الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

وزهادا ، وأنهم لا يستكبرون وذلك مفتاح تهيؤهم للسعادة.

وذلك أن سعادة حياة الدين أن تقوم بصالح العمل عن علم به ، وإن شئت فقل : إن يذعن بالحق فيطبق عمله عليه ؛ فله حاجة إلى العلم ليدرك به حق الدين وهو دين الحق ، ومجرد إدراك الحق لا يكفي للتهيؤ للعمل على طبقه حتى ينتزع الإنسان من نفسه الهيئة المانعة عنه ، وهو الاستكبار عن الحق بعصبية وما يشابهها ، وإذا تلبس الإنسان بالعلم النافع والنصفة في جنب الحق برفع الاستكبار تهيأ للخضوع للحق بالعمل به لكن بشرط عدم منافاة الجو لذلك فإن لموافقة الجو للعمل تأثيرا عظيما في باب الأعمال فإن الأعمال التي يعتورها عامة المجتمع وينمو عليها أفراده ، وتستقر عليهم عادتهم خلفا عن سلف لا يبقى للنفس فراغ أن تتفكر في أمرها أو تتدبر وتدبر في التخلص عنها إذا كانت ضارة مفسدة للسعادة ، وكذلك الحال في الأعمال الصالحة إذا استقر التلبس بها في مجتمع يصعب على النفس تركها ، ولذا قيل : إن العادة طبيعة ثانية ، ولذا كان أيضا أول فعل مخالف حرجا على النفس في الغاية وهو عند النفس دليل على الإمكان ، ثم لا يزال كلما تحقق فعل زاد في سهولة التحقق ونقص بقدره من صعوبته.

فإذا تحقق الإنسان أن عملا كذا حق صالح ونزع عن نفسه أغراض العناد واللجاج بإماتة الاستكبار والاستعلاء على الحق كان من العون كل العون على إتيانه أن يرى إنسانا يرتكبه فتتلقى نفسه إمكان العمل.

ومن هنا يظهر أن المجتمع إنما يتهيأ لقبول الحق إذا اشتمل على علماء يعلمونه ويعلمونه ، وعلى رجال يقومون بالعمل به حتى يذعن العامة بإمكان العمل ويشاهدوا حسنه ، وعلى اعتياد عامتهم على الخضوع للحق وعدم الاستكبار عنه إذا انكشف لهم.

ولهذا علل الله سبحانه قرب النصارى من قبول الدعوة الحقة الدينية بأن فيهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ؛ ففيهم علماء لا يزالون يذكرونهم مقام الحق ومعارف الدين قولا ، وفيهم زهاد يذكرونهم عظمة ربهم وأهمية سعادتهم الأخروية والدنيوية عملا ، وفيهم عدم الاستكبار عن قبول الحق.

وأما اليهود فإنهم وإن كان فيهم أحبار علماء لكنهم مستكبرون لا تدعهم رذيلة

٨١

العناد والاستعلاء أن يتهيئوا لقبول الحق.

وأما الذين أشركوا فإنهم يفقدون العلماء والزهاد ، وفيهم رذيلة الاستكبار.

قوله تعالى : « وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ » « إلخ » ، فاضت العين بالدمع سال دمعها بكثرة ، و (مِنَ) في قوله : « مِنَ الدَّمْعِ » للابتداء ، وفي قوله : « مِمَّا » للنشوء ، وفي قوله : « مِنَ الْحَقِّ » بيانية.

قوله تعالى : « وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ » « إلخ » ، لفظة « يُدْخِلَنا » كأنها مضمنة معنى الجعل ، ولذلك عدي بمع ، والمعنى : يجعلنا ربنا مع القوم الصالحين مدخلا لنا فيهم.

وفي هذه الأفعال والأقوال التي حكاها الله تعالى عنهم تصديق ما ذكره عنهم أنهم أقرب مودة للذين آمنوا ، وتحقيق أن فيهم العلم النافع والعمل الصالح والخضوع للحق حيث كان فيهم قسيسون ورهبان وهم لا يستكبرون.

قوله تعالى : « فَأَثابَهُمُ اللهُ » إلى آخر الآيتين ، « الإثابة » المجازاة ، والآية الأولى ذكر جزائهم ، والآية الثانية فيها ذكر جزاء من خالفهم على طريق المقابلة استيفاء للأقسام.

(بحث روائي)

في معاني الأخبار ، بإسناده عن الرضا عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام : في قوله تعالى : « كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ » ـ معناه أنهما كانا يتغوطان.

