الميزان في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

ومن الضروري عندنا أن هذا الكمال لا يتم للإنسان وحده لوفور حوائجه الحيوية وكثرة الأعمال التي يجب أن يقوم بها لأجل رفعها فالعقل العملي الذي يبعثه إلى الاستفادة من كل ما يمكنه الاستفادة منه واستخدام الجماد وأصناف النبات والحيوان في سبيل منافعه يبعثه إلى الانتفاع بأعمال غيره من بني نوعه.

غير أن الأفراد أمثال وفي كل واحد منهم من العقل العملي والشعور الخاص الإنساني ما في الآخر ويبعثه من الانتفاع إلى مثل ما يبعث إليه الآخر ما عنده من العقل العملي ، واضطرهم ذلك إلى الاجتماع التعاوني بأن يعمل الكل للكل وينتفع من عمل الغير بمثل ما ينتفع الغير من عمله فيتسخر كل لغيره بمقدار ما يسخره كما قال تعال : « نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا » الزخرف : ـ ٣٢.

وهذا الذي ذكرناه من بناء الإنسان على الاجتماع التعاوني اضطراري له ألزمه عليه حاجة الحياة وقوة الرقباء فهو في الحقيقة مدني تعاوني بالطبع الثاني وإلا فطبعه الأولي أن ينتفع بكل ما يتيسر له الانتفاع حتى أعمال أبناء نوعه ، ولذلك مهما قوي الإنسان واستغنى واستضعف غيره عدا عليه وأخذ يسترق الناس ويستثمرهم من غير عوض قال تعالى : « إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ » إبراهيم : ـ ٣٤ وقال : « إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى » العلق : ـ ٨.

ومن الضروري أن الاجتماع التعاوني بين الأفراد لا يتم إلا بقوانين يحكم فيها وحفاظ تقوم بها ، وهذا مما استمرت سيرة النوع عليه فما من مجتمع من المجتمعات الإنسانية كاملا كان أو ناقصا ، راقيا كان أو منحطا إلا ويجري فيه رسوم وسنن جريانا كليا أو أكثريا ، والتاريخ والتجربة والمشاهدة أعدل شاهد في تصديقه وهذه الرسوم والسنن وإن شئت فسمها القوانين هي مواد وقضايا فكرية تطبق عليها أعمال الناس تطبيقا كليا أو أكثريا في المجتمع فينتج سعادتهم حقيقة أو ظنا فهي أمور متخللة بين كمال الإنسان ونقصه ، وأشياء متوسطة بين الإنسان وهو في أول نشأته وبينه وهو مستكمل في حياته عائش في مجتمعة تهدي الإنسان إلى غاية وجوده فافهم ذلك.

وقد علم أن من الواجب في عناية الله أن يهدي الإنسان إلى سعادة حياته وكمال

٢٦١

وجوده على حد ما يهدي سائر الأنواع إليه فكما هداه بواجب عنايته من طريق الخلقة والفطرة إلى ما فيه خيره وسعادته وهو الذي يبعثها إليه نظام الكون والجهازات التي جهز بها إلى أن يشعر بما فيه نفعه ويميز خيره من شره وسعادته من شقائه كما قال تعالى : « وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » الشمس : ـ ١٠.

يهديه بواجب عنايته إلى أصول وقوانين اعتقادية وعملية يتم له بتطبيق شئون حياته عليها كماله وسعادته فإن العناية الإلهية بتكميل الأنواع بما يناسب نوع وجودها توجب هذا النوع من الهداية كما توجب الهداية التكوينية المحضة.

ولا يكفي في ذلك ما جهز به الإنسان من العقل ـ وهو هاهنا العملي منه ـ فإن العقل كما سمعت يبعث نحو الاستخدام ويدعو إلى الاختلاف ، ومن المحال أن يفعل شيء من القوى الفعالة فعلين متقابلين ويفيد أثرين متناقضين ، على أن المتخلفين من هذه القوانين والمجرمين بأنواع الجرائم المفسدة للمجتمع كلهم عقلاء ممتعون بمتاع العقل مجهزون به.

فظهر أن هناك طريقا آخر لتعليم الإنسان شريعة الحق ومنهج الكمال والسعادة غير طريق التفكر والتعقل وهو طريق الوحي ، وهو نوع تكليم إلهي يعلم الإنسان ما يفوز بالعمل به والاعتقاد له في حياته الدنيوية والأخروية.

فإن قلت : الأمر سواء فإن شرع النبوة لم يأت بأزيد مما لو كان العقل لأتى به فإن العالم الإنساني لم يخضع لشرائع الأنبياء كما لم يصغ إلى نداء العقل ، ولم يقدر الوحي أن يدير المجتمع الإنساني ويركبه صراط الحق فما هي الحاجة إليه؟

قلت : لهذا البحث جهتان : جهة أن العناية الإلهية من واجبها أن تهدي المجتمع الإنساني إلى تعاليم تسعده وتكمله لو عمل بها وهي الهداية بالوحي ولا يكفي فيها العقل ، وجهة أن الواقع في الخارج والمتحقق بالفعل ما هو؟ وإنما نبحث في المقام من الجهة الأولى دون الثانية ، ولا يضر بها أن هذه الطريقة لم تجر بين الناس إلى هذه الغاية إلا قليلا. وذلك كما أن العناية الإلهية تهدي أنواع النبات والحيوان إلى كمال خلقها وغاية وجودها ومع ذلك يسقط أكثر أفراد كل نوع دون الوصول

٢٦٢

إلى غايته النوعية ويفسد ويموت قبل البلوغ إلى عمره الطبيعي.

وبالجملة فطريق النبوة مما لا مناص منه في تربية النوع بالنظر إلى العناية الإلهية وإلا لم تتم الحجة بمجرد العقل لأن له شغلا غير الشغل وهو دعوة الإنسان إلى ما فيه صلاح نفسه ، ولو دعاه إلى شيء من صلاح النوع فإنما يدعوه إليه بما فيه صلاح نفسه فافهم ذلك وأحسن التدبر في قوله تعالى : « إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً » النساء : ـ ١٦٥.

