الميزان في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ » وعن دعوته إياهم إلى الإيمان والطاعة بقولهم : « وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ » فآيسوه في كلتا المسألتين.

ثم ذكروا له ما ارتأوا فيه من الرأي لييأس من إجابتهم بالمرة فقالوا : « إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ » والاعتراء الاعتراض والإصابة يقولون : إنما نعتقد في أمرك أن بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل والجنون لشتمك إياها وذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك فلا يعبأ بما تفوهت به في صورة الدعوة.

قوله تعالى : « قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ » أجاب هود عليه‌السلام عن قولهم بإظهار البراءة من شركائهم من دون الله ثم التحدي عليهم بأن يكيدوا به جميعا ولا ينظروه.

فقوله : « أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ » إنشاء وليس بإخبار كما هو المناسب لمقام التبري ، ولا ينافي ذلك كونه بريئا من أول أمره فإن التبرز بالبراءة لا ينافي تحققها من قبل ، وقوله : « فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ » أمر ونهي تعجيزيان.

وإنما أجاب عليه‌السلام بما أجاب ليشاهد القوم من آلهتهم أنها لا تمسه عليه‌السلام بسوء مع تبرزه بالبراءة ، ولو كانت آلهة ذات علم وقدرة لقهرته وانتقمت منه لنفسها كما ادعوا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء وهذه حجة بينة على أنها ليست بآلهة وعلى أنها لم تعتره بسوء كما ادعوه ، ثم يشاهدوا من أنفسهم أنهم لا يقدرون عليه بقتل أو تنكيل مع كونهم ذوي شدة وقوة لا يعادلهم غيرهم في الشدة والبطش ، ولو لا أنه نبي من عند الله صادق في ما يقوله مصون من عند ربه لقدروا عليه بكل ما أرادوه من عذاب أو دفع.

ومن هنا يظهر وجه إشهاده عليه‌السلام في تبريه ربه سبحانه وقومه أما إشهاده الله فليكون تبريه على حقيقته وعن ظهر القلب من غير تزويق ونفاق ، وأما إشهاده إياهم فليعلموا به ثم يشاهدوا ما يجري عليه الأمر من سكوت آلهتهم وعجز أنفسهم من الانتقام منه ومن تنكيله.

وظهر أيضا صحة ما احتمله بعضهم أن هذا التعجيز هو معجزة هود عليه‌السلام وذلك أن ظاهر الجواب أن يقطع به ما ذكر من الرد في صورة الحجة ، وفيها

٣٠١

قولهم : « ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ » ومن المستبعد جدا أن يهمل النبي هود عليه‌السلام في دعوته وحجته التعرض للجواب عنه مع كون هذا التحدي والتعجيز صالحا في نفسه لأن يتخذ آية معجزة كما أن التبري من الشركاء من دون الله صالح لأن يكشف عن عدم كونهم آلهة من دون الله وعن أن بعض آلهتهم لم يعتره بسوء.

فالحق أن قوله : « إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا » إلى آخر الآيتين مشتمل على حجة عقلية على بطلان ألوهية الشركاء ، وعلى آية معجزة لصحة رسالة هود عليه‌السلام.

وفي قوله : « جَمِيعاً » إشارة إلى أن مراده تعجيزهم وتعجيز آلهتهم جميعا فيكون أتم دلالة على كونه على الحق وكونهم على الباطل.

قوله تعالى : « إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ » إلى آخر الآية. لما كان الأمر الذي في صورة التعجيز صالحا لأن يكون بداعي إظهار عجز الخصم وعدم قدرته ، وصالحا لأن يصدر بداعي أن الآمر لا يخاف الخصم وإن كان الخصم قادرا على الإتيان بما يؤمر به لكنه غير قادر على تخويفه وإكراهه على الطاعة وحمله على ما يريد منه كقول السحرة لفرعون : « فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا » طه : ـ ٧٢.

وكان قوله : « فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ » محتملا لأن يكون المراد به إظهار أنه لا يخافهم وإن فعلوا به ما فعلوا ، عقبه لدفع هذا الاحتمال بقوله : « إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ » فذكر أنه متوكل في أمره على الله الذي هو يدبر أمره وأمرهم ثم عقبه بقوله : « ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » فذكر أنه ناجح في توكله هذا فإن الله محيط بهم جميعا قاهر لهم يحكم على سنة واحدة هي نصرة الحق وإظهاره على الباطل إذا تقابلا وتغالبا.

فتبريه من أصنامهم وتعجيزهم على ما هم عليه من الحال بقوله : « فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ » ثم لبثه بينهم في عافية وسلامة لا يمسونه بسوء ولا يستطيعون أن ينالوه بشر آية معجزة وحجة سماوية على أنه رسول الله إليهم.

وقوله : « ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » الدابة كل ما يدب في الأرض من أصناف الحيوان ، والأخذ بالناصية كناية عن كمال

٣٠٢

السلطة ونهاية القدرة ، وكونه تعالى على صراط مستقيم هو كون سنته في الخليقة واحدة ثابتة غير متغيرة وهو تدبير الأمور على منهاج العدل والحكمة فهو يحق الحق ويبطل الباطل إذا تعارضا.

فالمعنى أني توكلت على الله ربي وربكم في نجاة حجتي التي ألقيتها إليكم وهو التبرز بالبراءة من آلهتكم وأنكم وآلهتكم لا تضرونني شيئا فإنه المالك ذو السلطنة علي وعليكم وعلى كل دابة ، وسنته العادلة ثابتة غير متغيرة فسوف ينصر دينه ويحفظني من شركم.

