الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٩

الإيمان الذي شأنه التقريب من السعادة والفلاح الحقيقي والفوز برضى الرب سبحانه وهو ظاهر فتأثير الإيمان أثره لا يشترط بعدم شيء من ذلك.

فقوله : « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ » معناه اشتراط الإيمان في إعطائه الأمن من كل ذنب ومعصية يفسد أثره بعدم الظلم غير أن هاهنا دقيقة وهي أن الذنب الاختياري ـ كما استوفينا البحث عنه في آخر الجزء السادس من الكتاب ـ أمر ذو مراتب مختلفة باختلاف الأفهام فمن الظلم ما هو معصية اختيارية بالنسبة إلى قوم وليس بها عند آخرين. فالواقف في منشعب طريقي الشرك والتوحيد مثلا وهو الذي يرى أن للعالم صانعا هو الذي فطر أجزاءها وشق أرجاءها وأمسك أرضها وسماءها ، ويرى أنه نفسه وغيره مخلوقون مربوبون مدبرون ، وأن الحياة الإنسانية الحقيقية إنما تسعد بالإيمان به والخضوع له فالظلم اللائح لهذا الإنسان هو الشرك بالله والإيمان بغيره بالربوبية كالأصنام والكواكب وغيرها على ما يثبته إبراهيم عليه‌السلام بقوله : « وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً » فالإيمان الذي يؤثر أثره بالنسبة إلى هذا الإنسان إنما يشترط في إعطائه الأمن من الشقاء بأن لا يلبسه ظلم الشرك ومعصيته.

ومن طوى هذه المرحلة فآمن بالله وحده فإنه يواجه من الظلم الكبائر من المعاصي كعقوق الوالدين وأكل مال اليتيم وقتل النفس المحترمة والزنا وشرب الخمر فإيمانه في تأثيره آثاره الحسنة يشترط باجتناب هذا النوع من الظلم ، وقد وعده الله أن يكفر عنه السيئات والمعاصي الصغيرة إن اجتنب كبائر ما ينهى عنه ، قال تعالى : « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً » : ( النساء : ٣١ ) وفساد أثر هذا الإيمان هو الشقاء بعذاب هذه المعاصي وإن لم يكن عذابا خالدا غير منقطع الآخر كعذاب الشرك بل منقطعا إما بحلول أجله وإما بشفاعة ونحوها.

ومن تزود هذا الزاد من التقوى وحصل شيئا من المعرفة بمقام ربه كان مسئولا بأصناف من الظلم تبدو له بحسب درجة معرفته بربه كإتيان المكروهات وترك المستحبات والتوغل في المباحات ، وفوق ذلك المعاصي في مستوى الأخلاق الكريمة والملكات الربانية ووراء ذلك الذنوب التي تعترض سبيل الحب ، وتحف بساط القرب ، فالإيمان في كل من هذه المراتب إنما يؤمن المتلبس به ويدفع عنه الشقاء إذا عري عن ملابسة الظلم المناسب لتلك المرتبة.

٢٠١

فلقوله تعالى : « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » إطلاق من حيث الظلم لكنه إطلاق يختلف باختلاف مراتب الإيمان وإذ كان المقام مقام محاجة المشركين انطبق الظلم المنفي على ظلم الشرك فحسب والأمن الذي يعطيه هذا الإيمان هو الأمن مما يخاف منه من الشقاء المؤبد والعذاب المخلد ، والآية مع ذلك آية مستقلة من حيث البيان مع قطع النظر عن خصوصية المورد تفيد أن الأمن والاهتداء إنما يترتب على الإيمان بشرط انتفاء جميع أنحاء الظلم الذي يلبسه ويستر أثره بالمعنى الذي تقدم بيانه.

وأما الإيمان المذكور في الآية ففيه إطلاق والمراد به الإيمان بالربوبية الصالح للتقيد بما يصلحه أو يفسده ثم إذا قيد بقوله : « وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » أفاد الإيمان بربوبية الله سبحانه ورفض غيره من شركائهم فإن إبراهيم عليه‌السلام ذكر فيما تحكي عنه الآية السابقة أن قولهم بربوبية شركائهم وإيمانهم بها مع كونها من خلق الله قول بما لا دليل لهم عليه من جانب الله ولا سلطان وأنهم بإيمانهم بشركائهم يتوقون شرا ويستأمنون شقاء ليس لها أن تدفعها لأنها لا تضر ولا تنفع ، وأما هو عليه‌السلام فقد خاف وآمن بمن هو فاطره وهو المتصرف بالهداية والمدبر الذي له في كل أمر إرادة ومشية لسعة علمه ، ثم سألهم : أي الفريقين أحق بالأمن والناجح بالإيمان بالرب ، ولكل من الفريقين إيمان بالرب ، وإن اختلفا من جهة الرب ، والذي آمنوا به بين مؤمن برب على ربوبيته دليل ، ومؤمن برب لا دليل على ربوبيته بل الدليل على خلافه.

ومن هنا يظهر أن المراد بالإيمان في قوله : « الَّذِينَ آمَنُوا » مطلق الإيمان بالربوبية ثم بتقيده بقوله : « وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » يتعين في الإيمان بالله سبحانه الذي هو حق الإيمان فافهم.

فقد اتضح بما تقدم أولا : أن المراد بالإيمان هو الإيمان بالربوبية دون الإيمان بوجود صانع العالم خلافا لمنكري وجوده.

وثانيا : أن الظلم في الآية مطلق ما يضر الإيمان ويفسده من المعاصي ، وكذا المراد بالأمن مطلق الأمن من شقاء المعاصي والذنوب ، وبالاهتداء مطلق التخلص من ضلالها وإن انطبق بحسب المورد على معصية الشرك خاصة.

وثالثا : أن إطلاق الظلم يختلف بحسب اختلاف مراتب الإيمان.

٢٠٢

قال بعض المفسرين في معنى عموم الظلم في الآية : إن الأمن في الآية مقصور على الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه وعدم مراعاة موضوع الإيمان يكون المعنى : الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم ما لأنفسهم لا في إيمانهم ولا في أعمالهم البدنية والنفسية من دينية أو دنيوية ولا لغيرهم من المخلوقات من العقلاء والعجماوات أولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الديني على ارتكاب المعاصي والمنكرات ، وعقابه الدنيوي على عدم مراعاة سببه في ربط الأسباب بالمسببات كالفقر والأسقام والأمراض دون غيرهم ممن ظلموا أنفسهم أو غيرهم فإن الظالمين لا أمان لهم بل كل ظالم عرضة للعقاب وإن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كل ظالم على كل ظلم بل يعفو عن كثير من ذنوب الدنيا ، ويعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به.

