الميزان في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

( عليه السلام ) بخطاب الهبوط والتكلم مع الغير في قوله : « مِنَّا » في موضعين و « سَنُمَتِّعُهُمْ » وغير ذلك.

وظهر أيضا : أن ما فسروا به قوله : « عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ » أن معناه : على أمم من ذرية من معك ليس على ما ينبغي مع ما فيه من خروج من معه من الخطاب وكذا قول من قال : يعني بالأمم سائر الحيوان الذين كانوا معه لأن الله جعل فيهم البركة. وفساده أظهر.

قوله تعالى : « تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ » أي هذه القصص أو هذه القصة من أنباء الغيب نوحيها إليك.

وقوله : « ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا » أي كانت وهي على محوضة الصدق والصحة مجهولة لك ولقومك من قبل هذا ، والذي عند أهل الكتاب منها محرف مقلوب عن وجه الصواب كما سيوافيك ما في التوراة الحاضرة من قصته عليه‌السلام.

وقوله : « فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ » أمر منتزع عن تفصيل القصة أي إذا علمت ما آل إليه أمر نوح عليه‌السلام وقومه من هلاك قومه ونجاته ونجاة من معه من المؤمنين وقد ورثهم الله الأرض على ما صبروا ، ونصر نوحا على أعدائه على ما صبر فاصبر على الحق فإن العاقبة للمتقين ، وهم الصابرون في جنب الله سبحانه.

( بحث روائي )

في الدر المنثور ، أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال : إن نوحا عليه‌السلام كان يضرب ثم يلف في لبد ـ فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ـ ثم يخرج فيدعوهم حتى إذا أيس من إيمان قومه ـ جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا فقال : يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك ـ قال : يا أبت أمكني من العصا ـ ثم

٢٤١

أخذ العصا ثم قال : ضعني في الأرض ـ فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه ـ وسالت الدماء.

قال نوح عليه‌السلام : رب قد ترى ما يفعل بي عبادك ـ فإن يكن لك في عبادك حاجة فاهدهم ، وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم ـ وأنت خير الحاكمين فأوحى الله إليه ـ وآيسه من إيمان قومه وأخبره ـ أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن ـ قال : يا نوح إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ـ فلا تبتئس بما كانوا يفعلون يعني لا تحزن عليهم ـ واصنع الفلك. قال : يا رب وما الفلك؟ قال : بيت من خشب يجري على وجه الماء ـ فأغرق أهل معصيتي وأطهر أرضي منهم. قال : يا رب وأين الماء؟ قال : إني على ما أشاء قدير.

وفي الكافي ، بإسناده عن المفضل قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام بالكوفة أيام قدم على أبي العباس ـ فلما انتهينا إلى الكناسة قال : هاهنا صلب عمي زيد رحمه الله ـ ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين وهو آخر السراجين ـ فنزل وقال : انزل فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول ـ الذي كان خطه آدم وأنا أكره أن أدخله راكبا. قلت : فمن غيره عن خطته؟ قال ، أما أول ذلك فالطوفان في زمن نوح ـ ثم غيره أصحاب كسرى والنعمان ثم غيره بعد زياد بن أبي سفيان ـ فقلت : وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح؟ فقال لي : نعم يا مفضل ـ وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات ـ مما يلي غربي الكوفة.

قال : وكان نوح رجلا نجارا فجعله الله عز وجل نبيا وانتجبه ، ونوح أول من عمل سفينة تجري على ظهر الماء. قال : ولبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ـ يدعوهم إلى الله عز وجل فيهزءون به ويسخرون منه ـ فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال : ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ـ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا ـ إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) ، فأوحى الله عز وجل إلى نوح ـ أن اصنع سفينة وأوسعها وعجل عملها ـ فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده ، فأتى بالخشب من بعد حتى فرغ منها ـ.

قال المفضل : ثم انقطع حديث أبي عبد الله عليه‌السلام عند زوال الشمس ـ فقام

٢٤٢

أبو عبد الله عليه‌السلام فصلى الظهر والعصر ـ ثم انصرف من المسجد فالتفت عن يساره ـ وأشار بيده إلى موضع دار الدارين ـ وهي موضع دار ابن حكيم وذلك فرات اليوم ـ فقال : يا مفضل وهاهنا نصبت أصنام قوم نوح : يغوث ويعوق ونسر. ثم مضى حتى ركب دابته ـ.

