الميزان في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

( بيان )

تذكر الآيات قصة شعيب عليه‌السلام وقومه وهم أهل مدين ، وكانوا يعبدون الأصنام ، وكان قد شاع التطفيف في الكيل والوزن عندهم واشتد الفساد فيهم فأرسل الله سبحانه شعيبا عليه‌السلام إليهم فدعاهم إلى التوحيد وتوفية الميزان والمكيال بالقسط وترك الفساد في الأرض ، وبشرهم وأنذرهم وبالغ في عظتهم وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : كان شعيب خطيب الأنبياء.

فلم يجبه القوم إلا بالرد والعصيان ، هددوه بالرجم والطرد من بينهم وبالغوا في إيذائه وإيذاء شرذمة من الناس آمنوا به وصدهم عن سبيل الله وداموا على ذلك حتى سأل الله أن يقضي بينه وبينهم فأهلكهم الله تعالى.

قوله تعالى : « وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً » إلى آخر الآية عطف على ما تقدمه من قصص الأنبياء وأممهم ، ومدين اسم مدينة كان يسكنها قوم شعيب ففي نسبة إرسال شعيب إلى مدين وكان مرسلا إلى أهله نوع من المجاز في الإسناد كقولنا : جرى الميزاب ، وفي عد شعيب عليه‌السلام أخا لهم دلالة على أنه كان ينتسب إليهم.

وقوله : « قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ » تقدم تفسيره في نظائره.

وقوله : « وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ » المكيال والميزان اسما آلة بمعنى ما يكال به وما يوزن به ، ولا يوصفان بالنقص وإنما يوصف بالنقص كالزيادة والمساواة المكيل والموزون فنسبة النقص إلى المكيال والميزان من المجاز العقلي.

وفي تخصيص نقص المكيال والميزان من بين معاصيهم بالذكر دلالة على شيوعه بينهم وإقبالهم عليه وإفراطهم فيه بحيث ظهر فساده وبان سيئ أثره فأوجب ذلك شدة اهتمام به من داعي الحق فدعاهم إلى تركه بتخصيصه بالذكر من بين المعاصي.

وقوله : « إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ » أي أشاهدكم في خير ، وهو ما أنعم الله تعالى عليكم من المال وسعة الرزق والرخص والخصب فلا حاجة لكم إلى نقص المكيال والميزان ، واختلاس اليسير من أشياء الناس طمعا في ذلك من غير سبيله المشروع وظلما وعتوا ، وعلى هذا فقوله : « إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ » تعليل لقوله : « وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ».

٣٦١

ويمكن تعميم الخير بأن يراد به أنكم مشمولون لعناية الله معنيون بنعمه آتاكم عقلا ورشدا ورزقكم رزقا فلا مسوغ لأن تعبدوا الآلهة من دونه وتشركوا به غيره ، وأن تفسدوا في الأرض بنقص المكيال والميزان ، وعلى هذا يكون تعليلا لما تقدمه من الجملتين أعني قوله : « اعْبُدُوا اللهَ » إلخ ، وقوله : « وَلا تَنْقُصُوا » إلخ ، كما أن قوله : « وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ » كذلك.

فمحصل قوله : « إِنِّي أَراكُمْ » إلى آخر الآية أن هناك رادعين يجب أن يردعاكم عن معصية الله : أحدهما : أنكم في خير ولا حاجة لكم إلى بخس أموال الناس من غير سبيل حلها. وثانيهما : أن وراء مخالفة أمر الله يوما محيطا يخاف عذابه.

وليس من البعيد أن يراد بقوله : « إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ » إني أراكم برؤية خير أي أنظر إليكم نظر الناصح المشفق الذي لا يصاحب نظره إلا الخير ولا يريد بكم غير السعادة ، وعلى هذا يكون قوله : « وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ » كعطف التفسير بالنسبة إليه.

وقوله : « وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ » يشير به إلى يوم القيامة أو يوم نزول عذاب الاستئصال ومعنى كون اليوم ـ وهو يوم القضاء بالعذاب ـ محيطا أنه لا مخرج منه ولا مفر ولا ملاذ من دون الله فلا يدفع فيه ناصر ولا معين ، ولا ينفع فيه توبة ولا شفاعة ، ويئول معنى الإحاطة إلى كون العذاب قطعيا لا مناص منه ومعنى الآية أن للكفر والفسوق عذابا غير مردود أخاف أن يصيبكم ذلك.

قوله تعالى : « وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ » إلخ ، الإيفاء إعطاء الحق بتمامه والبخس النقص كرر القول في المكيال والميزان بالأخذ بالتفصيل بعد الإجمال مبالغة في الاهتمام بأمر لا غنى لمجتمعهم عنه ، وذلك أنه دعاهم أولا إلى الصلاح بالنهي عن نقص المكيال والميزان ، وعاد ثانيا فأمر بإيفاء المكيال والميزان ونهى عن بخس الناس أشياءهم إشارة إلى أن مجرد التحرز عن نقص المكيال والميزان لا يكفي في إعطاء هذا الأمر حقه ـ وإنما نهى عنه أولا لتكون معرفة إجمالية هي كالمقدمة لمعرفة التكليف تفصيلا ـ بل يجب أن يوفي الكائل والوازن مكياله وميزانه ويعطياهما حقهما ولا يبخسا ولا ينقصا الأشياء المنسوبة إلى الناس بالمعاملة حتى يعلما أنهما أديا إلى الناس أشياءهم وردا إليهم مالهم على ما هو عليه.

٣٦٢

وقوله : « وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ » قال الراغب : العيث والعثي يتقاربان نحو جذب وجبذ إلا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا والعثي فيما يدرك حكما يقال : عثي يعثى عثيا ، وعلى هذا « وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ » وعثا يعثو عثوا. انتهى.

وعلى هذا فقوله : « مُفْسِدِينَ » حال من ضمير « لا تَعْثَوْا » لإفادة التأكيد نظير ما يفيده قولنا : لا تفسدوا إفسادا.

والجملة أعني قوله : « وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ » نهي مستأنف عن الفساد في الأرض من قتل أو جرح أو أي ظلم مالي أو جاهي أو عرضي لكن لا يبعد أن يستفاد من السياق كون الجملة عطفا تفسيريا للنهي السابق فيكون نهيا تأكيديا عن التطفيف ونقص المكيال والميزان لأنه من الفساد في الأرض.