فمن الواجب في العناية أن ينزل الله على المجتمع الإنساني دينا يدينون به وشريعة يأخذون بها في حياتهم الاجتماعية دون أن يخص بها قوما ويترك الآخرين سدى لا عناية بهم ، ولازمه الضروري أن يكون أول شريعة نزلت عليهم شريعة عامة.

وقد أخبر الله سبحانه عن هذه الشريعة بقوله عز من قائل : « كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ » البقرة : ـ ٢١٣ ، فبين أن الناس كانوا أول ما نشئوا وتكاثروا على فطرة ساذجة لا يظهر فيهم أثر الاختلافات والمنازعات الحيوية ثم ظهر فيهم الاختلافات فبعث الله الأنبياء بشريعة وكتاب يحكم بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه ، ويحسم مادة الخصومة والنزاع.

ثم قال تعالى فيما امتن به على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى » الشورى : ـ ١٣. ومقام الامتنان يقضي بأن الشرائع الإلهية المنزلة على البشر هي هذه التي ذكرت لا غير ، وأول ما ذكر من الشريعة هي شريعة نوح ، ولو لم يكن عامة للبشر كلهم وخاصة في زمنه عليه‌السلام لكان هناك إما نبي آخر ذو شريعة أخرى لغير قوم نوح ولم يذكر في الآية ولا في موضع آخر من كلامه تعالى ، وإما إهمال سائر الناس غير

٢٦٣

قومه عليه‌السلام في زمنه وبعده إلى حين.

فقد بان أن نبوة نوح عليه‌السلام كانت عامة ، وأن له كتابا وهو المشتمل على شريعته الرافعة للاختلاف ، وأن كتابه أول الكتب السماوية المشتملة على الشريعة ، وأن قوله تعالى في الآية السابقة « وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ » هو كتابه أو كتابه وكتاب غيره من أولي العزم : إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ص.

وظهر أيضا أن ما يدل من الروايات على عدم عموم دعوته عليه‌السلام مخالف للكتاب وفي حديث الرضا عليه‌السلام : أن أولي العزم من الأنبياء خمسة ـ لكل منهم شريعة وكتاب ونبوتهم عامة لجميع من سواهم ـ نبيا أو غير نبي ، وقد تقدم الحديث في ذيل قوله تعالى : « كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً » البقرة ـ ٢١٣ ، في الجزء الثاني من الكتاب.

٧ ـ هل الطوفان كانت عامة لجميع الأرض؟ تبين الجواب عن هذا السؤال في الفصل السابق فإن عموم دعوته عليه‌السلام يقضي بعموم العذاب ، وهو نعم القرينة على أن المراد بسائر الآيات الدالة بظاهرها على العموم ذلك كقوله تعالى حكاية عن نوح عليه‌السلام : « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً » نوح ـ ٢٦ ، وقوله حكاية عنه : « لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ » هود : ـ ٤٣ ، وقوله : « وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ » الصافات : ـ ٧٧.

ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من كلامه تعالى أنه أمر نوحا أن يحمل من كل زوجين اثنين فمن الواضح أنه لو كان الطوفان خاصا بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق ـ كما قيل ـ لم يكن أي حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين. وهو ظاهر.

واختار بعضهم كون الطوفان خاصا بأرض قوم نوح عليه‌السلام قال صاحب المنار في تفسيره ، : أما قوله في نوح عليه‌السلام بعد ذكر تنجيته وأهله : « وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ » فالحصر فيهم يجوز أن يكون إضافيا أي الباقين دون غيرهم من قومه ، وأما

٢٦٤

قوله : « وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً » فليس نصا في أن المراد بالأرض هذه الكرة كلها فإن المعروف من كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أن تذكر الأرض ويراد بها أرضهم ووطنهم كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى وهارون : « وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ » يعني أرض مصر ، وقوله : « وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها » فالمراد بها مكة ، وقوله : « وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ » والمراد بها الأرض التي كانت وطنهم ، والشواهد عليه كثيرة.

ولكن ظواهر الآيات تدل بمعونة القرائن والتقاليد الموروثة عن أهل الكتاب على أنه لم يكن في الأرض كلها في زمن نوح إلا قومه وأنهم هلكوا كلهم بالطوفان ولم يبق بعده فيها غير ذريته ، وهذا يقتضي أن يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سهلها وجبلها لا في الأرض كلها إلا إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها فإن علماء التكوين وطبقات الأرض ـ الجيولوجية ـ يقولون إن الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة نارية ملتهبة ثم صارت كرة مائية ثم ظهرت فيها اليابسة بالتدريج.

ثم أشار إلى ما استدل به بعض أهل النظر على عموم الطوفان لجميع الأرض من أنا نجد بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال وهذه الأشياء مما لا تتكون إلا في البحر فظهورها في رءوس الجبال دليل على أن الماء قد صعد إليها مرة من المرات ، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض هذا.

ورد عليه بأن وجود الأصداف والحيوانات البحرية في قلل الجبال لا يدل على أنه من أثر ذلك الطوفان بل الأقرب أنه من أثر تكون الجبال وغيرها من اليابسة في الماء كما قلنا آنفا فإن صعود الماء إلى الجبال أياما معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها.

ثم قال ما ملخصه : أن هذه المسائل التاريخية ليست من مقاصد القرآن ولذلك لم يبينها بنص قطعي فنحن نقول بما تقدم أنه ظاهر النصوص ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية فإن أثبت علم الجيولوجية خلافه لا يضرنا لأنه لا ينقض نصا

٢٦٥

قطعيا عندنا. انتهى.

أقول : أما ما ذكره من تأويل الآيات فهو من تقييد الكلام من غير دليل ، وأما قوله في رد قولهم بوجود الأصداف والأسماك في قلل الجبال : إن صعود الماء إليها في أيام معدودة لا يكفي في حدوثها! ففيه أن من الجائز أن تحملها أمواج الطوفان العظيمة إليها ثم تبقى عليها بعد النشف فإن ذلك من طوفان يغمر الجبال الشامخة في أيام معدودة غير عزيز.

وبعد ذلك كله قد فاته ما ينص عليه الآيات أنه عليه‌السلام أمر أن يحمل من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين فإن ذلك كالنص في أن الطوفان عم البقاع اليابسة من الأرض جميعا أو معظمها الذي هو بمنزلة الجميع.

