الميزان في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

وأنارها بالأجرام المسماة « ديقانة » ثم أبدع « مريثلوكا » أي مقر الموت ثم الأرض وقمرها ، ثم المساكن السبعة السفلى المسماة بتالة ، وأنارها بثمانية جواهر موضوعة على رءوس ثماني حيات.

فالسماوات السبع والمساكن السفلى السبعة هي العوالم الأربعة عشر في الميثولوجيا الهندية.

ثم خلق الأزواج السبعة لكي تعينه في أعماله فامتنع من مساعدته عشرة منها وهي « موني » والريشة التسعة التي منها « ناريدا أو نوردام » واقتصرت على التأملات الدنيوية فتزوج حينئذ أخته « ساراسواتي » وأولدها مائة ولد ، وكان البكر اسمه « دكشا » فولد لدكشا خمسون بنتا فتزوجت ثلاث عشرة منهن « كاسيابا » الذي يسمونه أحيانا برهمان الأول ، وهو الذي ولد لبرهما ولدا يسمى مارتشي ».

وولدت إحدى البنات المذكورات واسمها « أديتي » الأرواح المنيرة المسماة « ديقانة » وهي التي تفعل الخير وتسكن السماوات ، وأما أختها « ديتي » فولدت جمهورا غفيرا من الأرواح الشريرة المسماة « داتينة » أو « أسورة » وهي سكان الظلام وفاعلة كل شر في العالم.

وكانت الأرض إلى ذلك الوقت خالية من السكان فقال بعضهم : إن برهما أخرج من نفسه « مانوسويامبوقا » الذي يقول الآخرون : إنه سابق له وإنه نفس برهم المعبود الواحد ثم إن برهما زوجه « ساتاروبا » وقال لهما أن يكثرا وينميا.

وقال آخرون : إن برهما ولد أربعة أولاد وهم برهمان وكشتريا وقايسيا وسودارا فالأول خرج من فمه ، والثاني من ذراعه اليمنى ، والثالث من فخذه اليمنى والرابع من رجله اليمنى فكانوا أربع أرومات لأربع فرق أصلية.

وتزوج الثلاثة الأخيرون بثلاث نساء منه أيضا خرجت واحدة من ذراعه اليمنى والثانية من فخذه اليسرى ، والثالثة من رجله اليسرى ، وسمين باسم بعولتهن بزيادة علامة التأنيث وهي « نى » ، وتزوج برهمان أيضا زوجة من أبيه ، ولكن كانت من نسل الأسورة الشريرة ، فهذا ما في الفيداس عن كيفية خلق العالم.

ثم إن برهما بعد أن كان الإله الخالق القدير سقط عن رتبة وشنو الأقنوم

٢٨١

الثاني وسيوا الأقنوم الثالث وذلك أنه انتفخ بالكبرياء والعجب ، وظن نفسه نظير العلي فسقط في ناراك أي الجحيم ، ولم ينل العفو إلا بشرط أن يتجسد مرة في كل من الأجيال الأربعة ، فتجسد أول مرة بصورة غراب شاعر اسمه « كاكابوسندا » وفي الثانية بصورة « بارباقلميكي » فكان أولا لصا ثم رجلا عبوسا رزينا نادما ثم ترجمانا مشهورا للفيداس ومؤلفا للراميانا ، وفي المرة الثالثة بصورة « قياسا » وهو شاعر ومؤلف « المهابارانا » والبغاقة وعدة بورانات ، وفي المرة الرابعة وهو العصر الحالي المسمى « كالي يوغ » بصورة « كاليداسا » الشاعر التشخيصي العظيم ومؤلف « ساكنتالا » ومنقح مؤلفات « قلميكي ».

ثم إن برهما ظهر في ثلاث أحوال ففي ، الحال الأولى كان الواحد الصمد والكل الأعظم العلي ، وفي الحال الثانية ظهر منبثقا من الأول أي شارعا في العمل وفي الحال الثالثة ظهر متجسدا بصورة إنسان وحكيم.

وليس لبرهما عبادة عامة في الهند ، وله هناك هيكل واحد فقط غير أن البراهمة يجعلونه موضوع عبادتهم ، ويدعونه مساء وصباحا ، وهم يرمون الماء ثلاث مرات براحة أيديهم على الأرض ونحو الشمس ، ويجددون له عبادتهم وقت الظهر بتقديمهم له زهرة ، وفي تقديس النار يقدمون له سمنا مصفى كما يقدمون لإله النار ، وهذا التقديس أهم وأقدس من كل ما سواه. واسمه هوم أو هوما ورغيب.

ويمثل برهما بصورة رجل ذي لحية طويلة بإحدى يديه سلسلة الكائنات وبالأخرى الإناء الذي فيه ماء الحياة السماوي راكبا الهمسا وهو الطير الإلهي الذي يشبه اللقلق والنسر.

وأما برهمان فهو ابن برهما البكر أخرجه من فيه كما تقدم ، وجعل نصيبه أربعة الكتب المقدسة المسماة « فيداس » كناية عن الكلمات الأربع التي نطق بها بأفواهه الأربعة.

فلما أراد برهمان أن يتزوج نظير إخوته قال له برهما : إنك ولدت للدرس والصلاة فيجب أن تبتعد عن العلاقات الجسدية فلم يقتنع برهمان بقول أبيه فغضب برهما وزوجه بواحدة من جنيات الشر المسماة أسورة ، ومن هذا ولد البراهمة وهم

٢٨٢

الكهنة المقدسون الذين خصوا بتفسير الفيداس ، وكانوا يتولون أمر كل التقدمات التي يقدمها الهنود للآلهة.

وولد كشتريا صنف الحربيين من البراهمة ، وقايسيا صنف أهل الزراعة منهم ، وسودرا صنف العبيد ، فالبراهمة أربعة أصناف ، انتهى ملخصا من دائرة المعارف للبستاني.

