساس : الطبقة ، والدم واللون ، والعرق ، واللغة ، والبلد ، وو ... إلخ .. هو ظهور نزعات الكراهية بين الناس ، وسحق كراماتهم بلا مبرر معقول ، وتضييع حقوقهم الانسانية ، دونما سبب ، ومعاملتهم بطريقة شاذة ، لا يقرها شرع ، ولا عقل ، ولا ضمير ..

وبدلاً من أن يكون المؤمنون إخوة ، يتعاونون على الخير ، وتسودهم روح المحبة ، والمودة والوئام ، ويشد بعضهم ازر بعض في مجال التغلب على مصاعب الحياة ، وتجنب شدائدها ، ويكون كل منهم مكملاً للآخر ، ومن اسباب قوته ، وعزه ، وسعادته ..

نعم .. بدلاً من ذلك .. يصبحون أعداء متدابرين ، يعمل كل منهم على هدم الآخرين ، واستغلال طاقاتهم ، وامكاناتهم ، والاستئثار بها ، وتقويض سعادتهم ، وتبديد قدراتهم. تسودهم روح الضغينة والحقد ، بأسهم بينهم شديد ، ومخيف.

ويصبح اللون ، والعرق ، واللغة ، والطبقة وو .. إلخ وسيلة تستخدم في سبيل تجزئة الناس وتمزيقهم ، بدلاً من جمعهم وتوحيدهم ، وذلك بالتركيز على الفوارق والمميزات التافهة ، والعقيمة ، وتجاهل موارد الاشتراك ، والوفاق ،

__________________

(١) البقرة ١٤٨ والمائدة ٤٨.

(٢) آل عمران ١٣٣.

(٣) فاطر ٣٢.

٨٢

وهي الاجدر والاجدى ، والاحق بالاهتمام والعناية ، لانها الاسمى ، والانفع ، والاصح ، والاكثر أصالة ، والابعد أثراً في تكامل الانسان وسموه ، وتذليل كل العقبات ، التي تعترض طريقه في حياته ..

سلمان في مواجهة التمييز العنصري أيضاً :

١ ـ « أسند الامام مالك ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبدالرحمان ، قال : جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي ، وصهيب الرومي ، وبلال الحبشي ، فقال :

هذا الاوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذ الرجل ، فما بال هذا؟

فقام إليه معاذ بن جبل ، فأخذ تلبيبه ، ثم أتى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخبره بمقالته. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائماً .. يجر رداءه ، حتى أتى المسجد ، ثم نودي : إن الصلاة جامعة [فحمد الله ، وأثنى عليه].

وقال : يا أيها الناس ، ان الرب واحد ، والأب واحد ، وليست العربية بأحدكم من أب ولا اُم ، وانما هي اللسان ، فمن تكلم بالعربية ؛ فهو عربي ... الخ » (١) ..

٢ ـ وأخرج أيضاً عن أبي هريرة ، أنه قال : تخطى سلمان الفارسي حلقة قريش ، وهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مجلسه ؛ فالتفت إليه رجل منهم فقال : ما حسبك؟ وما نسبك؟ وبم اجترأت أن تتخطى حلقة قريش.

قال : فنظر اليه سلمان ؛ فأرسل عينيه ؛ وبكى ، وقال : سألتني عن حسبي ، ونسبي ، خلقت من نطفة قذرة ، أما اليوم ففكرة وعبره ، وغداً جيفة منتنة ، فاذا

__________________

(١) تهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٠ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٥٢٣ عن كنز العمال ج ٧ ص ٤٦ والمنار ج ١١ ص ٢٥٨ ـ ٢٥٩ واقتضاء الصراط المستقيم ص ١٦٩ عن السلفي.

٨٣

انشرت الدواوين ، ونصبت الموازين ، ودعي الناس لفصل القضاء ؛ فوضعت في الميزان ، فان أرجح ، فأنا شريف كريم ، وان انقص الميزان ؛ فانا اللئيم الذليل ، فهذا حسبي ، وحسب الجميع ، فقال النبي ّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صدق سلمان ، من اراد أن ينظر إلى رجل نوّر قلبه ، فلينظر إلى سلمان (١).

ويلاحظ هنا : أن هذه القضية تشبه كثيراً ، ما سيأتي في سبب قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سلمان منّا أهل البيت ، لكن هذه العبارة لم تذكر فيها .. والمناسب ذكرها ، فان من الطبيعي أن يغضب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كلام ذلك القرشي الجافي ، وينتصر لسلمان بأكثر من هذه الكلمة الهينة اللينة ، المذكورة في آخر الرواية ..

٣ـ « وأخرج أيضاً من طريق البيهقي ، وعبدالرزاق ، عن قتادة ، قال :

كان بين سعد بن أبي وقاص وسلمان شيء؛ فقال سعد ، وهم في مجلس : انتسب يا فلان ، فانتسب ، ثم قال : للآخر : أنتسب. فانتسب .. حتى بلغ سلمان. فقال : انتسب يا سلمان ، فقال : ما أعرف لي أبا إلا الاسلام ، ولكن سلمان بن الاسلام ، فنمي ذلك إلى عمر. فقال عمر لسعد : انتسب. فقال : انشدك الله يا أمير المؤمنين ، وكأنه عرف. فأبى أن يدعه حتى انتسب ، ثم قال للآخر ، حتى بلغ سلمان ، فقال : انتسب ، فقال : انعم الله علي بالاسلام ؛ فأنا ابن الاسلام.