فالحق أن ظاهر القرآن الكريم ـ ظهورا لا ينكر ـ أن الطوفان كان عاما للأرض ، وأن من كان عليها من البشر أغرقوا جميعا ولم يقم لهذا الحين حجة قطعية تصرفها عن هذا الظهور.

وقد كنت سألت صديقي الفاضل الدكتور سحابي المحترم أستاذ الجيولوجيا بكلية طهران أن يفيدني بما يرشد إليه الأبحاث الجيولوجية في أمر هذا الطوفان العام إن كان فيها ما يؤيد ذلك على وجه كلي فأجابني بإيفاد مقال محصله ما يأتي مفصلا في فصول :

١ ـ الأراضي الرسوبية : تطلق الأراضي الرسوبية في الجيولوجيا على الطبقات الأرضية التي كونتها رسوبات المياه الجارية على سطح الأرض كالبطائح والمسيلات التي غطتها الرمال ودقاق الحصى.

نعرف الأراضي الرسوبية بما تراكم فيها من الرمال ودقاق الحصى الكروية المدورة فإنها كانت في الأصل قطعات من الحجارة حادة الأطراف والزوايا حولتها إلى هذه الحالة الاصطكاكات الواقعة بينها في المياه الجارية والسيول العظيمة ثم إن الماء حملها وبسطها على الأرض في غايات قريبة أو بعيدة بالرسوب.

وليست تنحصر الأراضي الرسوبية في البطائح فغالب الأراضي الترابية من

٢٦٦

هذا القبيل تخالطها أو تكونها رمال بالغة في الدقة ، وقد حملها لدقتها وخفتها إليها جريان المياه والسيول.

نجد الأراضي الرسوبية وقد غطتها طبقات مختلفة من الرمل والتراب بعضها فوق بعض من غير ترتيب ونظم ، وذلك ـ أولا ـ أمارة أن تلك الطبقات لم تتكون في زمان واحد بعينه وثانيا ـ أن مسير المياه والسيول أو شدة جريانها قد تغير بحسب اختلاف الأزمنة.

ويتضح بذلك أن الأراضي الرسوبية كانت مجاري ومسائل في الأزمنة السابقة لمياه وسيول هامة وإن كانت اليوم في معزل من ذلك.

وهذه الأراضي التي تحكي عن جريان مياه كثيرة جدا وسيلان سيول هائلة عظيمة توجد في أغلب مناطق الأرض منها أغلب نقاط إيران كأراضي طهران وقزوين وسمنان وسبزوار ويزد وتبريز وكرمان وشيراز وغيرها ، ومنها مركز بين النهرين وجنوبه ، وما وراء النهر ، وصحراء الشام ، والهند ، وجنوب فرنسا ، وشرقي الصين ، ومصر ، وأكثر قطعات أمريكا ، وتبلغ صخامة الطبقة الرسوبية في بعض الأماكن إلى مئات الأمتار كما أنها في أرض طهران تجاوز أربعمائة مترا.

وينتج مما مر أولا : أن سطح الأرض في عهد ليس بذاك البعيد ( على ما سيأتي توضيحه ) كان مجرى سيول هائلة عظيمة ربما غطت معظم بقاعها.

وثانيا : أن الطغيان والطوفان ـ بالنظر إلى صخامة القشر الرسوبي في بعض الأماكن ـ لم يحدث مرة واحدة ولا في سنة أو سنين معدودة بل دام أو تكرر في مئات من السنين كلما حدث مرة كون طبقة رسوبية ثم إذا انقطع غطتها طبقة ترابية ثم إذا عاد كون أخرى وهكذا وكذلك اختلاف الطبقات الرسوبية في دقة رمالها وعدمها يدل على اختلاف السيلان بالشدة والضعف.

٢ ـ الطبقات الرسوبية أحدث القشور والطبقات الجيولوجية : ترسب الطبقات الرسوبية عادة رسوبا أفقيا ولكن ربما وقعت أجزاؤها المتراكمة تحت ضغطات جانبية قوية شديدة على ما بها من الدفع من فوق ومن تحت فتخرج بذلك

٢٦٧

تدريجا عن الأفقية إلى التدوير والالتواء ، وهذا غير ظاهر الأثر في الأزمنة القصيرة المحدودة لكن إذا تمادى الزمان بطوله كمرور الملايين من السنين ظهر الأثر وتكونت بذلك الجبال بسلاسلها الملتوية بعض تلالها في بعض وترتفع بقللها من سطوح البحار.

ويستنتج من ذلك أن الطبقات الرسوبية والقشور الأفقية الباقية على حالها من أحدث الطبقات المتكونة على البسيط ، والدلائل الفنية الموجودة تدل على أن عمرها لا يجاوز عشرة آلاف إلى خمس عشرة ألف سنة من زماننا هذا. (١)

٣ ـ انبساط البحار واتساعها بانحدار المياه إليها : كأن تكون القشور الرسوبية الجديدة عاملا في انبساط أكثر بحار الكرة واتساعها بأطرافها فارتفعت مياهها وغطت أكثر سواحلها وعملت جزائر في السواحل أحاطت بها من معظم جوانبها.

فمن ذلك جزيرة بريطانية انقطعت في هذا الحين من فرنسا وانفصلت من أوربا بالكلية ، وكانت أوربا من ناحية جنوبها وإفريقا من ناحية شمالها مرتبطتين برابط بري إلى هذا الحين فانفصلتا باتساع البحر المتوسط ( مديترانة ) وتكون بذلك شبه جزيرة إيطاليا وشبه جزيرة تونس من شمالها الشرقي وجزائر صقلية وسردينيا وغيرها وكانت جزائر أندونيسيا من ناحية جاوا وسوماترا إلى جنوبي جزيرة اليابان متصلة بآسيا من جهة الجنوب الشرقي إلى هذا الحين فانفصلت وتحولت إلى صورتها الفعلية ، وكذا انقطاع أمريكا الشمالية من جهة شمالها عن شمال أوربا أحد الآثار الباقية من هذا العهد عهد الطوفان.