فقلت : جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته؟ قال في : دورين. قلت : وكم الدوران؟ قال : ثمانين (١) سنة. قلت : فإن العامة يقولون ـ عملها في خمس مائة سنة؟ فقال : كلا. كيف؟ والله يقول : « وَوَحْيِنا » قال : قلت : فأخبرني عن قول الله عز وجل : « حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ » فأين كان موضعه؟ وكيف كان؟ فقال : كان التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبله ميمنة المسجد. قلت له : فأين ذلك؟ قال : موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثم قلت له : وكان بدء خروج الماء من ذلك التنور؟ فقال نعم : إن الله عز وجل أحب أن يرى قوم نوح آية ـ ثم إن الله تبارك وتعالى أرسل عليهم المطر ـ يفيض فيضا والعيون كلهن فيضا فغرقهم الله ـ وأنجى نوحا ومن معه في السفينة ـ الحديث.

أقول : والرواية على طولها غير متعلقة بالتفسير غير أنا أوردناها لتكون كالأنموذجة من روايات كثيرة وردت في هذه المعاني من طرق الشيعة وأهل السنة ولتكون عونا لفهم قصص الآيات من طريق الروايات.

وفي الرواية استفادة التعجيل في صنع السفينة من قوله تعالى : « وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا » الآية ، وفي الرواية نسبة زياد إلى أبي سفيان ولعل الوارد في لفظ الإمام « زياد » فأضيف إليه « ابن أبي سفيان » في لفظ بعض الرواة.

وفيه ، بإسناده عن أبي رزين الأسدي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : إن نوحا عليه‌السلام لما فرغ من السفينة ـ وكان ميعاده فيما بينه وبين ربه في إهلاك قومه ـ أن يفور التنور ففار التنور في بيت امرأة ـ فقالت إن التنور قد فار فقام إليه فختمه ـ فقام الماء وأدخل من أراد أن يدخل ـ وأخرج من أراد أن يخرج ـ ثم جاء إلى

__________________

(١) ثمانون ظ.

٢٤٣

خاتمه فنزعه ، يقول الله عز وجل : ( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ـ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ـ وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ) ـ.

قال : وكان نجره في وسط مسجدكم. ولقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع.

أقول : وكون فوران التنور علامة له عليه‌السلام يعلم به اقتراب الطوفان من الوقوع واقع في عدة من روايات الخاصة والعامة وسياق الآية : « حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ » الآية ، لا يخلو من ظهور في كونه ميعادا.

وفيه ، بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان شريعة نوح أن يعبد الله بالتوحيد والإخلاص وخلع الأنداد ـ وهي الفطرة التي فطر الناس عليها ـ وأخذ الله ميثاقه على نوح والنبيين ـ أن يعبدوا الله تبارك وتعالى ـ ولا يشركوا به شيئا ـ وأمر بالصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحلال والحرام ، ولم يفرض عليه أحكام حدود ولا فرائض مواريث ـ فهذه شريعته. فلبث فيهم نوح ألف سنة إلا خمسين عاما ـ يدعوهم سرا وعلانية فلما أبوا وعتوا قال : « رب إني مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ » فأوحى الله عز وجل إليه : « لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ـ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ » فذلك قول نوح : « وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً » فأوحى الله إليه : « أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ ».

أقول : ورواه العياشي عن الجعفي مرسلا وظاهر الرواية أن له عليه‌السلام دعاءين على قومه أحدهما وهو أولهما قوله : « رب إني مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ » الواقع في سورة القمر ، وثانيهما بعد ما أيأسه الله من إيمان قومه وهو قوله : « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً » الواقع في سورة نوح.

وفي معاني الأخبار ، بإسناده عن حمران عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قول الله عز وجل « وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ » قال : كانوا ثمانية.

أقول : ورواه العياشي أيضا عن حمران عنه عليه‌السلام ، وللناس في عددهم أقوال أخر : ستة أو سبعة أو عشرة أو اثنان وسبعون أو ثمانون ولا دليل على شيء منها.

وفي العيون ، بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال : قال الرضا عليه‌السلام :

٢٤٤

لما هبط نوح إلى الأرض كان نوح وولده ومن تبعه ثمانين نفسا ـ فبنى حيث نزل قرية فسماها قرية الثمانين.

أقول : ولا تنافي بين الروايتين لجواز كون ما عدا الثمانية من أهل نوح عليه‌السلام وقد عمر ما يقرب من ألف سنة يومئذ.

وفيه ، بإسناده عن الحسن بن علي الوشاء عن الرضا عليه‌السلام قال : سمعته يقول : قال أبي : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الله عز وجل قال لنوح : « إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ » لأنه كان مخالفا له ، وجعل من اتبعه من أهله.

قال : وسألني كيف يقرءون هذه الآية في ابن نوح؟ فقلت : يقرؤها الناس على وجهين : إنه عمل غير صالح ، وإنه عمل غير صالح. فقال : كذبوا هو ابنه ولكن الله نفاه عنه ـ حين خالفه في دينه.