ولم يقل : « إن ربي وربكم على صراط مستقيم » على وزان قوله : « عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ » فإنه في مقام الدعاء لنفسه على قومه يتوقع أن يحفظه الله من شرهم ، وهو يأخذه تعالى ربا بخلاف القوم فكان الأنسب أن يعده ربا لنفسه ويستمسك برابطة العبودية التي بينه وبين ربه حتى ينجح طلبته ، وهذا بخلاف مقام قوله : « تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ » فإنه يريد هناك بيان عموم السلطة والإحاطة.

قوله تعالى : « فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ » وهذه الجملة من كلامه عليه‌السلام ناظر إلى قولهم في آخر جدالهم : « إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ » الدال على أنهم قاطعون على أن لا يؤمنوا به ودائمون على الجحد ، والمعنى إن تتولوا وتعرضوا عن الإيمان بي والإطاعة لأمري فقد أبلغتكم رسالة ربي وتمت عليكم الحجة ولزمتكم البلية.

قوله تعالى : « وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ » هذا وعيد وإخبار بالتبعة التي يستتبعها إجرامهم ، فإنه كان وعدهم إن يستغفروا الله ويتوبوا إليه أن يرسل السماء عليهم مدرارا ويزيد قوة إلى قوتهم ، ونهاهم أن يتولوا مجرمين ففيه العذاب الشديد.

وقوله : « وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ » أي يجعل قوما غيركم خلفاء في الأرض مكانكم فإن الإنسان خليفة منه في الأرض كما قال تعالى : « إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » البقرة : ـ ٣٠ ، وقد كان عليه‌السلام بين لهم أنهم خلفاء في الأرض من بعد قوم نوح كما قال تعالى حكاية عن قوله لقومه : « وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ

٣٠٣

نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً » الآية ، الأعراف : ـ ٦٩.

وظاهر السياق أن الجملة الخبرية معطوفة على أخرى مقدرة ، والتقدير : وسيذهب بكم ربي ويستخلف قوما غيركم على حد قوله : « إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ » الأنعام : ـ ١٣٣.

وقوله : « وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً » ظاهر السياق أنه تتمة لما قبله أي لا تقدرون على إضراره بشيء من الفوت وغيره إن أراد أن يهلككم ولا أن تعذيبكم وإهلاككم يفوت منه شيئا مما يريده فإن ربي على كل شيء حفيظ لا يعزب عن علمه عازب ولا يفوت من قدرته فائت ، وللمفسرين في الآية وجوه أخر بعيدة عن الصواب أعرضنا عنها.

قوله تعالى : « وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ » المراد بمجيء الأمر نزول العذاب وبوجه أدق صدور الأمر الإلهي الذي يستتبع القضاء الفاصل بين الرسول وبين قومه كما قال تعالى : « وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ » المؤمن : ـ ٧٨.

وقوله : « بِرَحْمَةٍ مِنَّا » الظاهر أن المراد بها الرحمة الخاصة بالمؤمنين المستوجبة نصرهم في دينهم وإنجاءهم من شمول الغضب الإلهي وعذاب الاستئصال ، قال تعالى : « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ » المؤمن : ـ ٥١.

وقوله : « وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ » ظاهر السياق أنه العذاب الذي شمل الكفار من القوم فيكون من قبيل عطف التفسير بالنسبة إلى ما قبله ، وقيل : المراد به عذاب الآخرة وليس بشيء.

قوله تعالى : « وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ » الآية وما بعدها تلخيص بعد تلخيص لقصة عاد فأول التلخيصين قوله : « وَتِلْكَ عادٌ ـ إلى قوله ـ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ » يذكر فيه أنهم جحدوا بآيات ربهم من الحكمة والموعظة والآية المعجزة التي أبانت لهم طريق الرشد وميزت لهم الحق من الباطل فجحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم.

٣٠٤

وعصوا رسل ربهم وهم هود ومن قبله من الرسل فإن عصيان الواحد منهم عصيان للجميع فكلهم يدعون إلى دين واحد فهم إنما عصوا شخص هود وعصوا بعصيانه سائر رسل الله وهو ظاهر قوله في موضع آخر : « كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ » الشعراء : ـ ١٢٤. ويشعر به أيضا قوله : « وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ » الأحقاف : ـ ٢١ ، ومن الممكن أن يكون لهم رسل آخرون بعثوا إليهم فيما بين هود ونوح عليه‌السلام لم يذكروا في الكتاب العزيز لكن سياق الآيات لا يساعد على ذلك.

واتبعوا أمر كل جبار عنيد من جبابرتهم فألهاهم ذلك عن اتباع هود وما كان يدعو إليه ، والجبار العظيم الذي يقهر الناس بإرادته ويكرههم على ما أراد والعنيد الكثير العناد الذي لا يقبل الحق ، فهذا ملخص حالهم وهو الجحد بالآيات وعصيان الرسل وطاعة الجبابرة.

ثم ذكر الله وبال أمرهم بقوله : « وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ » أي وأتبعهم الله في هذه الدنيا لعنة وإبعادا من الرحمة ، ومصداق هذا اللعن العذاب الذي عقبهم فلحق بهم ، أو الآثام والسيئات التي تكتب عليهم ما دامت الدنيا فإنهم سنوا سنة الإشراك والكفر لمن بعدهم ، قال تعالى : « وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ » يس : ـ ١٢.