وللحركات والتحولات الأرضية الداخلية آثار في سير هذه المياه واستقرارها في البقاع الخافضة المنحدرة ولذلك كان ينكشف الماء عن بعض البقاع الساحلية المغمورة بماء البحار في حين كان الطوفان مستوليا على أكثر البسيط يكون بحيرات

__________________

(١) ويستثني من ذلك بعض ما في أطراف بالتيك وسائر المناطق الشمالية من طبقات رسوبية أفقية باقية على حالها من أقدم العهود الجيولوجية لجهات مذكورة في محلها.

٢٦٨

ويوسع بحارا ، ومن هذا الباب سواحل خوزستان الجنوبية انكشف عنها ماء الخليج. (١)

٤ ـ العوامل المؤثرة في ازدياد المياه وغزارة عملها في عهد الطوفان : الشواهد الجيولوجية التي أشرنا إلى بعضها تؤيد أن النزولات الجوية كانت غير عادية في أوائل الدور الحاضر من أدوار الحياة الإنسانية وهو عهد الطوفان ، وقد كان ذلك عن تغيرات جوية هامة خارقة للعادة قطعا. فكان الهواء حارا في هذه الدورة نسبة لكن كان ذلك مسبوقا ببرد شديد وقد غطى معظم النصف الشمالي من الكرة الثلج والجمد والجليد فمن المحتمل قويا أن المتراكم من جمد الدورة السابقة عليه كان باقيا لم يذب بعد في النجود في أكثر بقاع المنطقة المعتدلة الشمالية.

فعمل الحرارة في سطح الأرض في دورتين متواليتين على ما به من متراكم الجمد والجليد يوجب تغيرا شديدا في الجو وانقلابا عظيما مؤثرا في ارتفاع بخار الماء إليه وتراكمه فيه تراكما هائلا غير عادي وتعقبه نزولات شديدة وأمطار غزيرة غير معهودة.

نزول هذه الأمطار الغزيرة الهاطلة ثم استدامتها النزول على الارتفاعات والنجود وخاصة على سلاسل الجبال الجديدة الحدوث في جنوب آسيا ومغربها وجنوب أوربا وشمال إفريقا كجبال (٢) ألبرز وهيماليا وآلب وفي مغرب أمريكا عقب جريان سيول عظيمة هائلة عليها تنحت الصخور وتحفر الأرض وتقلع أحجارا وتحملها إلى الأراضي والبقاع المنحدرة وتحدث أودية جديدة وتعمق أخرى قديمة وتوسعها ثم تبسط ما تحمله من الحجارة والحصى والرمل تجاهها قشورا رسوبية جديدة.

ومما كان يمد الطوفان السماوي في شدة عمله ويزيد حجم السيول الجارية أن حفر الأودية الجديدة كان يكشف عن ذخائر مائية في بطن الأرض هي منابع

__________________

(١) وقد كانت مدينة شوش وقصر الكرخة في زمن الملوك الهخامنشية بإيران على ساحل البحر وكانت السفن الشراعية الجارية في خليج فارس تلقى مراسيها أمام القصر.

(٢) فهي أقل عمرا من سائر جبال الأرض لم تعمر أكثر من مليوني سنة ولذلك كانت أشهق جبال الأرض وأعلى قللا من غيرها لقلة ما ورد عليها من أسباب النحت كالأمطار والرياح.

٢٦٩

الآبار والعيون الجارية فيزيل القشور الحافظة لها المانعة من سيلانها فيفجر العيون ويجريها مع السيول المطرية ، ويزيد في قوة تخريبها ويعينها في إغراق ما على الأرض من سهل وجبل وغمره.

غير أن الذخائر الأرضية متناهية محدودة تنفد بالسيلان وبنفادها وإمساك السماء عن الإمطار ينقضي الطوفان وتنحدر المياه إلى البحار والأراضي المنخفضة وإلى بعض الخلاء والسرب الموجود في داخل الأرض الذي أفرغته السيول بالتفجير والمص.

٥ ـ نتيجة البحث : وعلى ما قدمناه من البحث الكلي يمكن أن ينطبق ما قصه الله تعالى من خصوصيات الطوفان الواقع في زمن نوح عليه‌السلام كقوله تعالى : « فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ » القمر : ـ ١٢ ، وقوله : « حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ » هود : ـ ٤٠ ، وقوله : « وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ». هود : ـ ٤٤ انتهى.

ومما يناسب هذا المقام ما نشره بعض جرائد (١) طهران في هذه الأيام وملخصه : أن جماعة من رجال العلم من أمريكا بهداية من بعض رجال الجند التركي عثروا في بعض قلل جبل آراراط في شرقي تركيا في مرتفع ١٤٠٠ قدم على قطعات أخشاب يعطي القياس أنها قطعات متلاشية من سفينة قديمة وقعت هناك تبلغ بعض هذه القطعات من القدمة ٢٥٠٠ قبل الميلاد.

والقياس يعطي أنها قطعات من سفينة يعادل حجمه ثلثي حجم مركب « كوئين ماري » الإنجليزية التي طولها ١٠١٩ قدما وعرضها ١١٨ قدما ، وقد حملت الأخشاب إلى سانفرانسيسكو لتحقيق أمرها وأنها هل تقبل الانطباق على ما تعتقده أرباب النحل من سفينة نوح؟ عليه‌السلام.

٨ ـ عمره عليه‌السلام الطويل : القرآن الكريم يدل على أنه عليه‌السلام عمر طويلا ،

__________________

(١) جريدة كيهان المنتشرة أول سبتامبر ١٩٦٢ المطابق لغرة ربيع الأول ١٣٨٢ الهجرية القمرية عن لندن. آسوشتيدبرس.

٢٧٠

وأنه دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه ، وقد استبعده بعض الباحثين لما أن الأعمار الإنسانية لا تتجاوز في الأغلب المائة أو المائة والعشرين سنة حتى ذكر بعضهم أن القدماء كانوا يعدون كل شهر من الشهور سنة فالألف سنة إلا خمسين عاما يعدل ثمانين سنة إلا عشرة شهور. وهو بعيد غايته.

وذكر بعضهم أن طول عمره عليه‌السلام كان كرامة له خارقة للعادة ، قال الثعلبي في قصص الأنبياء في خصائصه عليه‌السلام : وكان أطول الأنبياء عمرا وقيل له أكبر الأنبياء وشيخ المرسلين ، وجعل معجزته في نفسه لأنه عمر ألف سنة ولم ينقص له سن ولم تنقص له قوة. انتهى.

