الميزان في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

وقوله : « فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ » أي ما أبطأ في أن قدم إليهم عجلا مشويا يقطر ماء وسمنا وأسرع في ذلك.

قوله تعالى : « فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً » عدم وصول أيديهم إليه كناية عن أنهم ما كانوا يمدون أيديهم إلى الطعام ، وذلك أمارة العداوة وإضمار الشر ، ونكرهم وأنكرهم بمعنى واحد وإنما كان أنكرهم لإنكاره ما شاهد منهم من فعل غير معهود.

والإيجاس الخطور القلبي ، قال الراغب : الوجس الصوت الخفي ، والتوجس التسمع ، والإيجاس وجود ذلك النفس قال : وأوجس منهم خيفة ، والواجس قالوا : هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لأن الهاجس مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر. انتهى. فالجملة من الكناية كان لطروق الخيفة ـ وهو النوع من الخوف ـ وخطوره في النفس صوتا تسمع بالسمع القلبي ، والمراد أنه استشعر في نفسه خوفا ولذلك أمنوه وطيبوا نفسه بقولهم : « لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ».

ومعنى الآية أن إبراهيم عليه‌السلام لما قدم إليهم العجل المشوي رآهم لا يأكلون منه كالممتنع من الأكل ـ وذلك أمارة الشر ـ استشعر في نفسه منهم خوفا قالوا تأمينا له وتطييبا لنفسه : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط فعلم أنهم من الملائكة الكرام المنزهين من الأكل والشرب وما يناظر ذلك من لوازم البدن المادية ، وأنهم مرسلون لخطب جليل.

ونسبة استشعار الخوف إلى إبراهيم عليه‌السلام لا ينافي ما كان عليه من مقام النبوة الملازم للعصمة الإلهية من المعصية والرذائل الخلقية فإن مطلق الخوف وهو تأثر النفس عن مشاهدة المكروه التي تبعثها إلى التحذر منه والمبادرة إلى دفعه ليس من الرذائل ، وإنما الرذيلة هي التأثر الذي يستوجب بطلان مقاومة النفس وظهور العي والفزع والذهول عن التدبير لدفع المكروه وهو المسمى بالجبن كما أن عدم التأثر عن مشاهدة المكروه مطلقا وهو المسمى تهورا ليس من الفضيلة في شيء.

وذلك أن الله سبحانه لم يخلق هذه الحالات النفسانية التي تظهر في النفوس

٣٢١

ومنها التأثر والانفعال عند مشاهدة المكروه والشر كالشوق والميل والحب وغير ذلك عند مشاهدة المحبوب والخير عبثا باطلا فإن جلب الخير والنفع ودفع الشر والضرر مما فطر على ذلك أنواع الموجودات على كثرتها وعليه يدور رحى الوجود في نظامه العام.

ولما كان هذا النوع المسمى بالإنسان إنما يسير في مسير بقائه بالشعور والإرادة كان عمل الجلب والدفع فيه مترشحا عن شعوره وإرادته ، ولا يتم إلا عن تأثر نفساني يسمى في جانب الحب ميلا وشهوة وفي جانب البغض والكراهة خوفا ووجلا.

ثم لما كانت هذه الأحوال النفسانية الباطنة ربما ساقت الإنسان إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط كان من الواجب على الإنسان أن يقوم من الدفع على ما ينبغي وهو فضيلة الشجاعة كما أن من الواجب عليه أن يبادر من الجلب إلى ما ينبغي على ما ينبغي وهو فضيلة العفة وهما حدا الاعتدال بين الإفراط والتفريط ، وأما انتفاء التأثر بأن يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة الصريحة في باب الدفع وهو التهور ، أولا تنزع نفسه إلى شيء مطلوب قط في باب الجلب والشهوة وهو الخمول وكذا بلوغ التأثر من القوة إلى حيث ينسى الإنسان نفسه ويذهل عن واجب رأيه وتدبيره فيجزع عن كل شبح يتراءى له في باب الدفع وهو الجبن أو ينكب على كل ما تهواه نفسه وتشتهيه كالبهيمة على عليقها في باب الشهوة وهو الشره فجميع هذه من الرذائل.

والذي آثر الله سبحانه به أنبياءه من العصمة إنما يثبت في نفوسهم فضيلة الشجاعة دون التهور ، وليست الشجاعة تقابل الخوف الذي هو مطلق التأثر عن مشاهدة المكروه ، وهو الذي يدعو النفس إلى القيام بواجب الدفع ، وإنما تقابل الجبن الذي هو بلوغ التأثر النفساني إلى حيث يبطل الرأي والتدبير ويستتبع العي والانهزام.

قال تعالى : « الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ » الأحزاب : ـ ٣٩ ، وقال مخاطبا لموسى عليه‌السلام : « لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى » طه : ـ ٦٨ ، وقال حكاية عن قول شعيب له عليه‌السلام : « لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ

٣٢٢

الظَّالِمِينَ » القصص : ـ ٢٥ ، وقال مخاطبا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ » الأنفال : ـ ٥٨.

والخليل عليه‌السلام هو النبي الكريم الذي قام بالدعوة الحقة إذ لا يذكر اسم الله وحده ، ونازع وثنية قومه فحاج أباه آزر وقومه وحاج الملك الجبار نمرود وكان يدعي الألوهية ، وكسر أصنام القوم حتى ألقوه في النار فأنجاه الله من النار فلم يجبنه شيء من تلك المهاول ، ولا هزمه في جهاده في سبيل الله هازم ، ومثل هذا النبي على ما له من الموقف الروحي إن خاف من شيء أو وجل من أحد أو ارتاعه أمر ـ على اختلاف تعبير الآيات ـ فإنما يخافه خوف حزم ولا يخافه خوف جبن ، وإذا خاف من شيء على نفسه أو عرضه أو ماله فإنما يخاف لله لا لهوى من نفسه.