وقيل : المعنى لحقت بهم لعنة في هذه الدنيا فكان كل من علم بحالهم من بعدهم ، ومن أدرك آثارهم ، وكل من بلغهم الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم.

وأما اللعنة يوم القيامة فمصداقه العذاب الخالد الذي يلحق بهم يومئذ فإن يوم القيامة يوم جزاء لا غير.

وفي تعقيب قوله في الآية : « وَأُتْبِعُوا » بقوله : « وَأُتْبِعُوا » لطف ظاهر.

قوله تعالى : « أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ » أي كفروا بربهم فهو منصوب بنزع الخافض وهذا هو التلخيص الثاني الذي أشرنا إليه لخص به

٣٠٥

التلخيص الأول فقوله : « أَلا إِنَّ عاداً » إلخ ، يحاذي به وصف حالهم المذكور في قوله : « وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا » إلخ ، وقوله : « أَلا بُعْداً لِعادٍ » إلخ ، يحاذي به قوله : « وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً » إلخ.

ويتأيد من هذه الجملة أن المراد باللعنة السابقة اللعنة الإلهية دون لعن الناس ، والأنسب به أحد الوجهين الأولين من الوجوه الثلاثة السابقة وخاصة الوجه الثاني دون الوجه الثالث.

( بحث روائي )

في تفسير العياشي ، عن أبي عمرو السعدي قال : قال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : في قوله : « إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » يعني أنه على حق يجزي بالإحسان إحسانا ، وبالسيئ سيئا ، ويعفو عمن يشاء ويغفر ، سبحانه وتعالى.

أقول : وقد تقدم توضيحه ، وقد ورد في الرواية عنهم عليه‌السلام : أن عادا كانت بلادهم في البادية ، وكان لهم زرع ونخيل كثيرة ، ولهم أعمار طويلة وأجساد طويلة فعبدوا الأصنام ، وبعث الله إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام وخلع الأنداد ـ فأبوا ولم يؤمنوا بهود وآذوه ـ فكفت عنهم السماء سبع سنين حتى قحطوا. الحديث.

وروي إمساك السماء عنهم من طريق أهل السنة عن الضحاك أيضا قال : أمسك عن عاد القطر ثلاث سنين ـ فقال لهم هود : « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ـ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً » فأبوا إلا تماديا ، وقد تقدم أن الآيات لا تخلو من إشارة إليه.

واعلم أن الروايات في قصة هود وعاد كثيرة إلا أنها تشتمل على أمور لا سبيل إلى تصحيحها من طريق الكتاب ولا إلى تأييدها بالاعتبار ولذلك طوينا ذكرها.

وورد أيضا أخبار أخر من طرق الشيعة وأهل السنة في وصف جنة عاد التي تنسب إلى شداد الملك وهي المذكورة في قوله تعالى : « إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ » الفجر : ـ ٨ ، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الفجر.

٣٠٦

( كلام في قصة هود )

١ ـ عاد قوم هود :

هؤلاء قوم من العرب من بشر ما قبل التاريخ كانوا يسكنون الجزيرة انقطعت أخبارهم وانمحت آثارهم لا يحفظ التاريخ من حياتهم إلا أقاصيص لا يطمئن إليها وليس في التوراة الموجودة منهم ذكر.

والذي يذكره القرآن الكريم من قصتهم هو أن عادا ـ وربما يسميهم عادا الأولى ( النجم : ٥٠ ) وفيه إشارة إلى أن هناك عادا ثانية ـ كانوا قوما يسكنون الأحقاف (١) من شبه جزيرة العرب » الأحقاف : ٢١ ) بعد قوم نوح ( الأعراف : ٦٩ ).

كانت لهم أجساد طويلة ( القمر : ٢٠ ، الحاقة : ٧ ) وكانوا ذوي بسطة في الخلق ( الأعراف : ٦٩ ) أولي قوة وبطش شديد ( حم السجدة : ١٥ ، الشعراء :١٣٠ ) وكان لهم تقدم ورقي في المدنية والحضارة ، لهم بلاد عامرة وأراض خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم ( الشعراء وغيرها ) ، وناهيك في رقيهم وعظيم مدنيتهم قوله تعالى في وصفهم : « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ » الفجر : ـ ٨.

لم يزل القوم يتنعمون بنعمة الله حتى غيروا ما بأنفسهم فتعرقت فيهم الوثنية وبنوا بكل ريع آية يعبثون واتخذوا مصانع لعلهم يخلدون وأطاعوا طغاتهم المستكبرين فبعث الله إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إلى أن يعبدوا الله ويرفضوا الأوثان ، ويعملوا بالعدل والرحمة ( الشعراء : ١٣٠ ) فبالغ في وعظهم وبث النصيحة فيهم ، وأنار الطريق وأوضح السبيل ، وقطع عليهم العذر فقابلوه بالآباء والامتناع ، وواجهوه بالجحد والإنكار ولم يؤمن به إلا شرذمة منهم قليلون وأصر جمهورهم على البغي والعناد ، ورموه بالسفه والجنون ، وألحوا عليه بأن ينزل

__________________

(١) الأحقاف جمع حقف والرمل المعوج ، والأحقاف المذكور في الكتاب العزيز واد بين عمان وأرض مهرة وقيل من عمان إلى حضرموت وهي ومال مشرفة على البحر بالشحر وقال الضحاك : الأحقاف جبل بالشام ( المراصد ).