فقال عمر : قد علمت قريش : أن الخطاب كان أعزهم في الجاهلية ، وأنا عمر بن الاسلام ، أخو سلمان بن الاسلام أما والله ، لولاه لعاقبتك عقوبة يسمع بها اهل الامصار .. إلخ » (٢).

٤ ـ وثمة نص يفيد: ان سلمان المحمدي قد تعرض لمحاولة تحقير وامتهان من

__________________

(١) تهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٠ وراجع البحار ج ٢٢ ص ٣٥٥ عن أمالي الصدوق.

(٢) تهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٥ والمصنف ج ١ ص ٤٣٨.

٨٤

قبل البعض ، فانتصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ، وأدان المنطق الجاهلي والتعصب القبلي بصورة صريحة .. تقول الرواية :

« إن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ دخل مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم ؛ فعظموه ، وقدموه ، وصدروه ؛ اجلالاً لحقه ، واعظاماً لشيبته ، واختصاصه بالمصطفى وآله ..

فدخل عمر : فنظر إليه فقال : من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب؟

فصعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنبر؛ فخطب ، فقال :

إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط ، لا فضل للعربي على العجمي ، ولا للأحمر على الاسود إلاّ بالتقوى. سلمان بحر لا ينزل ، وكنز لا ينفذ ، سلمان منّا أهل البيت .. إلخ (١).

وقفات :

الاولى : سلمان منّا أهل البيت :

لعل هذه الرواية الأخيرة ليست بعيدة عن الحقيقة ؛ فان عمر بن الخطاب كان يجهر بتفضيل العرب على العجم ، وكانت سياسته في خلافته تسير في هذا الاتجاه ، وستأتي قصة امتناعه من تزويج سلمان ، وسنشير الى نبذة من سياساته تجاه غير العرب في فصل مستقل ، إن شاء الله تعالى.

ولاجل ذلك ، فنحن نستبعد الرواية التي تذكر أن السبب في اطلاق كلمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشهيرة : سلمان منّا أهل البيت.

أنه حين اشتغال المسلمين بحفر الخندق ، وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله

__________________

(١) الاختصاص ص ٣٤١ ونفس الرحمان في فضائل سلمان ص ٢٩ والبحار ج ٢٢ ص ٣٤٨.

٨٥

وسلّم قد قطع لكل عشرة أربعين ذراعاً ، يعملون فيها ، وكان سلمان قوياً في عمله ، احتج المهاجرون والانصار.

فقال المهاجرون : سلمان منّا.

وقال الانصار : سلمان منّا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سلمان منّا أهل البيت (١).

ورواية اُخرى تقول :

إنه حين حفر الخندق ، وكان المسلمون ينشدون سوى سلمان ، رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ؛ فدعا الله : أن يطلق لسان سلمان ، ولو ببيتين من الشعر ، فأنشأ سلمان ثلاثة أبيات :

مالي لسان فأقـول شعرا

أسـأل ربـي قـوة ونصرا

على عدوي وعدو الطهرا

مـحمّد الـمختار حاز الفخرا

حتى أنال في الجنان قصرا

مع كل حوراء تحاكي البدرا

فضج المسلمون ، وجعل كل قبيلة يقول : سلمان منّا.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سلمان منّا أهل البيت (٢).

نعم .. إننا لنستبعد ذلك ، ونميل الى صحة الرواية المتقدمة حول موقف عمر بن سلمان .. وذلك بسبب النهج الذي عرفناه عن الخليفة الثاني ، في معاملته لغير العرب ، والروح العدائية التي كانت تملي عليه مواقف سلبية وقاسية ضدهم ، كما سيتضح في فصل مستقل يأتي إن شاء الله تعالى ..

__________________

(١) طبقات ابن سعد ط ليدن ج ٤ قسم ١ ص ٥٩ ، وراجع : اُسد الغابة ج ٢ ص ٣٣١ وذكر أخبار أصبهان ج ١ ص ٥٤ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٠ ونفس الرحمان ص ٣٤ / ٣٥ عن مجمع البيان في تفسير قوله تعالى : اللّهم مالك الملك ، تؤتي الملك من تشاء. وعن السيرة الحلبية ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٥٩٨.

(٢) راجع : المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٨٥ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤٢٤ عنه والدرجات الرفيعة ص ٢١٨ ونفس الرحمان ص ٤٣. ويلاحظ ما في الاُبيات من الهنات ..

٨٦

هذا بالاضافة إلى أن هذا الذي ذكروه في سبب اطلاق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمته الخالدة ، لا يعدو عن أن يكون أمراً عادياً ، بل وتافهاً ، لا يبرر هذا الموقف منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولعل الهدف من ايراد امور كهذه هو التقليل من قيمة هذا الوسام العظيم ، الذي شرفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ..