أقول : ولعله عليه‌السلام يشير بقوله : « وجعل من اتبعه من أهله » إلى قوله تعالى « فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ » الأنبياء ـ ٧٦. فإن الظاهر أن المراد بأهله جميع من نجا معه.

وكان المراد من قراءة الآية تفسيرها والراوي يشير بإيراد القراءتين إلى تفسير من فسر الآية بأن المراد أن امرأة نوح حملت الابن من غيره فألحقه بفراشه ولذلك قرأ بعضهم : « ونادى نوح ابنها » أو « ونادى نوح ابنه » بفتح الهاء مخفف ابنها ونسبوا القراءتين إلى علي وبعض الأئمة من ولده عليه‌السلام.

قال في الكشاف ، : وقرأ علي رضي الله عنه « ابنها » والضمير لامرأته ، وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير « ابنه » بفتح الهاء يريدان « ابنها » فاكتفيا بالفتحة عن الألف وبه ينصر مذهب الحسن قال قتادة : سألته فقال : والله ما كان ابنه فقلت : إن الله حكى عنه « إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي » وأنت تقول : لم يكن ابنه ، وأهل الكتاب لا يختلفون أنه كان ابنه! فقال : ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب؟ واستدل بقوله من أهلي ولم يقل : مني. انتهى.

واستدلاله بما استدل به سخيف فإن الله وعده بنجاة أهله ولم يعده بنجاة من

٢٤٥

كان منه حتى يضطر إلى قول : إن ابني مني عند سؤال نجاته ، وقد تقدم بيان أن لفظ الآيات لا يلائم هذا الوجه.

وما ذكر من عدم الخلاف بين أهل الكتاب منظور فيه فإن التوراة ساكتة عن قصة ابن نوح هذا الغريق.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن الأنباري في المصاحف وأبو الشيخ عن علي رضي الله عنه : أنه قرأ : « ونادى نوح ابنها ».

وفيه ، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي : في قوله : « وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ » قال هي بلغة طيئ ـ لم يكن ابنه وكان ابن امرأته.

أقول : ورواه العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه ( عليه السلام ).

وفي تفسير العياشي ، عن موسى عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله : « وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ » قال ليس بابنه ـ إنما هو ابن امرأته وهي لغة طيئ ـ يقولون لابن امرأته : ابنه. الحديث.

وفيه ، عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قول نوح : « يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا » قال : ليس بابنه. قال : قلت : إن نوحا قال : يا بني؟ قال : فإن نوحا قال ذلك ـ وهو لا يعلم.

أقول : والمعتمد ما تقدم من رواية الوشاء عن الرضا عليه‌السلام.

وفيه ، عن إبراهيم بن أبي العلاء عن أحدهما عليهما‌السلام قال : لما قال الله : « يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ـ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي » قالت الأرض : إنما أمرت أن أبلع مائي أنا فقط ، ولم أومر أن أبلع ماء السماء فبلعت الأرض ماءها ـ وبقي ماء السماء فصير بحرا حول الدنيا.

وفيه ، عن أبي بصير عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام : في حديث ذكر فيه الجودي قال : وهو جبل بالموصل.

وفيه ، عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ » هو

٢٤٦

فرات الكوفة.

أقول : ويؤيد الرواية السابقة روايات أخر.

وفيه ، عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لما ركب نوح عليه‌السلام في السفينة قيل : بعدا للقوم الظالمين.

وفي المجمع ،: في قوله تعالى : « قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ » الآية ـ قال : ويروى أن كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن ـ فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما ـ لتصفو أذهانهم فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية ـ فقال بعضهم لبعض هذا كلام لا يشبهه شيء من الكلام ، ولا يشبه كلام المخلوقين وتركوا ـ ما أخذوا فيه وافترقوا.

أبحاث حول قصة نوح في فصول

وهي أبحاث قرآنية وروائية وتاريخية وفلسفية

١ ـ الإشارة إلى قصته : ذكر اسمه عليه‌السلام في القرآن في بضع وأربعين موضعا يشار فيها إلى شيء من قصته إجمالا أو تفصيلا ، ولم تستوف قصته عليه‌السلام في شيء منها استيفاء على نهج الاقتصاص التاريخي بذكر نسبه وبيته ومولده ومسكنه ونشوئه وشغله وعمره ووفاته ومدفنه وسائر ما يتعلق بحياته الشخصية لما أن القرآن لم ينزل كتاب تاريخ يقتص تواريخ الناس من بر أو فاجر.

وإنما هو كتاب هداية يصف للناس ما فيه سعادتهم ، ويبين لهم الحق الصريح ليأخذوا به فيفوزوا في حياتهم الدنيا والآخرة ، وربما أشار إلى طرف من قصص الأنبياء والأمم لتظهر به سنة الله في عباده ، ويعتبر به من شملته العناية ووفق للكرامة ، وتتم به الحجة على الباقين.