٣٠٧

عليهم العذاب الذي كان ينذرهم ويتوعدهم به قال : « إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ » الأحقاف : ـ ٢٣.

فأنزل الله عليهم العذاب وأرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ( الذاريات : ٤٢ ) ريحا صرصرا في أيام نحسات سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ( الحاقة : ٧ ) وكانت تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ( القمر : ٢٠ ).

وكانوا بادئ ما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا وقالوا : عارض ممطرنا وقد أخطئوا بل كان هو الذي استعجلوا به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ( الأحقاف : ٢٥ ) فأهلكهم الله عن آخرهم وأنجى هودا والذين آمنوا معه برحمة منه ( هود : ٥٨ ).

٢ ـ شخصية هود المعنوية :

وأما هود عليه‌السلام فهو من قوم عاد وثاني الأنبياء الذين انتهضوا للدفاع عن الحق ودحض الوثنية ممن ذكر الله قصته وما قاساه من المحنة والأذى في جنب الله سبحانه ، وأثنى عليه بما أثنى على رسله الكرام وأشركه بهم في جميل الذكر عليه سلام الله.

( وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما

٣٠٨

تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨) ).

( بيان )

تذكر الآيات الكريمة قصة صالح النبي عليه‌السلام وقومه وهم ثمود ، وهو عليه‌السلام ثالث الأنبياء القائمين بدعوة التوحيد الناهضين على الوثنية. دعا ثمود إلى التوحيد وتحمل الأذى والمحنة في جنب الله حتى قضي بينه وبين قومه بهلاكهم ونجاته ونجاة من معه من المؤمنين.

قوله تعالى : « وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ » تقدم الكلام في نظيرة الآية في قصة هود.

قوله تعالى : « هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها » إلى آخر الآية.قال الراغب الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان قال : « هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ». انتهى ، وقال : العمارة ضد الخراب يقال : عمر أرضه يعمرها عمارة قال : « وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » يقال : عمرته فعمر فهو معمور قال : « وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها » « وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ » وأعمرته الأرض واستعمرته إذا فوضت إليه العمارة قال : « وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها »

٣٠٩

انتهى ، فالعمارة تحويل الأرض إلى حال تصلح بها أن ينتفع من فوائدها المترقبة منها كعمارة الدار للسكنى والمسجد للعبادة والزرع للحرث والحديقة لاجتناء فاكهتها والتنزه فيها والاستعمار هو طلب العمارة بأن يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها.

وعلى ما مر يكون معنى قوله : « هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها » ـ والكلام يفيد الحصر ـ أنه تعالى هو الذي أوجد على المواد الأرضية هذه الحقيقة المسماة بالإنسان ثم كملها بالتربية شيئا فشيئا وأفطره على أن يتصرف في الأرض بتحويلها إلى حال ينتفع بها في حياته ، ويرفع بها ما يتنبه له من الحاجة والنقيصة أي إنكم لا تفتقرون في وجودكم وبقائكم إلا إليه تعالى وتقدس.

فقول صالح : « هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها » في مقام التعليل وحجة يستدل بها على ما ألقاه إليهم من الدعوة بقوله : « يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ » ولذلك جيء بالفصل كأنه قيل له : لم نعبده وحده؟ فقال : لأنه هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها.

وذلك لأنهم إنما كانوا يعبدون الأوثان ويتخذونها شركاء لله تعالى لأنهم كانوا يقولون ـ على مزعمتهم ـ إن الله سبحانه أعظم من أن يحيط به فهم وأرفع وأبعد من أن تناله عبادة أو ترتفع إليه مسألة ، ولا بد للإنسان من ذلك فمن الواجب أن نعبد بعض مخلوقاته الشريفة التي فوض إليه أمر هذا العالم الأرضي وتدبير النظام الجاري فيه ونتقرب بالتضرع إليه حتى يرضى عنا فينزل علينا الخيرات ، ولا يسخط علينا ونأمن بذلك الشرور ، وهذا الإله الرب بالحقيقة شفيعنا عند الله لأنه إله الآلهة ورب الأرباب ، وإليه يرجع الأمر كله.

فدين الوثنية مبني على انقطاع النسبة بين الله سبحانه وبين الإنسان واستقرارها بينه وبين تلك الوسائط الشريفة التي يتوجهون إليها مع استقلال هذه الوسائط في التأثير ، وشفاعتها عند الله.

ولما كان الله تعالى هو الذي أنشأ الإنسان من الأرض واستعمره فيها فهو تعالى ذو نسبة إلى الإنسان قريب منه ، ولا استقلال لشيء من هذه الأسباب التي

٣١٠

نظمها وأجراها في هذا العالم حتى يرجى منها خير بالإرضاء أو يترقب شر بالإسخاط.

فالله سبحانه هو الذي يجب أن يعبد فيرجى بذلك رضاه ، ويتقى بذلك سخطه لمكان أنه هو الخالق للإنسان ولكل شيء المدبر أمره وأمر كل شيء فقوله : « هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها » مسوق لتعليل سابقه والاحتجاج عليه من طريق إثبات النسبة بينه تعالى وبين الإنسان ونفي الاستقلال من الأسباب.