وذكر غيره أن البرهمية منقسمة إلى طبقات أربع هم البراهمة ( علماء المذهب ) والحربيون والزراع والتجار ، ولا يعبأ بغيرهم كالنساء والعبيد ، وقد نقلنا في ذيل قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ » الآية ، المائدة : ـ ١٠٥ في الجزء السادس من الكتاب في بحث علمي عن كتاب ما للهند من مقولة لأبي ريحان البيروني شيئا من وظائف البراهمة وعباداتهم ، وكذا عن الملل والنحل للشهرستاني شطرا من شرائع الصابئين.

والمذاهب الوثنية الهندية وكان الصابئين مثلهم أيضا مطبقون على القول بالتناسخ وهو أن العوالم غير متناهية من ناحيتي الأزل والأبد ولكل منها حظا من البقاء مؤجلا فإذا انقضى أمد بقائه بطلت صورته وتولد منه عالم آخر يعيش فيموت فيحدث ثالث وهكذا ، والنفوس الإنسانية المتعلقة بالأبدان لا تموت بموت أبدانها بل موت أبدانها مبدأ حياة جديدة لها فإنها تتعلق بأبدان أخر تعيش فيها عيشة سعيدة إن كسبت في بدنها السابق فضائل نفسانية وعملت عملا صالحا ، وعيشة شقية إن تلبست بالرذائل واقترفت السيئات إلا الكاملون في معرفة البرهم ( الله سبحانه ) فإنهم أحياء بحياة الأبد آمنون من التولد الثاني خارجون عن سلطان التناسخ.

٧ ـ الوثنية البوذية :

وقد أصلحت الوثنية البرهمية (١) بالبوذية منسوبة إلى بوذا « سقياموني » المتوفى سنة خمس مائة وثلاث وأربعين قبل المسيح على ما نقل عن التاريخ السيلاني وقيل غير ذلك حتى إن الاختلاف في ذلك ينسحب إلى ألفي سنة ، ولذلك ربما ظن أنه شخص

__________________

(١) ملخص ما في دائرة المعارف للبستاني.

٢٨٣

خرافي لا حقيقة له لكن الحفريات الأخيرة التي وقعت في غايا الحديثة وآثارا أخرى في بطنه دلت على صحة وجوده ، وقد انكشفت بها آثار أخرى من تاريخ حياته وتعاليمه التي ألقاها إلى تلامذته وأتباعه.

وكان بوذا من بيت الملك ابن ملك يدعى « سوذودانا » فعزفت نفسه الدنيا وشهواتها واعتزل الناس في شبابه ولبث في بعض الغابات الموحشة سنين من عمره مكبا على التزهد والارتياض حتى تنورت نفسه بالمعرفة فخرج إلى الناس وهو ابن ست وثلاثين سنة على ما قيل فدعاهم إلى التخلص عن الشقاء والآلام والفوز بالراحة الكبرى والحياة السماوية الأبدية السرمدية ، ووعظهم وحثهم على التمسك بذيل شريعته بالتخلق بالأخلاق الكريمة ورفض الشهوات واجتناب الرذائل.

وكان بوذا ـ على ما نقل ـ يقول عن نفسه من دون كبرياء برهمية : « أنا (١) متسول ، ولا توجد إلا شريعة واحدة للجميع وهي العقاب الشديد للمجرمين والثواب العظيم للصالحين ، وشريعتي شريعة نعمة للجميع ، وفيها كالسماء مكان للرجال والنساء والصبيان والبنات والأغنياء والفقراء على أنه يعسر على الغني أن يسلك طريقها ».

وكان تعليمه على ما عند البوذيين : أن الطبيعة ذات فراغ وأنها وهمية خداعة وأن العدم يوجد في كل مكان وكل زمان ، وهو مملوء من الغش ، ونفس هذا العدم يزيل كل الحواجز بين أصناف الناس وجنسياتهم وأحوالهم الدنيوية ، ويجعل أحقر الديدان إخوة للبوذيين.

وهم يعتقدون أن آخر عبارة نطق بها سقياموني هي « كل مركب فان » والغاية القصوى عندهم هي نجاة النفس من كل ألم وغرور ، وأن دور التناسخ الذي لا نهاية له ينتهي أو ينقطع بمنع النفس أن تولد ثانية ، ويتوصل إلى ذلك بتطهيرها حتى من رغبة الوجود.

فهذه القواعد الأساسية للبوذية موجودة صريحا في أقدم تعليمها المدرج في

__________________

(١) أي تصيبني التسويلات والوساوس النفسانية وفي كلامه هذا نسخ لحكم الطبقات في الشريعة البرهمية القاضي بتفاوت الناس في التشرف بالسعادة الدينية وتحريم بعضهم كالنساء والصبيان منها.

٢٨٤

« الأرياني ستيانس » وهي أربع حقائق سامية تنسب إلى سقياموني ذكرها في عظته الأولى التي قام بها في غابة تعرف بغابة الغزال بالقرب من بنارس.

وتلك الحقائق الأربع تتعلق بالألم وأصله وملاشاته وبالطريقة المؤدية إلى الملاشاة فالألم هو الولادة والسن والمرض والموت ومصادفة المكروه ومفارقة المحبوب والعجز عما يرام ، وأسباب الألم الشهوات النفسانية والجسدية والأهواء ، وملاشاة جميع هذه الأسباب هي الحقيقة الثالثة ، ولطريقة الملاشاة أيضا ثمانية أقسام وهي : نظر صحيح وحس صحيح ، ونطق صحيح ، وفعل صحيح ، ومركز صحيح ، وجد صحيح وذكر صحيح ، وتأمل صحيح ، فهذه صورة الإيمان عندهم وقد وجدت محفورة على أبنية كثيرة ومدونة في عدة كتب.

وأما خلاصة الأدب البوذي فهي اجتناب كل شيء ردي ، وعمل كل شيء صالح وتهذيب العقل.