والحق أنه لم يقم حتى الآن دليل على امتناع أن يعمر الإنسان مثل هذه الأعمار بل الأقرب في الاعتبار أن يعمر البشر الأولي بأزيد من الأعمار الطبيعية اليوم بكثير لما كان لهم من بساطة العيش وقلة الهموم وقلة الأمراض المسلطة علينا اليوم وغير ذلك من الأسباب الهادمة للحياة ، ونحن كلما وجدنا معمرا عمر مائة وعشرين إلى مائة وستين وجدناه بسيط العيش قليل الهم ساذج الفهم فليس من البعيد أن يرتقي بعض الأعمار في السابقين إلى مئات من السنين.

على أن الاعتراض على كتاب الله في مثل عمر نوح عليه‌السلام وهو يذكر من معجزات الأنبياء الخارقة للعادة شيئا كثيرا لعجيب. وقد تقدم كلام في المعجزة في الجزء الأول من الكتاب.

٩ ـ أين هو جبل الجودي : ذكروا أنه بديار بكر من موصل في جبال تتصل بجبال أرمينية ، وقد سماه في التوراة آراراط. قال في القاموس : والجودي جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح عليه‌السلام ، ويسمى في التوراة « آراراط » انتهى ، وقال في مراصد الاطلاع ، : الجودي مشددة جبل مطل على جزيرة ابن عمر في شرقي دجلة من أعمال الموصل استوت عليه سفينة نوح لما نضب الماء.

١٠ ـ ربما قيل : هب أنه أغرق قوم نوح بذنبهم فما هو ذنب سائر الحيوان الذي على الأرض حيث هلكت بطاغية المياه؟ وهذا من أسقط الاعتراض فما كل هلاك ولو كان عاما عقوبة وانتقاما ، والحوادث العامة التي تهلك الألوف ثم الألوف

٢٧١

مثل الزلازل والطوفانات والوباء والطاعون كثير الوقوع في الدهر ، ولله فيما يقضي حكم.

( كلام في عبادة الأصنام في فصول )

١ ـ الإنسان واطمئنانه إلى الحس : الإنسان يجري في حياته الاجتماعية على اعتبار قانون العلية والمعلولية الكلي وسائر القوانين الكلية التي أخذها من هذا النظام العام المشهود ، وهو على خلاف ما نشاهده من أعمال سائر الحيوان وأفعاله يجري في التفكر والاستدلال أعني القياس والاستنتاج إلى غايات بعيدة.

وهو مع ذلك لا يستقر في فحصه وبحثه على قرار دون أن يحكم في علة هذا العالم المشهود الذي هو أحد أجزائه بشيء من الإثبات والنفي لما يرى أن سعادة حياته التي لا بغية عنده أحب منها تختلف على تقديري إثبات هذه العلة الفاعلة المسماة بالإله عز اسمه ونفيه اختلافا جوهريا فمن البين أن لا مضاهاة بين حياة الإنسان المتأله الذي يثبت للعالم إلها حيا عليما قديرا لا مناص عن الخضوع لعظمته وكبريائه والجري على ما يحبه ويرضاه ، وبين حياة الإنسان الذي يرى العالم سدى لا مبدأ له ولا غاية ، وليس فيه للإنسان إلا الحياة المحدودة التي تفنى بالموت وتبطل بالفوت ، ولا موقف للإنسانية فيه إلا ما للحيوان العجم من موقف الشهوة والغضب وبغية البطن والفرج.

فهذه نزعة فكرية أولى للإنسان إلى الحكم بأنه : هل للوجود من إله؟ وتتلوه نزعة ثانية وهي القضاء الفطري بالإثبات ، والحكم بأن للعالم إلها خلق كل شيء بقدرته وأجرى النظام العام بربوبيته فهدى كل شيء إلى غايته وكمال وجوده بمشيته وسيعود كل إلى ربه كما بدئ. هذا.

ثم إن مزاولة الإنسان للحس والمحسوس مدى حياته وانكبابه على المادة وإخلاده إلى الأرض عوده أن يمثل كل ما يعقله ويتصوره تمثيلا حسيا وإن كان مما لا طريق للحس والخيال إليه البتة كالكليات والحقائق المنزهة عن المادة على أن الإنسان إنما ينتقل إلى المعقولات من طريق الإحساس والتخيل فهو أنيس الحس

٢٧٢

وأليف الخيال.

وقد قضت هذه العادة اللازمة على الإنسان أن يصور لربه صورة خيالية على حسب ما يألفه من الأمور المادية المحسوسة حتى أن أكثر الموحدين ممن يرى تنزه ساحة رب العالمين تعالى وتقدس عن الجسمية وعوارضها يثبت في ذهنه له تعالى صورة مبهمة خيالية معتزلة للعالم تبادر ذهنه إذا توجه إليه في مسألة أو حدث عنه بحديث غير أن التعليم الديني أصلح ذلك بما قرر من الجمع بين النفي والإثبات والمقارنة بين التشبيه والتنزيه يقول الموحد المسلم : أنه تعالى شيء ليس كمثله شيء له قدرة لا كقدرة خلقه ، وعلم لا كالعلوم وعلى هذا القياس.

وقل إن يتفق لإنسان أن يتوجه إلى ساحة العزة والكبرياء ونفسه خالية عن هذه المحاكاة ، وما أشذ أن يسمح الوجود برجل قد أخلص نفسه لله سبحانه غير متعلق القلب بمن دونه ، ولا ممسوس بالتسويلات الشيطانية ، قال تعالى : « سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ » الصافات : ـ ١٦٠ ، وقال حكاية عن إبليس : « قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » ص : ـ ٨٣.

وبالجملة الإنسان شديد الولع بتخيل الأمور غير المحسوسة في صورة الأمور المحسوسة فإذا سمع أن وراء الطبيعة الجسمية ما هو أقوى وأقدر وأعظم وأرفع من الطبيعة وأنه فعال فيها محيط بها أقدم منها مدبر لها حاكم فيها لا يوجد شيء إلا بأمره ولا يتحول عن حال إلى حال إلا بإرادته ومشيته لم يتلق من جميع ذلك إلا ما يضاهي أوصاف الجسمانيات وما يتحصل من قياس بعضها إلى بعض.