ولذلك عقبه بقوله : « فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ » على وجه التفريع أي فإذا كان الله تعالى هو الذي يجب عليكم أن تعبدوه وتتركوا غيره لكونه هو خالقكم المدبر لأمر حياتكم فاسألوه أن يغفر لكم معصيتكم بعبادة غيره ، وارجعوا إليه بالإيمان به وعبادته. إنه قريب مجيب.

وقد علل قوله : « فَاسْتَغْفِرُوهُ » إلخ ، بقوله : « إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ » لأنه استنتج من حجته المذكورة أنه تعالى يقوم بإيجاد الإنسان وتربيته وتدبير أمر حياته ، وأنه لا استقلال لشيء من الأسباب العمالة في الكون بل الله تعالى هو الذي يسوق هذا إلى هنا ، ويصرف ذاك عن هناك فهو تعالى الحائل بين الإنسان وبين حوائجه وجميع الأسباب العمالة فيها ، القريب منه لا كما يزعمون أنه لا يدركه فهم ولا يناله عبادة وقربان ، وإذا كان قريبا فهو مجيب ، وإذا كان قريبا مجيبا وهو الله لا إله غيره فمن الواجب أن يستغفروه ثم يتوبوا إليه.

قوله تعالى : « قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا » إلخ ، الرجاء إنما يتعلق بالإنسان لا من جهة ذاته بل من جهة أفعاله وآثاره ، ولا يرجى منها إلا الخير والنفع فكونه مرجوا هو أن يوجد ذا رشد وكمال في شخصه وبيته فيستهل منه الخير ويترقب منه النفع ، وقوله : « قَدْ كُنْتَ فِينا » دليل على كونه مرجوا لعامتهم وجمهورهم.

فقولهم : « يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا » معناه أن ثمود كانت ترجو منك أن تكون من أفرادها الصالحة تنفع بخدماتك مجتمعهم وتحمل الأمة على صراط الترقي والتعالي لما كانت تشاهد فيك من أمارات الرشد والكمال لكنهم يئسوا منك ومن رزانة رأيك اليوم بما أبدعت من القول وأقمت من الدعوة.

٣١١

وقولهم : « أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا » استفهام إنكاري بداعي المذمة والملامة ، والاستفهام في مقام التعليل لما قبله محصله أن سبب يأسهم منك اليوم أنك تنهاهم من إقامة سنة من سنن مليتهم وتمحو أظهر مظاهر قوميتهم فإن اتخاذ الأوثان من سنن هذا المجتمع المقدسة ، واستمرار إقامة السنن المقدسة من المجتمع دليل على أنهم ذوو أصل عريق ثابت ، ووحدة قومية لها استقامة في الرأي والإرادة.

والدليل على ما ذكرنا قوله : « أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا » الدال على معنى العبادة المستمرة باتصال عبادة الأبناء بعبادة الآباء ولم يقل : أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا؟ والفرق بين التعبيرين من جهة المعنى واضح.

ومن هنا يظهر أن تفسير بعض المفسرين كصاحب المنار وغيره قوله : « أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا » بقولهم : « أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا » من الخطإ.

وقوله : « وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ » حجة ثانية لهم في رد دعوة صالح عليه‌السلام ، وحجتهم الأولى ما يتضمنه صدر الآية ومحصلها أن ما تدعو إليه من رفض عبادة الأصنام بدعة منكرة تذهب بسنة ثمود المقدسة وتهدم بنيان مليتهم ، وتميت ذكرهم فعلينا أن نرده ، والثانية أنك لم تأت بحجة بينة على ما تدعو إليه تورث اليقين وتميط الشك عنا فنحن في شك مريب مما تدعونا إليه وليس لنا أن نقبل ما تندب إليه على شك منا فيه.

والإرابة الاتهام وإساءة الظن يقال : رابني منه كذا إذا أوجب فيه الشك وأرابني كذا إرابة إذا حملك على اتهامه وسوء الظن به.

قوله تعالى : « قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً » إلى آخر الآية. المراد بالبينة الآية المعجزة وبالرحمة النبوة ، وقد تقدم الكلام في نظير الآية من قصة نوح عليه‌السلام في السورة.

وقوله : « فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ » جواب الشرط ، وحاصل المعنى : أخبروني إن كنت مؤيدا بآية معجزة تنبئ عن صحة دعوتي وأعطاني الله الرسالة فأمرني بتبليغ رسالته فمن ينجني من الله ويدفع عني إن أطعتكم فيما تسألون ووافقتكم فيما تريدونه مني وهو ترك الدعوة.

٣١٢

ففي الكلام جواب عن كلتا حجتيهم واعتذار عما لاموه عليه من الدعوة المبتدعة.

وقوله : « فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ » تفريع على قوله السابق الذي ذكره في مقام دحض الحجتين والاعتذار عن مخالفتهم والقيام بدعوتهم إلى خلاف سنتهم القومية فالمعنى فما تزيدونني في حرصكم على ترك الدعوة والرجوع إليكم واللحوق بكم غير أن تخسروني فما مخالفة الحق إلا خسارة.

وقيل : المراد أنكم ما تزيدونني في قولكم : ( أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا )؟ غير نسبتي إياكم إلى الخسارة. وقيل : المعنى ما تزيدونني إلا بصيرة في خسارتكم والوجه الأول أوجه.