فهذا هو الذي سلموه من تعليم بوذا وما عداه من العبادات والذبائح والكهنوت والفلسفة والأسرار أمور أضيفت إليه بكرور الأيام ومرور الدهور ، وهي تشتمل على أقاويل وآراء عجيبة في خلق العالم ونظمه وغير ذلك.

ومما يقال إن بوذا لم يتكلم عن الإله قط ، غير أن ذلك لم يكن لإعراض منه عن مبدإ الوجود ولا لإنكار بل لأن الرجل كان يبذل كل جهده في تجهيز الناس بالزهد عن زهرة الحياة الدنيا وتنفيرهم عن هذه الدار الغارة.

٨ ـ وثنية العرب. وهم أول من عارضهم الإسلام بالدعوة إلى التوحيد من عبدة الأوثان ، كان معظم العرب في عهد الجاهلية بدويين وأهل الحضارة منهم كاليمن في طبع البداوة يحكم فيهم من السنن والآداب رسوم مختلطة مختلفة مأخوذة من جيرانهم الأقوياء كالفرس والروم ومصر والحبشة والهند ، ومنها السنن الدينية.

وكان أسلافهم الأقدمون وهم العرب العاربة ومنهم عاد إرم وثمود على دين الوثنية كما يحكيه الله سبحانه في كتابه عن قوم هود وصالح وعن أصحاب مدين وعن أهل سبإ في قصة سليمان والهدهد ، حتى أن جاء إبراهيم عليه‌السلام بابنه إسماعيل وأمه هاجر إلى أرض مكة وهي واد غير ذي زرع وبها قبيلة جرهم ، وأسكنهما

٢٨٥

هناك فنشأ إسماعيل عليه‌السلام وبنيت بلدة مكة ، وبنى إبراهيم عليه‌السلام الكعبة البيت الحرام ودعا الناس إلى دينه الحنيف وهو الإسلام فاستجيب له في الحجاز وما والاها وشرع لهم الحج كما يدل على جملة ذلك قول الله تعالى له فيما يحكيه القرآن : « وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ » ، الحج : ـ ٢٧.

ثم تهود بعض الأعراب لمعاشرة كانت بينهم وبين اليهود النازلين بالحجاز ، وتسربت النصرانية إلى بعض أقطار الجزيرة ، والمجوسية إلى بعضها الآخر.

ثم وقعت وقائع بين آل إسماعيل وجرهم بمكة حتى آل إلى غلبة آل إسماعيل وإجلاء جرهم منها واستولى عمرو بن لحي على مكة وما والاها.

ثم إنه مرض مرضا شديدا فقيل له : إن البلقاء من أرض الشام حمة لو استحممت بها برأت فقصدها واستحم بها فبرأ ، ورأى هناك قوما يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا : هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية والأشخاص البشرية نستنصر بها فننصر ونستسقي بها فنسقي فأعجبه ذلك فطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكة ووضعه على الكعبة ، وكان معه إساف ونائلة وهما صنمان على شكل زوجين ـ كما في الملل والنحل ـ أو شابين ـ كما في غيره ـ فدعا الناس إلى عبادة الأصنام وروج ذلك بين قومه فعادوا يعبدونها بعد إسلامهم وقد كانوا يسمون حنفاء لاتباعهم ملة إبراهيم عليه‌السلام فبقي عليهم الاسم وهجرهم المعنى وصار الحنفاء اسما للوثنيين (١) منهم.

وكان مما يقربهم إلى الوثنية أن الكعبة المشرفة كان يعظمها اليهود والنصارى والمجوس والوثنية جميعا فكان لا يظعن من مكة ظاعن إلا حمل معه شيئا من حجارة الحرم تبركا وصبابة ، وحيثما حلوا وضعوه وطافوا به تيمنا وحبا للكعبة والحرم.

وعن هذه الأسباب شاعت الوثنية بين العرب عاربهم ومستعربهم ولم يبق من أهل التوحيد بينهم إلا آحاد لا يذكرون ، وكان من الأصنام المعروفة بينهم هبل وإساف ونائلة ، وهي التي أتى بها عمرو بن لحي ودعا إليها الناس ، واللات والعزى

__________________

(١) ولعل هذا هو الوجه في إصرار القرآن على توصيف إبراهيم بالحنيف والإسلام بالحنيفية.

٢٨٦

ومناة وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وقد ذكرت هذه الثمان في القرآن ونسبت الخمس الأواخر منها إلى قوم نوح.

وروي في الكافي ، بإسناده إلى عبد الرحمن بن الأشل بياع الأنماط عن الصادق عليه‌السلام : أن يغوث كان موضوعا قبالة باب الكعبة ، وكان يعوق عن يمين الكعبة ونسر عن يسارها.

وفي الرواية أيضا : أن هبل كان على سطح الكعبة ـ وإساف ونائلة على الصفا والمروة. وفي تفسير القمي ، قال: كانت ود لكلب ، وكانت سواع لهذيل ويغوث لمراد ، وكانت يعوق لهمدان ، وكانت نسر لحصين.

وكانت في الوثنية التي عندهم آثار من وثنية الصابئة كالغسل من الجنابة وغيره.

وفيها آثار من البرهمية كالقول بالأنواء والقول بالدهر كما تقدم عن وثنية بوذة قال تعالى : « وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ » الجاثية : ـ ٢٤ وإن ذكر بعضهم أنه قول الماديين المنكرين لوجود الصانع.

وفيها شيء من الدين الحنيف وهو إسلام إبراهيم عليه‌السلام كالختنة والحج إلا أنهم خلطوه بسنن وثنية كالتمسح بالأصنام التي حول الكعبة والطواف عريانا ، والتلبية بقولهم : لبيك لبيك اللهم لبيك لا شريك لك ، إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك.

وعندهم أمور أخر اختلقوه من عند أنفسهم كالقول بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام والقول بالصدى والهام والأنصاب والأزلام وأمور أخر مذكورة في التواريخ وقد تقدم تفسير البحيرة والسائبة والوصيلة والحام في سورة المائدة في ذيل آية ١٠٣ وكذا ذكر الأزلام والأنصاب في ذيل آية ٣ وآية ٩٠.