قوله تعالى : « وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ » ضحكت من الضحك بفتح الضاد أي حاضت ، ويؤيده تفريع البشارة عليه في قوله عقيبه : « فَبَشَّرْناها » إلخ ، ويكون ضحكها أمارة تقرب البشرى إلى القبول ، وآية تهيئ نفسها للإذعان بصدقهم فيما يبشرون به ، ويكون ذكر قيامها لتمثيل المقام وأنها ما كانت تخطر ببالها أنها ستحيض وهي عجوز ، وإنما كانت قائمة تنظر ما يجري عليه الأمر بين بعله وبين الضيفان النازلين به وتحادثهم.

والمعنى أن إبراهيم عليه‌السلام كان يكلمهم ويكلمونه في أمر الطعام والحال أن امرأته قائمة هناك تنظر إلى ما يجري بين الضيفان وبين إبراهيم وما كان يخطر ببالها شيء دون ذلك ففاجأها أنها حاضت فبشرته الملائكة بالولد.

وأكثر المفسرين أخذوا الكلمة من الضحك بكسر الضاد ضد البكاء ثم اختلفوا في توجيه سببه ، وأقرب الوجوه هو أن يقال : إنها كانت قائمة هناك وقد ذعرت من امتناع الضيوف من الأكل وهو يهتف بالشر فلما لاحت لها أنهم ملائكة مكرمون نزلوا ببيتهم وأن لا شر في ذلك يتوجه إليهم سرت وفرحت فضحكت فبشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب.

وهناك وجوه أخر ذكروها خالية عن الدليل كقولهم إنها ضحكت تعجبا من غفلة قوم لوط ، وقولهم : إنها ضحكت تعجبا من امتناع الضيوف من الأكل

٣٢٣

والحال أنها تخدمهم بنفسها ، وقولهم : إنها كانت أشارت إلى إبراهيم أن يضم إليه لوطا لأن فحشاء قومه سيعقبهم العذاب والهلاك فلما سمعت من الملائكة قولهم : إنا أرسلنا إلى قوم لوط سرت وضحكت لإصابتها في الرأي ، وقولهم : إنها ضحكت تعجبا مما بشروها به من الولد وهي عجوز عقيم ، وعلى هذا ففي الكلام تقديم وتأخير والتقدير : فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت.

وقوله : « فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ » إسحاق هو ابنها من إبراهيم ، ويعقوب هو ابن إسحاق عليه‌السلام فالمراد أن الملائكة بشروها بأنها ستلد إسحاق وإسحاق سيولد له يعقوب ولد بعد ولد. هذا على قراءة يعقوب بالفتح وهو منزوع الخافض وقرئ برفع يعقوب وهو بيان لتتمة البشارة ، والأولى أرجح.

وكان في هذا التعبير : « وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ » إشارة إلى وجه تسمية يعقوب عليه‌السلام بهذا الاسم ، وهو أنه كان يعقب بحسب هذه البشارة أباه إسحاق وقد ذكر فيها أنه وراءه ، ويكون فيها تخطئة لما في التوراة من السبب في تسمية يعقوب به.

قال في التوراة الحاضرة : وكان إسحاق ابن أربعين سنة لما اتخذ لنفسه زوجه « رفقة » بنت بنوئيل الأرامي أخت لابان الأرامي من فدان الأرام ، وصلى إسحاق إلى الرب لأجل امرأته لأنها كانت عاقرا فاستجاب له الرب فحبلت رفقة امرأته وتزاحم الولدان في بطنها فقالت : إن كان هكذا فلما ذا أنا ، فمضت لتسأل الرب فقال لها الرب : في بطنك أمتان ، ومن أحشائك يفترق شعبان : شعب يقوى على شعب ، وكبير يستعبد لصغير.

فلما كملت أيامها لتلد إذا في بطنها توأمان فخرج الأول أحمر كله كفروة شعر فدعي اسمه عيسو ، وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو فدعي اسمه يعقوب. انتهى موضع الحاجة وهذا من لطائف القرآن الكريم.

قوله تعالى : « قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ » الويل القبح وكل مساءة توجب التحسر من هلكة أو مصيبة أو فجيعة ، أو فضيحة ونداؤه كناية عن حضوره وحلوله يقال : يا ويلي أي حضرني وحل بي ما

٣٢٤

فيه تحسري ، ويا ويلتا بزيادة التاء عند النداء مثل يا أبتا.

والعجوز الشيخة من النساء ، والبعل زوج المرأة والأصل في معناه القائم بالأمر المستغني عن الغير يقال للنخل الذي يستغني بماء السماء عن سقي الأنهار والعيون بعل ، ويقال للصاحب وللرب : بعل. ومنه بعلبك لأنه كان فيه هيكل بعض أصنامهم.

والعجيب صفة مشبهة من العجب وهو الحال العارض للإنسان من مشاهدة ما لا يعلم سببه ، ولذا يكثر في الأمور الشاذة النادرة للجهل بسببها عادة وقولها : « يا وَيْلَتى أَأَلِدُ » إلخ ، وارد مورد التعجب والتحسر فإنها لما سمعت بشارة الملائكة تمثل لها الحال بتولد ولد من عجوز عقيم وشيخ هرم بالغين في الكبر لا يعهد من مثلهما الاستيلاد فهو أمر عجيب على ما فيه من العار والشين عند الناس فيضحكون منهما ويهزءون بهما وذلك فضيحة.