وكثيرا ما حكاه في نفسه بصورة إنسان فوق السماوات جالس على عرش الملك يدبر أمر العالم بالتفكر ويتممه بالإرادة والمشية والأمر والنهي ، وقد صرحت التوراة الموجودة بأن الله سبحانه كذلك ، وأنه تعالى خلق الإنسان على صورته ، وظاهر الأناجيل أيضا ذلك.

فقد تحصل أن الأقرب إلى طبع الإنسان وخاصة الإنسان الأولي الساذج أن يصنع لربه المنزه عن الشبه والمثل صورة يضاهي بها الذوات الجسمانية وتناسب

٢٧٣

الأوصاف والنعوت التي يصفها بها كما يمثل الثالوث بإنسان ذو وجوه ثلاثة كأن كلا من النعوت العامة وجه للرب يواجه به خلقه.

٢ ـ الإقبال إلى الله بالعبادة : إذا قضى الإنسان أن للعالم إلها خلقه بعلمه وقدرته لم يكن له بد من أن يخضع له خضوع عبادة اتباعا للناموس العالم الكوني وهو خضوع الضعيف للقوي ومطاوعة العاجز للقادر ، وتسليم الصغير الحقير للعظيم الكبير فإنه ناموس عام جار في الكون حاكم في جميع أجزاء الوجود ، وبه يؤثر الأسباب في مسبباتها وتتأثر المسببات عن أسبابها.

وإذا ظهر الناموس المذكور لذوات الشعور والإرادة من الحيوان كان مبدأ للخضوع والمطاوعة من الضعيف للقوي كما نشاهده من حال الحيوانات العجم إذا شعر الضعيف منها بقوة القوي آئسا من الظهور عليه والقدرة على مقاومته.

وظهوره في العالم الإنساني أوسع وأبين من سائر الحيوان لما في هذا النوع من عمق الإدراك وخصيصة الفكر فهو متفنن في إجرائه في غالب مقاصده وأعماله جلبا للنفع أو دفعا للضرر كخضوع الرعية للسلطان والفقير للغني والمرءوس للرئيس والمأمور للآمر والخادم للمخدوم والمتعلم للعالم والمحب للمحبوب والمحتاج للمستغني والعبد للسيد والمربوب للرب.

وجميع هذه الخضوعات من نوع واحد وهو تذلل وهوان نفساني قبال عزة وقهر مشهود ، والعمل البدني الذي يظهر هذا التذلل والهوان هي العبادة أيا ما كانت؟ وممن ولمن تحققت؟ ولا فرق في ذلك بين الخضوع للرب تعالى وبينه إذا تحقق من العبد بالنسبة إلى مولاه أو من الرعية بالنسبة إلى السلطان أو من المحتاج بالنسبة إلى المستغني أو غير ذلك فالجميع عبادة.

وعلى أي حال لا سبيل إلى ردع الإنسان عن هذا الخضوع لاستناده إلى قضاء فطري ليس للإنسان أن يتجافى عنه إلا أن يتبين له أن الذي كان يظنه قويا ويستضعف نفسه دونه ليس على ما كان يظنه بل هما سواء مثلا.

ومن هنا ما نرى أن الإسلام لم ينه عن اتخاذ آلهة دون الله وعبادتهم إلا بعد ما بين للناس أنهم مخلوقون مربوبون أمثالهم ، وأن العزة والقوة لله جميعا قال

٢٧٤

تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ » الأعراف : ـ ١٩٤ وقال : « وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ » الأعراف : ـ ١٩٨ وقال تعالى : « قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ » آل عمران : ـ ٦٤ ختم الآية بحديث التسليم لله تعالى بعد ما دعاهم إلى ترك عبادة غير الله تعالى من الآلهة ورفض الخضوع لسائر المخلوقين المماثلين لهم وقال تعالى : « أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً » البقرة : ـ ١٦٥ ، وقال : « فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً » النساء : ـ ١٣٩ وقال : « ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ » الم السجدة : ـ ٤ إلى غير ذلك من الآيات.

فليس عند غيره تعالى ما يدعو إلى الخضوع له فلا يسوغ الخضوع لأحد ممن دونه إلا أن يئول إلى الخضوع لله ويرجع تعزيره أو تعظيمه وولايته إلى ناحيته قال تعالى : « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ ـ إلى أن قال ـ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » الأعراف : ـ ١٥٧ ، وقال : « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ـ إلى قوله ـ وَهُمْ راكِعُونَ » المائدة : ـ ٥٥ ، وقال : « وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » التوبة : ـ ٧١ ، وقال : « وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ » الحج : ـ ٣٢ ، فلا خضوع في الإسلام لأحد دون الله إلا ما يرجع إليه تعالى ويقصد به.

٣ ـ كيف نشأت الوثنية؟ وبما ذا بدأت؟ اتضح في الفصل المتقدم أن الإنسان في مزلة من تجسيم الأمور المعنوية وسبك غير المحسوس في قالب المحسوس بالتمثيل والتصوير وهو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أي قوة فائقة قاهرة والاعتناء بشأنها.

ولذا كانت روح الشرك والوثنية سارية في المجتمع الإنساني سراية تكاد لا تقبل التحرز والاجتناب حتى في المجتمعات الراقية الحاضرة وحتى في المجتمعات المبنية على أساس رفض الدين فترى فيها من النصب وتماثيل الرجال وتعظيمها

٢٧٥

واحترامها والبلوغ في الخضوع لها ما يمثل لك وثنية العهود الأولى والإنسان الأولي. على أن اليوم من الوثنية على ظهر الأرض ما يبلغ مئات الملايين قاطنين في شرقها وغربها.

ومن هنا يتأيد بحسب الاعتبار أن تكون الوثنية مبتدئة بين الناس باتخاذ تماثيل الرجال العظماء ونصب أصنامهم وخاصة بعد الموت ليكون في ذلك ذكرى لهم ، وقد ورد في روايات أئمة أهل البيت ما يؤيد ذلك ففي تفسير القمي ، مضمرا وفي علل الشرائع ، مسندا عن الصادق عليه‌السلام : في قوله تعالى : « وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ » الآية ، قال : كانوا يعبدون الله عز وجل فماتوا ـ فضج قومهم وشق ذلك عليهم ـ فجاءهم إبليس لعنه الله وقال لهم : أتخذ لكم أصناما على صورهم ـ فتنظرون إليهم وتأنسون بهم وتعبدون الله ، فأعد لهم أصناما على مثالهم فكانوا يعبدون الله عز وجل ـ وينظرون إلى تلك الأصنام ، فلما جاءهم الشتاء والأمطار أدخلوا الأصنام البيوت ـ.