إذ أن ذلك لا يعدو عن أن يكون قضية الاستفادة من قوة سلمان البدنية ، في حفر الخندق ، هي محل تنافس الفرقاء ، وما كان من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أن بادر إلى حسم النزاع ، باسلوب تحويل سلمان إلى القسم الذي كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعمل هو وأهل بيته فيه ؛ فكانت تلك الكلمة إيذاناً بذلك ..

ولاجل ذلك ؛ فان هذه الكلمة تفقد قيمتها ، وأهميتها ، وواقعيتها .. ولا يبقى مبرر لما نلاحظه في كلمات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام من التركيز على هذا الوسام العظيم ، وتأكيد واقعيته ومصداقيته فيه رضوان الله تعالى عليه ..

ونفس هذ الكلام تقريباً يأتي فيمايقال عن تنازعهم في سلمان ، حينما قال الشعر ، على النحو الذي ذكرناه فيما سبق.

لان اطلاق هذه الكلمة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مناسبة كهذه ، تجعل سلمان جزءاً من فئة تحسن التكلم باللغة العربية ، وتحب أن تكرمه ، لانه نطق بلغتها ، لا لاجل علمه ، أو دينه ، ولا لغير ذلك من صفات الخير والصلاح فيه ..

حنبلي يثبت العصمة لسلمان!! :

قال محيي الدين ابن العربي الحنبلي :

« .. فلا يضاف إليهم إلاّ مطهر ، ولابدّ أن يكون كذلك ، فان المضاف إليهم هو الذي يشبههم ؛ فلا يضيفون لانفسهم إلاّ من حكم له بالطهارة والتقديس.

٨٧

فهذه شهادة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسلمان الفارسي بالطهارة ، والحفظ الالهي ، والعصمة ؛ حيث قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

سلمان منّا أهل البيت.

ذلك أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سلمان منّا أهل البيت لم يجعله من أهل البيت حقيقة ونسباً ؛ فان الإتصال نسباً لا يكون إلاّ بأسبابه المقررة في محله ، واذن .. هو منهم تنزيلاً : لتشابه الصفات ، بعضها ، أو كلها ، تلك الصفات التي يمكن أن تجعله من الملهمين.

وشهد الله لهم بالتطهير ، وذهاب الرجس عنهم ؛ فهم المطهرون ، بل عين الطهارة. وهم المطهرون بالنص ؛ فسلمان منهم بلا شك .. فكان من أعلم الناس بما لله على عباده من الحقوق ، ولانفسهم ، والخلق عليهم من الحقوق ، وأقواهم على أدائها ، وفيه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لو كان الايمان بالثريا لنا له رجل من فارس ، وأشار إلى سلمان .. » (١).

الوقفة الثانية : دفاع عمر عن سلمان :

هذا .. وإذا عدنا إلى الرواية الثالثة المتقدمة ، فنجدها قد ذكرت : أن عمر قد دافع عن سلمان في قبال سعد ..

وهذا أمر يثير العجب من ناحيتين :

الاولى: أن عمر قد وصف أباه الخطاب بأنه : كان أعزّهم في الجاهلية ..

مع أننا قلنا في الجزء الثاني من كتابنا : الصحيح من سيرة النبيّ الاُعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ص ٥٨ / ٥٩ و ٩٦ ـ ١٠٠ : أن هذا الكلام لا يصح ، وأنهم كانوا أقل وأذلّ بيت في قريش ..

__________________

(١) سلمان الفارسي للسبيتي ص ٤٠ ونفس الرحمان ص ٣٢ كلاهما عن : الفتوحات المكية.

٨٨

بنو عدي في الجاهلية :

ويكفي أن نذكر هنا :

ألف : أنهم يقولون : إنه لم يكن في بني عدي سيد أصلاً (١).

ب : ان عمر بن الخطاب نفسه يعترف بذلك ، ويقول : « كنا أذلّ قوم ؛ فأعزنا الله بالاسلام » (٢).

ج : وفي رسالة من معاوية إلى زياد بن أبيه ، يذكر فيها أمر الخلافة ، فيقول :

« .. ولكن الله عزّوجلّ أخرجها من بني هاشم ، وصيرها إلى بني تيم بن مرة ، ثم خرجت إلى بني عدي بن كعب ، وليس في قريش حيان أذل منهما ولا أنذل إلخ » (٣).

د : وقال أبو سفيان حين فتح مكة; حين رأى عمر بن الخطاب ، وله زجل : « .. لقد أمِرَ أمرُ بني عدي ، بعد ـ والله ـ قلة ، وذلة إلخ .. » (٤).

هـ : وقال عوف بن عطية :

وأما الا لامان : بنو عدي

وتيم حين تزدحم (٥) الامور

فلا تشهد بهم فتيان حرب

ولكن أدن من حلب وعير (٦)

__________________

(١) المنمق ص ١٤٦.

(٢) مستدرك الحاكم ج ١ ص ٦١ و ٦٢ وتلخيصه للذهبي بهامشه ، وصححه على شرط الشيخين.