قال : وهذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه ، ويترتب عليه أن الأمن المطلق من الخوف من عقاب الله الديني والدنيوي أو الشرعي والقدري جميعا لا يصح لأحد من المكلفين دع خوف الهيبة والإجلال الذي يمتاز به أهل الكمال.

قال : وأما معنى الآية على فرض عدم الإطلاق فهو أن الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم وهو الشرك بالله أولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الديني المتعلق بأصل الدين وهو الخلود في دار العذاب وهم فيما دون ذلك بين الخوف والرجاء.

قال : وظاهر الآية هو العموم واستدل عليه بفهم الصحابة على ما روي : أن الآية لما نزلت شق ذلك على الناس ـ وقالوا : يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ فأخبرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن المراد به الشرك ، وربما أشعر بذلك السياق وكون الموضوع هو الإيمان ، انتهى ملخصا.

وفيه مواقع للإشكال فأولا : أن ما استدل عليه من العموم بفهم الصحابة هو غير ما قرره من معنى العموم فإن الذي فهموه من الظلم هو ما يساوي المعصية ، والذي قرره هو أعم من ذلك.

وثانيا : أن ما قرره من عموم الظلم حتى بالنسبة إلى أفراد من الظلم ليست من المعصية في شيء ثم حكم بصحة تفسير الآية به أجنبي عن مدلول الآية فإن الآية في مقام بيان أن الأمن والاهتداء من آثار الإيمان ولكن بشرط أن لا يقارن ظلما يستره ويفسد أثره ، وهذا الظلم إنما هو المعصية بوجه ، وأما ما لا يعد معصية كأكل الغذاء المضر بصحة

٢٠٣

البدن خطاء فمن المعلوم أنه لا يفسد أثر الإيمان من الأمن والاهتداء ، وليس المراد بالآية بيان آثار الظلم أيا ما كانت ولو مع قطع النظر عن الإيمان فإنه تعالى قال : « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » فجعل الإيمان هو الموضوع وقيده بعدم الظلم وجعل أثره الأمن والاهتداء ، ولم يجعل الظلم هو الموضوع حتى تكون الآية مسرودة لبيان آثاره.

فالآية سيقت لبيان الآثار التي تترتب على الإيمان الصحيح ، وأما الظلم بما له من العرض العريض وما له من الأثر المترتب عليه فالآية غير متعرضة لذلك البتة ، فقوله : « وهذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه » فاسد البتة.

وثالثا : أن قوله : « ويترتب عليه أن الأمن المطلق لا يصح لأحد من المكلفين » صريح في أن الآية لا مصداق لها بالنظر إلى الإطلاق الذي قرره ، ولازمه سقوط الكلام عن الفائدة ، وأي فائدة في أن يوضع في الحجة قول لا مصداق له أصلا؟.

ورابعا : أن الذي اختاره في معنى الآية أن المراد به هو الظلم الخاص وهو الشرك ليس بمستقيم فإن الآية من جهة عموم لفظها وإن دلت على وجوب كون الإيمان غير مقارن للشرك حتى يؤثر أثره لكن ذلك من باب انطباق اللفظ العام على مورده الخاص ، وأما إرادة المعنى الخاص من اللفظ العام من غير قرينة حالية أو مقالية متصلة أو منفصلة فمما لا ترتضيه صناعة البلاغة وهو ظاهر.

وأما ما أشار إليه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنما هو الشرك » فليس بصريح في أن الشرك مراد لفظي من الآية وإنما هو الانطباق ، وسيجيء البحث عن الحديث في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : « وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ » إلخ ، في الإشارة بلفظ البعيد إلى الحجة تفخيم وتعظيم لأمرها لكونها حجة قاطعة جارية على صراط الفطرة مأخوذة بمقدماتها منها.

وأما قوله : « نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ » فالدرجات ـ كما قيل ـ هي مراقي السلم ثم توسع فيها فأطلق على مراتب الكمال من المعنويات كالعلم والإيمان والكرامة والجاه

٢٠٤

وغير ذلك فرفعه تعالى من يشاء من عباده درجات من الرفع هو تخصيصه بكمالات معنوية وفضائل حقيقية في الخيرات الكسبية كالعلم والتقوى وغير الكسبية كالنبوة والرسالة والرزق وغيرها.

والدرجات لكونها نكرة في سياق الإيجاب مهملة غير مطلقة غير أن المتيقن من معناها بالنظر إلى خصوص المورد هو درجات العلم والهداية فقد رفع الله إبراهيم عليه‌السلام بهدايته وإراءته ملكوت السماوات والأرض وإيتائه اليقين والحجة القاطعة ، والجميع من العلم ، وقد قال تعالى في درجات العلم : « يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ » : ( المجادلة : ١١ ).

ثم ختم الآية بقوله : « إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ » لتثبيت أن ذلك كله كان بحكمة منه تعالى وعلم كما أن الحجج التي آتاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المذكورة في السورة قبل هذه الحجة من حكمته وعلمه تعالى ، وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة لتطييب قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتثبيت المعارف المذكورة فيه.

( بحث روائي )

في العيون : ، حدثنا نعيم بن عبد الله بن تميم القرشي رضي الله عنه قال : حدثنا أبي عن حمدان بن سليمان النيشابوري عن علي بن محمد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه‌السلام ـ فقال له المأمون : يا بن رسول الله ـ أليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ قال : بلى ، قال : فسأله عن آيات من القرآن فيه ـ فكان فيما سأله أن قال له : فأخبرني عن قول الله عز وجل في إبراهيم : « فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ».

فقال الرضا عليه‌السلام : إن إبراهيم وقع إلى ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزهرة ، وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس ـ وذلك حين خرج من السرب الذي أخفي فيه فلما جن عليه الليل رأى الزهرة قال : ( هذا رَبِّي ) على الإنكار والاستخبار ـ فلما أفل الكوكب قال : ( لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) ـ لأن الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم ـ فلما رأى القمر بازغا قال : ( هذا رَبِّي ) على الإنكار والاستخبار فلما أفل قال : ( لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي

٢٠٥

لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) ، فلما أصبح رأى الشمس بازغة قال : ( هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ) من الزهرة والقمر ـ على الإنكار والاستخبار لا على الإخبار والإقرار ـ فلما أفلت قال للأصناف الثلاثة ـ من عبدة الزهرة والقمر والشمس : ( يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ).