فلم يزالوا يعبدون الله عز وجل حتى هلك ذلك القرن ـ ونشأ أولادهم فقالوا : إن آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء ـ فعبدوهم من دون الله عز وجل فذلك قول الله تبارك وتعالى : « وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً » الآية.

وكان رب البيت في الروم واليونان القديمين ـ على ما يذكره التاريخ ـ يعبد في بيته فإذا مات اتخذ له صنم يعبده أهل بيته ، وكان كثير من الملوك والعظماء معبودين في قومهم ، وقد ذكر القرآن الكريم منهم نمرود الملك المعاصر لإبراهيم عليه‌السلام الذي حاجه في ربه ، وفرعون موسى.

وهو ذا يوجد في بيوت الأصنام الموجودة اليوم وكذا بين الآثار العتيقة المحفوظة عنهم أصنام كثير من عظماء رجال الدين كصنم بوذا وأصنام كثير من البراهمة وغيرهم.

واتخاذهم أصنام الموتى وعبادتهم لها من الشواهد على أنهم كانوا يرون أنهم لا يبطلون بالموت وأن أرواحهم باقية بعده ، لها من العناية والأثر ما كان في حال حياتهم بل هي بعد الموت أقوى وجودا وأنفذ إرادة وأشد تأثيرا لما أنها خلصت من

٢٧٦

شوب المادة ونجت من التأثرات الجسمانية والانفعالات الجرمانية ، وكان فرعون موسى يعبد أصناما له وهو إله ومعبود في قومه ، قال تعالى : « وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ » الأعراف : ـ ١٢٧.

٤ ـ اتخاذ الأصنام لأرباب الأنواع وغيرهم : كان اتخاذ تماثيل الرجال هو الذي نبه الناس على اتخاذ صنم الإله إلا أنه لم يعهد منهم أن يتخذوا تمثالا لله سبحانه المتعالي أن يحيط به حد أو يناله وهم ، وكأن هذا هو الذي صرفهم عن اتخاذ صنمه بل تفرقوا في ذلك فأخذ كل ما يهمه من جهات التدبير المشهود في العالم فتوسلوا إلى عبادة الله بعبادة من وكله إلى الله على تدبير تلك الجهة المعنى بها بزعمهم.

فالقاطنون في سواحل البحار عبدوا رب البحر لينعم عليهم بفوائدها ويسلموا من الطوفان والطغيان ، وسكان الأودية رب الوادي ، وأهل الحرب رب الحرب ، وهكذا.

ولم يلبثوا دون أن اتخذ كل منهم ما يهواه من إله فيما يتوهمه من الصورة والشكل ، ومما يختاره من فلز أو خشب أو حجارة أو غير ذلك حتى روي أن بني حنيفة من اليمامة اتخذوا لهم صنما من أقط ثم أصابهم جدب وشملهم الجوع فهجموا عليه فأكلوه.

وكان الرجل إذا وجد شجرة حسنة أو حجرا حسنا وهواه عبده ، وكانوا يذبحون غنما أو ينحرون إبلا فيلطخونه بدمه فإذا أصاب مواشيهم داء جاءوا بها إليه فمسحوها به ، وكانوا يتخذون كثيرا من الأشجار أربابا فيتبركون بها من غير أن يمسوها بقطع أو كسر ويتقربون إليها بالقرابين ويأتون إليها بالنذورات والهدايا.

وساقهم هذا الهرج إلى أن ذهبوا في أمر الأصنام مذاهب شتى لا يكاد يضبطها ضابط ، ولا يحيط بها إحصاء غير أن الغالب في معتقداتهم أنهم يتخذونها شفعاء يستشفعون بها إلى الله سبحانه ليجلب إليهم الخير ويدفع عنهم الشر ، وربما أخذها بعض عامتهم معبودة لنفسها مستقلة بالألوهية من غير أن تكون شفعاء وربما كانوا يتخذونها شفعاء ويقدمونها أو يفضلونها على الله سبحانه كما يحكيه القرآن في قوله تعالى : « فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ »

٢٧٧

الآية ، الأنعام : ـ ١٣٦.

وكان بعضهم يعبد الملائكة وآخرون يعبدون الجن ، وقوم يعبدون الكواكب الثابتة كشعرى ، وطائفة تتخذ بعض السيارات إلها ـ وقد أشير إلى جميع ذلك في الكتاب الإلهي ـ كل ذلك طمعا في خيرها أو خوفا من شرها.

وقل أن يتخذ إله من دون الله ولا يتخذ له صنم يتوجه إليه في العبادات به بل كانوا إذا اتخذوا شيئا من الأشياء إلها شفيعا عملوا له صنما من خشب أو حجر أو فلز ، ومثلوا به ما يتوهمونه عليه من صورة الحياة فيسوونه في صورة إنسان أو حيوان وإن كان صاحب الصنم على غير الهيئة التي حكوه بها كالكواكب الثابتة والسيارة وإله العلم والحب والرزق والحرب ونحوها.

وكان الوجه في اتخاذ أصنام الشركاء قولهم : إن الإله لتعاليه عن الصورة المحسوسة كأرباب الأنواع وسائر الآلهة غير المادية أو لعدم ثباته على حالة الظهور كالكوكب الذي يتحول من طلوع إلى غروب يصعب التوجه إليه كلما أريد بالتوجه فمن الواجب أن يتخذ له صنم يمثله في صفاته ونعوته فيصمد إليه بوسيلته كلما أريد.

٥ ـ الوثنية الصابئة. الوثنية وإن رجعت ـ بالتقريب ـ إلى أصل واحد هو اتخاذ الشفعاء إلى الله وعبادة أصنامها وتماثيلها ، ولعلها استولت على الأرض وشملت العالم البشري مرارا كما يحكيه القرآن الكريم عن الأمم المعاصرة لنوح وإبراهيم وموسى عليه‌السلام إلا أن اختلاف المنتحلين بها بلغ من التشتت واتباع الأهواء والخرافات مبلغا كان حصر المذاهب الناشئة فيها كالمحال وأكثرها لا تبتني على أصول متقررة وقواعد منتظمة متلائمة.