وقد فصلت قصة نوح عليه‌السلام في ست من السور القرآنية وهي سورة الأعراف وسورة هود ، وسورة المؤمنون ، وسورة الشعراء ، وسورة القمر ، وسورة نوح

٢٤٧

وأكثرها تفصيلا سورة هود التي ذكرت قصته عليه‌السلام فيها في خمس وعشرين آية ( ٢٥ ـ ٤٩ ).

٢ ـ قصته عليه‌السلام في القرآن :

بعثه وإرساله :

كان الناس بعد آدم عليه‌السلام يعيشون أمة واحدة على بساطة وسذاجة ، وهم على الفطرة الإنسانية حتى فشا فيهم روح الاستكبار وآل إلى استعلاء البعض على البعض تدريجيا واتخاذ بعضهم بعضا أربابا وهذه هي النواة الأصلية التي لو نشأت واخضرت وأينعت لم تثمر إلا دين الوثنية والاختلاف الشديد بين الطبقات الاجتماعية باستخدام القوي للضعيف ، واسترقاق العزيز واستدراره للذليل ، وحدوث المنازعات والمشاجرات بين الناس.

فشاع في زمن نوح عليه‌السلام الفساد في الأرض ، وأعرض الناس عن دين التوحيد وعن سنة العدل الاجتماعي وأقبلوا على عبادة الأصنام ، وقد سمى الله سبحانه منها ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا ( سورة نوح ).

وتباعدت الطبقات فصار الأقوياء بالأموال والأولاد يضيعون حقوق الضعفاء والجبابرة يستضعفون من دونهم ويحكمون عليهم بما تهواه أنفسهم ( الأعراف هود ـ نوح ).

فبعث الله نوحا عليه‌السلام وأرسله إليهم بالكتاب والشريعة يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وخلع الأنداد والمساواة فيما بينهم ( البقرة آية ٢١٣ ) بالتبشير والإنذار.

دينه وشريعته عليه‌السلام :

كان عليه‌السلام يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه ورفض الشركاء ( كما يظهر من جميع قصصه القرآنية ) والإسلام لله ( كما يظهر من سورتي نوح ويونس وسورة آل عمران آية ١٩ ) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( كما يظهر من سورة هود آية ٢٧ ) والصلاة ( كما يظهر من آية ١٠٣ من سورة النساء وآية ٨ من سورة الشورى )

٢٤٨

والمساواة والعدالة وأن لا يقربوا الفواحش والمنكرات وصدق الحديث والوفاء بالعهد ( سورة الأنعام آية ١٥١ ـ ١٥٢ ) وهو عليه‌السلام أول من حكي عنه في القرآن التسمية باسم الله في الأمور الهامة ( سورة هود آية ٤١ ).

اجتهاده عليه‌السلام في دعوته :

وكان عليه‌السلام يدعو قومه إلى الإيمان بالله وآياته ، ويبذل في ذلك غاية وسعه فيندبهم إلى الحق ليلا ونهارا وإعلانا وإسرارا فلا يجيبونه إلا بالعناد والاستكبار وكلما زاد في دعائهم زادوا في عتوهم وكفرهم ، ولم يؤمن به غير أهله وعدة قليلة من غيرهم حتى أيس من إيمانهم وشكا ذلك إلى ربه وطلب منه النصر ( سورة نوح والقمر والمؤمنون ).

لبثه في قومه :

لبث عليه‌السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه فلم يجيبوه إلا بالهزء والسخرية ورميه بالجنون وأنه يقصد به أن يتفضل عليهم حتى استنصر ربه ( سورة العنكبوت ) فأوحى إليه ربه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن وعزاه فيهم ( سورة هود ) فدعا عليهم بالتبار والهلاك ، وأن يطهر الله الأرض منهم عن آخرهم ( سورة نوح ) فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ( سورة هود ).

صنعه عليه‌السلام الفلك :

أمره الله تعالى أن يصنع الفلك بتأييده سبحانه وتسديده فأخذ في صنعها وكان القوم يمرون عليه طائفة بعد طائفة فيسخرون منه وهو يصنعها على بسيط الأرض من غير ماء ، ويقول عليه‌السلام : ( إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ ) ( سورة هود ) وقد نصب الله لنزول العذاب علما وهو أن يفور الماء من التنور ( سورتا هود والمؤمنون ).