إلا أن يقال : إن مقصوده : هو أن العرب كانوا أذل أمه بين الامم المجاورة ، ولكنه احتمال بعيد ، فانه قد عنف أبا عبيدة ، باعتبار أن غيره لو قال هذا ـ أي طلب منه أن لا يقوم بعمل فيه مهانة ـ ، لكان له وجه .. أما أن يقوله أبو عبيدة العارف بالحال والسوابق ، فانه غير مقبول منه. راجع : نفس النص في مصدره.

(٣) كتاب سليم بن قيس ص ١٤٠.

(٤) مغازي الواقدي ج ٢ ص ٨٢١ وكنز العمال ج ٥ ص ٢٩٥ عن ابن عساكر ، عن الواقدي.

(٥) لعل الصحيح : مزدحم ، بالميم ؛ ليضاف إلى ما بعده ، فيناسب البيت التالي.

(٦) طبقات الشعراء لابن سلام ص ٣٨.

٨٩

الثانية : إدانة سعد غير واقعية :

وبالنسبة إلى ادانة عمر لسعد ، في محاولته تحقير سلمان ؛ فلا نراها تنسجم مع سائر مواقف عمر ، وتوجهاته ، وسياساته مع غير العرب ، وحتى مع سلمان بالذات ، الذي لم يقبل عمر : أن يزوجه حينما خطب إليه ، بسبب أنه غير عربي .. وسنذكر نبذة من سياسات عمر هذه في فصل مستقل إن شاء الله تعالى.

ومن هنا نجد أنفسنا مضطرين إلى القول : إن تقريض عمر لابيه الخطاب قد جاء على سبيل الافتخار بأمر نسبي ، فعل الخطاب أبا عمر كان أعز من سلف سعد مثلاً ، أو لعله قد استفاد من هيبة الخلافة ، وسلطان الحكم ؛ فادعى ذلك ؛ ليرضى سلمان وغيره ، ممن لا يرتاحون لمنطق سعد ، المخالف للاسلام.

مع اطمينانه بأن سلمان ، الذي لم يكن قد عاش في المنطقة العربية ، في زمن الجاهلية ، وأوائل البعثة ، كان لا يعرف حقيقة الامر في هذا المجال .. بالإضافة إلى علم الخليفة بعدم جرأة أحد على الرد عليه ، وتفنيد مزاعمه.

وقد تكون هذه العبارة قد دسٌت في الرواية ، بهدف ابعاد الشبهة عن الخليفة في سائر مواقفه من سلمان بالذات ، ومن غير العرب بصورة عامة.

والله هو العالم بحقيقة الحال ، وإليه المرجع والمآل ..

هذه الرواية وسياسات الخليفة :

ولكن المهم هو : أن هذه الرواية قد تبدوا منافية لما عرف وشاع ، وذاع من مواقف للخليفة الثاني تجاه غير العرب ، والتي كانت تقضي بحرمان غير العرب من كثير من الحقوق الانسانية والاسلامية على حد سواء.

ولكننا نقول : إن من الطبيعي : أن لا يقدم الخليفة في أوائل أمره على تطبيق سياساته تلك ، ويتحاشى الجهر في ذلك ، بانتظار استحكام أمره ، وتثبيت حكمه. بل لم يكن ثمة داعٍ لاعلان تلك المواقف ، وتطبيق هاتيك السياسات ،

٩٠

ما دام أنه لا توجد ضرورة لذلك ، حيث لم يكن ثمة فتوح ، ولا احتكاك للعرب بغير العرب ، ووجود سلمان ، وبلال ، وصهيب مثلاً فيما بين ظهراني المسلمين قد بدأ في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأصبح حقيقة واقعة ، وأمراً مقبولاً ، ومفروضاً من قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة ..

وكان على عمر أن يتجنب الجهر بآرائه تلك في هذه المرحلة ، ويقف من سعد ذلك الموقف ، ولا سيما بالنسبة إلى سلمان « المحمّدي » الذي كان يحظى باحترام وتقدير كبير لدى الناس عامة ، ولدى الصحابة بصورة خاصة بالاضافة إلى مكانته المتميزة لدى أهل البيت ، وأمير المؤمنين علي عليه‌السلام على وجه التحديد.

وكفى للتدليل على هذه المكانة لسلمان ، بسبب سلوكه المتميز ، وبسبب ما صدر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقه : أن نذكر : أنه لما زار سلمان دمشق.

« .. صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الامام الظهر ، ثم خرج ، وخرج الناس يتلقونه ، كما يتلقى الخليفة ، فلقيناه قد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأصحابه العصر ، وهو يمشي ، فوقفنا نسلم عليه ، ولم يبق فيها شريف إلاّ عرض عليه بيته » (١).

كما أنه لما قدم سلمان إلى المدينة ، قال عمر للناس : « اخرجوا بنا نتلق سلمان » فخرجوا معه إلى مشارف المدينة ، ولم نعرف عمر صنع مثل هذا مع عامل من عماله ، أو مع أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رغم أن سلمان قد اعترض على ما جرى في السقيفة ، وقوله : « كرديد ونكرديد » معروف ومشهور عنه (٢).

__________________

(١) تهذيب تاريخ دمشق ج ١ ص ١٩٠ ، وأنساب الاشراف ج ١ ( قسم حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ص ٤٨٧/٤٨٨.