وإنما أراد إبراهيم بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم ، ويثبت عندهم أن العبادة لا يحق ـ لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس ، وإنما يحق العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض ، وكان ما احتج به على قومه ـ مما ألهمه الله عز وجل وآتاه كما قال عز وجل : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ). فقال المأمون : لله درك يا بن رسول الله.

أقول : وتأييد الرواية بمضمونها عدة من الأمور التي استفدناها من سياق الآيات الكريمة ظاهر ، وسيأتي أيضا بعض ما يؤيدها من الروايات ، وأما ما في الرواية من كون قول إبراهيم عليه‌السلام : « هذا رَبِّي » واقعا على سبيل الإنكار والاستخبار دون الإخبار والإقرار فوجه من الوجوه التي تقدمت في تفسير الآيات أورده عليه‌السلام في قطع حجة المأمون ، ولا ينافي صحة غيره من الوجوه لو كان هناك وجه كما سيأتي.

وكذا قوله : « لأن الأفول من صفات المحدث » إلخ ، ليس بظاهر في أن الحجة مأخوذة من الأفول الحادث كما ذكره بعضهم لجواز أن يكون الحجة مأخوذة من عدم الحب وملاكه كون الأفول من صفات المحدث التي لا ينبغي أن يتعلق بها حب فافهم.

وفي كمال الدين : ، أبي وابن الوليد معا عن سعد عن ابن بريد عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان أبو إبراهيم منجما لنمرود بن كنعان ، وكان نمرود لا يصدر إلا عن رأيه ـ فنظر في النجوم ليلة من الليالي فأصبح فقال : لقد رأيت في ليلتي هذه عجبا ـ فقال له نمرود : ما هو؟ فقال : رأيت مولودا يولد في أرضنا هذه ـ يكون هلاكنا على يديه ، ولا يلبث إلا قليلا حتى يحمل به ـ فعجب من ذلك نمرود وقال : هل حمل به النساء؟ فقال : لا ، وكان فيما أوتي من العلم أنه سيحرق بالنار ، ولم يكن أوتي أن الله سينجيه.

قال : فحجب النساء عن الرجال ـ فلم يترك امرأة إلا جعلت بالمدينة ـ حتى لا يخلص إليهن الرجال ، قال : وباشر أبو إبراهيم امرأته فحملت به ـ فظن أنه صاحبه فأرسل إلى

٢٠٦

نساء من القوابل ـ لا يكون في البطن شيء إلا علمنا به ـ فنظرنا إلى أم إبراهيم ـ فألزم الله تبارك وتعالى ذكره ما في الرحم الظهر ـ فقلن : ما نرى شيئا في بطنها.

فلما وضعت أم إبراهيم أراد أبوه ـ أن يذهب به إلى نمرود فقالت له امرأته : لا تذهب بابنك إلى نمرود فيقتله ـ دعني أذهب به إلى بعض الغيران أجعله فيه ـ حتى يأتي عليه أجله ولا تكون أنت تقتل ابنك ـ فقال لها : فاذهبي فذهبت به إلى غار ثم أرضعته ـ ثم جعلت على باب الغار صخرة ثم انصرفت عنه ـ فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصها فيشرب لبنا ، وجعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمعة ، ويشب في الجمعة كما يشب غيره في الشهر ، ويشب في الشهر كما يشب غيره في السنة ـ فمكث ما شاء الله أن يمكث.

ثم إن أمه قالت لأبيه : لو أذنت لي أن أذهب إلى ذلك الصبي فأراه فعلت ـ قال : ففعل (١) فأتت الغار فإذا هي بإبراهيم ـ وإذا عيناه تزهران كأنهما سراجان ـ فأخذته وضمته إلى صدرها وأرضعته ـ ثم انصرفت عنه فسألها أبوه عن الصبي فقالت : قد واريته في التراب.

فمكثت تعتل فتخرج في الحاجة ، وتذهب إلى إبراهيم ـ فتضمه إليها أصل لازم وترضعه ثم تنصرف ـ فلما تحرك أتته أمه كما كانت تأتيه ، وصنعت كما كانت تصنع ـ فلما أرادت الانصراف أخذ ثوبها ـ فقالت له : ما لك؟ فقال : اذهبي بي معك ـ فقالت له : حتى استأمر أباك ـ فلم يزل إبراهيم في الغيبة مخفيا بشخصه كاتما لأمره ـ حتى ظهر فصدع بأمر الله تعالى ذكره ، وأظهر الله قدرته فيه.

أقول : وروي في قصص الأنبياء ، عن الصدوق عن أبيه وابن الوليد ثم ساق السند إلى أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان آزر عم إبراهيم منجما لنمرود ـ وكان لا يصدر إلا عن رأيه ـ قال : لقد رأيت في ليلتي عجبا قال : ما هو؟ قال : إن مولودا يولد في أرضنا هذه ـ يكون هلاكنا على يديه ـ فحجب الرجال عن النساء ، وكان تارخ وقع على أم إبراهيم فحملت ـ ثم ساق الحديث إلى آخره.

وقد حمل وحدة السند في الحديثين ، ووحدة المضمون إلا في أبي إبراهيم صاحب

__________________

(١) أي فعل الإذن أي أذن لها.

٢٠٧

البحار أن قال : الظاهر أن ما رواه الراوندي هو هذا الخبر بعينه ، وإنما غيره ليستقيم على أصول الإمامية ، انتهى. ثم حمل الرواية وما في مضمونها من الروايات الدالة على أن آزر الوثني كان والدا لإبراهيم صلبيا على التقية.

وقد روى مثل المضمون السابق القمي في تفسيره ، والعياشي في تفسيره ، وروي من طرق أهل السنة عن مجاهد ، ورواه الطبري في تاريخه والثعلبي في قصص الأنبياء ، عن عامة السلف وأهل العلم.

وكيف كان فالذي ينبغي أن يقال : إن علماء الحديث والآثار كأنهم مجمعون على أن إبراهيم عليه‌السلام كان في بادي عمره قد أخفي في سرب خوفا من أن يقتله الملك نمرود ، ثم خرج عنه بعد حين فحاج أباه وقومه في أمر الأصنام والكوكب والقمر والشمس وحاج الملك في دعواه الربوبية ، وقد تقدم أن سياق آيات القصة يؤيد هذا المعنى.