قوله تعالى : « قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ » المجد هو الكرم والمجيد الكريم كثير النوال وقد تقدم معنى بقية مفردات الآية.

وقولهم : « أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ » استفهام إنكاري أنكرت الملائكة تعجبها عليها لأن التعجب إنما يكون للجهل بالسبب واستغراب الأمر ، والأمر المنسوب إلى الله سبحانه وهو الذي يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير لا وجه للتعجب منه.

على أنه تعالى خص بيت إبراهيم بعنايات عظيمة ومواهب عالية يتفردون بها من بين الناس فلا ضير إن ضم إلى ما مضى من نعمه النازلة عليهم نعمة أخرى مختصة بهم من بين الناس وهو ولد من زوجين شائخين لا يولد من مثلهما ولد عادة.

ولهذا الذي ذكرنا قالت الملائكة لها في إنكار ما رأوا من تعجبها أولا : « أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ » فأضافوا الأمر إلى الله لينقطع بذلك كل استعجاب واستغراب لأن ساحة الألوهية لا يشق شيء عليها وهو الخالق لكل شيء.

وثانيا : « رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ » فنبهوها بذلك أن الله أنزل رحمته وبركاته عليهم أهل البيت ، وألزمهم ذلك فليس من البعيد أن يكون من ذلك تولد مولود من والدين في غير سنهما العادي المألوف لذلك.

٣٢٥

وقوله : « إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ » في مقام التعليل لقوله : « رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ » أي إنه تعالى مصدر كل فعل محمود ومنشأ كل كرم وجود يفيض من رحمته وبركاته على من يشاء من عباده.

قوله تعالى : « فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ » الروع الخوف والرعب والمجادلة في الأصل الإلحاح في البحث والمساءلة للغلبة في الرأي ، والمعنى أنه لما ذهب عن إبراهيم ما اعتراه من الخيفة بتبين أن النازلين به لا يريدون به سوءا ولا يضمرون له شرا. وجاءته البشرى بأن الله سيرزقه وزوجه إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب أخذ يجادل الملائكة في قوم لوط يريد بذلك أن يصرف عنهم العذاب.

فقوله : « يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ » لحكاية الحال الماضية أو بتقدير فعل ماض قبله وتقديره : أخذ يجادلنا إلخ ، لأن الأصل في جواب لما أن يكون فعلا ماضيا.

ويظهر من الآية أن الملائكة أخبروه أولا : بأنهم مرسلون إلى قوم لوط ثم ألقوا إليه البشارة ثم جرى بينهم الكلام في خصوص عذاب قوم لوط فأخذ إبراهيم عليه‌السلام يجادلهم ليصرف عنهم العذاب فأخبروه بأن القضاء حتم ، والعذاب نازل لا مرد له.

والذي ذكره الله من مجادلته عليه‌السلام الملائكة هو قوله في موضع آخر : « وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ » العنكبوت : ـ ٣٢.

قوله تعالى : « إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ » الحليم هو الذي لا يعاجل العقوبة والانتقام ، والأواه كثير التأوه مما يصيبه أو يشاهده من السوء ، والمنيب من الإنابة وهو الرجوع والمراد الرجوع في كل أمر إلى الله.

والآية مسوقة لتعليل قوله في الآية السابقة : « يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ » وفيه مدح بالغ لإبراهيم عليه‌السلام وبيان أنه إنما كان يجادل فيهم لأنه كان حليما لا يعاجل نزول العذاب على الظالمين رجاء أن يأخذهم التوفيق فيصلحوا ويستقيموا ، وكان

٣٢٦

كثير التأثر من ضلال الناس وحلول الهلاك بهم مراجعا إلى الله في نجاتهم. لا أنه عليه‌السلام كان يكره عذاب الظالمين وينتصر لهم بما هم ظالمون وحاشاه عن ذلك.

قوله تعالى : « يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ » هذا حكاية قول الملائكة لإبراهيم عليه‌السلام وبذلك قطعوا عليه جداله فانقطع حيث علم أن الإلحاح في صرف العذاب عنهم لن يثمر ثمرا فإن القضاء حتم والعذاب واقع لا محالة. فقولهم : « يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا » أي انصرف عن هذا الجدال ولا تطمع في نجاتهم فإنه طمع فيما لا مطمع فيه.

وقولهم : « إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ » أي بلغ أمره مبلغا لا يدفع بدافع ولا يتبدل بمبدل ويؤيده قوله في الجملة التالية : « وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ » فإن ظاهره المستقبل ولو كان الأمر صادرا لم يتخلف القضاء عن المقضي البتة ويؤيده أيضا قوله في ما سيأتي من آيات قصة قوم لوط : « فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها » إلخ ، آية ـ ٨٢ من السورة.

وقولهم : « وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ » أي غير مدفوع عنهم بدافع فلله الحكم لا معقب لحكمه ، والجملة بيان لما أمر به جيء بها تأكيدا للجملة السابقة والمقام مقام التأكيد ، ولذلك جيء في الجملة الأولى بضمير الشأن وقد المفيد للتحقيق ، وصدرت الجملتان معا بأن ، وأضافوا الأمر إلى رب إبراهيم عليه‌السلام دون أمر الله ليعينهم ذلك على انقطاعه عن الجدال.

( بحث روائي )

في الكافي ، بإسناده عن أبي يزيد الحمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله بعث أربعة أملاك في إهلاك قوم لوط : جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وكروبيل ـ فمروا بإبراهيم فسلموا عليه وهم معتمون فلم يعرفهم ، ورأى هيئة حسنة فقال : لا يخدم هؤلاء إلا أنا بنفسي ـ وكان صاحب ضيافة فشوى لهم عجلا سمينا ـ حتى أنضجه فقربه إليهم فلما وضع بين أيديهم ـ رأى أيديهم لا تصل إليه فنكرهم ـ وأوجس منهم خيفة فلما رأى ذلك جبرئيل ـ حسر العمامة عن وجهه فعرفه إبراهيم فقال : أنت هو؟

٣٢٧

قال : نعم فمرت به امرأته ـ فبشرها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فقالت : ما قال الله عز وجل وأجابوها بما في الكتاب ـ.