(٢) راجع كتاب : سلمان الفارسي ص ٣٩ تأليف العلامة الشيخ عبدالله السبيتي رحمه‌الله ، ونفس الرحمان ص ١٤٨ و ١٤٩ ، والبحار ج ٢٢ وأشار إلى تلقّيه في : ذكر أخبار اصبهان ج ١ ص ٥٦ وتهذيب

٩١

أي انكم فعلتم أمراً وهو البيعة لابي بكر ، ولكن كانكم ما فعلتم شيئاً ، حيث لم يكن فعلكم في موضعه ، كقولك لم يصدر منه أمر لا يؤثر شيئاً ما صنعت شيئاً (١).

وسيأتي ان ابن عمر قال لعمرو بن العاس ، حين كانا يدبران الحيلة لصرف سلمان عن خطبته بنت عمر بن الخطاب : « .. هو سلمان! وحاله في الاسلام حاله!! ».

وعدا عن ذلك كله .. فلعل الخليفة الثاني في قوله هذا المناقض لمواقفه تلك يرى: أنه لابد من التفريق بين السياسة والموقف ، وبين الاعلام له ..

فحين يكون الاعلام مضراً بالموقف؛ فلا بد من تسجيل الموقف على الارض ، ثم تجاهله ، أو انكاره ، وحتى تهجينه اعلامياً إن اقتضى الامر ، كما هو منطق سياسة أهل الدنيا ، التي تستفيد من الحكم كوسيلة لنيل ما تصبوا إليه من مكاسب وامتيازات ، على المستوى الشخصي ، أو القبلي ، أو الفئوي.

وأخيراً ..

فان هناك رواية تقول : إن عمر بن الخطاب نفسه قد سأل سلمان عن نفسه ، وذلك في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فقال : أن سلمان بن عبدالله ، كنت ضالاً فهداني الله بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكنت عائلاً فاغناني الله بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكنت مملوكاً فاعتقني الله بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا حسبي ونسبي ، ثم شكا سلمان ذلك إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« يا معشر قريش ، إن حسب الرجل دينه ومروته ، وأصله عقله ، قال الله تعالى :

__________________

تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٥.

(١) في بعض المصادر أنه قال : كرواذ وناكرواذ ، أي عملتم ، وما عملتم ، لو بايعوا علياً لاكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم ، راجع انساب الاشراف ج ١ ص ٥٩١.

٩٢

« إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم » (١).

يا سلمان ، ليس لاحدٍ من هؤلاء عليك فضل إلاّ بتقوى الله ، وإن كان التقوى لك عليهم ؛ فانت أفضل » (٢). أو نحو هذا ..

وقد تقدم أن لعمر مواقف اخرى مع سلمان في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمس ، لها هذا الطابع أيضاً.

فلعل القضية قد حرفت لصالح الخليفة ، وخدمة له ، ولعل الخليفة نفسه قد وقف هذين الموقفين المختلفين سياسةً منه وحنكة ، وكانت سياسة بارعة وذكية ، وما ذلك في الحياة السياسية للخليفة بعزيز ، ولا نادر.

الوقفة الثالث : أنا سلمان ابن الاسلام :

كثير من الحيوان يولد مستكملاً لخصائصه ، التي تحقق هويته وحقيقته وذاته ؛ فيمارس دوره في حدود ما اهآل له بمجرد خروجه إلى عامل الدنيا.

أما الانسان ، فيولد فاقداً لكل مقومات شخصيته كانسان يمتلك فعلاً خصائصه الانسانية ، وملكاته ، وقواه ، وغرائزه .. سوى هذا الاستعداد الفطري ، الموجود فيه ، الذي قد يُلَبّىُ نداءُ حاجته ، كاملاً أو منقوصاً ، وقد لا يلبّىُ ذلك النداءُ أصلاً ، فيبقى فاقداً وفقيراً ، ولا يصل إلى شيء ، ومن ثم فهو لا يرتقي الى درجة الانسانية أصلاً ..

فهو يولد فاقد القوة ؛ والعقل ، والارادة ، كما أنه لا يملك التمييز بين الاشياء ، حتى المحسوسة منها ، ويفقد العلم ، والمعرفة ، ويفقد خصال الخير وسواها ،

__________________

(١) الحجرات : ١٣.

(٢) قاموس الرجال ج ٤ ص ٤١٦ واختيار معرفة الرجال ص ١٤ والكافي ج ٨ ص ١٨١ وروضة الواعظين ص ٢٨٣ والبحار ج ٢٢ ص ٣٨٢/٣٨١ عنه وامالي الشيخ ج ١ ص ١٤٦ وعن الكشي والدرجات الرفيعة ص ٢٠٦/٢٠٥ ونفس الرحمان ص ١٣٢.

٩٣

كالشجاعة ، والكرم ، والحبّ ، والبغض ، والحسد والرياء ، والطموح و .. إلخ .. ويفقد غريزة الجنس ، وغيرها ، وهو عاجز حتى عن الكلام بل هو في عجز شامل ، عن أي شيء وفي حاجة حقيقية لكلّ شيء ، لا يستطيع دفع أي مكروه عن نفسه ، ولا جلب أي منفعة لها على الاطلاق.