قوله تعالى : « وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ » إضافة الناقة إلى الله إضافة تشريف كبيت الله وكتابة الله. وكانت الناقة آية معجزة له عليه‌السلام تؤيد نبوته ، وقد أخرجها عن مسألتهم من صخر الجبل بإذن الله ، وقال لهم : أنها تأكل في أرض الله محررة ، وحذرهم أن يمسوها بسوء أي يصيبوها بضرب أو جرح أو قتل. وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك أخذهم عذاب قريب معجل ، وهذا معنى الآية.

قوله تعالى : « فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ » عقر الناقة نحرها ، والدار هي المكان الذي يبنيه الإنسان فيسكن فيه ويأوي إليه هو وأهله ، والمراد بها في الآية المدينة سميت دارا لأنها تجمع أهلها كما تجمع الدار أهلها ، وقيل المراد بالدار الدنيا ، وهو بعيد.

والمراد بتمتعهم في مدينتهم العيش والتنعم بالحياة لأن الحياة الدنيا متاع يتمتع به ، أو الالتذاذ بأنواع النعم التي هيئوها فيها من مناظر ذات بهجة والأثاث والمأكول والمشروب والاسترسال في أهواء أنفسهم.

وقوله : « ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ » الإشارة إلى قوله : « تَمَتَّعُوا » إلخ ، و « وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ » بيان له.

قوله تعالى : « فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً » إلى آخر الآية. أما قوله : « فَلَمَّا

٣١٣

جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا » فقد تقدم الكلام في مثله في قصة هود.

وأما قوله : « وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ » فمعطوف على محذوف والتقدير نجيناهم من العذاب ومن خزي يومئذ ، والخزي العيب الذي تظهر فضيحته ويستحيي من إظهاره أو أن التقدير : نجيناهم من القوم ومن خزي يومئذ على حد قوله : « وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ».

وقوله : « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ » في موضع التعليل لمضمون صدر الآية وفيه التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة ، وقد تقدم نظيره في آخر قصة هود في قوله : « أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ » والوجه فيه ذكر صفة الربوبية ليدل به على خروجهم من زي العبودية وكفرهم بالربوبية وكفرانهم نعم ربهم.

قوله تعالى : « وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ » يقال : جثم جثوما إذا وقع على وجهه ، والباقي ظاهر.

قوله تعالى : « كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها » غني بالمكان أي أقام فيه والضمير راجع إلى الديار.

قوله تعالى : « أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ » الجملتان تلخيص ما تقدم تفصيله من القصة فالجملة الأولى تلخيص ما انتهى إليه أمر ثمود ودعوة صالح عليه‌السلام ، والثانية تلخيص ما جازاهم الله به ، وقد تقدم نظيرة الآية في آخر قصة هود.

( بحث روائي )

في الكافي ، مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : « كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ـ فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ ـ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ » قال : هذا فيما كذبوا صالحا ، وما أهلك الله عز وجل قوما قط ـ حتى يبعث قبل ذلك الرسل فيحتجوا عليهم ـ.

فبعث الله إليهم صالحا فلم يجيبوه وعتوا عليه ، وقالوا لن نؤمن لك حتى

٣١٤

تخرج إلينا من هذه الصخرة ناقة عشراء ـ وكانت الصخرة يعظمونها ويعبدونها ـ ويذبحون عندها في رأس كل سنة ويجتمعون عندها ، فقالوا : إن كنت كما تزعم نبيا رسولا فادع لنا إلهك ـ حتى يخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء ـ فأخرجها الله كما طلبوا منه ـ.

ثم أوحى الله تبارك وتعالى إليه أن يا صالح قل لهم : إن الله قد جعل لهذه الناقة لها شرب يوم ولكم شرب يوم ـ فكانت الناقة إذا كان يومها شربت الماء ذلك اليوم ـ فيحبسونها فلا يبقى صغير وكبير ـ إلا شرب من لبنها يومهم ذلك ـ فإذا كان الليل وأصبحوا غدوا إلى مائهم ـ فشربوا منه ذلك اليوم ولم تشرب الناقة ذلك اليوم ـ فمكثوا بذلك ما شاء الله ـ.

ثم إنهم عتوا على الله ومشى بعضهم إلى بعض قال : اعقروا هذه الناقة واستريحوا منها ـ لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم. ثم قالوا : من الذي يلي قتلها ونجعل له جعلا ما أحب؟ فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق ولد زنا ـ لا يعرف له أب يقال له : قدار ـ شقي من الأشقياء مشئوم عليهم فجعلوا له جعلا ـ.

فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها ـ حتى شربت وأقبلت راجعة فقعد لها في طريقها ـ فضربها بالسيف ضربة فلم يعمل شيئا ـ فضربها ضربة أخرى فقتلها ـ وخرت على الأرض على جنبها ، وهرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل ـ فرغا ثلاث مرات إلى السماء ، وأقبل قوم صالح ـ فلم يبق منهم أحد إلا شركه في ضربته ، واقتسموا لحمها فيما بينهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير ـ إلا أكل منها ـ.

فلما رأى ذلك صالح أقبل إليهم وقال : يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم؟أعصيتم أمر ربكم؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إلى صالح عليه‌السلام : إن قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة ـ بعثها الله إليهم حجة عليهم ولم يكن لهم فيها ضرر ـ وكان لهم أعظم المنفعة فقل لهم : إني مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيام ـ فإن هم تابوا ورجعوا قبلت توبتهم وصددت عنهم ، وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا ـ بعثت إليهم عذابي في اليوم الثالث ـ.