فقال لهم إبراهيم : لما ذا جئتم؟ فقالوا في إهلاك قوم لوط. قال : إن كان فيها مائة من المؤمنين أتهلكونها؟ قال جبرئيل : لا. قال : وإن كان فيهم خمسون؟ قال : لا. قال : وإن كان فيهم ثلاثون؟ قال : لا. قال : وإن كان فيهم عشرون؟ قال : لا. قال : وإن كان فيهم عشرة؟ قال : لا. قال : وإن كان فيهم خمسة؟ قال : لا. قال : وإن كان فيهم واحد؟ قال : لا. قال : فإن فيها لوطا. قالوا : نحن أعلم بمن فيها ـ لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ـ ثم مضوا.

قال : وقال الحسن بن علي : لا أعلم هذا القول إلا وهو يستبقيهم وهو قول الله عز وجل : « يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ » الحديث وله تتمة ستوافيك في قصة لوط.

أقول : وقوله : « لا أعلم هذا القول إلا وهو يستبقيهم » يمكن استفادته من قوله تعالى : « إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ » فإنه أنسب بكون غرضه استبقاء القوم لا استبقاء نبي الله لوط. على أن قوله : « يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ » وقوله : « إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ » إنما يناسب استبقاء القوم.

وفي تفسير العياشي ، عن عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : جاء بعجل حنيذ مشويا نضيجا.

وفي معاني الأخبار ، بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله عز وجل : ( فَضَحِكَتْ ـ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ) قال : حاضت.

وفي الدر المنثور ، أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما رأى إبراهيم أنه لا تصل إلى العجل أيديهم ـ نكرهم وخافهم ، وإنما كان خوف إبراهيم أنهم كانوا في ذلك الزمان ـ إذا هم أحدهم بامرئ سوء لم يأكل عنده ـ يقول : إذا أكرمت بطعامه حرم على أذاه ، فخاف إبراهيم أن يريدوا به سوء فاضطربت مفاصله ـ.

وامرأته سارة قائمة تخدمهم ، وكان إذا أراد أن يكرم ضيفا أقام سارة ـ

٣٢٨

ليخدمهم فضحكت سارة ، وإنما ضحكت أنها قالت : يا إبراهيم وما تخاف؟ إنهم ثلاثة نفر وأنت وأهلك وغلمانك. قال لها جبرئيل : أيتها الضاحكة ـ أما إنك ستلدين غلاما يقال له : إسحاق ـ ومن ورائه غلام يقال له : يعقوب ـ فأقبلت في صرة فصكت وجهها فأقبلت والهة تقول : وا ويلتاه ووضعت يدها على وجهها استحياء ـ فذلك قوله : فصكت وجهها ، وقالت : أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا ـ.

قال : لما بشر إبراهيم يقول الله : فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى بإسحاق ـ يجادلنا في قوم لوط ، وكان جداله أنه قال : يا جبرئيل أين تريدون؟ وإلى من بعثتم؟ قال : إلى قوم لوط وقد أمرنا بعذابهم ـ.

فقال إبراهيم إن فيها لوطا. قالوا : نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته ، وكانت فيما زعموا تسمى والقة. فقال إبراهيم : إن كان فيهم مائة مؤمن أتعذبونهم؟ قال جبرئيل : لا. قال : فإن كان فيهم تسعون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبرئيل : لا. قال : فإن كان فيهم ثمانون مؤمنون ـ تعذبونهم؟ قال جبرئيل : لا ـ حتى انتهى في العدد إلى واحد مؤمن قال جبرئيل : لا. فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنا واحدا ـ قال : إن فيها لوطا. قالوا نحن أعلم بمن فيها ـ لننجينه وأهله إلا امرأته.

أقول : وفي متن الحديث اضطراب ما من حيث ذكره قول إبراهيم : إن فيها لوطا أولا وثانيا لكن المراد واضح.

وفي تفسير العياشي ، عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن الله تبارك وتعالى لما قضى عذاب قوم لوط وقدره ـ أحب أن يعوض إبراهيم من عذاب قوم لوط بغلام عليم ـ يسلي به مصابه بهلاك قوم لوط ـ.

قال : فبعث الله رسلا إلى إبراهيم يبشرونه بإسماعيل. قال : فدخلوا عليه ليلا ففزع منهم ـ وخاف أن يكونوا سراقا ـ فلما رأته الرسل فزعا مذعورا قالوا : سلاما. قال : سلام إنا منكم وجلون. قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم. قال أبو جعفر عليه‌السلام : والغلام العليم إسماعيل من هاجر ـ فقال إبراهيم للرسل : أبشرتموني ـ على أن مسني الكبر فبم تبشرون. قالوا : بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين.

٣٢٩

قال إبراهيم للرسل : فما خطبكم بعد البشارة؟ قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين قوم لوط ـ إنهم كانوا قوما فاسقين لننذرهم عذاب رب العالمين ، قال أبو جعفر عليه‌السلام : قال إبراهيم : إن فيها لوطا. قالوا : نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله ـ إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين ـ.