٢٤٩

نزول العذاب ومجيء الطوفان :

حتى إذا تمت صنعة الفلك وجاء أمر الله وفار التنور أوحى الله تعالى إليه أن يحمل في السفينة من كل من الحيوان زوجين اثنين وأن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول الإلهي بالغرق وهو امرأته الخائنة وابنه الذي تخلف عن ركوب السفينة ، وأن يحمل الذين آمنوا ( سورتا هود والمؤمنون ) فلما حملهم وركبوا جميعا فتح الله أبواب السماء بماء منهمر وفجر الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ( سورة القمر ) وعلا الماء وارتفعت السفينة عليه وهي تسير في موج كالجبال ( سورة هود ) فأخذ الناس الطوفان وهم ظالمون وقد أمره الله تعالى إذا استوى هو ومن معه على الفلك أن يحمد الله على ما نجاه من القوم الظالمين وأن يسأله البركة في نزوله فيقول : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ، ويقول : ( رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ).

قضاء الأمر ونزوله ومن معه إلى الأرض :

فلما عم الطوفان وأغرق الناس ( كما يظهر من سورة الصافات آية ٧٧ ) أمر الله الأرض أن تبلع ماءها والسماء أن تقلع وغيض الماء واستوت السفينة على جبل الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ، وأوحي إلى نوح عليه‌السلام أن اهبط إلى الأرض بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك فلا يأخذهم بعد هذا طوفان عام ، ومنهم أمم سيمتعهم الله بأمتعة الحياة ثم يمسهم عذاب أليم فخرج هو ومن معه ونزلوا الأرض يعبدون الله بالتوحيد والإسلام ، وتوارثت ذريته عليه‌السلام الأرض وجعل الله ذريته هم الباقين ( سورتا هود والصافات ).

قصة ابن نوح الغريق :

كان نوح عليه‌السلام عند ما ركب السفينة لم يركبها واحد من أبنائه ، وكان لا يصدق أباه في أن من تخلف عنها فهو غريق لا محالة فرآه أبوه وهو في معزل فناداه : يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين فرد على أبيه قائلا : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال نوح عليه‌السلام : لا عاصم اليوم من الله إلا من رحم ـ يريد أهل

٢٥٠

السفينة ـ فلم يلتفت الابن إلى قوله وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

ولم يكن نوح عليه‌السلام يعلم منه إبطان الكفر كما كان يعلم ذلك من امرأته ولو كان علم ذلك لم يحزنه أمره وهو القائل في دعائه : « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً » الدعاء نوح ـ ٢٧ وهو القائل : « فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » الشعراء : ـ ١١٨ وقد سمع قوله تعالى فيما أوحى إليه : « وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ » هود : ـ ٣٧.

فوجد نوح عليه‌السلام وحزن فنادى ربه من وجده قائلا : رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وعدتني بإنجاء أهلي وأنت أحكم الحاكمين لا تجور في حكمك ولا تجهل في قضائك ، فما الذي جرى على ابني؟ فأخذته العناية الإلهية وحالت بينه وبين أن يصرح بالسؤال في نجاة ابنه ـ وهو سؤال لما ليس له به علم ـ وأوحى الله إليه : يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فإياك أن تواجهني فيه بسؤال النجاة فيكون سؤالا فيما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين.

فانكشف الأمر لنوح عليه‌السلام والتجأ إلى ربه تعالى قائلا رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم أسألك أن تشملني بعنايتك وتستر علي بمغفرتك ، وتعطف علي برحمتك ، ولو لا ذلك لكنت من الخاسرين.

٣ ـ خصائص نوح عليه‌السلام : هو عليه‌السلام أول أولي العزم سادة الأنبياء أرسله الله إلى عامة البشر بكتاب وشريعة فكتابه أول الكتب السماوية المشتملة على شرائع الله ، وشريعته أول الشرائع الإلهية.

وهو عليه‌السلام الأب الثاني للنسل الحاضر من الإنسان إليه ينتهي أنسابهم والجميع ذريته لقوله تعالى : ( وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ) : الصافات : ـ ٧٧ وهو عليه‌السلام أبو الأنبياء المذكورين في القرآن ما عدا آدم وإدريس عليه‌السلام قال تعالى : « وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ » الصافات : ـ ٧٨.

وهو عليه‌السلام أول من فتح باب التشريع وأتى بكتاب وشريعة وكلم الناس

٢٥١

بمنطق العقل وطريق الاحتجاج مضافا إلى طريق الوحي فهو الأصل الذي ينتهي إليه دين التوحيد في العالم فله المنة على جميع الموحدين إلى يوم القيامة ، ولذلك خصه الله تعالى بسلام عام لم يشاركه فيه أحد غيره فقال عز من قائل : « سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ » الصافات : ـ ٧٩.

وقد اصطفاه الله على العالمين ( آل عمران آية ٣٣ ) وعده من المحسنين ( الأنعام ٨٤ الصافات ٨٠ ) وسماه عبدا شكورا ( إسراء آية ٣ ) وعده من عباده المؤمنين ( الصافات ٨١ ) وسماه عبدا صالحا ( التحريم ١٠ ).