ثم هو يبدأ بالحصول على كل ذلك وسواه تدريجاً ، وبمساعدةٍ خارجة عن ذاته وحقيقته ، وقد يتعرض في فترات نموّه وتكامله لعوامل ، أو لنكسات تعيق حصوله على هذا الاُمر أو ذاك. أو يكون ذلك الحصول تاماً ، أو ناقصاً ، أو زائداً على قدر الحاجة فيتسبب في حدوث خلل أساسي في تكوين شخصيته كانسان ، صالحٍ لاستخلاف الله سبحانه وتعالى له على الارض بكل ما لهذه الكلمة من معنى ..

ثم .. وبعد أن يصل إلى مرحلةٍ معينة ، فإنه يتولى هو أمر السيطرة على ما حصل عليه من قوى ، وملكات ، وغرائز وقدرات ، وتسييرها ، وتقوية الضعيف وتعويض النقص ، أو كبح جماح القوي منها ، واستثمارها في مجال الحصول على درجات الكمال ، في التخلق بأخلاق الله سبحانه ، ثم في تأكيد انسانية ، وسموها ورقيها في سبل الهدى ، والخير ، والرشاد.

ولكن من الواضح : أن هذا الانسان الذي يراد له أن يتعامل مع كل ما ومن يحيط به ، وما سخره الله لخدمته ، أو أخضعه لارادته ، وخوّله صلاحية الاستفادة منه ـ إنه ـ بسبب جهله بكثير من اسرار الكون والحياة ودقائقهما ، لا يستطيع أن ينجز مهمته تلك ، بصورة صحيحة وسليمه ؛ فيقع مع الخطأ ، ويبتلى بالانحراف ، الامر الذي قد يترك سلبيات كبيرة وخطيرة على حياته ، وعلى مستقبله ومصيره ، بصورة عامة.

وإذن .. فلا بدّ له من يتجه نحو صانع الوجود ومبدعه ، ومسيّره ومدبّره ، والعارف بكل الاسرار والدقائق ، والاثار والحقائق؛ لانه وحده العالم بكل النظم والضوابط ، التي تهيمن على مخلوقاته ، وتحكمها ، ويعرف حقيقة تأثير

٩٤

وتأثر كل شيء في أي شيء ، وكيفية ذلك ومداه ، ونوعه ، ومستواه ـ نعم لابدّ وأن يتجه إليه ؛ فيمتثل أوامره ، وينتهي بنواهيه ، التي ابلغه اياها الانبياء والرسل ، الذين اقيمت حجتهم ، وظهرت معجزتهم.

وهذا فقط ، هو السبيل الوحيد ، والطريق الاسلم ، الذي يمكّن الانسان من أن يكمل مهمته ، في الحصول باختياره وارادته ، على خصائصه الانسانية الإلهية ، ويجعله يهيمن عليها ، ويوازن بينها ، ويحفظ لها تعادلها ، وخطها الصحيح ، بعيداً عن كل السلبيات ، والاخطار ، بلا زيف ، ولا حيف ، ولا تضليل ، ولا خداع.

ولقد ادرك سلمان هذه الحقيقة ، ووجد أن الاسلام هو الذي وهبه انسانيته ، وخصائصها الملكوتية ؛ فهو الاب الحقيقي له ـ أما الاب النسبي؛ فلربما يكون قد ساهم ـ عن عمد ، أو عن غير عمد في تشويه ذاته ، وفي ابقائه في مستوى الحيوان الاعجم ، وابعاده عن الكمال ، الذي أهله الله لاُن يصل إليه ، ويحصل عليه .. وهذا هو السر في أنه كان إذا قيل له : من أنت؟ قال : أنا سلمان ابن الاسلام (١) وتقدم قوله لسعد : ما أعرف لي أبا إلاّ الاسلام ، ولكن سلمان ابن الاسلام.

الزواج .. والسياسة العنصرية :

هذا .. ولم يقف الامر عند ذلك الحد من التحدي ، بل استمر سلمان يواجه المصاعب والمتاعب ، نتيجة لسياسات التمييز العنصري ، التي كانوا يواجهونه بها ، ونذكر هنا ما يلي :

١ ـ خطب سلمان الفارسي إلى عمر بن الخطاب (رض) ابنته ؛ فلم

__________________

(١) الاستيعاب بهامش الاصابة ج ٢ ص ٥٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٨ ص ٣٤ وانساب الاشراف ج ١ ص ٤٨٧.

٩٥

يستجز ردّه ؛ فانعم له ، وشق ذلك عليه ، وعلى ابنه عبدالله بن عمر؛ فشكا ذلك عبدا‏لله الى عمر بن العاص ، فقال :

افتحب أن اصرف سلمان عنكم؟.

فقال : هو سلمان ، وحاله في الاسلام حاله!!

قال : أحتال له ، حتى يكون هو التارك لهذا الامر ، والكاره له.

قال : وددنا أنك فعلك ذلك.

فمر عمر بن العاص بسلمان في طريق ؛ فضرب بيده على منكبه ، وقال : هنيئاً لك يا أبا عبدالله!!.