فلما عذبهم الله أرسل الله إلى إبراهيم رسلا ـ يبشرونه بإسحاق ويعزونه بهلاك قوم لوط ، وذلك قوله : ( وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ـ قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ ) قوم منكرون ـ ( فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ) ـ يعني زكيا مشويا نضيجا ـ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ـ قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة. قال أبو جعفر عليه‌السلام : إنما عنوا سارة قائمة ـ فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ـ فضحكت يعني فعجبت من قولهم.

أقول : والرواية ـ كما ترى ـ تجعل قصة البشارة قصتين : البشارة بإسماعيل والبشارة بإسحاق وقد ولد بعد إسماعيل بسنين. ثم تحمل آيات سورة الحجر ـ ولم يذكر فيها تقديم العجل المشوي إلى الضيوف ـ على البشرى بإسماعيل ولما يقع العذاب على قوم لوط حين ذاك ، وتحمل آيات سورتي الذاريات وهود ـ وقد اختلطتا في الرواية ـ على البشرى لسارة بإسحاق ويعقوب ، وأنها إنما كانت بعد هلاك قوم لوط فراجعوا إبراهيم وأخبروه بوقوع العذاب وبشروه البشارة الثانية.

أما آيات سورة الحجر فإنها في نفسها تحتمل الحمل على البشارة بإسماعيل وكذا الآيات الواقعة في سورة الذاريات تحتمل أن تقص عما بعد هلاك قوم لوط وتكون البشرى بإسحاق ويعقوب عند ذلك.

وأما آيات سورة هود فإنها صريحة في البشرى بإسحاق ويعقوب ، ولكن ما في ذيلها من قوله : « يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ » إلى آخر الآيات تأبى أن تنطبق على ما بعد هلاك قوم لوط ، وإن كان ما في صدرها من قوله : « إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ » لا يأبى وحدة الحمل على ما بعد الهلاك ، وكذا جملة « إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ » لو لا ما يحفها من قيود الكلام.

وبالجملة مفاد الآيات في سورة هود هو وقوع البشرى بإسحاق قبل هلاك قوم

٣٣٠

لوط ، وعند ذلك كان جدال إبراهيم عليه‌السلام ، ومقتضى ذلك أن تكون ما وقع من القصة في سورة الذاريات هي الواقعة قبل هلاك القوم لا بعد الهلاك ، وكذا كون ما وقع من القصة في سورة الحجر وفيه التصريح بكونه قبل هلاكهم وفيه جدال إبراهيم عليه‌السلام خاليا عن بشرى إسحاق ويعقوب لا بشرى إسماعيل.

والحاصل أن اشتمال آيات هود على بشرى إسحاق وجدال إبراهيم عليه‌السلام الظاهر في كونها قبل هلاك قوم لوط يوجب أن يكون المذكور من البشرى في جميع السور الثلاث : هود والحجر والذاريات قصة واحدة هي قصة البشرى بإسحاق قبل وقوع العذاب ، وهذا مما يوهن الرواية جدا.

وفي الرواية شيء آخر وهو أنها أخذت الضحك بمعنى العجب وأخذت قوله : « فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ » من التقديم والتأخير ، وأن التقدير : فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت » وهو خلاف الظاهر من غير نكتة ظاهرة.

وفي تفسير العياشي ، أيضا عن الفضل بن أبي قرة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : أوحى الله إلى إبراهيم أنه سيلد لك ـ فقال لسارة فقالت : أألد وأنا عجوز؟ فأوحى الله إليه : أنها ستلد ـ ويعذب أولادها أربعمائة سنة بردها الكلام علي ـ.

قال : فلما طال على بني إسرائيل العذاب ـ ضجوا وبكوا إلى الله أربعين صباحا ـ فأوحى الله إلى موسى وهارون أن يخلصهم من فرعون ـ فحط عنهم سبعين ومائة سنة.

قال : وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : هكذا أنتم. لو فعلتم فرج الله عنا فأما إذا لم تكونوا ـ فإن الأمر ينتهي إلى منتهاه.

أقول : وجود الرابطة بين أحوال الإنسان وملكاته وبين خصوصيات تركيب بدنه مما لا شك فيه فلكل من جانبي الربط استدعاء وتأثير خاص في الآخرة ثم النطفة مأخوذة من المادة البدنية حاملة لما في البدن من الخصوصيات المادية والروحية طبعا فمن الجائز أن يرث الأخلاف بعض خصوصيات أخلاق أسلافهم المادية والروحية.

وقد تقدم كرارا في المباحث السابقة أن بين صفات الإنسان الروحية وأعماله

٣٣١

وبين الحوادث الخارجية خيرا وشرا رابطة تامة كما يشير إليه قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ » الأعراف : ـ ٩٦ ، وقوله : « وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ » الشورى : ـ ٣٠.

فمن الجائز أن يصدر عن فرد من أفراد الإنسان أو عن مجتمع من المجتمعات الإنسانية عمل من الأعمال صالح أو طالح أو تظهر صفة من الصفات فضيلة أو رذيلة ثم يظهر أثره الجميل أو وباله السيئ في أعقابه ، والملاك في ذلك نوع من الوراثة كما مر ، وقد تقدم في ذيل قوله تعالى : « وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ » النساء : ـ ٩ كلام في هذا المعنى في الجزء الرابع من الكتاب.

وفيه ، عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام وعن عبد الرحمن عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله : « إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ » قال : دعاء : أقول : وروي في الكافي ، عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله.

وفيه ، عن أبي بصير عن أحدهما عليهما‌السلام قال : إن إبراهيم جادل في قوم لوط وقال : إن فيها لوطا. قالوا : نحن أعلم بمن فيها ـ فزاده إبراهيم فقال جبرئيل : يا إبراهيم أعرض عن هذا ـ أنه قد جاء أمر ربك ـ وإنهم آتيهم عذاب غير مردود.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء عن حسان بن أبجر قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل من هذيل ـ فقال له ابن عباس : ما فعل فلان؟ قال : مات وترك أربعة من الولد وثلاثة من الوراء. فقال ابن عباس : « فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ـ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ » قال : ولد الولد.