وأما أبو إبراهيم فقد ذكر أهل التاريخ أن اسمه تارخ ـ بالحاء المهملة أو المعجمة ـ وآزر إما لقبه أو اسم صنم أو وصف ذم أو مدح بحسب لغتهم بمعنى المعتضد أو الأعرج وصفه به إبراهيم.

وذكروا أن هذا المشرك الذي سماه القرآن أبا إبراهيم وذكر محاجته إياه كان هو تارخ أباه الصلبي ووالده الحقيقي ووافقهم على ذلك عدة من علماء الحديث والكلام من أهل السنة ، وخالفهم جمع منهم ، والشيعة كالمجمع على ذلك أو هم مجمعون إلا ما يتراءى من بعض المحدثين حيث أودعوا تلك الأخبار كتبهم ، وعمدة ما احتج به القائلون بأن آزر المشرك لم يكن والد إبراهيم ، وإنما كان عمه أو جده لأمه الأخبار الواردة من طرق الفريقين في أن آباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا موحدين جميعا لم يكن فيهم مشرك ، وقد طالت المشاجرة بين الفريقين.

أقول : من البحث على هذا النمط كيفما تم خارج عن البحث التفسيري وإن كان الباحثون من الفريقين في حاجة إلى إيراده واستنتاج حق ما ينتجه لكنا في غنى عن ذلك فقد تقدم أن الآيات دالة على أن آزر المشرك الذي يذكره الله تعالى في هذه الآيات من سورة الأنعام لم يكن والدا حقيقيا لإبراهيم عليه‌السلام.

٢٠٨

فالروايات الدالة على كون آزر أباه الحقيقي على ما فيها من الاختلاف في سرد القصة روايات مخالفة للكتاب لا يعبأ بها ، ولا حاجة مع ذلك إلى حملها على التقية إن صح الحمل مع هذا الاختلاف بين القوم.

وفي تفسير القمي ، : في قوله تعالى : ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ ) الآية ـ قال : حدثني أبي عن إسماعيل بن مرار ـ عن يونس بن عبد الرحمن عن هشام ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كشط له عن الأرض ومن عليها ، وعن السماء ومن عليها ، والملك الذي يحملها ، والعرش ومن عليه ، وفعل ذلك برسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام.

أقول : وروى مثله في بصائر الدرجات بطريقين عن عبد الله بن مسكان وأبي بصير عن الصادق عليه‌السلام وبطريق عن عبد الرحيم عن الباقر عليه‌السلام ورواه العياشي عن زرارة وأبي بصير عن الصادق عليه‌السلام وعن زرارة وعبد الرحيم القصير عن الباقر عليه‌السلام ورواه في الدر المنثور ، عن ابن عباس ومجاهد والسدي من مفسري السلف ، وسيأتي في الكلام على العرش

حديث علي عليه‌السلام المروي في الكافي في معنى العرش وفيه قال : والذين يحملون العرش ومن حوله ـ هم العلماء الذين حملهم الله علمه ـ قال : وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه ، وأراه خليله عليه‌السلام فقال : ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ـ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الحديث.

وفي الحديث تفسير سائر الأخبار الواردة في تفسير إراءة الملكوت وتأييد لما قدمناه في البيان السابق ، وسيوافيك الشرح المستوفى لهذا الحديث في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

وفي تفسير العياشي ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لما رأى ملكوت السماوات والأرض ـ التفت فرأى رجلا يزني فدعا عليه فمات ـ ثم رأى آخر فدعا عليه فمات ـ حتى رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا ـ فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم : إن دعوتك مجابة فلا تدع على عبادي ـ فإني لو شئت لم أخلقهم ـ إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف : عبد يعبدني ولا يشرك بي شيئا ، وعبد يعبد غيري فلن يفوتني ، وعبد يعبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني :

٢٠٩

أقول : والرواية مستفيضة ورواه في الكافي مسندا عن أبي بصير عنه عليه‌السلام ورواه الصدوق في العلل عنه عليه‌السلام والطبرسي في الاحتجاج عن العسكري عليه‌السلام ورواه في الدر المنثور ، عن ابن مردويه عن علي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن أبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن عدة من المفسرين موقوفا.

وفي تفسير العياشي ، عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : في إبراهيم إذ رأى كوكبا قال : إنما كان طالبا لربه ولم يبلغ كفرا ، وأنه من فكر من الناس في مثل ذلك فإنه بمنزلته.

وفي تفسير القمي ، قال : وسئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قول إبراهيم : « هذا رَبِّي » هل أشرك في قوله : ( هذا رَبِّي )؟ فقال : من قال هذا اليوم فهو مشرك ، ولم يكن من إبراهيم شرك ، وإنما كان في طلب ربه ـ وهو من غيره شرك.

أقول : ويقابل الذي هو طالب من تم له البيان وقامت له الحجة الواضحة فهو غير طالب ، وليس لغير الطالب أن يفترض ما فيه شرك.

وفي تفسير العياشي ، عن حجر قال : أرسل العلاء بن سيابة يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام ـ عن قول إبراهيم : « هذا رَبِّي » وأنه من قال هذا اليوم فهو عندنا مشرك ، قال : لم يكن من إبراهيم شرك إنما كان في طلب ربه ، وهو من غيره شرك.

وفيه ، عن محمد بن حمران قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله ـ فيما أخبر عن إبراهيم : « هذا رَبِّي » قال : لم يبلغ به شيئا ، أراد غير الذي قال.

أقول : المراد به ظاهرا أنه أراد به أن قوله : « هذا رَبِّي » لا يتعدى مفهوم نفسه وليس له وراء ذلك معنى يحكي عنه أي أنه قاله على سبيل الافتراض أو تسليم المدعى لبيان فساده بفساد لوازمه كما تقدمت الإشارة إليه.

في الدر المنثور ، في قوله تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) الآية ، أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية : « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » شق ذلك على الناس فقالوا : يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه؟

٢١٠

قال : إنه ليس الذي تعنون ـ ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : « إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ »؟ إنما هو الشرك.