قال له : وما ذاك؟.

قال : هذا عمر يريد أن يتواضع بك ؛ فيزوجك!.

قال : وإنما يريد أن يزوجني ، ليتواضع بي؟!. قال : نعم. قال : لاجرم والله ، لا أخطب إليه أبداً (١).

والظاهر هو أن سلمان إنما خطب إليه ، ليجرّبه بذلك ، فردّه. ثم لما أخبره بأنه إنما أراد تجربته ، عاد ، فأنعم له ، ليتلافى الآثار السيئة لذلك ؛ فقد :

٢ ـ روي في نص آخر : ان سلمان اختبر عمر بخطبته إليه ابنته ، في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فرفض عمر ، ثم شكا عمر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جرأة سلمان على ذلك ؛ فانكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عمر ذلك ؛ فسكت .. وبعد ذلك قام عمر حزيناً (٢).

__________________

(١) لطف التدبير ص ١٩٩ وراجع : عيون الاُخبار لابن قتيبة ج ٣ ص ٢٦٩/٢٦٨ والعقد الفريد ج ٦ ص ٩٠ وقاموس الرجال ج؛ص ٤٢٧ ونفس الرحمان ص ١٤١ عن التذكرة للعلامة.

(٢) نفس الرحمان ص ٤٧ عن الحسين بن حمدان.

٩٦

٣ ـ وفي نص آخر عن خزيمة بن ربيعة ، قال : خطب سلمان إلى عمر؛ فردّه ، ثم ندم ، فعاد إليه ، فقال : انما أردت أن أعلم : ذهبت حمية الجاهلية من قلبك ، أم أهي كما هي؟ (١)

٤ ـ وفي نص آخر ، عن ابن عباس ، قال : قدم سلمان من غيبةٍ له ، فتلقاه عمر ، فقال : أرضاك ‏لله عبداً.

قال : فزوجني.

فسكت عنه.

فقال : أترضاني ‏لله عبداً ، ولا ترضاني لنفسك؟

فلما أصبح أتاه قوم ؛

فقال : حاجة؟.

قالوا : نعم.

قال : وما هي؟.

قالوا : تضرب عن هذا الامر ، يعنون خطبته إلى عمر.

قال : أما والله ، ما حملني على هذا إمرته ولا سلطانه ، ولكن قلت : رجل صالح ، عسى الله أن يخرج منه ومني نسمة صالحة (٢).

٥ ـ وفي مناسبة اخرى نجد : أن أن أبا الدرداء قد « ذهب مع سلمان ، يخطب عليه امرأة من بني ليث ، فدخل فذكر فضل سلمان ، وسابقته ، واسلامه ، وذّكر أنه يخطب إليهم فتاتهم فلانة ؛ فقالوا : أما سلمان فلا نزوجه ، ولكنا نزوجك.

__________________

(١) راجع : اختيار معرفة الرجال ص ١٥ ونفس الرحمان ص ١٤١ عنه والدرجات الرفيعة ص ٢١٥ والبحار ج ٢٢ ص ٣٥٠ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤١٧.

(٢) صفة الصفوة ج ١ ص ٥٤٥ و ٥٤٦ ، وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٦ وحلية الاولياء ج ١ ص ١٨٦ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤٢٧ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٧٥٣ عن مجمع الزوائد ج ٤ ص ٢٩١ عن أبي نعيم والطبراني.

٩٧

فتزوجها ، ثم خرج ، فقال له : إنّه قد كان شي ء ، وانا استحيي أن أذكره لك.

قال : وما ذاك؟

فأخبره الخبر ..

فقال سلمان : أنا أحقّ أن استحيي منك ، أن أخطبها ، وقد قضاها الله لك (١).

فبنو ليث إذن .. يرفضون تزويج سلمان ، ويفضلون أبا الدرداء عليه. ويبد أن منشأ رفضهم ، هو نفس المنشأ الذي تسبب بالمشقة والهمّ لعمر ، حينما خطب إليه سلمان ابنته ، وهو نفس الذي حمل عمرو بن العاص ، وجماعة ، على التدخل لاقناع سلمان بالعدول عن خطبتها ، حسبما تقدم ..

وفِعل سلمان هذا ، لا يدع مجالاً للشك في أنه ، كان يرى : أن من حقه ، ومن حق غيره : أن يتزوج بغير العربية ، وبالعربية ، وحتى بالقرشية ، بل وحتى بانبة خليفة المسلمين بالذات ، ثم هو يعتبر : أن رفض الخليفة لهذا الاُمر ناشيء عن حمية الجاهلية ، التي رفضها القرآن ، وأدانها ، وانّب عليها ..

لا نؤمكم .. ولا ننكح نساءكم :

وعليه .. فما ينسب إلى سلمان ، من أنه طلب إليه : أن يصلي اماماً بجماعة من الصحابة ، كانوا وايّاه في سفر ، فقال :

« لا نؤمكم ، ولا ننكح نساءكم ، إن الله هدانا بكم ».