( كلام في قصة البشرى )

قصة البشرى وسماها الله تعالى حديث ضيف إبراهيم عليه‌السلام وقعت في خمس من السور القرآنية كلها مكية وهي على ترتيب القرآن سورة هود والحجر والعنكبوت والصافات والذاريات.

فالأولى ما في سورة هود ٦٩ ـ ٧٦ قوله تعالى : « ولقد جاءت رسلنا إبراهيم

٣٣٢

بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ. فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط. وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب. قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد. فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط. إن إبراهيم لحليم أواه منيب. يا إبراهيم أعرض عن هذا أنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ».

والثانية ما في سورة الحجر : ٥١ ـ ٦٠ قوله تعالى : « ونبئهم عن ضيف إبراهيم. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون.

قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم. قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون. قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون. قال فما خطبكم أيها المرسلون. قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين. إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين. إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين ».

والثالثة ما في سورة العنكبوت : ٣١ ـ ٣٢ قوله تعالى : « ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين. قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ».

والرابعة ما في سورة الصافات : ٩٩ ـ ١١٣ قوله تعالى : « وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين. رب هب لي من الصالحين. فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه في الآخرين. سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين. إنه من عبادنا المؤمنين. وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين. وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ».

٣٣٣

والخامسة ما في سورة الذاريات ٢٤ ـ ٣٠ قوله تعالى : « هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين. فقربه إليهم قال ألا تأكلون. فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم. قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم ».

ويقع البحث في قصة البشرى من وجوه :

أحدها : أنها هل هي بشرى واحدة وهي المشتملة على بشرى إبراهيم وسارة بإسحاق ويعقوب وقد وقعت قبيل هلاك قوم لوط أو أنها قصتان : إحداهما تشتمل على البشرى بإسماعيل والأخرى تتضمن البشرى بإسحاق ويعقوب.

ربما رجح الثاني بناء على أن ما وقع من القصة في سورة الذاريات صريح في تقديم العجل المشوي ، وأن إبراهيم خافهم لما امتنعوا من الأكل ثم بشروه وامرأته العجوز العقيم وهي سارة أم إسحاق قطعا ، وذيل الآيات ظاهر في كون ذلك بعد إهلاك قوم لوط حيث يقول الملائكة : « إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ـ إلى أن قالوا ـ فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ » الآيات ونظير ذلك ما في سورة هود وقد قال فيها الملائكة لإزالة الروع عن إبراهيم ابتداء : ( إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ).

وأما ما في سورة الحجر فليس يتضمن حديث تقديم العجل المشوي بل ظاهره أن إبراهيم وأهله خافوهم لدى دخولهم عليه فأسكنوا رعبه بالبشارة كما يقول تعالى : « إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ » وذيل الآيات ظاهر في كون ذلك قبل هلاك لوط.

ونظيره ما في سورة العنكبوت من القصة وهي أظهر في كون ذلك قبل الهلاك ويتضمن جدال إبراهيم في قوم لوط ، وقد تقدمت في البحث الروائي السابق حديث العياشي في هذا المعنى.

لكن الحق أن الآيات في جميع السور الأربع سورة هود والحجر والعنكبوت والذاريات إنما تقص قصة البشارة بإسحاق ويعقوب دون إسماعيل.

٣٣٤

وأما ما في ذيل آيات الذاريات من قوله : « قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا » الظاهر في المضي والفراغ عن الأمر فنظيره واقع في آيات الحجر مع تسليمهم أنها تقص ما قبل الفراغ.

على أن قول الملائكة المرسلين وهم بعد في الطريق : « إِنَّا أُرْسِلْنا » لا مانع منه بحسب اللغة والعرف.

وأما قوله : « فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » إلى آخر الآيات فهو من كلامه تعالى وليس من تتمة كلام الملائكة لإبراهيم كما يدل عليه سياق القصص الواردة في سورة الذاريات.

وأما ذكر الوجل في آيات الحجر في أول القصة بخلاف سورتي الذاريات وهود فالوجه فيه عدم ذكر تقديم العجل المشوي في آيات الحجر بخلافهما ، على أن الارتباط التام بين أجزاء قصة مما يجوز أن يقدم بعضها على بعض حينا ويعكس الأمر حينا آخر كما أنه تعالى يذكر إنكار إبراهيم في آيات الذاريات في صدر القصة بعد سلامهم وفي سورة هود في وسط القصة بعد امتناعهم من الأكل ، وهذا كثير الورود في نظم القرآن.

على أن آيات هود صريحة في البشرى بإسحاق ويعقوب وهي تتضمن جدال إبراهيم في قوم لوط في سياق لا يشك معه أنه كان قبل هلاك لوط ، ولازمه كون بشرى إسحاق قبله لا بعده.

على أن من المتفق عليه أن إسماعيل كان أكبر سنا من إسحاق وبين ولادتيهما سنون ، ولو كانت هؤلاء الملائكة بشروا إبراهيم بإسماعيل في مسيرهم إلى هلاك قوم لوط قبيل الهلاك وبشروه بإسحاق في منصرفهم عن هلاكهم بعيدة كان الفصل بين البشريين يوما أو يومين فيكون الفصل بين البشرى بإسحاق وبين ولادته سنون من الزمان والبشرى لا تطلق إلا على الإخبار بالجميل إذا كان مشرفا على الوقوع إلا إذا كانت هناك عناية خاصة وأما الإخبار بمطلق الجميل فهو وعد ونحو ذلك.