بيان ذلك : أن الاجتماع المدني الدائر بين أفراد النوع الإنساني مبني على المبادلة حقيقة فما من مواصلة ومرابطة بين فردين من أفراد النوع إلا وفيه إعطاء وأخذ فلا يزال المجتمعون يتعاونون في شئون حياتهم يفيد فيه الواحد غيره ليستفيد منه ما يماثله أو يزيد عليه ويدفع إليه نفعا ليجذب منه إلى نفسه نفعا وهو المعاملة والمبادلة.

ومن أظهر مصاديق هذه المبادلة المعاملات المالية وخاصة في الأمتعة التي لها حجم أو وزن مما يكتال أو يوزن فإن ذلك من أقدم ما تنبه الإنسان لوجوب إجراء سنة المبادلة فيه.

فالمعاملات المالية وخاصة البيع والشري من أركان حياة الإنسان الاجتماعية يقدر الواحد منهم ما يحتاج إليه في حياته الضرورية بالكيل أو الوزن ، وما يجب عليه أن يبذله في حذائه من الثمن ثم يسير في حياته بانيا لها على هذا التقدير والتدبير.

فإذا خانه معامله ونقص المكيال والميزان من حيث لا يشعر هو فقد أفسد تدبيره وأبطل تقديره ، واختل بذلك نظام معيشته من الجهتين معا من جهة ما يقتنيه من لوازم الحياة بالاشتراء ومن جهة ما يبذله من الثمن الزائد الذي يتعب نفسه في تحصيله بالاكتساب فيسلب إصابة النظر وحسن التدبير في حياته ويتخبط في مسيرها خبط العشواء وهو الفساد.

وإذا شاع ذلك في مجتمع فقد شاع الفساد فيما بينهم ولم يلبثوا دون أن يسلبوا

٣٦٣

الوثوق والاطمئنان واعتماد بعضهم على بعض ويرتحل بذلك الأمن العام من بينهم وهو النكبة الشاملة التي تحيط بالصالح والطالح والمطفف والذي يوفي المكيال والميزان على حد سواء ، وعاد بذلك اجتماعهم اجتماعا على المكر وإفساد الحياة لا اجتماعا على التعاون لسعادتها ، قال تعالى : « وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً » إسراء : ـ ٣٥.

قوله تعالى : « بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ » البقية بمعنى الباقي والمراد به الربح الحاصل للبائع وهو الذي يبقى له بعد تمام المعاملة فيضعه في سبيل حوائجه ، وذلك أن المبادلة وإن لم يوضع بالقصد الأول على أساس الاسترباح ، وإنما كان الواحد منهم يقتني شيئا من متاع الحياة ، فإذا كان يزيد على ما يحتاج إليه بدل الزائد المستغنى عنه من متاع آخر يحتاج إليه ولا يملكه ثم أخذت نفس التجارة وتبديل الأمتعة من الأثمان حرفة يكتسب بها المال ويقتني بها الثروة فأخذ الواحد منهم متاعا من نوع واحد أو أنواع شتى وعرضه على أرباب الحاجة للمبادلة ، وأضاف إلى رأس ماله فيه شيئا من الربح بإزاء عمله في الجمع والعرض ورضي بذلك الناس المشترون لما فيه من تسهيل أمر المبادلة عليهم فللتاجر في تجارته ربح مشروع يرتضيه المجتمع بحسب فطرتهم يقوم معيشته ويحول إليه ثروة يقتنيها ويقيم بها صلب حياته.

فالمراد أن الربح الذي هو بقية إلهية هداكم الله إليه من طريق فطرتكم هو خير لكم من المال الذي تقتنونه من طريق التطفيف ونقص المكيال والميزان إن كنتم مؤمنين فإن المؤمن إنما ينتفع من المال بالمشروع الذي ساقه الله إليه من طريق حله ، وأما غير ذلك مما لا يرتضيه الله ولا يرتضيه الناس بحسب فطرتهم فلا خير له فيه ولا حاجة له إليه.

وقيل : إن الاشتراط بالإيمان في قوله : « إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » للدلالة على اشتراط الإيمان للعلم بذلك لا لأصله والمعنى إن كنتم مؤمنين علمتم صحة قولي : إن بقية الله خير لكم.

وقيل معنى الآية ثواب طاعة الله ـ بكون البقية بمعنى ثواب الطاعة الباقي ـ خير لكم إن كنتم مؤمنين. وقيل غير ذلك.

٣٦٤

وقوله : « وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ » أي وما يرجع إلى قدرتي شيء مما عندكم من نفس أو عمل أو طاعة أو رزق ونعمة فإنما أنا رسول ليس عليه إلا البلاغ ، لكم أن تختاروا ما فيه رشدكم وخيركم أو تسقطوا في مهبط الهلكة من غير أن أقدر على جلب خير إليكم أو دفع شر منكم فهو كقوله تعالى : « فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ » الأنعام : ـ ١٠٤.

قوله تعالى : « قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا » إلى آخر الآية ، رد منهم لحجة شعيب عليه ، وهو من ألطف التركيب ، ومغزى مرادهم أنا في حرية فيما نختاره لأنفسنا من دين أو نتصرف به في أموالنا من وجوه التصرف ولست تملكنا حتى تأمرنا بكل ما أحببت أو تنهانا عن كل ما كرهت فإن ساءك شيء مما تشاهد منا بما تصلي وتتقرب إلى ربك وأردت أن تأمر وتنهى فلا تتعد نفسك لأنك لا تملك إلا إياها.

وقد أدوا مرادهم هذا في صورة بديعة مشوبة بالتهكم واللوم معا ومسبوكة في قالب الاستفهام الإنكاري وهو أن الذي تريده منا من ترك عبادة الأصنام ، وترك ما شئنا من التصرف في أموالنا هو الذي بعثتك إليه صلاتك وشوهته في عينك فأمرتك به لما أنها ملكتك لكنك أردت منا ما أرادته منك صلاتك ولست تملكنا أنت ولا صلاتك لأننا أحرار في شعورنا وإرادتنا لنا أن نختار أي دين شئنا ونتصرف في أموالنا أي تصرف أردنا من غير حجر ولا منع ولم ننتحل إلا ديننا الذي هو دين آبائنا ولم نتصرف إلا في أموالنا ولا حجر على ذي مال في ماله.