وآخر ما نقل من دعائه قوله : « رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً » نوح : ـ ٢٨

٤ ـ قصته عليه‌السلام في التوراة الحاضرة : وحدث (١) لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد. لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة. كان في الأرض طغاة في تلك الأيام. وبعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم.

ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض. وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه. فقال الرب : أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء. لأني حزنت أني عملتهم. وأما نوح فوجد نعمة في عين الرب.

هذه مواليد نوح. كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله ـ وسار نوح مع الله. وولد نوح ثلاثة بنين ساما وحاما ويافث. وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلما. ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت. إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض.

__________________

(١) الإصحاح السادس من سفر التكوين.

٢٥٢

فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي. لأن الأرض امتلأت ظلما منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر ، تجعل الفلك مساكن. وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. وهكذا تصنعه. ثلاث مائة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعا عرضه وثلاثين ذراعا ارتفاعه. وتصنع كوا للفلك وتكمله إلى حد ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه. مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت. ولكن أقيم عهدي معك. فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك. ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا وأنثى.من الطيور كأجناسها. ومن البهائم كأجناسها ومن كل دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها. وأنت فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل واجمعه عندك. فيكون لك ولها طعاما. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله. هكذا فعل.

وقال (١) الرب لنوح : ادخل أنت وجميع بنيك إلى الفلك. لأني إياك رأيت بارا لدي في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وأنثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكر وأنثى. ومن طيور السماء أيضا سبعة سبعة ذكرا وأنثى. لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض. لأني بعد سبعة أيام أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كل قائم عملته. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الرب.

ولما كان نوح ابن ستمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض. فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان. ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة ومن الطيور وكل ما يدب على الأرض. دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكر وأنثى. كما أمر الله نوحا.

__________________

(١) الإصحاح السابع من سفر التكوين.

٢٥٣

وحدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض. في سنة ستمائة من حياة نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء. وكان المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك. هم وكل الوحوش كأجناسها وكل الدبابات التي تدب على الأرض كأجناسها وكل الطيور كأجناسها كل عصفور ذي جناح. ودخل إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة. والداخلات دخلت ذكرا وأنثى من كل ذي جسد كما أمره الله. وأغلق الرب عليه.

وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض. وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض فكان الفلك يسير على وجه المياه. وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء. خمسة عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه فتغطت الجبال.

فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش وكل الزحافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس. كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات. فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض. الناس والبهائم والدبابات وطيور السماء فانمحت من الأرض. وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط. وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوما.

ثم (١) ذكر الله نوحا وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك وأجاز الله ريحا على الأرض فهدأت المياه. وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعا متواليا وبعد مائة وخمسين يوما نقصت المياه. واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. وكانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رءوس الجبال.

__________________

(١) الإصحاح الثامن سفر التكوين.

٢٥٤

وحدث من بعد أربعين يوما أن نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها. وأرسل الغراب فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الأرض. ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض. فلم تجد الحمامة مقرا لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك لأن مياها كانت على وجه كل الأرض فمد يده وأخذها وأدخلها عنده إلى الفلك. فلبث أيضا سبعة أيام أخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك. فأتت إليه الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض. فلبث أيضا سبعة أيام أخر فأرسل الحمامة فلم يعد يرجع إليه أيضا.

وكان في السنة الواحدة والستمائة في الشهر الأول في أول الشهر أن المياه نشفت عن الأرض فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف. وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفت الأرض.

وكلم الله نوحا قائلا : اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك. وكل الحيوانات التي معك من كل ذي جسد الطيور والبهائم وكل الدبابات التي تدب على الأرض أخرجها معك ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض. فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه ، وكل الحيوانات وكل الدبابات وكل الطيور كل ما يدب على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك.

وبنى نوح مذبحا للرب. وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح. فتنسم الرب رائحة الرضا وقال الرب في قلبه : لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت. مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل لا يزال.

وبارك الله (١) نوحا وبنيه وقال لهم أثمروا وأكثروا واملئوا الأرض ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء مع كل ما يدب على الأرض وكل أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم. كل دابة حية تكون لكم طعاما

__________________

(١) الإصحاح التاسع من سفر التكوين.

٢٥٥

كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع. غير أن لحما بجنابة دمه لا تأكلوه. وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط من يد كل حيوان أطلبه ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان من يد الإنسان أخيه. سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه لأن الله على صورته عمل الإنسان. فأثمروا أنتم وأكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها.

وكلم الله نوحا وبنيه معه قائلا. وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم. ومع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم الطيور والبهائم وكل وحوش الأرض التي معكم من جميع الخارجين من الفلك حتى كل حيوان الأرض. أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضا بمياه الطوفان ولا يكون أيضا طوفان ليخرب الأرض. وقال الله هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر. وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض. فيكون متى أنشر سحابا على الأرض وتظهر القوس في السحاب. إني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد فلا يكون أيضا المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد. فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقا أبديا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض.