٩ ـ دفاع الإسلام عن التوحيد ومنازلته الوثنية. لم تزل الدعوة الإلهية تخاصم الوثنية وتقاومه وتندب إلى التوحيد كما ذكره الله في كتابه فيما يقصه من دعوة الأنبياء والرسل كنوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى عليه‌السلام ، وأشير إلى ذلك في قصص عيسى ولوط ويونس عليه‌السلام.

وقد أجمل القول في ذلك في قوله تعالى : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ

٢٨٧

إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ » الأنبياء : ـ ٢٥.

وقد بدأ النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوته العامة بدعاء الوثنيين من قومه إلى التوحيد بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن فلم يجيبوه إلا بالاستهزاء والأذى وفتنة من آمن به منهم وتعذيبه أشد العذاب حتى اضطر جمع من المسلمين إلى ترك مكة والهجرة إلى الحبشة ، ثم مكروا لقتله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهاجر إلى المدينة ثم هاجر إليها بعده عدة من المؤمنين.

ولم يلبثوا حتى تعلقوا به بالقتال ، وقاتلوه ببدر وأحد والخندق وفي غزوات أخرى كثيرة حتى أظهره الله تعالى عليهم بفتح مكة فظهر صلى‌الله‌عليه‌وآله البيت والحرم من أوثانهم ، وكسر الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرفة ، وكان هبل منصوبا على سطح الكعبة فأصعد عليا عليه‌السلام إليه فرماه إلى الأرض وكان ـ على ما يقال ـ أعظم أصنامهم فدفن ـ على ما ذكروه ـ في عتبة باب المسجد.

والإسلام شديد العناية بحسم مادة الوثنية وتخلية القلوب عن الخواطر الداعية إليها وصرف النفوس حتى عن الحومان حولها والإشراف عليها ، وذلك مشهود مما ندب إليه من المعارف الأصلية والأخلاق الكريمة والأحكام الشرعية فتراه يعد الاعتقاد الحق أنه لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى يملك كل شيء ، له الوجود الأصيل الذي يستقل بذاته وهو الغني عن العالمين ، وكل ما هو غيره منه يبتدئ وإليه يعود ، وإليه يفتقر في جميع شئون ذاته حدوثا وبقاء فمن أسند إلى شيء شيئا من الاستقلال بالقياس إليه تعالى ـ لا بالقياس إلى غيره ـ في شيء من ذاته أو صفاته أو أعماله فهو مشرك بحسبه.

وتراه يأمر بالتوكل على الله ، والثقة بالله ، والدخول تحت ولاية الله ، والحب في الله ، والبغض في الله ، وإخلاص العمل لله ، وينهى عن الاعتماد بغير الله ، والركون إلى غيره ، والاطمئنان إلى الأسباب الظاهرة ورجاء من دونه ، والعجب والكبر إلى غير ذلك مما يوجب إعطاء الاستقلال لغيره والشرك به.

وتراه ينهى عن السجدة لغيره تعالى ، وينهى عن اتخاذ التماثيل ذوات الأظلال وعن تصوير ذوي الأرواح ، وينهى عن طاعة غير الله والإصغاء إليه فيما يأمر وينهى إلا ما رجع إلى طاعة الله كطاعة الأنبياء وأئمة الدين ، وينهى عن البدعة واتباعها وعن اتباع خطوات الشيطان.

٢٨٨

والأخبار المأثورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن أئمة أهل البيت عليه‌السلام متظافرة في أن الشرك ينقسم إلى جلي وخفي ، وأن الشرك ذو مراتب كثيرة لا يسلم من جميعها إلا المخلصون ، وأنه أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء ، وقد روي في الكافي ، عن الصادق عليه‌السلام : في قوله تعالى : « يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ـ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » الشعراء : ـ ٨٩ ، القلب السليم الذي يلقى ربه ـ ليس فيه أحد سواه ، قال : وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط ـ وإنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة.

وورد أيضا : أن عبادته تعالى طمعا في الجنة عبادة الأجراء ، وعبادته خوفا من النار عبادة العبيد ، وحق العبادة أن يعبد تعالى حبا له ـ وتلك عبادة الكرام ، وهذا مقام مكنون ـ لا يمسه إلا المطهرون وقد تقدمت عدة من هذه الروايات في بعض الأبحاث السابقة من الكتاب.

١٠ ـ بناء سيرة النبي على التوحيد ونفي الشركاء : أجمل تعالى سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله التي أمره باتخاذها والسير بها في المجتمع البشري في قوله : « قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ » آل عمران : ـ ٦٤ ، وقال تعالى يشير إلى ما داخل دينهم من عقائد الوثنية : « قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ » المائدة ـ ٧٧.

وقال أيضا يذم أهل الكتاب : « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ » التوبة : ـ ٣١.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله قد سوى بين الناس في إجراء الأحكام والحدود وقارب بين طبقات المجتمع كالحاكم والمحكوم ، والرئيس والمرءوس ، والخادم والمخدوم ، والغني والفقير ، والرجل والمرأة ، والشريف والوضيع فلا كرامة ولا فخر ولا تحكم لأحد على أحد إلا كرامة التقوى والحساب إلى الله والحكم إليه.

٢٨٩

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يقسم بالسوية ، وينهى عن تظاهر القوي بقوته بما يتأثر وينكسر به قلب الضعيف المهين كتظاهر الأغنياء بزينتهم على الفقير المسكين ، والحكام والرؤساء بشوكتهم على الرعية.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يعيش كأحد من الناس لا يمتاز منهم في مأكل أو مشرب أو ملبس أو مجلس أو مشية أو غير ذلك ، وقد تقدم جوامع سيرته في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب.

( كلام آخر ملحق بالكلام السابق )

نزن فيه تعليم القرآن الكريم بقياسه إلى تعاليم ويدا ، وأوستا ، والتوراة ، والإنجيل على نحو الإجمال والكلية في فصول وهذا بحث تحليلي شريف.