فما معنى أن تأمرك إياك صلاتك بشيء ونكون نحن الممتثلون لما أمرتك به؟وبعبارة أخرى ما معنى أن تأمرك صلاتك بفعلنا القائم بنا دونك؟ فهل هذا إلا سفها من الرأي؟ وإنك لأنت الحليم الرشيد والحليم لا يعجل في زجر من يراه مسيئا وانتقام من يراه مجرما حتى ينجلي له وجه الصواب ، والرشيد لا يقدم على أمر فيه غي وضلال فكيف أقدمت على مثل هذا الأمر السفهي الذي لا صورة له إلا الجهالة والغي؟

وقد ظهر بهذا البيان أولا : أنهم إنما نسبوا الأمر إلى الصلاة لما فيها من البعث والدعوة إلى معارضة القوم في عبادتهم الأصنام ونقصهم المكيال والميزان ،

٣٦٥

وهذا هو السر في تعبيرهم عن ذلك بقولهم : « أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ » إلخ ، دون أن يقولوا : أصلاتك تنهاك أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ مع أن التعبير عن المنع بالنهي عن الفعل أقرب إلى الطبع من التعبير بالأمر بالترك ولذلك عبر عنه شعيب بالنهي في جوابه عن قولهم إذ قال : « وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ » ولم يقل إلى ما آمركم بتركه. والمراد ـ على أي حال ـ منعه إياهم عن عبادة الأصنام والتطفيف فافهم ذلك فإنه من لطائف هذه الآية التي ملئت لطافة وحسنا.

وثانيا : أنهم إنما قالوا : « أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا » دون أن يقولوا : أن نترك آلهتنا أو أن نترك الأوثان ليشيروا بذلك إلى الحجة في ذلك وهي أن هذه الأصنام دام على عبادتها آباؤنا فهي سنة قومية لنا ، ولا ضير في الجري على سنة قومية ورثها الخلف من السلف ، ونشأ عليها الجيل بعد الجيل فإنا نعبد آلهتنا وندوم على ديننا وهو دين آبائنا ونحفظ رسما مليا عن الضيعة.

وثالثا : أنهم إنما قالوا : « أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا » فذكروا الأموال مضافة إلى أنفسهم ليكون في ذلك إيماء إلى الحجة فإن الشيء إذا صار مالا لأحد لم يشك ذو ريب في أن له أن يتصرف فيه وليس لغيره ممن يعترف بماليته له أن يعارضه في ذلك ، وللمرء أن يسير في مسير الحياة ويتدبر في أمر المعيشة بما يستطيعه من الحذق والاحتيال ، ويهديه إليه الذكاء والكياسة.

ورابعا : أن قولهم : « أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ ـ إلى قوله ـ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ » مبني على التهكم والاستهزاء إلا أن التهكم في تعليقهم أمر الصلاة شعيبا على تركهم ما يعبد آباؤهم ، وكذا في نسبة الأمر إلى الصلاة لا غير ، وأما نسبة الحلم والرشد إليه فليس فيها تهكم واستهزاء ، ولذلك أكد قوله : « إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ » بإن واللام وإتيان الخبر جملة اسمية ليكون أقوى في إثبات الحلم والرشد له فيصير أبلغ في ملامته والإنكار عليه ، وأن الذي لا شك في حلمه ورشده قبيح عليه أن يقدم على مثل هذا الأمر السفهي ، وينتهض على سلب حرية الناس واستقلالهم في الشعور والإرادة.

وظهر بذلك أن ما ذكره كثير منهم أنهم وصفوه بالحلم والرشد على سبيل الاستهزاء يعنون به أنه موصوف بضدهما وهو الجهالة والغي. ليس بصواب.

٣٦٦

قوله تعالى : « قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً » إلى آخر الآية ، المراد بكونه على بينة من ربه كونه على آية بينة وهي آية النبوة والمعجزة الدالة على صدق النبي في دعوى النبوة ، والمراد بكونه رزق من الله رزقا حسنا أن الله آتاه من لدنه وحي النبوة المشتمل على أصول المعارف والشرائع ، وقد مر توضيح نظير هاتين الكلمتين فيما تقدم.

والمعنى : أخبروني إن كنت رسولا من الله إليكم وخصني بوحي المعارف والشرائع وأيدني بآية بينة يدل على صدق دعواي فهل أنا سفيه في رأيي؟ وهل ما أدعوكم إليه دعوة سفهية؟ وهل في ذلك تحكم مني عليكم أو سلب مني لحريتكم؟ فإنما هو الله المالك لكل شيء ولستم بأحرار بالنسبة إليه بل أنتم عباده يأمركم بما شاء ، وله الحكم وإليه ترجعون.

وقوله : « وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ » تعدية المخالفة بإلى لتضمينه معنى ما يتعدى بها كالميل ونحوه؟ والتقدير : أخالفكم مائلا إلى ما أنهاكم عنه أو أميل إلى ما أنهاكم عنه مخالفا لكم.

والجملة جواب عن ما اتهموه به أنه يريد أن يسلب عنهم الحرية في أعمالهم ويستعبدهم ويتحكم عليهم ، ومحصله أنه لو كان مريدا ذلك لخالفهم فيما ينهاهم عنه ، وهو لا يريد مخالفتهم فلا يريد ما اتهموه به وإنما يريد الإصلاح ما استطاع.

توضيحه : أن الصنع الإلهي وإن أنشأ الإنسان مختارا في فعله حرا في عمله له أن يميل في مظان العمل إلى كل من جانبي الفعل والترك فله بحسب هذه النشأة حرية تامة بالقياس إلى بني نوعه الذين هم أمثاله وأشباهه في الخلقة لهم ما له وعليهم ما عليه فليس لأحد أن يتحكم على آخر عن هوى من نفسه.

إلا أنه أفطره على الاجتماع فلا تتم له الحياة إلا في مجتمع من أفراد النوع يتعاون فيه الجميع على رفع حوائج الجميع ثم يختص كل منهم بما له من نصيب بمقدار ما له من الزنة الاجتماعية ، ومن البديهي أن الاجتماع لا يقوم على ساق إلا بسنن وقوانين تجري فيها ، وحكومة يتولاها بعضهم تحفظ النظم وتجري القوانين كل ذلك على حسب ما يدعو إليه مصالح المجتمع.