أقول : المراد بالعبد الصالح لقمان على ما حكاه الله تعالى من قوله في سورة لقمان. وفي الحديث دلالة على أن سورة الأنعام نزلت بعد سورة لقمان ، وقد تقدم أن كون المراد هو الشرك إنما هو الانطباق بحسب المورد والشرك ذنب لا تتعلق به مغفرة أصلا بخلاف غيره كائنا ما كان ، والدليل على ما ذكرنا ما يأتي من الروايات.

وفيه ، أخرج أحمد والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن جرير بن عبد الله قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما برزنا من المدينة ـ إذا راكب يوضع نحونا فانتهى إلينا فسلم ـ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أين أقبلت؟ فقال : من أهلي وولدي وعشيرتي أريد رسول الله. قال : قد أصبته قال : علمني ما الإيمان؟ قال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ـ قال : قد أقررت.

ثم إن بعيره دخلت يده في شبكة جردان فهوى ـ ووقع الرجل على هامته فمات ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ هذا من الذين عملوا قليلا وأجروا كثيرا ، هذا من الذين قال الله : « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ـ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ » إني رأيت الحور العين يدخلن في فيه من ثمار الجنة ـ فعلمت أن الرجل مات جائعا :

أقول : ورواه أيضا عن الحكيم الترمذي وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه ، ورواه العياشي في تفسيره عن جابر الجعفي عمن حدثه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : مثله.

وفيه ، أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي : أن رجلا سأل عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فسكت حتى جاء رجل فأسلم ـ فلم يلبث إلا قليلا حتى قاتل فاستشهد ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ هذا منهم من الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.

وفيه ، أخرج الفاريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن علي بن أبي طالب : في قوله : « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » قال : نزلت هذه الآية في إبراهيم وأصحابه خاصة ـ ليس في هذه الأمة.

أقول : والرواية لا توافق بظاهرها الأصول الكلية المستخرجة من الكتاب والسنة

٢١١

فإن الآية لا تشتمل بمضمونها على حكم خاص تختص به أمة دون أمة كالأحكام الفرعية التشريعية التي ربما تختص بزمان دون زمان ، وأما الإيمان بما له من الأثر على مراتبه ، وكذا الظلم على مراتبه بما لها من سوء الأثر في الإيمان فإنما ذلك أمر مودع في الفطرة الإنسانية لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمم.

وقال بعض المفسرين في توجيه الحديث : لعل مراده أن الله خص إبراهيم وقومه بأمن موحدهم من عذاب الآخرة مطلقا لا أمن الخلود فيه فقط ، ولعل سبب هذا ـ إن صح ـ أن الله تعالى لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية الشديدة لهم في الأحوال الشخصية والأدبية وغيرها.

وقد عثر الباحثون على شرائع حمورابي الملك الصالح الذي كان في عهد إبراهيم وباركه وأخذ منه العشور ـ كما في سفر التكوين ـ فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها وأما فرض الله الحج على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده إسماعيل لا في قومه الكلدانيين وأما هذه الأمة فإن من موحديها من يعذبون بالمعاصي على قدرها لأنهم خوطبوا بشريعة كاملة يحاسبون على إقامتها ، انتهى.

وفي كلامه من التحكم ما لا يخفى فقد تقدم أن الملك حمورابي هذا كان يعيش على رأس سنة ألف وسبعمائة قبل المسيح ، وإبراهيم كان يعيش على رأس الألفين قبل المسيح تقريبا كما ذكره.

وحمورابي هذا وإن كان ملكا صالحا في دينه عادلا في رعيته ملتزما العمل بقوانين وضعها وعمل بإجرائها في مملكته أحسن إجراء وإنفاذ ، وهي أقدم القوانين المدنية الموضوعة على ما قيل إلا أنه كان وثنيا ، وقد استمد بعده من آلهة الوثنيين في ما كتبه بعد الفراغ عن كتابة شريعته على ما عثروا عليه في الآثار المكشوفة في خرائب بابل ، والآلهة التي ذكرها في بيانه الموضوع في ختام القانون ، وشكرها في أن آتته الملك العظيم ووفقته لبسط العدل ووضع الشريعة ، واستعان بها واستمد منها في حفظ شريعته عن الزوال والتحريف هي « ميروداخ » إله الآلهة ، وأي إله القانون والعدل والإله « زماما » والإله « إشتار » إله الحرب و « شاماش » الإله القاضي في السماء والأرض و « سين » إله السماوات ، و « حاداد » إله الخصب و « نيرغال » إله النصر و « بل » إله القدر والآلهة « بيلتيس » والآلهة « نينو »

٢١٢

والإله « ساجيلا » وغيرها.

والذي ذكره من أن الله لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية « إلخ » يكذبه أن القرآن يحكي عن لسان إبراهيم عليه‌السلام الصلاة كما في أدعيته في سورة إبراهيم ويذكر أن الله أوحى إليه فعل الخيرات وإيتاء الزكاة كما في سورة الأنبياء ، وأنه شرع الحج وأباح لحوم الأنعام كما في سورة الحج ، وكان من شريعته الاعتزال عن المشركين كما في سورة الممتحنة ، وكان ينهى عن كل ظلم لا ترتضيه الفطرة كما في سورة الأنعام وغيرها ، ومن شرعه التطهر كما تشير إليه سورة الحج ووردت الأخبار أنه عليه‌السلام شرع الحنيفية وهي عشر خصال : خمس في الرأس وخمس في البدن ومنها الختنة ، وكان يحيي بالسلام كما في سورة هود ومريم.

وقد قال الله تعالى : « مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ » : ( الحج : ٧٨ ) وقال : « قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً » : ( البقرة : ١٣٥ ) فوصف هذا الدين على ما له من الأصول والفروع بأنه ملة إبراهيم عليه‌السلام ، وهذا وإن لم يدل على أن هذا الدين على ما فيه من تفاصيل الأحكام كان مشرعا في زمن إبراهيم عليه‌السلام بل الأمر بالعكس كما يدل عليه قوله : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى » ( الشورى : ١٣ ) إلا أنه يدل على أن شرائعه راجعة إلى أصل أو أصول كلية تهدي إليها الفطرة مما ترتضيه وتأمر به أو لا ترتضيه وتنهى عنه قال تعالى في آخر هذه السورة بعد ما ذكر حججا على الشرك وجملا من الأوامر والنواهي الكلية مخاطبا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » ( الأنعام : ١٦١ ).