ومما يمكن أن يعد منها مذهبا قريبا من الانتظام والتحصل مذهب الصابئة والوثنية البرهمية والبوذية :

أما الوثنية الصابئة فهي تبتني على ربط الكون والفساد وحوادث العالم الأرضي إلى الأجرام العلوية كالشمس والقمر وعطارد والزهرة ومريخ والمشتري وزحل وأنها بما لها من الروحانيات المتعلقة بها هي المدبرة للنظام المشهود يدبر كل منها ما يتعلق به من الحوادث على ما يصفه فن أحكام النجوم ، ويتكرر بتكرر دوراتها الأدوار

٢٧٨

والأكوار من غير أن تقف أو تنتهي إلى أمد.

فهي وسائط بين الله سبحانه وبين هذا العالم المشهود تقرب عبادتها الإنسان منه تعالى ثم من الواجب أن يتخذ لها أصنام وتماثيل فيتقرب إليها بعبادة تلك الأصنام والتماثيل.

وذكر المورخون أن الذي أسس بنيانها وهذب أصولها وفروعها هو « يوذاسف » المنجم ظهر بأرض الهند في زمن طهمورث ملك إيران ، ودعا إلى مذهب الصابئة فاتبعه خلق كثير ، وشاع مذهبه في أقطار الأرض كالروم واليونان وبابل وغيرها ، وبنيت لها هياكل ومعابد مشتملة على أصنام الكواكب ، ولهم أحكام وشرائع وذبائح وقرابين يتولاها كهنتهم. وربما ينسب إليهم ذبح الناس.

وهؤلاء يوحدون الله في ألوهيته لا في عبادته ، وينزهونه عن النقائص والقبائح ، ويصفونه بالنفي لا بالإثبات كقولهم لا يعجز ولا يجهل ولا يموت ولا يظلم ولا يجور ، ويسمون ذلك بالأسماء الحسنى مجازا وليسوا بقائلين باسم حقيقة وقد قدمنا شيئا من تاريخهم في تفسير قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ » الآية ، البقرة : ـ ٦٢ في الجزء الأول من هذا الكتاب.

٦ ـ الوثنية البرهمية : والبرهمية ـ على ما تقدم ـ من مذاهب الوثنية المتأصلة ، ولعلها أقدمها بين الناس فإن المدنية الهندية من أقدم المدنيات الإنسانية لا يضبط بدء تاريخي لها على التحقيق ، ولا يضبط بدء تاريخي لوثنية الهند غير أن بعض المورخين كالمسعودي وغيره ذكروا أن برهمن اسم أول ملوك الهند الذي عمر بلادها وأسس قواعد المدنية فيها وبسط العدل بين أهلها.

ولعل البرهمية نشأت بعده باسمه فكثيرا ما كانت الأمم الماضية يعبدون ملوكهم والأعاظم من أقوامهم لاعتقادهم أنهم ذوو سلطة غيبية وأن اللاهوت ظهر فيهم نوع ظهور ، ويؤيده بعض التأييد أن الظاهر من « ويدا » وهو كتابهم المقدس أنه مجموع من رسائل ومقالات شتى ألف كل شطر منها بعض رجال الدين في أزمنة مختلفة ورثوها من بعدهم فجمعت وألفت كتابا يشير إلى دين ذي نظام وقد صرح به علماء سانسكريت ولازم ذلك أن يكون البرهمية كغيرها من مذاهب الوثنية مبتدئة

٢٧٩

من أفكار عامية غير قيمة ، متطورة في مراحل التكامل حتى بلغت حظها من الكمال.

ذكر البستاني في دائرة المعارف ما ملخصه :

برهم ( بفتحتين فسكون أو بفتح الباء والهاء وسكون الراء ) هو المعبود الأول والأكبر عند الهنود وهو عندهم أصل كل الموجودات واحد غير متغير وغير مدرك أزلي مطلق سابق كل مخلوق خلق العالم كله بمجرد ما أراد دفعة واحدة بقوله : أوم أي كن.

وحكاية برهم تشبه من كل وجه حكاية « اى بوذة » فليس الفرق إلا في الاسم والصفات وكثيرا ما يجعلون نفس برهم اسما للأقانيم الثلاثة المؤلف منها ثالوث الهنود ، وهي : « برهما ووشنو وسيوا » ويقال لعبدة برهم : البرهميون أو البراهمة.

وأما برهما فهو نفس برهم معبود الهنود بعد أن شرع في أعماله ( بدليل زيادة الألف في آخره وهو من اصطلاحاتهم ) وهو الأقنوم الأول من الثالوث الهندي أي إن برهم ينبثق في نفسه في ثلاثة أقانيم كل مرة في أقنوم فالأقنوم الأول الذي يظهر به أول مرة هو برهما ، والثاني وشنو ، والثالث سيوا.

فلما انبثق برهما لبث مدة طويلة جالسا على سدرة تسمى بالهندية « كمالا » وبالسنسكريتية بدما ، وكان ينظر من كل جهة ، وكان له أربعة رءوس بثماني أعين فلم ير إلا فضاء واسعا مظلما مملوء ماء فارتاع لذلك ولم يقدر أن يدرك سر أصله فلبث ساكتا أبكم غارقا في التأملات.

فمضت على ذلك أجيال وإذا بصوت قد طرق أذنيه بغتة ونبهه من سباته وأشار عليه أن يفزع إلى « باغادان » وهو لقب برهم فظهر برهم بصورة رجل له ألف رأس فسجد له برهما وجعل يسبحه فانشرح صدر باغادان وأبدع النور وكشف الظلمات ، وأظهر لعبده حالة كينونته والكائنات بصور جراثيم متخدرة وأعطاه القوة لإخراجها من هذا الخمول.

فبقي برهما يتأمل في ذلك مائة سنة إلهية وهي عبارة عن ستة وثلاثين ألف سنة شمسية ثم ابتدأ بالعمل فأبدع أولا سبع السماوات المسماة عندهم « سورغة »

٢٨٠