فأتاهم صالح وقال : يا قوم إني رسول ربكم إليكم ـ وهو يقول لكم : إن تبتم ورجعتم واستغفرتم ـ غفرت لكم وتبت عليكم ، فلما قال لهم ذلك [ قالوا ظ ] كانوا

٣١٥

أعتى ما قالوا وأخبث ـ وقالوا : يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ـ.

قال : يا قوم إنكم تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة ، واليوم الثاني وجوهكم محمرة واليوم الثالث وجوهكم مسودة ـ فلما أن كان أول يوم أصبحوا وجوههم مصفرة ـ فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا : قد جاءكم ما قال صالح فقال العتاة منهم : لا نسمع قول صالح ولا نقبل قوله وإن كان عظيما. فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة ـ فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا : يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح ـ فقال العتاة منهم لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح ـ ولا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها ـ ولم يتوبوا ولم يرجعوا فلما كان اليوم الثالث ـ أصبحوا ووجوههم مسودة ـ فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا : يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم : قد أتانا ما قال لنا صالح ـ.

فلما كان نصف الليل أتاهم جبرئيل ـ فصرخ لهم صرخة خرقت تلك الصرخة أسماعهم ـ وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم ـ وقد كانوا في تلك الثلاثة الأيام قد تحنطوا ـ وتكفنوا وعلموا أن العذاب نازل بهم ـ فماتوا جميعا في طرفة عين : صغيرهم وكبيرهم ـ فلم يبق لهم ناعقة ولا راعية ولا شيء إلا أهلكه الله ـ فأصبحوا في ديارهم ومضاجعهم موتى ـ فأرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء ـ فأحرقهم أجمعين ، وكانت هذه قصتهم.

أقول : واشتمال الحديث على أمور خارقة للعادة كشرب الناس جميعا من لبن الناقة وكذا تغير ألوان وجوههم يوما فيوما لا ضير فيه بعد ما كان أصل وجودها عن إعجاز ، وقد نص القرآن الكريم بذلك ، وبأنها كانت لها شرب يوم ولأهل المدينة كلهم شرب يوم معلوم.

وأما كون الصيحة من جبرئيل فلا ينافي كونها صاعقة سماوية نازلة عليهم إماتتهم بصوتها وأحرقتهم بنارها إذ لا مانع من نسبة حادث من الحوادث الكونية خارق للعادة أو جار عليها إلى ملك روحاني إذا كان هو في مجرى صدوره كما أن سائر الحوادث الكونية من الموت والحياة والرزق وغيرها منسوبة إلى الملائكة العمالة.

وقوله عليه‌السلام : إنهم قد كانوا في الثلاثة الأيام قد تحنطوا وتكفنوا كأنه كناية عن تهيئهم للموت.

٣١٦

وقد وقع في بعض الروايات في وصف الناقة أنه كانت بين جنبيها مسافة ميل وهو مما يوهن الرواية لا لاستحالة وقوعه فإن ذلك ممكن الدفع من جهة أن كينونتها كانت عن إعجاز بل لأن اعتبار النسبة بين أعضائها حينئذ يوجب بلوغ ارتفاع سنامها مما يقرب من ثلاثة أميال ولا يتصور مع ذلك أن يتمكن واحد من الناس من قتله بسيفه ولم يقع ذلك عن إعجاز من عاقر الناقة قطعا ، ومع ذلك لا يخلو قوله تعالى : « لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ » من دلالة أو إشعار على كون جثتها عظيمة جدا.

( كلام في قصة صالح في فصول )

١ ـ ثمود قوم صالح عليه‌السلام : ثمود قوم من العرب العاربة كانوا يسكنون وادي القرى بين المدينة والشام ، وهم من بشر ما قبل التاريخ لا يضبط التاريخ إلا شيئا يسيرا من أخبارهم ، ولقد عفت الدهور آثارهم فلا اعتماد على ما يذكر من جزئيات قصصهم.

والذي يقصه كتاب الله من أخبارهم أنهم كانوا أمة من العرب على ما يدل عليه اسم نبيهم وقد كان منهم ( هود : ٦١ ) نشئوا بعد قوم عاد ولهم حضارة ومدنية يعمرون الأرض ويتخذون من سهولها قصورا وينحتون من الجبال بيوتا آمنين الأعراف : ٧٤ ) ومن شغلهم الفلاحة بإجراء العيون وإنشاء الجنات والنخيل والحرث ( الشعراء : ١٤٨ ).

كانت ثمود تعيش على سنة الشعوب والقبائل يحكم فيهم سادتهم وشيوخهم وقد كانت في المدينة التي بعث فيها صالح تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ( النمل : ٤٨ ) فطغوا في الأرض وعبدوا الأصنام وأفرطوا عتوا وظلما.

٢ ـ بعثة صالح عليه‌السلام : لما نسيت ثمود ربها وأسرفوا في أمرهم أرسل الله إليهم صالحا النبي عليه‌السلام وكان من بيت الشرف والفخار معروفا بالعقل والكفاية ( هود ٦٢ ـ النمل ٤٩ ) فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه وأن يتركوا عبادة الأصنام وأن يسيروا في مجتمعهم بالعدل والإحسان ، ولا يعلوا في الأرض ولا يسرفوا ولا يطغوا وأنذرهم بالعذاب » هود ـ الشعراء ـ الشمس وغيرها ).