فلا مناص من أن يفدي المجتمعون بعض حريتهم قبال القانون والسنة الجارية

٣٦٧

بالحرمان من الانطلاق والاسترسال ليسعدوا لذلك بنيل بعض مشتهياتهم وإحياء البعض الباقي من حريتهم.

فالإنسان الاجتماعي لا حرية له قبال المسائل الحيوية التي تدعو إليه مصالح المجتمع ومنافعه ، والذي يتحكمه الحكومة في ذلك من الأمر والنهي ليس من الاستعباد والاستكبار في شيء إذ إنها إنما يتحكم فيما لا حرية للإنسان الاجتماعي فيه ، وكذا الواحد من الناس المجتمعين إذا رأى من أعمال إخوانه المجتمعين ما يضر بحال المجتمع أو لا ينفع لإبطاله ركنا من أركان المصالح الأساسية فيها فبعثه ذلك إلى وعظهم بما يرشدهم إلى اتباع سبيل الرشد فأمرهم بما يجب عليهم العمل به ونهاهم عن اقتراف ما يجب عليهم الانتهاء عنه لم يكن هذا الواحد متحكما عن هوى النفس مستعبدا للأحرار المجتمعين من بني نوعه فإنه لا حرية لهم قبال المصالح العالية والأحكام اللازمة المراعاة في مجتمعهم ، وليس ما يلقيه إليهم من الأمر والنهي في هذا الباب أمرا أو نهيا له في الحقيقة بل كان أمرا ونهيا ناشئين عن دعوة المصالح المذكورة قائمين بالمجتمع من حيث هو مجتمع بشخصيته الوسيعة ، وإنما الواحد الذي يلقي إليهم الأمر والنهي بمنزلة لسان ناطق لا يزيد على ذلك.

وأمارة ذلك أن يأتمر هو نفسه بما يأمر به وينتهي هو نفسه عما ينهى عنه من غير أن يخالف قوله فعله ونظره عمله ، إذ الإنسان مطبوع على التحفظ على منافعه ورعاية مصالحه فلو كان فيما يدعو إليه غيره من العمل خير وهو مشترك بينهما لم يخالفه بشخصه ، ولم يترك لنفسه ما يستحسنه لغيره ، ولذلك قال عليه‌السلام فيما ألقاه إليهم من الجواب : « وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ » وقال أيضا كما حكاه الله تتميما للفائدة ودفعا لأي تهمة تتوجه إليه : « وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ » الشعراء : ـ ١٨٠.

فهو عليه‌السلام يشير بقوله : « وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ » إلخ ، إلى أن الذي ينهاهم عنه من الأمور التي فيها صلاح مجتمعهم الذي هو أحد أفراده ، ويجب على الجميع مراعاتها وملازمتها ، وليس اقتراحا استعباديا عن هوى من نفسه ، ولذلك عقبه بقوله : « إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ».

وملخص المقام أنهم لما سمعوا من شعيب عليه‌السلام الدعوة إلى ترك عبادة الأصنام

٣٦٨

والتطفيف ردوه بأن ذلك اقتراح منه مخالف لما هم عليه من الحرية الإنسانية التي تسوغ لهم أن يعبدوا من شاءوا ويفعلوا في أموالهم ما شاءوا.

فرد عليهم شعيب عليه‌السلام بأن الذي يدعوهم إليه ليس من قبل نفسه حتى ينافي مسألتهم ذلك حريتهم ويبطل به استقلالهم في الشعور والإرادة بل هو رسول من ربهم إليهم وله على ذلك آية بينة ، والذي أتاهم به من عند الله الذي يملكهم ويملك كل شيء وهم عباده لا حرية لهم قباله ، ولا خيرة لهم فيما يريده منهم.

على أن الذي ألقاه إليهم من الأمور التي فيها صلاح مجتمعهم وسعادة أنفسهم في الدنيا والآخرة ، وأمارة ذلك أنه لا يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه بل هو مثلهم في العمل به ، وإنما يريد الإصلاح ما استطاع ، ولا يريد منهم على ذلك أجرا إن أجره إلا على رب العالمين.

وقوله : « وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ » في مقام الاستثناء من الاستطاعة فإنه عليه‌السلام لما ذكر لهم أنه يريد إصلاح مجتمعهم بالعلم النافع والعمل الصالح على مقدار ما له من الاستطاعة وفي ضوئها أثبت لنفسه استطاعة وقدرة وليست للعبد باستقلاله وحيال نفسه استطاعة دون الله سبحانه أتم ما في كلامه من النقص والقصور بقوله : « وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ » أي إن الذي يترشح من إرادتي باستطاعة مني من تدبير أمور مجتمعكم وتوفيق الأسباب بعضها ببعض الناتجة لسعادته إنما هو بالله سبحانه لا غنى عنه ولا مخرج من إحاطته ولا استقلال في أمر دونه فهو الذي أعطاني ما هو عندي من الاستطاعة ، وهو الذي يوفق الأسباب من طريق استطاعتي فاستطاعتي منه وتوفيقي به.

بين عليه‌السلام هذه الحقيقة ، واعترف بأن توفيقه بالله ، وذلك من فروع كونه تعالى هو الفاطر لكل نفس والحافظ عليها والقائم على كل نفس بما كسبت كما قال : « الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » الفاطر : ـ ١ ، وقال : « وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ » السبأ : ـ ٢١ ، وقال : « أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ » الرعد : ـ ٣٣ ، وقال : « إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا » الفاطر : ـ ٤١ ومحصله أنه تعالى هو الذي أبدع الأشياء وأعمالها والروابط التي بينها وأظهرها بالوجود ،

٣٦٩

وهو الذي قبض على كل شيء فأمسكه وأمسك آثاره والروابط التي بينها أن تزول وتغيب وراء ستر البطلان.

ولازم ذلك أنه تعالى وكيل كل شيء في تدبير أموره فهي منسوبة إليه تعالى في تحققها وتحقق الروابط التي بينها لما أنه محيط بها قاهر عليها ولها مع ذلك نسبة إلى ذلك الشيء بإذنه تعالى.

ومن الواجب للعبد العالم بمقام ربه العارف بهذه الحقيقة أن يمثلها بإنشاء التوكل على ربه والإنابة والرجوع إليه ، ولذلك لما ذكر شعيب عليه‌السلام أن توفيقه بالله عقبه بإنشاء التوكل والإنابة فقال : « عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ».