١ ـ التناسخ عند الوثنيين :

من الأصول الأولية التي تبتني عليها البرهمية ومثلها البوذية والصابئية هو التناسخ وهو أن العالم محكوم بالكون والفساد دائما فهذا العالم المشهود لنا وكذا ما فيه من الأجزاء مكون عن عالم مثله سابق عليه وهكذا إلى غير النهاية ، وسيفسد هذا العالم كما لا يزال يفسد أجزاؤه ويتكون منه عالم آخر وهكذا إلى غير النهاية ، والإنسان يعيش في كل من هذه العوالم على ما اكتسبه في عالم يسبقه فمن عمل صالحا واكتسب ملكة حسنة فستتعلق نفسه بعد مفارقة البدن بالموت ببدن سعيد ويعيش على السعادة ، وهو ثوابه ، ومن أخلد إلى الأرض واتبع هواه فسوف يعيش بعد الموت في بدن شقي ويقاسي فيه أنواع العذاب إلا من عرف البرهم واتحد به فإنه ينجو من الولادة الثانية ويعود ذاتا أزلية أبدية هي عين البهاء والسرور والحياة والقدرة والعلم لا سبيل للفناء والبطلان إليها.

ولذلك كان من الواجب الديني على الإنسان أن يؤمن بالبرهم ( وهو الله أصل كل شيء ) ويتقرب إليه بالقرابين والعبادات ، ويتحلى بالأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة فإن عزفت نفسه الدنيا وتخلق بكرائم الأخلاق وتحلى بصوالح الأعمال وعرف البرهم بمعرفة نفسه صار برهمنا واتحد بالبرهم وصار هو هو ، وهو السعادة

٢٩٠

الكبرى والحياة البحتة ، وإلا فليؤمن بالبرهم وليعمل صالحا حتى يسعد في حياته التالية وهي آخرته.

لكن البرهم لما كان ذاتا مطلقة محيطا بكل شيء غير محاط لشيء كان أعلى وأجل من أن يعرفه الإنسان إلا بنوع من نفي النقائص أو يناله بعبادة أو قربان فمن الواجب علينا أن نتقرب بالعبادة إلى أوليائه وأقوياء خلقه حتى يكونوا شفعاء لنا عنده ، وهؤلاء هم الآلهة الذين يعبدون من دون الله بعبادة أصنامهم ، وهم على كثرتهم إما من الملائكة أو من الجن أو من أرواح المكملين من البراهمة ، وإنما يعبد الجن خوفا من شرهم ، وغيرهم طمعا في رحمتهم وخوفا من سخطهم ومنهم الأزواج والبنون والبنات لله تعالى.

فهذه جمل ما تتضمنه البرهمية ويعلمه علماء المذهب من البراهمة.

لكن الذي يتحصل من أوبانيشاد » (١) وهو القسم الرابع من كتاب « ويدا » المقدس ربما لم يوافق ما تقدم من كليات عقائدهم وإن أوله علماء المذهب من البراهمة.

فإن الباحث الناقد يجد أن رسائل « أوبانيشاد » المعلمة للمعارف الإلهية وإن كانت تصف العالم الألوهي والشئون المتعلقة به من الأسماء والصفات والأفعال من إبداء وإعادة وخلق ورزق وإحياء وأماته وغير ذلك بما يوصف به الأمور الجسمانية المادية كالانقسام والتبعض والسكون والحركة والانتقال والحلول والاتحاد والعظم والصغر وسائر الأحوال الجسمانية المادية إلا أنها تصرح في مواضع منها أن برهم (٢) ذات مطلقة متعالية من أن يحيط به حد له الأسماء الحسنى والصفات العليا من حياة وعلم وقدرة ، منزه عن نعوت النقص وأعراض المادة والجسم ليس كمثله شيء.

وتصرح (٣) بأنه تعالى إحدى الذات لم يولد من شيء ولم يلد شيئا وليس له

__________________

(١) أوبانيشاد لكتب « ويدا » المقدسة وهي رسائل متفرقة مأثورة من كبار رجال الدين من عرفائهم القدماء الأقدمين تحتوي جمل ما حصلوه من المعارف الإلهية بالكشف ويعتبرها البراهمة وحيا سماويا.

(٢) هذا كثر الورود يعثر عليه الراجع في أغلب فصول أوبانيشاد.

(٣) « لم يولد منه شيء ولم يتولد من شيء وليس كفؤا أحد » أوبانيشاد ( شيت استر ) ادهيا السادس آية ٨ ( السر الأكبر ).

٢٩١

كفو ومثل البتة.

وتصرح (١) بأن الحق أن لا يعبد غيره تعالى ولا يتقرب إلى غيره بقربان بل الحري بالعبادة هو وحده لا شريك له.

وتصرح (٢) كثيرا بالقيامة وأنه الأجل الذي ينتهي إليه الخلقة ، وتصف ثواب الأعمال وعقابها بعد الموت بما لا يأبى الانطباق على البرزخ من دون أن يتعين حمله على التناسخ.

ولا خبر في هذه الأبحاث الإلهية الموردة فيها عن الأوثان والأصنام وتوجيه العبادات وتقديم القرابين إليها.

وهذه التي نقلناها من « أوبانيشاد » ـ وما تركناه أكثر ـ حقائق سامية ومعارف حقة تطمئن إليها الفطرة الإنسانية السليمة ، وهي ـ كما ترى ـ تنفي جميع أصول الوثنية الموردة في أول البحث.

والذي يهدي إليه عميق النظر أنها كانت حقائق عالية كشفها آحاد من أهل ولاية الله ثم أخبروا بما وجدوا بعض تلامذتهم الآخذين منهم غير أنهم تكلموا غالبا بالرمز واستعملوا في تعاليمهم الأمثال.