ولو كان الأمر على ما ذكره أن الله لم يشرع لإبراهيم عليه‌السلام شريعة بل اكتفى بما بين يديه من القانون المدني الدائر وهو شريعة حمورابي لكانت الشريعة المذكورة ممضاة مصوبة من عند الله ، وكانت من أجزاء دين إبراهيم عليه‌السلام بل الدين الإسلامي الذي شرع في القرآن لأنه هو ملة إبراهيم حنيفا فكانت إحدى الشرائع الإلهية ونوعا من الكتب السماوية.

والحق الذي لا مرية فيه أن الوحي الإلهي كان يعلم الأنبياء السالفين وأممهم

٢١٣

أصولا كلية في المعاش والمعاد كأنواع من العبادة وسننا كلية في الخيرات والشرور يهتدي إلى تشخيصها الإنسان السليم العقل من المعاشرة الصالحة والتجنب عن الظلم والإسراف وإعانة المستكبرين ونحوها ، ثم يؤمرون بالدخول في المجتمعات بهذا التجهيز الذي جهزوا به ، والدعوة إلى أخذ الخير والصلاح ورفض الشر والفحشاء والفساد سواء كانت المجتمعات التي دخلوا فيها يدبرها استبداد الظلمة والطغاة أو رأفة العدول من السلاطين وسياستهم المنظمة.

ولم يشرع تفاصيل الأحكام قبل ظهور الدين الإسلامي إلا في التوراة وفيها أحكام يشابه بعضها بعض ما في شريعة حمورابي غير أن التوراة نزلها الله على موسى عليه‌السلام وكانت محفوظة في بني إسرائيل فقدوها في فتنة بخت نصر التي أفنت جمعهم وخربت هيكلهم ولم يبق منهم إلا شرذمة ساقتهم الإسارة إلى بابل فاستعبدوا واسكنوا فيه إلى أن فتح الملك كورش بابل وأعتقهم من الأسر وأجاز لهم الرجوع إلى بيت المقدس ، وأن يكتب لهم عزراء الكاهن التوراة بعد ما أعدمت نسخها ونسيت متون معارفها ، وقد اعتادوا بقوانين بابل الجارية بين الكلدانيين.

ومع هذا الحال كيف يحكم بأن الله أمضى في الشريعة الكليمية كثيرا من شرائع حمورابي ، والقرآن إنما يصدق من هذه التوراة بعض ما فيها ، وبعد ذلك كله لا مانع من كون بعض القوانين غير السماوية مشتملا على بعض المواد الصالحة والأحكام الحقة.

وفي الكافي ، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله تعالى : « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » قال : هو الشرك.

وفيه ، بطريق آخر عن أبي بصير عنه عليه‌السلام : في الآية قال : بشك.

أقول : ورواه العياشي أيضا في تفسيره ، عن أبي بصير عنه (ع).

وفي تفسير العياشي ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألت عن قول الله : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) ، قال : نعوذ بالله يا با بصير أن نكون ممن لبس إيمانه بظلم ، ثم قال : أولئك الخوارج وأصحابهم.

وفيه ، عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله : ( وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) ، قال : الضلال وما فوقه.

٢١٤

أقول : كأن المراد بالضلال في الرواية الشرك الذي هو أصل كل بما ظلم فوقه وما يزيد عليه من المعاصي والمظالم ، أو المراد بالضلال أدنى ما يتحقق به الظلم من المعاصي ، وبما فوقه الشرك الذي هو المرتبة الشديدة من الضلال فإن كل معصية ضلال.

والروايات ـ كما ترى ـ تتفنن في تفسير الظلم في الآية فتارة تفسرها بالشرك وتارة بالشك وتارة بما عليه الخوارج ، وفي بعضها : أن منه ولاية أعدائهم ، وكل ذلك من شواهد ما قدمنا أن الظلم في الآية مطلق وهو في إطلاقه ذو مراتب بحسب درجات الأفهام.

( كلام في قصة إبراهيم عليه‌السلام وشخصيته )

وفيه أبحاث مختلفة قرآنية وأخرى علمية وتاريخية وغير ذلك.

١ ـ قصة إبراهيم عليه‌السلام في القرآن : كان إبراهيم عليه‌السلام في طفوليته إلى أوائل تمييزه يعيش في معزل من مجتمع قومه ثم خرج إليهم ولحق بأبيه فوجده وقومه يعبدون الأصنام فلم يرتض منه ومنهم ذلك وقد كانت فطرته طاهرة زاكية مؤيدة من الله سبحانه بالشهود الحق وإراءة ملكوت كل شيء وبالجملة وبالقول الحق والعمل الصالح.

فأخذ يحاج أباه في عبادته الأصنام ويدعوه إلى رفضها وتوحيد الله سبحانه واتباعه حتى يهديه إلى مستقيم الصراط ويبعده من ولاية الشيطان ، ولم يزل يحاجه ويلح عليه حتى زبره وطرده عن نفسه وأوعده أن يرجمه إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء والرغبة عنها.

فتلطف إبراهيم عليه‌السلام إرفاقا به وحنانا عليه وقد كان ذا خلق كريم وقول مرضي فسلم عليه ووعده أن يستغفر له ويعتزله وقومه وما يعبدون من دون الله ( مريم : ٤١ ، ٤٨ )

وقد كان من جانب آخر يحاج القوم في أمر الأصنام ( الأنبياء : ٥١ ـ ٥٦ ، الشعراء : ٦٩ ـ ٧٧ ، الصافات : ٨٣ ـ ٨٧ ) ويحاج أقواما آخرين منهم يعبدون الشمس والقمر والكوكب في أمرها حتى ألزمهم الحق وشاع خبره في الانحراف عن الأصنام والآلهة ( الأنعام : ٧٤ ـ ٨٢ ) حتى خرج القوم ذات يوم إلى عبادة جامعة خارج البلد واعتل هو بالسقم فلم يخرج معهم وتخلف عنهم فدخل بيت الأصنام فراغ على آلهتهم ضربا باليمين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون فلما تراجعوا وعلموا بما حدث بآلهتهم وفتشوا عمن ارتكب ذلك قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.

٢١٥

فأحضروه إلى مجمعهم فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون فاستنطقوه فقالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، وقد كان أبقى كبير الأصنام ولم يجده ووضع الفأس على عاتقه أو ما يقرب من ذلك ليشهد الحال على أنه هو الذي كسر سائر الأصنام.