ثم تذكر الرواية : كيف أن الذي صلى بهم ، قد أتمّ الصلاة ، مع أن

__________________

(١) صفة الصفوة ج ١ ص ٥٣٧ وحلية الاولياء ج ١ ص ٢٠٠ ومجمع الزوائد ج ٤ ص ٢٧٥ عن الطبراني ، ورجاله ثقات. وحياة الصحابة ج ٢ ص ٧٥٤ ، ونفس الرحمان ص ١٤١ عن ربيع الاُبرار.

٩٨

اللازم هو القصر ، لاُنهم مسافرون ، فاعترض سلمان عليه لذلك (١).

وكذا ما ينسب إليه من أنه قال لاهل المدائن : إنا امرنا أن لا نؤمكم ، تقدم يازيد (أي ابن صوحان) فكان هو يؤمنا ، ويخطبنا (٢).

وكذا ما رووه عنه ، من أنه قال : « نفضلكم بفضل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يعني : العرب ، لا ننكح نساءكم (٣) ».

وكذا ما ينسب إليه ، من أنه قال : « نهانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ أن ننكح نساء العرب .. (٤) ».

وعنه : « فضلتمونا يا معاشر العرب باثنتين : لا نؤمكم في الصلاة ، ولا ننكح نساءكم (٥) ».

نعم .. إن كل هذا الذي ينسب إلى سلمان أنه قاله ، لا يصلح قطعاً ـ إذا كان بهذه الصورة ـ ؛ إذ أنه هو نفسه قد خطب إلى العرب أكثر من مرة ، حتى لقد خطب إلى خليفتهم بالذات ، وقد ردّوه ، ورفضوا تزويجه ، واعتبر هو ردّهم له من حمية الجاهلية ، حسبما اسلفنا.

وهو بذلك يكون قد ساهم في فضح ، وادانة سياسات التمييز العنصري ، التي كان الحكام ، ومن يدور في فلكهم يمارسونها ، سراً ، وعلناً ، حسبما تقتضيه ظروفهم.

وإذا كان لهذا الاُمر الذي اشير إليه بقوله : « اُمِرنا » .. الخ .. أساس من

__________________

(١) المصنف للصنعاني ج ٦ ص ١٥٤ وج ٢ ص ٥٢٠ والسنن الكبرى ج ٧ ص ١٣٤ وج ٢ ص ١٤٤ وحلية الاُولياء ج ١ ص ١٨٩ وطبقات ابن سعد ط صادر ج ٤ ص ٩٠ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٨ ومجمع الزوائد ج ٤ ص ٢٧٥ وحياة الصحابة ج ٣ ص ١٤٨.

(٢) تهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ١٥.

(٣) مجمع الزوائد ج ٤ ص ٢٧٥ عن الطبراني في الكبير ، ورجاله ثقات.

(٤) مجمع الزوائد ج ٤ ص ٢٧٥ عن الطبراني في الاوسط.

(٥) اقتضاء الصراط المستقيم ص ١٥٩ عن العدني وعن سعيد بن منصور في سننه وغيرهما وبمعناه في ص ١٥٨ عن البزار.

٩٩

الصحة ؛ فلابد وأن لا يكون من الاوامر الإلهية ، ولا النبوية ، وإلا لكان سلمان قد أذعن له ، والتزم به ..

فلعله أمر قد صدر فعلاً ، ولكن ليس عن النبيّ ، وانما عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ..

ولعل الاصرار عن أن يكون هذا الحكم الظالم ، جارياً على لسان خصوص سلمان ، ثم يصوّره الراوي على أنه صادر من غير قائله الحقيقي ، وبالذات من شخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. لعل ذلك ـ للتغطية على هذه المخالفة التي صدرت من الخليفة في حق سلمان ، وجعلها في معرض الشك والترديد ، شرط أن يساهم ذلك في تقوية ركائز هذه السياسة الظالمة ، ويعطيها شرعية قائمة على أساس التعبد والدين ..

ومما يؤيّد أن تكون هذه الكلمة ، التي تُقَرر عدم التزويج بين العرب وغيرهم ، قد صدرت من نفس الخليفة ، عمر بن الخطاب :

ما روي عن يزيد بن حبيب ، قال : قال عمر بن الخطاب لسلمان :

يا سلمان ، ما أعلم من أمر الجاهلية بشيء ، إلا وضعه الله عنا بالاسلام ، إلا أنّا لا ننكح إليكم ، ولا ننكحكم ؛ فهلمّ ، فلنزوجك ابنة الخطاب. قال : أفرّ ـ والله ـ من الكبر.

قال : فتفرّ منه ، وتحمله علي؟! ، لا حاجة لي به (١).

فاذا كان عمر هو الذي قال عبارة : « أفرّ ـ والله ـ من الكبر » ، كما هو ظاهر؛ فمعنى ذلك : أنه يريد أن يتواضع بتزويج سلمان ابنته ، على حد ما تقدم عن عمرو بن العاص حينما تدخل لصرف سلمان عن الخطبة.

وجواب سلمان له ـ والحالة هذه ـ يتناسب مع جوابه لعمرو بن العاص ، الذي تقدم ..

__________________

(١) الزهد ، والرقائق ، قسم ما رواه بن حماد ص ٥٢.

١٠٠