( كلام في معنى حرية الإنسان في عمله )

الإنسان بحسب الخلقة موجود ذو شعور وإرادة له أن يختار لنفسه ما يشاء من الفعل وبعبارة أخرى له في كل فعل يقف عليه أن يختار جانب الفعل وله أن يختار جانب الترك فكل فعل من الأفعال الممكنة الإتيان إذا عرض عليه كان هو بحسب الطبع واقفا بالنسبة إليه على نقطة يلتقي فيها طريقان : الفعل والترك فهو مضطر في التلبس والاتصاف بأصل الاختيار لكنه مختار في الأفعال المنتسبة إليه الصادرة عنه باختياره أي إنه مطلق العنان بالنسبة إلى الفعل والترك بحسب الفطرة غير مقيد بشيء من الجانبين ولا مغلول ، وهو المراد بحرية الإنسان تكوينا.

ولازم هذه الحرية التكوينية حرية أخرى تشريعية يتقلد بها في حياته الاجتماعية وهو أن له أن يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة ويعمل بما شاء من العمل ، وليس لأحد من بني نوعه أن يستعلي عليه فيستعبده ويتملك إرادته وعمله فيحمل بهوى نفسه عليه ما يكرهه فإن أفراد النوع أمثال لكل منهم ما لغيره من الطبيعة الحرة ، قال تعالى : « وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ » آل عمران : ـ ٦٤ وقال : « ما كانَ لِبَشَرٍ ـ إلى أن قال ـ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ » آل عمران : ـ ٧٩.

٣٧٠

هذا ما للإنسان بالقياس إلى أمثاله من بني نوعه ، وإما بالقياس إلى العلل والأسباب الكونية التي أوجدت الطبيعة الإنسانية فلا حرية له قبالها فإنها تملكه وتحيط به من جميع الجهات وتقلبه ظهرا لبطن ، وهي التي بإنشائها ونفوذ أمرها فعلت بالإنسان ما فعلت فأظهرته على ما هو عليه من البنيان والخواص من غير أن يكون له الخيرة من أمره فيقبل ما يحبه ويرد ما يكرهه بل كان كما أريد لا كما أراد حتى إن أعمال الإنسان الاختيارية وهي ميدان الحرية الإنسانية إنما تطيع الإنسان فيما أذنت فيه هذه العلل والأسباب فليس كل ما أحبه الإنسان وأراده بواقع ولا هو في كل ما اختاره لنفسه بموفق له ، وهو ظاهر.

وهذه العلل والأسباب هي التي جهزت الإنسان بجهازات تذكره حوائجه ونواقص وجوده ، وتبعثه إلى أعمال فيها سعادته وارتفاع نواقصه وحوائجه كالغاذية مثلا التي تذكره الجوع والعطش وتهديه إلى الخبز والماء لتحصيل الشبع والري وهكذا سائر الجهازات التي في وجوده.

ثم إن هذه العلل والأسباب أوجبت إيجابا تشريعيا على الإنسان الفرد أمورا ذات مصالح واقعية لا يسعه إنكارها ولا الاستنكاف بالاستغناء عنها كالأكل والشرب والإيواء والاتقاء من الحر والبرد والدفاع تجاه كل ما يضاد منافع وجوده.

ثم أفطرته بالحياة الاجتماعية فأذعن بوجوب تأسيس المجتمع المنزلي والمدني والسير في مسير التعاون والتعامل ، ويضطره ذلك إلى الحرمان عن موهبة الحرية من جهتين :

إحداهما أن الاجتماع لا يتم من الفرد إلا بإعطائه الأفراد المتعاونين له حقوقا متقابلة محترمة عنده ليعطوه بإزائها حقوقا يحترمونها وذلك بأن يعمل للناس كما يعملون له ، وينفعهم بمقدار ما ينتفع بهم ، ويحرم عن الانطلاق والاسترسال في العمل على حسب ما يحرمهم فليس له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بل هو حر فيما لا يزاحم حرية الآخرين ، وهذا حرمان عن بعض الحرية للحصول على بعضها.

وثانيتهما : أن المجتمع لا يقوم له صلب دون أن يجري فيه سنن وقوانين يتسلمها الأفراد المجتمعون أو أكثرهم تضمن تلك السنن والقوانين منافعهم العامة بحسب

٣٧١

ما للاجتماع من الحياة الراقية أو المنحطة الردية ، ويستحفظ بها مصالحهم العالية الاجتماعية.

ومن المعلوم أن احترام السنن والقوانين يسلب الحرية عن المجتمعين في مواردها فالذي يستن سنة أو يقنن قانونا سواء كان هو عامة المجتمعين أو المندوبين منهم أو السلطان أو كان هو الله ورسوله ـ على حسب اختلاف السنن والقوانين ـ يحرم الناس بعض حريتهم ليحفظ به البعض الآخر منها ، قال الله تعالى : « وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ » القصص : ـ ٦٨ ، وقال تعالى : « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً » الأحزاب : ـ ٣٦.

فتلخص أن الإنسان إنما هو حر بالقياس إلى أبناء نوعه فيما يقترحونه لهوى من أنفسهم ، وأما بالنسبة إلى ما تقتضيه مصالحه الملزمة وخاصة المصالح الاجتماعية العامة على ما تهديه إليها وإلى مقتضياتها العلل والأسباب فلا حرية له البتة ، ولا أن الدعوة إلى سنة أو أي عمل يوافق المصالح الإنسانية من ناحية القانون أو من بيده إجراؤه أو الناصح المتبرع الذي يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر متمسكا بحجة بينة ، من التحكم الباطل وسلب الحرية المشروعة في شيء.

ثم إن العلل والأسباب المذكورة وما تهدي إليه من المصالح مصاديق لإرادة الله سبحانه أو إذنه ـ على ما يهدي إليه ويبينه تعليم التوحيد في الإسلام ـ فهو سبحانه المالك على الإطلاق ، وليس لغيره إلا المملوكية من كل جهة ، ولا للإنسان إلا العبودية محضا فمالكيته المطلقة تسلب أي حرية متوهمة للإنسان بالنسبة إلى ربه كما أنها هي تعطيه الحرية بالقياس إلى سائر بني نوعه كما قال تعالى : « أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ » آل عمران : ـ ٦٤.