وقال الله لنوح : هذه علامة الميثاق الذي أنا أقمته بيني وبين كل ذي جسد على الأرض.

وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث وحام هو أبو كنعان هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض. وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما. وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه. فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما.

فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال : ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته. وقال : مبارك الرب إله سام وليكن كنعان عبدا لهم ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبدا لهم.

٢٥٦

وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة. فكانت كل أيام نوح تسع مائة وخمسين سنة ومات. انتهى ما قصدنا إيراده.

وهو ـ كما ترى ـ يخالف ما جاء في القرآن الكريم من وجوه :

منها : أنه لم يذكر فيه حديث استثناء امرأة نوح بل صرح بدخولها الفلك ونجاتها مع بعلها ، وقد اعتذر عنه بعض : أن من الجائز أن يكون لنوح زوجان أغرقت إحداهما ونجت الأخرى.

ومنها : أنه لم يذكر فيه ابن نوح الغريق وقد قصه القرآن.

ومنها : أنه لم يذكر فيه المؤمنون غير نوح وأهله بل اقتصر عليه وعلى بنيه وامرأته ونساء بنيه.

ومنها : أنه ذكر فيه جملة عمر نوح تسع مائة وخمسين سنة ، وظاهر الكتاب العزيز أنها المدة التي لبث فيها بين قومه يدعوهم إلى الله قبل الطوفان. قال تعالى : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ » العنكبوت : ـ ١٤.

ومنها : ما ذكر فيه من حديث قوس قزح وقصة إرسال الغراب والحمامة للاستخبار وخصوصيات السفينة من عرضها وطولها وارتفاعها وطبقاتها الثلاث ومدة الطوفان وارتفاع الماء وغير ذلك فهي خصوصيات لم تذكر في القرآن الكريم وبعضها بعيد مستبعد كالميثاق بالقوس ، وقد كثر الاقتصاص بمثل هذه المعاني في قصة نوح عليه‌السلام في لسان الصحابة والتابعين ، وأكثرها بالإسرائيليات أشبه.

٥ ـ ما جاء في أمر الطوفان في أخبار الأمم وأساطيرهم : قال صاحب المنار في تفسيره ، : قد ورد في تواريخ الأمم القديمة ذكر للطوفان منها الموافق لخبر سفر التكوين إلا قليلا ومنها المخالف له إلا قليلا.

وأقرب الروايات إليه رواية الكلدانيين ، وهم الذين وقع الطوفان في بلادهم

٢٥٧

فقد نقل عنهم « برهوشع » و « يوسيفوس » أن « زيزستروس » رأى في الحلم بعد موت والده « أوتيرت » أن المياه ستطغى وتغرق جميع البشر ، وأمره ببناء سفينة يعتصم فيها هو وأهل بيته وخاصة أصدقائه ففعل. وهو يوافق سفر التكوين في أنه كان في الأرض جيل من الجبارين طغوا فيها وأكثروا الفساد فعاقبهم الله بالطوفان.

وقد عثر بعض الإنجليز على ألواح من الأجر نقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسمارية في عصر آشور بانيبال من نحو ستمائة وستين سنة قبل ميلاد المسيح ، وأنها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل المسيح أو قبله فهي أقدم من سفر التكوين.

وروى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون وهو أن كهنة المصريين قالوا لسولون ـ الحكيم اليوناني ـ إن السماء أرسلت طوفانا غير وجه الأرض فهلك البشر مرارا بطرق مختلفة فلم يبق للجيل الجديد شيء من آثار من قبله ومعارفهم.

وأورد « مانيتون » خبر طوفان حدث بعد هرمس الأول الذي كان بعد ميناس الأول ، وهذا أقدم من تاريخ التوراة أيضا ، وروي عن قدماء اليونان خبر طوفان عم الأرض كلها إلا « دوكاليون » وامرأته « بيرا » فقد نجوا منه.

وروي عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد والشرور بفعل أهريمن إله الشر ، وقالوا : إن هذا الطوفان فار أولا من تنور العجوز ( زول كوفه ) إذ كانت تخبز خبزها فيه ، ولكن المجوس أنكروا عموم الطوفان وقالوا : إنه كان خاصا بإقليم العراق وانتهى إلى حدود كردستان.

وكذا قدماء الهنود يثبتون وقوع الطوفان سبع مرات في شكل خرافي آخرها أن ملكهم نجا هو وامرأته في سفينة عظيمة أمره بصنعها إلهه فشنو وسدها بالدسر حتى استوت على جبل جيمافات ـ هملايا ـ ولكن البراهمة كالمجوس ينكرون وقوع طوفان عام أغرق الهند كلها ، وروي تعدد الطوفان عن اليابان والصين وعن البرازيل والمكسيك وغيرهما ، وكل هذه الروايات تتفق في أن سبب ذلك عقاب الله للبشر بظلمهم وشرورهم. انتهى.