٣١٧

فقام عليه‌السلام بالدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة وصبر على الأذى في جنب الله فلم يؤمن به إلا جماعة قليلة من ضعفائهم ( الأعراف : ٧٥ ) وأما الطغاة المستكبرون وعامة من تبعهم فأصروا على كفرهم واستذلوا الذين آمنوا به ورموه بالسفاهة والسحر ( الأعراف ٦٦ ـ الشعراء ١٥٣ ـ النمل ٤٧ ).

وطلبوا منه البينة على مقاله ، وسألوه آية معجزة تدل على صدقه في دعوى الرسالة ، واقترحوا له أن يخرج لهم من صخر الجبل ناقة فأتاهم بناقة على ما وصفوها به ، وقال لهم : إن الله يأمركم أن تشربوا من عين مائكم يوما وتكفوا عنها يوما فتشربها الناقة فلها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم ، وأن تذروها تأكل في أرض الله كيف شاءت ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ( الأعراف ٧٢ ـ هود ٦٤ ـ الشعراء ١٥٦ ).

وكان الأمر على ذلك حينا ثم إنهم طغوا ومكروا وبعثوا أشقاهم لقتل الناقة فعقرها ، وقالوا لصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال صالح عليه‌السلام : ( تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) : ( هود ـ ٦٥ ).

ثم مكرت شعوب المدينة وأرهاطها بصالح وتقاسموا بينهم لنبيتنه وأهله ثم نقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ، ومكروا مكرا ومكر الله مكرا وهم لا يشعرون ( النمل ٥٠ ) ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ) : الذاريات ـ ٤٤ والرجفة والصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ( الأعراف ٧٩ ـ هود ٦٧ ) وأنجى الله الذين آمنوا وكانوا يتقون ( حم السجدة ١٨ ) ونادى بعدهم المنادي الإلهي : ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود.

٣ ـ شخصية صالح عليه‌السلام : لم يرد لهذا النبي الصالح في التوراة الحاضرة ذكر. كان عليه‌السلام من قوم ثمود ثالث الأنبياء المذكورين في القرآن بالقيام بأمر الله والنهضة للتوحيد على الوثنية يذكره الله تعالى بعد نوح وهود ، ويحمده ويثني عليه بما أثنى به على أنبيائه ورسله ، وقد اختاره وفضله كسائرهم على العالمين عليه‌السلام.

٣١٨

( وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) ).

( بيان )

تتضمن الآيات قصة بشرى إبراهيم عليه‌السلام بالولد ، وأنها كالتوطئة لما سيذكر بعده من قصة ذهاب الملائكة إلى لوط النبي عليه‌السلام لإهلاك قومه فإن تلك القصة ذيل هذه القصة وفي آخر قصة البشرى ما يتبين به وجه قصة الإهلاك وهو قوله : « إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ » الآية.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى » إلى آخر الآية البشرى هي البشارة ، والعجل ولد البقرة ، والحنيذ فعيل بمعنى المفعول أي المحنوذ وهو

٣١٩

اللحم المشوي على حجارة محماة بالنار كما أن القديد هو المشوي على حجارة محماة بالشمس على ما ذكره بعض اللغويين ، وذكر بعضهم أنه المشوي الذي يقطر ماء وسمنا ، وقيل : هو مطلق المشوي ، وقوله تعالى في سورة الذاريات في القصة : « فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ » لا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني.

وقوله : « وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى » معطوف على قوله سابقا : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ » قال في المجمع ، : وإنما دخلت اللام لتأكيد الخبر ومعنى قد هاهنا أن السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة ، وقد للتوقع فجاءت لتؤذن أن السامع في حال توقع. انتهى.

والرسل هم الملائكة المرسلون إلى إبراهيم للبشارة وإلى لوط لإهلاك قومه وقد اختلفت كلمات المفسرين في عددهم مع القطع بكونهم فوق الاثنين لدلالة لفظ الجمع ـ الرسل ـ على ذلك ، وفي بعض الروايات عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام أنهم كانوا أربعة من الملائكة الكرام ، وسيأتي نقلها إن شاء الله في البحث الروائي.

والبشرى التي جاءت بها الرسل إبراهيم عليه‌السلام لم يذكر بلفظها في القصة ، والتي ذكرت فيها منها هي البشارة لامرأته ، وإنما ذكرت بشارة إبراهيم نفسه في غير هذا المورد كسورتي الحجر والذاريات ، ولم يصرح فيهما باسم من بشر به إبراهيم أهو إسحاق أم إسماعيل عليه‌السلام أو أنهم بشروه بكليهما؟ وظاهر سياق القصة في هذه السورة أنها البشارة بإسحاق ، وسيأتي البحث المستوفى عن ذلك في آخر القصة.

وقوله : « قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ » أي تسالموا هم وإبراهيم فقالوا : سلاما أي سلمنا عليك سلاما ، وقال إبراهيم : سلام أي عليكم سلام.

والسلام الواقع في تحية إبراهيم عليه‌السلام نكرة ووقوعه نكرة في مقام التحية دليل على أن المراد به الجنس أو أن له وصفا محذوفا للتفخيم ومزيد التكريم والتقدير : عليكم سلام زاك طيب أو ما في معناه ، ولذا ذكر بعض المفسرين : أن رفع السلام أبلغ من نصبه فقد حياهم بأحسن تحيتهم فبالغ في إكرامهم ظنا منه أنهم ضيف.

٣٢٠