ثم جعل ما أخذ من هؤلاء أساسا تبتني عليه سنة الحياة التي هي الدين المجتمع عليه عامة الناس ، وهي معارف دقيقة لا يحتملها إلا الآحاد من أهل المعرفة لارتفاع سطحها عن الحس والخيال اللذين هما حظ العامة من الإدراك وكمال صعوبة إدراكها على العقول الراجلة غير المتدربة في المعارف الحقة.

واختصاص نيلها بالأقلين من الناس وحرمان الأكثرين من ذلك وهي دين إنساني أول المحذور فإن الفطرة أنشأت العالم الإنساني مغروزة على الاجتماع المدني ، وانفصال بعضهم عن بعض في سنة الحياة وهي الدين إلغاء لسنة الفطرة وطريقة الخلقة.

على أن في ذلك تركا لطريق العقل وهو أحد الطرق الثلاث الوحي والكشف

__________________

(١) قال شبت استر : « اعمل الصالحات لتلك الذات النورانية إلى أي ملك أقدم القربان وأترك تلك الذات الظاهرة؟ » أوبانيشاد شيت استر. ادهيا الرابع آية ١٣.

(٢) وهذا كثير الورود في فصول أوبانيشاد يعثر عليه المراجع.

٢٩٢

والعقل ، وأعمها وأهمها بالنظر إلى حياة الإنسان الدنيوية فالوحي لا يناله إلا أهل العصمة من الأنبياء المكرمين ، والكشف لا يكرم به إلا الآحاد من أهل الإخلاص واليقين ، والناس حتى أهل الوحي والكشف في حاجة مبرمة إلى تعاطي الحجة العقلية في جميع شئون الحياة الدنيوية ولا غنى لها عن ذلك ، وفي إهمال هذا الطريق تسليط التقليد الإجباري على جميع شئون المجتمع الحيوية من اعتقادات وأخلاق وأعمال ، وفي ذلك سقوط الإنسانية.

على أن في ذلك إنفاذا لسنة الاستعباد في المجتمع الإنساني ويشهد بذلك التجارب التاريخي المديد في الأمم البشرية التي عاشت في دين الوثنية أو جرت فيهم سنن الاستعباد باتخاذ أرباب من دون الله.

٢ ـ سريان هذه المحاذير إلى سائر الأديان :

الأديان العامة الآخر على ما فيها من القول بتوحيد الألوهية لم تسلم من شرك العبادة فساقهم ذلك إلى الابتلاء بعين ما ابتليت به الوثنية البرهمية من المحاذير التي أهمها الثلاثة المتقدمة.

أما البوذية والصابئة فذلك فيهم ظاهر والتاريخ يشهد بذلك ، وقد تقدم شيء مما يتعلق بعقائدهم وأعمالهم.

وأما المجوس فهم يوحدون « أهورا مزدا » بالألوهية لكنهم يخضعون بالتقديس ليزدان وأهريمن والملائكة الموكلين بشئون الربوبية وللشمس والنار وغير ذلك ، والتاريخ يقص ما كانت تجري فيهم من سنة الاستعباد واختلاف الطبقات والتدبر والاعتبار يقضي أنه إنما تسرب ذلك كله إليهم من ناحية تحريف الدين الأصيل ، وقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم : « أنه كان لهم نبي فقتلوه وكتاب فأحرقوه ».

وأما اليهود فالقرآن يقص كثيرا من أعمالهم وتحريفهم كتاب الله واتخاذهم العلماء أربابا من دون الله ، وما ابتلاهم الله به من انتكاس الفطرة ورداءة السليقة.

وأما النصارى فقد فصلنا القول فيما انحرفوا فيه من النظر والعمل في الجزء الثالث من الكتاب فراجع وإن شئت فطبق مفتتح إنجيل يوحنا ورسائل بولس على سائر الأناجيل وتممه بمراجعة تاريخ الكنيسة فالكلام في ذلك طويل.

٢٩٣

فالبحث العميق في ذلك كله ينتج أن المصائب العامة في المجتمعات الدينية في العالم الإنساني من مواريث الوثنية الأولى التي أخذت المعارف الإلهية والحقائق العالية الحقة مكشوفة القناع مهتوكة الستر فجعلتها أساس السنن الدينية ، وحملتها على الأفهام العامة التي لا تأنس إلا بالحس والمحسوس فأنتج ذلك ما أنتج.

٣ ـ إصلاح الإسلام لهذه المفاسد :

أما الإسلام فإنه أصلح هذه المفاسد إذ قلب هذه المعارف العالية في قالب البيان الساذج الذي يصلح لهضم الأفهام الساذجة والعقول العادية فصارت تلامسها من وراء حجاب وتتناولها ملفوفة محفوفة ، وهذا هو الذي يصلح به حال العامة وأما الخاصة فإنهم ينالونها مسفرة مكشوفة في جمالها الرائع وحسنها البديع آمنين مطمئنين وهم في زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، قال الله تعالى : « وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ » الزخرف : ـ ٤ ، وقال : « إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ » الواقعة : ـ ٧٩ ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنا معاشر الأنبياء ـ أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم».

وعالج غائلة الشرك والوثنية في مرحلة التوحيد بنفي الاستقلال في الذات والصفات عن كل شيء إلا الله سبحانه فهو تعالى القيوم على كل شيء ، وركز الأفهام في معرفة الألوهية بين التشبيه والتنزيه فوصفه تعالى بأن له حياة لكن لا كحياتنا ، وعلما لا كعلمنا ، وقدرة لا كقدرتنا وسمعا لا كسمعنا ، وبصرا لا كبصرنا ، وبالجملة ليس كمثله شيء وأنه أكبر من أن يوصف ، وأمر الناس مع ذلك أن لا يقولوا في ذلك قولا إلا عن علم ، ولا يركنوا إلى اعتقاد إلا عن حجة عقلية يهضمها عقولهم وأفهامهم.