أقول : ورواه العياشي في تفسيره مرفوعا.

وفي الكافي ، بإسناده عن أبي عبيدة الحذاء ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله عز وجل : « لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ـ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ » ـ قال : الخنازير على لسان داود ، والقردة على لسان عيسى بن مريم.

أقول : ورواه القمي والعياشي عنه (ع) ، وروي بطرق أهل السنة عن مجاهد وقتادة وغيرهما : لعن القردة على لسان داود ، والخنازير على لسان عيسى بن مريم ، ويوافقه بعض روايات الشيعة كما يأتي.

٨٢

وفي المجمع ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : أما داود فإنه لعن أهل أيلة لما اعتدوا في سبتهم ، وكان اعتداؤهم في زمانه فقال : اللهم ألبسهم اللعنة مثل الرداء ، ومثل المنطقة على الخصرين ؛ فمسخهم الله قردة ، وأما عيسى فإنه لعن الذين نزلت عليهم المائدة ـ ثم كفروا بعد ذلك ، قال : فقال أبو جعفر عليه‌السلام : يتولون الملوك الجبارين ، ويزينون لهم هواهم ليصيبوا من دنياهم.

أقول : والقرآن يؤيد كون أصحاب السبت ممسوخين إلى القردة قال تعالى : « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ » : البقرة : ٥٦ وقال تعالى : « (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ـ إلى أن قال ـ وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ـ إلى أن قال ـ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) » : الأعراف : ١٦٦.

وفي الدر المنثور ، : أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن بني إسرائيل لما عملوا الخطيئة ـ نهاهم علماؤهم تعزيرا ـ ثم جالسوهم وآكلوهم وشاربوهم ـ كأن لم يعملوا بالأمس خطيئة ؛ فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ، ولعنهم على لسان نبي من الأنبياء ، ثم (قال ،) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : والله لتأمرن بالمعروف ، ولتنهن عن المنكر ، ولتأطرنهم على الحق أطرا ـ أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ـ وليلعننكم كما لعنهم.

وفيه ، : أخرج عبد بن حميد عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خذوا العطاء ما كان عطاء ـ فإذا كان رشوة عن دينكم فلا تأخذوا ـ ولن تتركوه يمنعكم من ذلك الفقر والمخافة ـ أن بني يأجوج قد جاءوا ، وإن رحى الإسلام سيدور ـ فحيثما دار القرآن فدوروا به ، يوشك السلطان والقرآن أن يقتتلا ويتفرقا ؛ أنه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم ولهم بغيره ـ فإن أطعتموهم أضلوكم ، وإن عصيتموهم قتلوكم.

قالوا : يا رسول الله كيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قال : تكونوا كأصحاب عيسى نشروا بالمناشير ، ورفعوا على الخشب ، موت في طاعة خير من حياة في معصية ـ إن أول ما نقص في بني إسرائيل ـ أنهم كانوا يأمرون بالمعروف ـ وينهون عن المنكر سنة

٨٣

التعزير ـ فكان أحدهم إذا لقي صاحبه الذي كان يعيب عليه ـ آكله وشاربه وكأنه لم يعب عليه شيئا ـ فلعنهم الله على لسان داود ، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.

والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ـ ولتنهن عن المنكر ـ أو ليسلطن الله عليكم شراركم ؛ ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لكم.

والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم فلتأطرنه عليه أطرا ـ أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض.

وفيه ، أيضا : أخرج ابن راهويه والبخاري في الوحدانيات ، وابن السكن وابن مندة والباوردي في معرفة الصحابة ، والطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن أبزى ، عن أبيه :

قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فحمد الله وأثنى عليه ـ ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيرا ، ثم قال : ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يفقهونهم ، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ـ ولا يتفقهون ولا يتفطنون؟ والذي نفسي بيده ليعلمن (جيرانهم ،) أو ليتفقهن أو ليتفطنن أو لأعاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا ، ثم نزل ودخل بيته فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من يعني بهذا الكلام؟ قالوا : ما نعلم يعني بهذا الكلام إلا الأشعريين فقهاء علماء ، ولهم جيران جفاة جهلة.

فاجتمع جماعة من الأشعريين فدخلوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقالوا : ذكرت طوائف من المسلمين بخير ـ وذكرتنا بشر فما بالنا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لتعلمن جيرانكم ـ ولتفقهنهم ولتأمرنهم ولتنهنهم ـ أو لأعاجلنكم بالعقوبة في دار الدنيا ، فقالوا : يا رسول الله فأمهلنا سنة ـ ففي سنة ما نعلمهم ويتعلمون فأمهلهم سنة ـ ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ـ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ـ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ، كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ».