وثانيها أنه هل هناك بشرى بإسماعيل؟ والحق أن ما ذكرت من البشرى في صدر آيات الصافات إنما هي بشرى بإسماعيل وهي غير ما ذكرت في ذيل الآيات من البشرى بإسحاق صريحا فإن سياق الآيات في ذيل قوله : « فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ »

٣٣٥

ثم استيناف البشارة بإسحاق في قوله أخيرا : « وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ » لا يدع ريبا لمرتاب أن الغلام الحليم الذي بشر به أولا غير إسحاق الذي بشر به ثانيا ، وليس إلا إسماعيل.

وذكر الطبري في تاريخه أن المراد بالبشارة الأولى في هذه السورة أيضا البشارة بإسحاق قياسا على ذكر من البشارة في سائر السور ، وهو كما ترى. وقد تقدم كلام في هذا المعنى في قصص إبراهيم عليه‌السلام في الجزء السابع من الكتاب.

وثالثها : البحث في القصة من جهة تطبيق ما في التوراة الحاضرة منها على ما استفيد من القرآن الكريم ، وسيوافيك ذلك عند الكلام على قصة لوط عليه‌السلام في ذيل الآيات التالية.

ورابعها : البحث فيها من جهة جدال إبراهيم الملائكة وقد وقع فيها مثل قوله : « يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ » وقوله : « يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ».

وقد تقدم أن سياق الآيات وخاصة قوله : « إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ » لا يدل إلا على نعته بالجميل فلم يكن جداله إلا حرصا منه في نجاة عباد الله رجاء أن يهتدوا إلى صراط الإيمان.

( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ

٣٣٦

إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣) ).

( بيان )

الآيات تذكر عذاب قوم لوط ، وهي من وجه تتمة الآيات السابقة التي قصت نزول الملائكة ودخولهم على إبراهيم عليه‌السلام وتبشيره بإسحاق فإنما كانت كالتوطئة لقصة عذاب قوم لوط.

قوله تعالى : « وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ » يقال : ساءه الأمر مساءة أي أوقع عليه السوء ، وسيء بالأمر بالبناء للمجهول أي أوقع عليه من ناحيته وبسببه.

والذرع مقايسة الأطوال مأخوذ من الذراع العضو المعروف لأنهم كانوا يقيسون بها ، ويطلق على نفس المقياس أيضا ، ويقال : ضاق بالأمر ذرعا وهو كناية عن انسداد طريق الحيلة والعجز عن الاهتداء إلى مخلص ينجو به الإنسان من النائبة كالذي يذرع ما لا ينطبق عليه ذرعه.

والعصيب فعيل بمعنى المفعول من العصب بمعنى الشد واليوم العصيب هو اليوم الذي شد بالبلاء شدا لا يقبل الانحلال ولا بعض أجزائه ينفك عن بعض.

والمعنى لما جاءت رسلنا لوطا وهم الملائكة النازلون بإبراهيم عليه‌السلام ساء مجيئهم لوطا ، وعجز عن الاحتيال لنجاتهم من شر القوم فإنهم دخلوا عليه في صور غلمان

٣٣٧

مرد صبيحي المنظر وكان قومه ذوي حرص شديد على إتيان الفحشاء ما كان من المترقب أن يعرضوا عنهم ويتركوهم على حالهم ، ولذلك لم يملك لوط نفسه دون أن قال : « هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ » أي شديد ملتف بعض شره ببعض.

قوله تعالى : « وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ » قال الراغب : يقال : هرع وأهرع ساقه سوقا بعنف وتخويف ، انتهى. وعن كتاب العين ، الإهراع السوق الحثيث ، انتهى.

وقوله : « وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ » أي ومن قبل ذلك كانوا يقترفون المعاصي ويأتون بالمنكرات فكانوا مجترئين على إيقاع الفحشاء معتادين بذلك لا ينصرفون عنه بصارف ، ولا يحجبهم عن ذلك استحياء أو استشناع ، ولا ينزجرون بموعظة أو ملامة أو مذمة لأن العادة تسهل كل صعب وتزين كل قبيح ووقيح.

والجملة كالمعترضة بين قوله : « وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ » وقوله : « قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي » إلخ ، وهي نافعة في مضمون طرفيها أما فيما قبلها فإنها توضح أن الذي كان يهرعهم ويسوقهم إلى لوط عليه‌السلام هو أنهم كانوا يعملون السيئات وصاروا بذلك معتادين على إتيان الفحشاء ولعين به فساقهم ذلك إلى المجيء إليه وقصد السوء بأضيافه.

وأما فيما بعدها فإنها تفيد أنهم لرسوخ الملكة واستقرار العادة سلبوا سمع القبول وأن يزجرهم زاجر من عظة أو نصيحة ، ولذلك بدأ لوط في تكليمهم بعرض بناته عليهم ثم قال لهم : « فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي » إلخ.

قوله تعالى : « قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ » إلى آخر الآية ، لما رآهم تجمعوا على الشر لا يصرفهم عن ذلك مجرد القول بعظة أو أغلاظ في الكلام أراد أن يصرفهم عنه بتبديل ما يريدون من الفحشاء مما لا معصية فيه من الحلال فعرض بناته عليهم ورجحه لهم بأنهن أطهر لهم.

وإنما المراد بصيغة التفضيل ـ أطهر ـ مجرد الاشتمال على الطهارة من غير شوب بقذارة ، والمراد هي طهارة محضا ، وهو استعمال شائع ، قال تعالى : « ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ » الجمعة : ـ ١١ ، وقال « وَالصُّلْحُ خَيْرٌ » النساء : ـ ١٢٨. وتفيد معنى الأخذ بالمتيقن.