فوفق بذلك أولا لعرض الدين على العامة والخاصة شرعا سواء ، وثانيا أن يعمل العقل السليم من غير أن يترك هذه الموهبة الإلهية سدى لا ينتفع بها ، وثالثا أن قرب بين الطبقات المختلفة في المجتمع الإنساني غاية ما يمكن فيها من التقريب من غير أن ينعم على هذا ويحرم ذاك أو يقدم واحدا ويؤخر آخر قال تعالى : « إِنَ

٢٩٤

هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ » الأنبياء : ـ ٩٢ وقال : « يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ » الحجرات : ـ ١٣.

وهذا إجمال من القول يمكنك أن تعثر على تفصيل القول في أطرافه في أبحاث متفرقة تقدمت في هذا الكتاب والله المستعان.

٤ ـ ربما يظن أن ما ورد في الأدعية من الاستشفاع بالنبي وآله المعصومين صلى‌الله‌عليه‌وآله ومسألته تعالى بحقهم وزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرك بتربتهم وتعظيم آثارهم من الشرك المنهي عنه وهو الشرك الوثني محتجا بأن هذا النوع من التوجه العبادي فيه إعطاء تأثير ربوبي لغيره تعالى وهو شرك وأصحاب الأوثان إنما أشركوا لقولهم في أوثانهم : إن هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقولهم : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، ولا فرق في عبادة غير الله سبحانه بين أن يكون ذلك الغير نبيا أو وليا أو جبارا من الجبابرة أو غيرهم فالجميع من الشرك المنهي عنه.

وقد فاتهم أولا أن ثبوت التأثير سواء كان ماديا أو غير مادي في غيره تعالى ضروري لا سبيل إلى إنكاره ، وقد أسند تعالى في كلامه التأثير بجميع أنواعه إلى غيره ونفي التأثير عن غيره تعالى مطلقا يستلزم إبطال قانون العلية والمعلولية العام الذي هو الركن في جميع أدلة التوحيد ، وفيه هدم بنيان التوحيد. نعم المنفي من التأثير عن غيره تعالى هو الاستقلال في التأثير ولا كلام لأحد فيه ، وأما نفي مطلق التأثير ففيه إنكار بديهة العقل والخروج عن الفطرة الإنسانية.

ومن يستشفع بأهل الشفاعة الذين ذكرهم الله في مثل قوله : « وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » الزخرف : ـ ٨٦ وقوله : « وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى » الأنبياء : ـ ٢٨.

أو يسأل الله بجاههم ويقسمه بحقهم الذي جعله لهم عليه بمثل قوله مطلقا : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ » الصافات : ـ ١٧٣ وقوله : « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا » المؤمن : ـ ٥١.

أو يعظمهم ويظهر حبهم بزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرك بتربتهم بما أنهم آيات

٢٩٥

الله وشعائره تمسكا بمثل قوله تعالى : « وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ » الحج : ـ ٣٢ ، وآية القربى وغير ذلك من كتاب وسنة.

فهو في جميع ذلك يبتغي بهم إلى الله الوسيلة وقد قال تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ » المائدة : ـ ٣٥ فشرع به ابتغاء الوسيلة ، وجعلهم بما شرع من حبهم وتعزيرهم وتعظيمهم وسائل إليه ، ولا معنى لإيجاب حب شيء وتعظيمه وتحريم آثار ذلك فلا مانع من التقرب إلى الله بحبهم وتعظيم أمرهم وما لذلك من الآثار إذا كان على وجه التوسل والاستشفاع من غير أن يعطوا استقلال التأثير والعبادة البتة.

وثانيا : أنه فاتهم الفرق بين أن يعبد غير الله رجاء أن يشفع عند الله أو يقرب إلى الله ، وبين أن يعبد الله وحده مع الاستشفاع والتقرب بهم إليه ففي الصورة الأولى إعطاء الاستقلال وإخلاص العبادة لغيره تعالى وهو الشرك في العبودية والعبادة ، وفي الصورة الثانية يتمحض الاستقلال لله تعالى ويختص العبادة به وحده لا شريك له.

وإنما ذم تعالى المشركين لقولهم : « إنما نعبدهم ( لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) » حيث أعطوهم الاستقلال وقصدوهم بالعبادة دون الله سبحانه ، ولو قالوا : إنما نعبد الله وحده ونرجو مع ذلك أن يشفع لنا ملائكته أو رسله وأولياؤه بإذنه أو نتوسل إلى الله بتعظيم شعائره وحب أوليائه ، لما كفروا بذلك بل عادت شركاؤهم كمثل الكعبة في الإسلام هي وجهة وليست بمعبودة ، وإنما يعبد بالتوجه إليها الله.

وليت شعري ما ذا يقول هؤلاء في الحجر الأسود وما شرع في الإسلام من استلامه وتقبيله؟ وكذا في الكعبة؟ فهل ذلك كله من الشرك المستثنى من حكم الحرمة؟ فالحكم حكم ضروري عقلي لا يقبل تخصصا ولا استثناء ، أو أن ذلك من عبادة الله محضا وللحجر حكم الطريق والجهة ، وحينئذ فما الفرق بينه وبين غيره إذا لم يكن تعظيمه على وجه إعطاء الاستقلال وتمحيض العبادة ، ومطلقات تعظيم شعائر الله وتعزير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحبه ومودته وحب أهل بيته ومودتهم وغير ذلك في محلها.

٢٩٦

( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) ).

٢٩٧

( بيان )

تذكر الآيات قصة هود النبي وقومه وهم عاد الأولى ، وهو عليه‌السلام أول نبي يذكره الله تعالى في كتابه بعد نوح عليه‌السلام ، ويشكر مسعاه في إقامة الدعوة الحقة والانتهاض على الوثنية ، ويعقب ذكر قوم نوح بذكر قوم هود ، قال تعالى في عدة مواضع من كلامه : « قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ ».