فهو سبحانه الحاكم على الإطلاق والمطاع من غير قيد وشرط كما قال : « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ » وقد أعطى حق الأمر والنهي والطاعة لرسله ولأولي الأمر وللمؤمنين من الأمة الإسلامية فلا حرية لأحد قبال كلمة الحق التي يأتون به ويدعون إليه ، قال تعالى : « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » النساء : ـ ٥٩ ، وقال

٣٧٢

تعالى : « وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » التوبة : ـ ٧١.

قوله تعالى : « وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ » الجرم بالفتح فالسكون ـ على ما ذكره الراغب ـ قطع الثمرة عن الشجر وقد أستعير لكل اكتساب مكروه ، والشقاق المخالفة والمعاداة. والمعنى : احذروا أن يكتسب لكم مخالفتي ومعاداتي بسبب ما أدعوكم إليه أصابه مصيبة مثل مصيبة قوم نوح وهي الغرق أو قوم هود وهي الريح العقيم أو قوم صالح وهي الصيحة والرجفة.

وقوله : « وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ » أي لا فصل كثيرا بين زمانهم وزمانكم وقد كانت الفاصلة الزمانية بين القومين أقل من ثلاثة قرون ، وقد كان لوط معاصرا لإبراهيم عليه‌السلام وشعيب معاصرا لموسى عليه‌السلام.

وقيل : المراد به نفي البعد المكاني ، والإشارة إلى أن بلادهم الخربة قريبة منكم لقرب مدين من سدوم وهو بالأرض المقدسة ، فالمعنى : وما مكان قوم لوط منكم ببعيد تشاهدون مدائنهم المخسوفة وآثارهم الباقية الظاهرة. والسياق لا يساعد عليه والتقدير خلاف الأصل لا يصار إليه إلا بدليل.

قوله تعالى : « وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ » قد تقدم الكلام في معنى قوله : « وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ » أي استغفروا الله من ذنوبكم وارجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله إن الله ذو رحمة ومودة يرحم المستغفرين التائبين ويحبهم.

وقد قال أولا : « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ » فأضاف الرب إليهم ثم قال في مقام تعليله : « إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ » ولعل الوجه فيه أنه ذكر في مرحلة الأمر بالاستغفار والتوبة من الله سبحانه صفة ربوبيته لأنها الصفة التي ترتبط بها العبادة ومنها الاستغفار والتوبة ، وأضاف ربوبيته إليهم بقوله : « رَبَّكُمْ » لتأكيد الارتباط وللإشعار بأنه هو ربهم لا ما يتخذونها من الأرباب من دون الله.

وكان من حق الكلام أن يقول في تعليله : إن ربكم رحيم ودود لكنه لما كان مع كونه تعليلا ثناء على الله سبحانه ، وقد أثبت سابقا أنه رب القوم إضافة ثانيا

٣٧٣

إلى نفسه ليفيد الكلام بمجموعه معنى أن ربكم وربي رحيم ودود.

على أن في هذه الإضافة معنى المعرفة والخبرة فتفيد تأييدا لصحة القول فإنه في معنى أنه تعالى رحيم ودود وكيف لا؟ وهو ربي أعرفه بهذين الوصفين.

والودود من أسماء الله تعالى ، وهو فعول من الود بمعنى الحب إلا أن المستفاد من موارد استعماله أنه نوع خاص من المحبة وهو الحب الذي له آثار وتبعات ظاهرة كالألفة والمراودة والإحسان ، قال تعالى : « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » الروم : ـ ٢١.

والله سبحانه يحب عباده ويظهر آثار حبه بإفاضة نعمه عليهم « وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها » إبراهيم : ـ ٣٤ فهو تعالى ودود لهم.

قوله تعالى : « قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً » إلى آخر الآية ، الفقه أبلغ من الفهم وأقوى ، ورهط الرجل عشيرته وقومه ، وقيل : إنه من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة وعلى هذا ففي قولهم : رهطك ، إشارة إلى قلتهم وهوان أمرهم ، والرجم هو الرمي بالحجارة.

لما حاجهم شعيب عليه‌السلام وأعياهم بحجته لم يجدوا سبيلا دون أن يقطعوا عليه كلامه من غير طريق الحجة فذكروا له :

أولا : أن كثيرا مما يقوله غير مفهوم لهم فيذهب كلامه لغي لا أثر له ، وهذا كناية عن أنه يتكلم بما لا فائدة فيه.

ثم عقبوه بقولهم : « وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً » أي لا نفهم ما تقول ولست قويا فينا حتى تضطرنا قوتك على الاجتهاد في فهم كلامك والاهتمام بأخذه ، والسمع والقبول له فإنا لا نراك فينا إلا ضعيفا لا يعبأ بأمره ولا يلتفت إلى قوله.

ثم هددوه بقولهم : « وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ » أي ولو لا هذا النفر القليل الذين هم عشيرتك لرجمناك لكنا نراعي جانبهم فيك ، وفي تقليل العشيرة إيماء إلى أنهم لو أرادوا قتله يوما قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته ، وإنما كفهم عن قتله نوع احترام وتكريم منهم لعشيرته.

ثم عقبوه بقولهم : « وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ » تأكيدا لقولهم : « لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ » أي لست بقوي منيع جانبا علينا حتى يمنعنا ذلك من قتلك بشر القتل ،

٣٧٤

وإنما يمنعنا رعاية جانب رهطك. فمحصل قولهم إهانة شعيب وأنهم لا يعبئون به ولا بما قال ، وإنما يراعون في ترك التعرض له جانب رهطه.

قوله تعالى : « قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا » الظهري نسبة إلى الظهر بفتح الظاء المعجمة وإنما غير بالنسب وهو الشيء الذي وراء الظهر فيترك نسيا منسيا يقال : اتخذه وراءه ظهريا أي نسيه ولم يذكره ولم يعتن به.

وهذا نقض من شعيب لقولهم : « وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ » أي كيف تعززون رهطي وتحترمون جانبهم ، ولا تعززون الله سبحانه ولا تحترمون جانبه وإني أنا الذي أدعوكم إليه من جانبه؟ فهل رهطي أعز عليكم من الله؟ وقد جعلتموه نسيا منسيا وليس لكم ذلك وما كان لكم أن تفعلوه إن ربي بما تعملون محيط بما له من الإحاطة بكل شيء وجودا وعلما وقدرة. وفي الآية طعن في رأيهم بالسفه كما طعنوا في الآية السابقة في رأيه بالهوان.