٣٣٨

وتقييد قوله : « هؤُلاءِ بَناتِي » بقوله : « هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ » شاهد صدق على أنه إنما عرض لهم مسهن عن نكاح لا عن سفاح وحاشا مقام نبي الله عن ذلك ، وذلك لأن السفاح لا طهارة فيه أصلا وقد قال تعالى : « وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً » إسراء : ـ ٣٢ ، وقال : « وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ » الأنعام : ـ ١٥١ ، وقد تقدم في تفسير هذه الآية أن ما تتضمنه هو من الأحكام العامة المشرعة في جميع الشرائع الإلهية النازلة على أنبيائه.

ومن هنا يظهر فساد قول من يقول : إنه عرض عليهم بناته من غير تقييده بنكاح. ولست أدري ما معنى علاج فحشاء بفحشاء غيرها؟ وما معنى قوله حينئذ : « فَاتَّقُوا اللهَ »؟ ولو كان يريد دفع الفضيحة والعار عن نفسه فقط لاكتفى بقوله : « وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ».

وربما قيل : إن المراد بقوله : « هؤُلاءِ بَناتِي » الإشارة إلى نساء القوم لأن النبي أبو أمته فنساؤهم بناته كما أن رجالهم بنوه ، يريد أن قصد الإناث وهو سبيل فطري خير لكم وأطهر من قصد الذكور من طريق الفحشاء.

وهو تحكم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة ، وأما كونهم كفارا وبناته مسلمات ولا يجوز إنكاح المسلمة من الكافر فليس من المعلوم أن ذلك من شريعة إبراهيم حتى يتبعه لوط عليه‌السلام فمن الجائز أن يكون تزويج المؤمنة بالكافر جائزا في شرعه كما أنه كان جائزا في صدر الإسلام ، وقد زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنته من أبي العاص بن الربيع وهو كافر قبل الهجرة ثم نسخ ذلك.

على أن قولهم في جوابه : « لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ » لا يلائم كون المراد بالبنات في كلامه إنما هي نساؤهم لا بناته من صلبه فإنهم ما كانوا مؤمنين به حتى يعترفوا بكون نسائهم بناته إلا أن يكون المراد التهكم ولا قرينة عليه.

لا يقال تعبيره عليه‌السلام بالبنات وليس له عندئذ إلا بنتان يدل على أن مراده بناته من نساء أمته لا بنتاه غير الصادق عليه لفظ الجمع.

لأنا نقول : لا دليل على ذلك من كلامه تعالى ولا وقع ذلك في نقل يعتمد عليه ، نعم وقع في التوراة الحاضرة أنه كان للوط بنتان فقط. ولا اعتماد على ما تتضمنه.

٣٣٩

وقوله : « فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي » بيان للمطلوب ، وقوله : « وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي » عطف تفسيري لقوله : « فَاتَّقُوا اللهَ » فإنه عليه‌السلام إنما كان يطلب منهم أن لا يتعرضوا لضيفه لتقوى الله لا لهوى نفسه وعصبية جاهلية منه ، ولم يكن عنده فرق بين ضيفه وغيرهم فيما كان يردعهم ، وقد وعظهم بالردع عن هذا الذنب الشنيع وألح على ذلك سنين متمادية.

وإنما علق الردع على معنى الضيافة وإضافة الضيف إلى نفسه وذكر الخزي الوارد عليه من التعرض لهم كل ذلك رجاء أن يهيج صفة الفتوة والكرامة فيهم ولذلك عقب ذلك بالاستغاثة والاستنصار بقوله : « أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ » لعله يجد فيهم ذا رشد إنساني فينتصر له وينجيه وضيوفه من أيدي أولئك الظالمين لكن القوم كانوا كما قال الله تعالى : « لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ » الحجر : ـ ٧٢ ولم يؤثر ذلك فيهم أثرا ولم ينتهوا عن قوله بل أجابوا بما أيأسوه به من أي إلحاح في ذلك.

قوله تعالى : « قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ » هذا جواب القوم عما دعاهم إليه لوط من النكاح المباح أجابوا بنفي أن يكون لهم في بناته من حق وأنه يعلم ذلك ويعلم ما هو بغيتهم في هذا الهجوم وما ذا يريدون.

وقد قيل في معنى نفيهم الحق : إن معناه ما لنا في بناتك من حاجة وما ليس للإنسان فيه حاجة فكأنه لا حق له فيه ففي الكلام نوع استعارة.

وقيل : إن المراد ليس لنا في بناتك من حق لأنا لا نتزوجهن ومن لم يتزوج بامرأة فلا حق له فيها فالمراد بنفي الحق نفي سببه وهو الازدواج.

وقيل : المراد بالحق هو الحظ والنصيب دون الحق الشرعي أو العرفي أي لا رغبة لنا فيهن لأنهن نساء ولا ميل لنا إليهن.

والذي يجب الالتفات إليه أنهم لم يقولوا : ما لنا في بناتك من حق بل قالوا : « لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ » فلم يجيبوا عنه بذلك بل بعلمه بذلك وبين القولين فرق فالظاهر أنهم ذكروه بما كان يعلم من السنة القومية الجارية بينهم ، وهو المنع من التعرض لنساء الناس وخاصة بالقهر والغلبة أو ترك إتيان النساء بالمرة واستباحة التعرض للغلمان وقضاء الوطر منهم ، وقد كان لوط يردعهم عن سنتهم ذلك إذ يقول لهم : « إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ » الأعراف : ـ ٨١

٣٤٠