وإنما قال عليه‌السلام ذلك وهو يعلم أنهم لا يصدقونه على ذلك وهم يعلمون أنه جماد لا يقدر على ذلك لكنه قال ما قال ليعقبه بقوله : فاسألوهم إن كانوا ينطقون حتى يعترفوا بصريح القول بأنهم جمادات لا حياة لهم ولا شعور ، ولذلك لما سمعوا قوله رجعوا إلى أنفسهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال : أفتعبدون من دون الله ما لا يضركم ولا ينفعكم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون.

قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم فبنوا له بنيانا وأسعروا فيه جحيما من النار وقد تشارك في أمره الناس جميعا وألقوه في الجحيم فجعله الله بردا عليه وسلاما وأبطل كيدهم ( الأنبياء : ٥٧ ـ ٧٠ ، الصافات : ٨٨ ـ ٩٨ ) وقد أدخل في خلال هذه الأحوال على الملك ، وكان يعبده القوم ويتخذونه ربا فحاج إبراهيم في ربه فقال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت فغالطه الملك وقال : أنا أحيي وأميت كقتل الأسير وإطلاقه فحاجه إبراهيم بأصرح ما يقطع مغالطته فقال : إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر ( البقرة : ٢٥٨ ).

ثم لما أنجاه الله من النار أخذ يدعو إلى الدين الحنيف دين التوحيد فآمن له شرذمة قليلة وقد سمى الله تعالى منهم لوطا ومنهم زوجته التي هاجر بها وقد كان تزوج بها قبل الخروج من الأرض إلى الأرض المقدسة (١).

ثم تبرأ هو عليه‌السلام ومن معه من المؤمنين من قومهم وتبرأ هو من آزر الذي كان

__________________

(١) الدليل على إيمان جمع من قومه به قوله تعالى : « قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآؤا منكم » ( الممتحنة : ٤ ) والدليل على تزوجه قبل الخروج إلى الأرض المقدسة سؤاله الولد الصالح من ربه في قوله : « وقال إني ذاهب الى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين » ( الصافات : ١٠٠ ).

٢١٦

يدعوه أبا ولم يكن بوالده الحقيقي (١) وهاجر ومعه زوجته ولوط إلى الأرض المقدسة ليدعو الله سبحانه من غير معارض يعارضه من قومه الجفاة الظالمين ( الممتحنة : ٤ الأنبياء : ٧١ ) وبشره الله سبحانه هناك بإسماعيل وبإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب وقد شاخ وبلغه كبر السن فولد له إسماعيل ثم ولد له إسحاق وبارك الله سبحانه فيه وفي ولديه وأولادهما.

ثم إنه عليه‌السلام بأمر من ربه ذهب إلى أرض مكة وهي واد غير ذي زرع فأسكن فيه ولده إسماعيل وهو صبي ورجع إلى الأرض المقدسة فنشأ إسماعيل هناك واجتمع عليه قوم من العرب القاطنين هناك وبنيت بذلك بلدة مكة.

وكان عليه‌السلام ربما يزور إسماعيل في أرض مكة قبل بناء مكة والبيت وبعد ذلك ( البقرة : ١٢٦ ، إبراهيم : ٣٥ ـ ٤١ ) ثم بنى بها الكعبة البيت الحرام بمشاركة من إسماعيل وهي أول بيت وضع للناس من جانب الله مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ( البقرة : ١٢٧ ـ ١٢٩ ، آل عمران : ٩٦ ـ ٩٧ ) وأذن في الناس بالحج وشرع نسك الحج ( الحج : ٢٦ : ٣٠ ).

ثم أمره الله بذبح ولده إسماعيل عليه‌السلام فخرج معه للنسك فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وفداه الله سبحانه بذبح عظيم ( الصافات : ١٠١ ـ ١٠٧ ).

وآخر ما قص القرآن الكريم من قصصه عليه‌السلام أدعيته في بعض أيام حضوره بمكة المنقولة في سورة إبراهيم ( آية : ٣٥ ـ ٤١ ) وآخر ما ذكر فيها قوله عليه‌السلام : « رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ».

منزلة إبراهيم عند الله سبحانه وموقفه العبودي : أثنى الله تعالى على إبراهيم عليه‌السلام في كلامه أجمل ثناء وحمد محنته في جنبه أبلغ الحمد ، وكرر ذكره باسمه في نيف وستين موضعا من كتابه وذكر من مواهبه ونعمه عليه شيئا كثيرا. وهاك جملا من ذلك : آتاه الله رشده من قبل ( الأنبياء : ٥١ ) واصطفاه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ( البقرة : ١٣٠ ـ ١٣١ ) وهو الذي وجه وجهه إلى ربه

__________________

(١) وقد تقدم استفادة ذلك من دعائه المنقول في سورة إبراهيم.

٢١٧

حنيفا وما كان من المشركين ( الأنعام : ٧٩ ) وهو الذي اطمأن قلبه بالله وأيقن به بما أراه الله من ملكوت السماوات والأرض ( البقرة : ٢٦٠ ، الأنعام : ٧٥ ).

واتخذه الله خليلا ( النساء : ١٢٥ ) وجعل رحمته وبركاته عليه وعلى أهل بيته ووصفه بالتوفية ( النجم : ٣٧ ) ومدحه بأنه حليم أواه منيب (هود : ٧٣ ـ ٧٥) ومدحه أنه كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتاه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( النحل : ١٢٠ ـ ١٢٢ ).

وكان صديقا نبيا ( مريم : ٤١ ) وعده الله من عباده المؤمنين ومن المحسنين وسلم عليه ( الصافات : ٨٣ ـ ١١١ ) وهو من الذين وصفهم بأنهم أولو الأيدي والأبصار وأنه أخلصهم بخالصة ذكرى الدار ( ص : ٤٥ ـ ٤٦ ).

وقد جعله الله للناس إماما ( البقرة : ١٢٤ ) وجعله أحد الخمسة أولي العزم الذين آتاهم الكتاب والشريعة ( الأحزاب : ٧ ، الشورى : ١٣ ، الأعلى : ١٨ ـ ١٩ ) وآتاه الله العلم والحكمة والكتاب والملك والهداية وجعلها كلمة باقية في عقبه ( النساء : ٥٤ ، الأنعام : ٧٤ ـ ٩٠ ، الزخرف : ٢٨ ) وجعل في ذريته النبوة والكتاب ( الحديد : ٢٦ ) وجعل له لسان صدق في الآخرين ( الشعراء : ٨٤ ، مريم : ٥٠ ) فهذه جمل ما منحه الله سبحانه من المناصب الإلهية ومقامات العبودية ولم يفصل القرآن الكريم في نعوت أحد من الأنبياء والرسل المكرمين وكراماتهم ما فصل من نعوته وكراماته عليه‌السلام.