٢٥٨

وقد (١) وقع في « أوستا » وهو كتاب المجوس المقدس أن « أهورا مزدا » أوحى إلى « إيما » ( وتعتقد المجوس أنه جمشيد الملك ) أنه سيقع طوفان يغرق الأرض ، وأمره أن يبني حائطا مرتفعا غايته يحفظ من في داخله من الغرق ، وأن يجمع في داخله جماعة من الرجال والنساء صالحة للنسل ، ويدخل فيه من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين ، ويبني في داخل السور بيوتا وقبابا في طبقات مختلفة يسكنها الناس المجتمعون هناك ويأوي إليها الدواب والطيور ، وأن يغرس في داخله ما ينفع في حياة الناس من الأشجار المثمرة ، ويحرث ما يرتزق به الناس من الحبوب الكريمة فيحتفظ بذلك ما به حياة الدنيا وعمارتها.

وفي تاريخ الأدب الهندي (٢) في قصة الطوفان : أنه بينما كان « مانو » ( هو ابن الإله عند الوثنيين ) يغسل يديه إذ جاءت في يده سمكة ، ومما اندهش به أن السمكة كلمته وطلبت إنقاذها من الهلاك ووعدته جزاء عليه أنها ستنقذ « مانو » في المستقبل من خطر عظيم ، والخطر العظيم المحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفانا سيجرف جميع المخلوقات وعلى ذلك حفظ « مانو » السمكة في المرتبان.

فلما كبرت أخبرت « مانو » عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان ثم أشارت على مانو أن يصنع سفينة كبيرة ويدخل فيها عند طوفان الماء قائلة : أنا أنقذك من الطوفان ، فمانو صنع السفينة والسمكة كبرت أكثر من سعة المرتبان لذلك ألقاها في البحر.

ثم جاء الطوفان كما أنبأت السمكة ، وحين دخل « مانو » السفينة عامت السمكة إليه فربط السفينة بقرن على رأسها فجرتها إلى الجبال الشمالية ، وهنا ربط مانو السفينة بشجرة ، وعند ما تراجع الماء وجف بقي مانو وحده. انتهى.

٦ ـ هل كانت نبوته ع عامة للبشر؟ مسألة اختلفت فيها آراء العلماء. فالمعروف عند الشيعة عموم رسالته ، وقد ورد من طرق أهل البيت (ع)

__________________

(١) ترجمة كتاب أوستا بالفرنسية المطبوعة بباريس.

(٢) على ما في قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار.

٢٥٩

ما يدل عليه ، وعلى أن أولي العزم من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا مبعوثين إلى الناس كافة.

وأما أهل السنة فمنهم من قال بعموم رسالته مستندا إلى ظاهر الآيات الناطقة بشمول الطوفان لأهل الأرض كلهم كقوله : « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً » نوح : ـ ٢٦ وقوله : « لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ » هود : ـ ٤٣ ، وقوله : « وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ » الصافات ـ ٧٧ ، وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة أن نوحا أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ولازمه كونه مبعوثا إليهم كافة.

ومنهم من أنكر ذلك مستندا إلى ما ورد في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ـ وبعثت إلى الناس كافة » وأجابوا عن الآيات أنها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي التي كانوا يسكنونها وهي وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون : « وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ » يونس : ـ ٧٨.

فمعنى الآية الأولى : لا تذر على هذه الأرض من كافري قومي ديارا ، وكذا المراد بالثانية : لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله ، والمراد بالثالثة : وجعلنا ذريته هم الباقين من قومه.

والحق أن البحث لم يستوف حقه في كلامهم ، والذي ينبغي أن يقال : إن النبوة إنما ظهرت في المجتمع الإنساني عن حاجة واقعية إليها ورابطة حقيقية بين الناس وبين ربهم وهي تعتمد على حقيقة تكوينية لا اعتبارية جزافية فإن من القوانين الحقيقية الحاكمة في نظام الكون ناموس تكميل الأنواع وهدايتها إلى غاياتها الوجودية ، وقد قال تعالى : « الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى » الأعلى : ـ ٣ ، وقال : « الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى » طه : ـ ٥٠.

فكل نوع من أنواع الكون متوجه منذ أول تكونه إلى كمال وجوده وغاية خلقه الذي فيه خيره وسعادته ، والنوع الإنساني أحد هذه الأنواع غير مستثنى من بينها فله كمال وسعادة يسير إليها ويتوجه نحوها أفراده فرادى ومجتمعين.

٢٦٠