وفي تفسير العياشي ، عن محمد بن الهيثم التميمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله : « كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ـ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ » ، قال : أما إنهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ـ ولا يجالسون مجالسهم ـ ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم

٨٤

وأنسوا بهم.

وفيه ، أيضا : عن مروان ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : ذكر النصارى وعداوتهم فقال : قول الله : « ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ » ، قال : أولئك كانوا قوما بين عيسى ومحمد ـ ينتظرون مجيء محمد ص.

أقول : ظاهر الآية العموم دون الخصوص ، ولعل المراد أن المدح إنما هو لهم ما لم يغيروا كما أن الذي مدح الله به المسلمين كذلك.

وفي الدر المنثور ، : أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير : في قوله : « ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً » ـ قال : هم رسل النجاشي ـ الذين أرسل بإسلامه إسلام قومه ؛ كانوا سبعين رجلا ـ اختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه والسن.

وفي لفظ : بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثين رجلا ـ فلما أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخلوا عليه ـ فقرأ عليهم سورة « يس » فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق.

فأنزل الله فيهم : « ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً ، الآية » ونزلت هذه الآية فيهم أيضا : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله ـ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ».

وفيه ، : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بمكة ـ يخاف على أصحابه من المشركين ـ فبعث جعفر بن أبي طالب ـ وابن مسعود وعثمان بن مظعون ـ في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة.

فلما بلغ المشركين ـ بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ، ذكروا أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى النجاشي ـ فقالوا : إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها ؛ زعم أنه نبي ، وأنه بعث إليك رهطا ـ ليفسدوا عليك قومك ـ فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم.

قال : إن جاءوني نظرت فيما يقولون ، فلما قدم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فأتوا

٨٥

إلى باب النجاشي ـ فقالوا : استأذن لأولياء الله ـ فقال : ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله ـ فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال الرهط من المشركين : ألم تر أيها الملك أنا صدقناك ، وأنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها؟ فقال لهم : ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي؟ قالوا : إنا حييناك ـ بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة.

فقال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قالوا : يقول : عبد الله ورسوله ـ وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم ، ويقول في مريم : أنها العذراء الطيبة البتول ؛ قال : فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود ، فكره المشركون قوله وتغير له وجوههم.

فقال : هل تقرءون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا : نعم ، قال : فاقرءوا ـ فقرءوا ـ وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى ـ فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان ـ كلما قرءوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق ـ قال الله : « ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً ـ وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ، وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ـ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ».

أقول : وروى القمي في تفسيره ، : القصة مفصلة في خبر طويل ، وفي آخره : ورجعوا إلى النجاشي ـ فأخبروه خبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقرءوا عليه ما قرأ عليهم ـ فبكى النجاشي وبكى القسيسون ، وأسلم النجاشي ولم يظهر للحبشة إسلامه ، وخافهم على نفسه فخرج من بلاد الحبشة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فلما عبر البحر توفي ، الحديث ـ.

(كلام في معنى التوحيد في القرآن)

لا يرتاب الباحث المتعمق في المعارف الكلية أن مسألة التوحيد من أبعدها غورا ، وأصعبها تصورا وإدراكا ، وأعضلها حلا لارتفاع كعبها عن المسائل العامة العامية التي تتناولها الأفهام ، والقضايا المتداولة التي تألفها النفوس ، وتعرفها القلوب.

وما هذا شأنه تختلف العقول في إدراكه والتصديق به للتنوع الفكري الذي فطر عليه الإنسان من اختلاف أفراده من جهة البنية الجسمية وأداء ذلك إلى اختلاف أعضاء الإدراك في أعمالها ثم تأثير ذلك الفهم والتعقل من حيث الحدة والبلادة ،

٨٦

والجودة والرداءة ، والاستقامة والانحراف.

فهذا كله مما لا شك فيه ، وقد قرر القرآن هذا الاختلاف في موارد من آياته الكريمة كقوله تعالى : « هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ » : الزمر : ٩ ، وقوله تعالى : « فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ » : النجم : ٣٠ ، وقوله تعالى : « فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً » : النساء : ٨٧ ، وقوله تعالى في ذيل الآية ٧٥ من المائدة (وهي من جملة الآيات التي نحن فيها) : « انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ».