قوله تعالى : « وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ » إلى آخر الآية. قال في المجمع : ، المكانة الحال التي يتمكن بها صاحبها من عمل. انتهى وهو في الأصل. كما قيل ـ من مكن مكانة كضخم ضخامة إذا قوي على العمل كل القوة ويقال ـ تمكن من كذا أي أحاط به قوة.

وهذا تهديد من شعيب لهم أشد التهديد فإنه يشعر بأنه على وثوق مما يقول لا يأخذه قلق ولا اضطراب من كفرهم به وتمردهم عن دعوته فليعملوا على ما لهم من القوة والتمكن فلهم عملهم وله عمله فسوف يفاجئهم عذاب مخز يعلمون عند ذلك من هو الذي يأخذه العذاب. هم أو هو؟ ويعلمون من هو كاذب؟ فليرتقبوا وهو معهم رقيب لا يفارقهم.

قوله تعالى : « وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً ـ إلى قوله ـ جاثِمِينَ » تقدم ما يتضح به معنى الآية.

قوله تعالى : « كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ » غني في المكان إذا أقام فيه. وقوله : « أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ » إلخ. فيه لعنهم كما لعنت ثمود ، وقد تقدم بعض الكلام فيه في القصص السابقة.

٣٧٥

( بحث روائي )

في تفسير القمي ، قال : قال : بعث الله شعيبا إلى مدين ـ وهي قرية على طريق الشام فلم يؤمنوا به.

وفي تفسير العياشي ، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله : « إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ » قال : كان سعرهم رخيصا.

وفيه ، عن محمد بن الفضيل عن الرضا عليه‌السلام قال : سألته عن انتظار الفرج فقال : أوليس تعلم أن انتظار الفرج من الفرج؟ ثم قال : إن الله تبارك وتعالى يقول : « وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ».

أقول : قوله : ليس تعلم بمعنى لا تعلم وهي لغة مولدة.

وفي المعاني ، بإسناده عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت : فقوله عز وجل : « وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ » وقوله عز وجل : « إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ ـ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ »؟ فقال : إذا فعل العبد ما أمر الله عز وجل به من الطاعة ـ كان فعله وفقا لأمر الله عز وجل وسمي العبد موفقا ، وإذا أراد العبد أن يدخل في شيء من معاصي الله ـ فحال الله تبارك وتعالى بينه وبين تلك المعصية فتركها ـ كان تركه لها بتوفيق الله تعالى ، ومتى خلى بينه وبين المعصية فلم يحل بينه وبينها ـ حتى يتركها فقد خذله ولم ينصره ولم يوفقه.

أقول : محصل بيانه عليه‌السلام أن توفيقه تعالى وخذلانه من صفاته الفعلية فالتوفيق هو نظمه الأسباب بحيث تؤدي العبد إلى العمل الصالح أو عدم إيجاده بعض الأسباب التي يستعان بها على المعصية. والخذلان خلاف ذلك. وعلى ذلك فمتعلق التوفيق الأسباب لأنه إيجاد التوافق بينها وهي المتصفة بها ، وأما توصيف العبد به فمن قبيل الوصف بحال المتعلق.

وفي الدر المنثور ، أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي قال : قلت : يا رسول الله أوصني. قال : قل : ربي الله ثم استقم. قلت : ربي الله وما توفيقي إلا بالله ـ عليه توكلت وإليه أنيب. قال : ليهنئك العلم أبا الحسن ـ لقد شربت العلم شربا ونهلته نهلا.

أقول : وقد تقدمت الإشارة إلى نبذة من معنى الجملة.

وفيه ، أخرج الواحدي وابن عساكر عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله

٣٧٦

صلى‌الله‌عليه‌وآله : بكى شعيب عليه‌السلام من حب الله حتى عمي ـ فرد الله عليه بصره ، وأوحى الله إليه : يا شعيب ما هذا البكاء؟ أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار؟ فقال : لا ولكن اعتقدت حبك بقلبي ، فإذا نظرت إليك فما أبالي ما الذي تصنع بي؟ فأوحى الله إليه : يا شعيب إن يكن ذلك حقا ـ فهنيئا لك لقائي ، يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي.

أقول : المراد بالنظر إليه تعالى هو النظر القلبي دون النظر الحسي المستلزم للجسمية ، تعالى عن ذلك ، وقد تقدم توضيحه في تفسير قوله تعالى : « وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا » الأعراف : ـ ١٤٣ في الجزء الثامن من الكتاب.

وفيه ، أخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه خطب فتلا هذه الآية في شعيب : « وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً » قال : كان مكفوفا فنسبوه إلى الضعف. « وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ » قال علي : فوالله الذي لا إله غيره ما هابوا جلال ربهم ـ ما هابوا إلا العشيرة.

( كلام في قصة شعيب وقومه في القرآن في فصول )

١ ـ هو عليه‌السلام ثالث الرسل من العرب الذين ذكرت أسماؤهم في القرآن وهم هود وصالح وشعيب ومحمد عليه‌السلام ذكر الله تعالى طرفا من قصصه في سور الأعراف وهود والشعراء والقصص والعنكبوت.

كان عليه‌السلام من أهل مدين ـ مدينة في طريق الشام من الجزيرة ـ وكان معاصرا لموسى عليه‌السلام ، وقد زوجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثماني حجج وإن أتم عشرا فمن عنده ( القصص : ٢٧ ) فخدمه موسى عشر سنين ثم ودعه وسار بأهله إلى مصر.

وكان قومه من أهل مدين يعبدون الأصنام وكانوا قوما منعمين بالأمن والرفاهية والخصب ورخص الأسعار فشاع الفساد بينهم والتطفيف بنقص المكيال والميزان ( هود : ٨٤ وغيرها ) فأرسل الله إليهم شعيبا وأمره أن ينهاهم عن عبادة الأصنام وعن الفساد في الأرض ونقص المكيال والميزان فدعاهم إلى ما أمر به ووعظهم بالإنذار والتبشير وذكرهم ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط.