وليراجع في تفسير كل من مقاماته المذكورة إلى ما شرحناه في الموضع المختص به فيما تقدم أو سنشرحه إن شاء الله تعالى فالاشتغال به هاهنا يخرجنا عن الغرض المعقود له هذه الأبحاث.

وقد حفظ الله سبحانه حياته الكريمة وشخصيته الدينية بما سمى هذا الدين القويم بالإسلام كما سماه عليه‌السلام ونسبه إليه قال تعالى : « مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ » : ( الحج : ٧٨ ) وقال : « قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » : ( الأنعام : ١٦١ ).

وجعل الكعبة البيت الحرام الذي بناها قبلة للعالمين وشرع مناسك الحج وهي في الحقيقة أعمال ممثلة لقصة إسكانه ابنه وأم ولده وتضحية ابنه إسماعيل وما سعى به إلى ربه والتوجه له وتحمل الأذى والمحنة في ذاته كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى : « وَإِذْ

٢١٨

جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ » : الآية ( البقرة : ١٢٥ ) في الجزء الأول من الكتاب.

٣ ـ أثره المبارك في المجتمع البشري : ومن مننه عليه‌السلام السابغة أن دين التوحيد ينتهي إليه أينما كان وعند من كان فإن الدين المنعوت بالتوحيد اليوم هو دين اليهود ، وينتهي إلى الكليم موسى بن عمران عليه‌السلام وينتهي نسبه إلى إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام ، ودين النصرانية وينتهي إلى المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام وهو من ذرية إبراهيم عليه‌السلام ، ودين الإسلام والصادع به هو محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وينتهي نسبه إلى إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، فدين التوحيد في الدنيا أثره الطيب المبارك ، ويشاهد في الإسلام من شرائعه الصلاة والزكاة والحج وإباحة لحوم الأنعام والتبري من أعداء الله ، والسلام ، والطهارات العشر الحنيفية البيضاء خمس (١) منها في الرأس وخمس منها في البدن : أما التي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطم الشعر والسواك والخلال وأما التي في البدن فحلق الشعر من البدن والختان وتقليم الأظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء.

والبحث المستوفى يؤيد أن السنن الصالحة من الاعتقاد والعمل في المجتمع البشري كائنة ما كانت من آثار النبوة الحسنة كما تكررت الإشارة إليه في المباحث المتقدمة ، فلإبراهيم عليه‌السلام الأيادي الجميلة على جميع البشر اليوم علموا بذلك أو جهلوا.

٤ ـ ما تقصه التوراة الموجودة في إبراهيم : قالت التوراة : وعاش تارح ( أبو إبراهيم ) سبعين سنة ـ وولد أبرام وناحور وهاران ، وهذه مواليد تارح : ولد تارح أبرام وناحور وهاران ، وولد هاران لوطا ، ومات هاران قبل أبيه في أرض ميلاده ـ في « أور » الكلدانيين ـ واتخذ أبرام وناحور لأنفسهما امرأتين ـ اسم امرأة أبرام « ساراي » واسم امرأة ناحور ملكة بنت هاران ـ أبي ملكة وأبي بسكة ، وكانت ساراي عاقرا ليس لها ولد وأخذ تارح أبرام ابنه ولوطا بن هاران ابن ابنه ، وساراي كنته امرأة أبرام ابنه ـ فخرجوا معا من أور الكلدانيين ـ ليذهبوا إلى أرض كنعان ـ فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك ، وكانت أيام تارح مائتين وخمس سنين ، ومات تارح في حاران.

قالت التوراة : وقال الرب لأبرام : اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت

__________________

(١) رواها في مجمع البيان نقلا عن تفسير القمي.

٢١٩

أبيك ـ إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة ـ وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة ـ وأبارك مباركيك ، ولاعنك ألعنه ، ويتبارك فيك جميع قبائل الأرض ، فذهب أبرام كما قال له الرب ، وذهب معه لوط ، وكان أبرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران فأخذ أبرام ساراي امرأته ولوطا ابن أخيه ـ وكل مقتنياتهما التي اقتنيا ـ والنفوس التي امتلكا في حاران ، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان ـ فأتوا إلى أرض كنعان.

واجتاز أبرام في أرض إلى مكان « شكيم » إلى « بلوطة مورة » وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض ، وظهر الرب لأبرام وقال : لنسلك أعطى هذه الأرض ـ فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له ، ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي « بيت إيل » ونصبت خيمته وله « بيت إيل » من المغرب ـ و « عاي » من المشرق ـ فبنى هناك مذبحا للرب ودعا باسم الرب ، ثم ارتحل أبرام ارتحالا متواليا نحو الجنوب.

وحدث جوع في الأرض ـ فانحدر أبرام إلى مصر ليغرب هناك ـ لأن الجوع في الأرض كان شديدا ، وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته : إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر ـ فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون : هذه امرأته فيقتلونني ويستبقونك ، قولي : إنك أختي ليكون لي خير بسببك ـ وتحيا نفسي من أجلك ، فحدث لما دخل أبرام إلى مصر ـ أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا ـ ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون ـ فأخذت المرأة إلى بيت فرعون ـ فصنع إلى أبرام خيرا بسببها ـ وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال.

فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة ـ بسبب ساراي امرأة أبرام ـ فدعا فرعون أبرام وقال : ما هذا الذي صنعت لي؟ لما ذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لما ذا قلت : هي أختي أخذتها لتكون زوجتي؟ والآن هو ذا امرأتك خذها واذهب ، فأوصى عليه رجالا فشيعوه وامرأته وكل ما كان له.

ثم ذكرت التوراة : أن أبرام خرج من مصر ومعه ساراي ولوط ـ ومعهم الأغنام والخدم والأموال العظيمة ـ ووردوا « بيت إيل » المحل الذي كانت فيه خيمته مضروبة ـ بين « بيت إيل » و « عاي » ثم بعد حين تفرق هو ولوط لأن الأرض ما كانت تسعهما ـ فسكن أبرام كنعان ، وكان الكنعانيون والفرزيون ساكنون هناك ، ونزل لوط أرض سدوم.

٢٢٠