قوله تعالى : « وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً » كان أخاهم في النسب لكونه منهم وأفراد القبيلة يسمون إخوة لانتسابهم جميعا إلى أب القبيلة ، والجملة معطوفة على قوله تعالى سابقا : « نُوحاً إِلى قَوْمِهِ » والتقدير : « ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا » ولعل حذف الفعل هو الموجب لتقديم الظرف على المفعول في المعطوف على خلاف المعطوف عليه حيث قيل : « وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ » إلخ ، ولم يقل : وهودا إلى عاد مثلا كما قال : « نُوحاً إِلى قَوْمِهِ » لأن دلالة الظرف أعني : « إِلى عادٍ » على تقدير الإرسال أظهر وأوضح.

قوله تعالى : « قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ » الكلام وارد مورد الجواب كان السامع لما سمع قوله : « وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً » قال : فما ذا قال لهم؟ فقيل : « قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ » إلخ ، ولذا جيء بالفصل من غير عطف.

وقوله : « اعْبُدُوا اللهَ » في مقام الحصر أي اعبدوه ولا تعبدوا غيره من آلهة اتخذتموها أربابا من دون الله تعبدونها لتكون لكم شفعاء عند الله من غير أن تعبدوه تعالى. والدليل على الحصر المذكور قوله بعد : « ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ » حيث يدل على أنهم كانوا قد اتخذوا آلهة يعبدونها افتراء على الله بالشركة والشفاعة.

قوله تعالى : « يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً » إلى آخر الآية ، قال في المجمع ، الفطر الشق عن أمر الله كما ينفطر الورق عن الشجر ، ومنه فطر الله الخلق لأنه بمنزلة ما شق منه فظهر. انتهى ، وقال الراغب : أصل الفطر الشق طولا يقال : فطر فلان كذا فطرا وأفطر هو فطورا وانفطر انفطارا ـ إلى أن قال ـ وفطر الله

٢٩٨

الخلق وهو إيجاد الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال فقوله : ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع وركز في الناس من معرفته ، وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان وهو المشار إليه بقوله : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ). انتهى.

والظاهر أن الفطر هو الإيجاد عن عدم بحت ، والخصوصية المفهومة من مثل قوله : « فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » إنما نشأت من بناء النوع الذي تشتمل عليه فطرة وهي فعلة ، وعلى هذا فتفسير بعضهم الفطرة بالخلقة بعيد من الصواب ، وإنما الخلق هو إيجاد الصورة عن مادة على طريق جمع الأجزاء ، قال تعالى : « وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ » المائدة : ـ ١١٠.

والكلام مسوق لرفع التهمة والعبث والمعنى يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم أجرا وجزاء حتى تتهموني أني أستدر به نفعا يعود إلي وإن أضر بكم ، ولست أدعوكم من غير جزاء مطلوب حتى يكون عبثا من الفعل بل إنما أطلب به جزاء من الله الذي أوجدني وأبدعني أفلا تعقلون عني ما أقوله لكم حتى يتضح لكم أني ناصح لكم في دعوتي ، ما أريد إلا أن أحملكم على الحق.

قوله تعالى : « وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً » إلى آخر الآية تقدم الكلام في معنى قوله : « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ » في صدر السورة.

وقوله : « يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً » في موقع الجزاء لقوله : « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ » إلخ ، أي إن تستغفروه وتتوبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ، والمراد بالسماء السحاب فإن كل ما علا وأظل فهو سماء ، وقيل المطر وهو شائع في الاستعمال ، والمدرار مبالغة من الدر ، وأصل الدر اللبن ثم أستعير للمطر ولكل فائدة ونفع فإرسال السماء مدرارا إرسال سحب تمطر أمطارا متتابعة نافعة تحيى بها الأرض وينبت الزرع والعشب ، وتنضر بها الجنات والبساتين.

وقوله : « وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ » قيل المراد بها زيادة قوة الإيمان على قوة الأبدان وقد كان القوم أولي قوة وشدة في أبدانهم ولو أنهم آمنوا انضافت

٢٩٩

قوة الإيمان على قوة أبدانهم وقيل المراد بها قوة الأبدان كما قال نوح لقومه : « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ » نوح : ـ ١٢ ولعل التعميم أولى.

وقوله : « وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ » بمنزلة التفسير لقوله : « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ » أي إن عبادتكم لما اتخذتموه من الآلهة دون الله إجرام منكم ومعصية توجب نزول السخط الإلهي عليكم فاستغفروا الله من إجرامكم وارجعوا إليه بالإيمان حتى يرحمكم بإرسال سحب هاطلة ممطرة وزيادة قوة إلى قوتكم.

وفي الآية « أولا » إشعار أو دلالة على أنهم كانوا مبتلين بإمساك السماء والجدب والسنة كما ربما أومأ إليه قوله : « يُرْسِلِ السَّماءَ » وكذا قولهم على ما حكاه الله تعالى في موضع آخر : « فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ » الأحقاف : ـ ٢٤.

وثانيا : أن هناك ارتباطا تاما بين الأعمال الإنسانية وبين الحوادث الكونية التي تمسه فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات ونزول البركات ، والأعمال الطالحة تستدعي تتابع البلايا والمحن ، وتجلب النقمة والشقوة والهلكة كما يشير إليه قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ » الآية الأعراف : ـ ٩٦ ، وقد تقدم تفصيل الكلام فيه في بيان الآيات ٩٤ ـ ١٠٢ من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب ، وفي أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.

قوله تعالى : « قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ » سألهم هود في قوله : « يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ » إلى آخر الآيات الثلاث أمرين هما أن يتركوا آلهتهم ويعودوا إلى عبادة الله وحده وأن يؤمنوا به ويطيعوه فيما ينصح لهم فردوا عليه القول بما في هذه الآية إجمالا وتفصيلا :

أما إجمالا فبقولهم : « ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ » يعنون أن دعوتك خالية عن الحجة والآية المعجزة ولا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه.

وأما تفصيلا فقد أجابوا عن دعوته إياهم إلى رفض الشركاء بقولهم : « وَما

٣٠٠