٣٧٧

وبالغ عليه‌السلام في الاحتجاج عليهم وعظتهم فلم يزدهم إلا طغيانا وكفرا وفسوقا ( الأعراف وهود وغيرهما من السور ) ولم يؤمنوا به إلا عدة قليلة منهم فأخذوا في إيذائهم والسخرية بهم وتهديدهم عن اتباع شعيب عليه‌السلام ، وكانوا يقعدون بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجا ( الأعراف : ٨٦ ).

وأخذوا يرمونه عليه‌السلام بأنه مسحور وأنه كاذب ( الشعراء : ١٨٥ ، ١٨٦ ) وأخافوه بالرجم ، وهددوه والذين آمنوا به بالإخراج من قريتهم أو ليعودن في ملتهم ( الأعراف : ٨٨ ) ولم يزالوا به حتى أيأسوه من إيمانهم فتركهم وأنفسهم ( هود : ٩٣ ) ودعا الله بالفتح قال : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.

فأرسل الله إليهم عذاب يوم الظلة ( الشعراء : ١٨٩ ) وقد كانوا يستهزءون به أن أسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين وأخذتهم الصيحة ( هود : ٩٤ ) والرجفة ( الأعراف : ٩١ ـ العنكبوت : ٣٧ ) فأصبحوا في ديارهم جاثمين ونجى شعيبا ومن معه من المؤمنين ( هود : ٩٤ ) ( فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ : يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ ) : الأعراف : ـ ٩٣.

٢ ـ شخصيته المعنوية ، كان عليه‌السلام من زمرة الرسل المكرمين وقد أشركه الله تعالى فيما أثناهم به من الثناء الجميل في كتابه ، وقد حكى عنه فيما كلم به قومه وخاصة في سور الأعراف وهود والشعراء شيئا كثيرا من حقائق المعارف والعلوم الإلهية والأدب البارع مع ربه ومع الناس.

وقد سمى نفسه الرسول الأمين ( الشعراء : ١٧٨ ) ومصلحا ( هود : ٨٨ ) وأنه من الصالحين ( الشعراء : ٢٧ ) فحكى الله ذلك عنه حكاية إمضاء ، وقد خدمه الكليم موسى بن عمران عليه‌السلام زهاء عشر سنين سلام الله عليه.

٣ ـ ذكره في التوراة ، لم تقص التوراة قصته مع قومه وإنما أشارت إليه في ضمن ما ذكرت قصة قتل موسى القبطي وفراره من مصر إلى مديان ( القصة ) فسمته « رعوئيل كاهن مديان ». (١)

__________________

(١) الإصحاح الثاني من سفر الخروج من التوراة.

٣٧٨

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ).

( بيان )

إشارة إلى قصة موسى ـ الكليم ـ عليه‌السلام ، وهو أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن ذكر باسمه في مائة ونيف وثلاثين موضعا منه في بضع وثلاثين سورة وقد اعتنى بتفصيل قصته أكثر من غيره غير أنه تعالى أجمل القول فيها في هذه السورة فاكتفى بالإشارة الإجمالية إليها.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ » الباء في قوله ( بِآياتِنا ) للمصاحبة أي ولقد أرسلنا موسى مصحوبا لآياتنا وذلك أن الذين بعثهم الله من الأنبياء والرسل وأيدهم بالآيات المعجزة طائفتان منهم من أوتي الآية المعجزة على حسب ما اقترحه قومه كصالح عليه‌السلام المؤيد بآية الناقة ، وطائفة أيدوا بآية من الآيات في بدء بعثتهم كموسى وعيسى ومحمد عليه‌السلام ، كما قال تعالى خطابا لموسى عليه‌السلام : « اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي » طه : ـ ٤٢ ، وقال في عيسى عليه‌السلام : « وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ » الخ : ، آل عمران : ـ ٤٩ ، وقال في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله « هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى » الصف : ـ ٩ ، والهدى القرآن بدليل قوله : « ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ » البقرة : ـ ٢ ، وقال تعالى : « وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ » الأعراف : ـ ١٥٧.

٣٧٩

فموسى عليه‌السلام مرسل مع آيات وسلطان مبين ، وظاهر أن المراد بهذه الآيات الأمور الخارقة التي كانت تجري على يده ، ويدل على ذلك سياق قصصه عليه‌السلام في القرآن الكريم.

وأما السلطان وهو البرهان والحجة القاطعة التي يتسلط على العقول والأفهام فيعم الآية المعجزة والحجة العقلية ، وعلى تقدير كونه بهذا المعنى يكون عطفه على الآيات من قبيل عطف العام على الخاص.

وليس من البعيد أن يكون المراد بإرساله بسلطان مبين أن الله سبحانه سلطه على الأوضاع الجارية بينه وبين آل فرعون ذاك الجبار الطاغي الذي ما ابتلي بمثله أحد من الرسل غير موسى عليه‌السلام لكن الله تعالى أظهر موسى عليه حتى أغرقه وجنوده ونجى بني إسرائيل بيده ، ويشعر بهذا المعنى قوله : « قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى » طه : ـ ٤٦ ، وقوله لموسى عليه‌السلام : « لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى » طه : ـ ٦٨.

وفي هذه الآية ونظائرها دلالة واضحة على أن رسالة موسى عليه‌السلام ما كانت تختص بقومه من بني إسرائيل بل كانت تعمهم وغيرهم.

قوله تعالى : « إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ » نسبة رسالته إلى فرعون وملئه ـ والملأ هم أشراف القوم وعظماؤهم الذين يملئون القلوب هيبة ـ دون جميع قومه لعلها للإشارة إلى أن عامتهم لم يكونوا إلا أتباعا لا رأي لهم إلا ما رآه لهم عظماؤهم.

وقوله : « فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ » إلخ ، الظاهر أن المراد بالأمر ما هو الأعم من القول والفعل كما حكى الله عن فرعون في قوله : « قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ » المؤمن : ـ ٢٩ ، فينطبق على السنة والطريقة التي كان يتخذها ويأمر بها. وكان الآية محاذاة لقول فرعون هذا فكذبه الله تعالى بقوله : « وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ».

والرشيد فعيل من الرشد خلاف الغي أي وما أمر فرعون بذي رشد حتى يهدي إلى الحق بل كان ذا غي وجهالة ، وقيل : الرشيد بمعنى المرشد.

٣٨٠