ومن أظهر مصاديق هذا الاختلاف الفهمي اختلاف أفهام الناس في تلقي معنى توحده تعالى لما في أفهامهم من الاختلاف العظيم والنوسان الوسيع في تقرير مسألة وجوده تعالى على ما بينهم من الاتفاق على ما تعطيه الفطرة الإنسانية بإلهامها الخفي وإشارتها الدقيقة.

فقد بلغ فهم آحاد من الإنسان في ذلك أن جعل الأوثان المتخذة ، والأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة حتى من نحو الأقط والطينة المعمولة من أبوال الغنم شركاء لله ، وقرناء له ، يعبد كما تعبد هؤلاء ، ويسأل كما تسأل هؤلاء ، ويخضع له كما يخضع لها ، ولم يلبث هذا الإنسان دون أن غلب هذه الأصنام عليه تعالى بزعمه ، وأقبل عليها وتركه ، وأمرها على حوائجه وعزله.

فهذا الإنسان قصارى ما يراه من الوجود له تعالى هو مثل ما يراه لآلهته التي خلقها بيده ، أو خلقها إنسان مثله بيده ، ولذلك كانوا يثبتون له تعالى من صفة الوحدة مثل ما يصفون به كل واحد من أصنامهم ، وهي الوحدة العددية التي تتألف منها الأعداد ، قال تعالى : « (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) : ص : ٦.

فهؤلاء كانوا يتلقون الدعوة القرآنية إلى التوحيد دعوة إلى القول بالوحدة العددية التي تقابل الكثرة العددية كقوله تعالى : « وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » : البقرة : ١٦٣ وقوله تعالى : « هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ »

٨٧

: المؤمن : ٦٥ وغير ذلك من الآيات الداعية إلى رفض الآلهة الكثيرة ، وتوجيه الوجه لله الواحد ، وقوله تعالى : « وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ » : العنكبوت : ٤٦ وغيره من الآيات الداعية إلى رفض التفرق في العبادة للإله ، حيث كانت كل أمة أو طائفة أو قبيلة تتخذ إلها تختص به ، ولا تخضع لإله الآخرين.

والقرآن ينفي في عالي تعليمه الوحدة العددية عن الإله جل ذكره ، فإن هذه الوحدة لا تتم إلا بتميز هذا الواحد من ذلك الواحد بالمحدودية التي تقهره ، والمقدرية التي تغلبه ، مثال ذلك ماء الحوض إذا فرقناه في آنية كثيرة كان ماء كل إناء ماء واحدا غير الماء الواحد الذي في الإناء الآخر ، وإنما صار ماء واحدا يتميز عما في الآخر لكون ما في الآخر مسلوبا عنه غير مجتمع معه ، وكذلك هذا الإنسان إنما صار إنسانا واحدا لأنه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر ، ولو لا ذلك لم يأت للإنسانية الصادقة على هذا وذاك أن تكون واحدة بالعدد ولا كثيرة بالعدد.

فمحمودية الوجود هي التي تقهر الواحد العددي على أن يكون واحدا ثم بانسلاب هذه الوحدة من بعض الجهات تتألف كثرة عددية كما عنده عروض صفة الاجتماع بوجه.

وإذ كان الله سبحانه قاهرا غير مقهور ، وغالبا لا يغلبه شيء البتة كما يعطيه التعليم القرآني لم تتصور في حقه وحدة عددية ولا كثرة عددية ، قال تعالى : « وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » : الرعد : ١٦ ، وقال : « أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ » : يوسف : ٤٠ ، وقال : « وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » : ص : ٦٥ ، وقال : « لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » : الزمر : ٤.

والآيات بسياقها ـ كما ترى ـ تنفي كل وحدة مضافة إلى كثرة مقابلة لها سواء كانت وحدة عددية كالفرد الواحد من النوع الذي لو فرض بإزائه فرد آخر كانا اثنين فإن هذا الفرد مقهور بالحد الذي يحده به الفرد الآخر المسلوب عنه المفروض قباله ، أو كانت وحدة نوعية أو جنسية أو أي وحدة كلية مضافة إلى كثرة من سنخها كالإنسان الذي هو نوع واحد مضاف إلى الأنواع الكثيرة الحاصلة منه ومن الفرس والبقر والغنم وغيرها فإنه مقهور بالحد الذي يحده به ما يناظره من الأنواع الآخر ، وإذ كان

٨٨

تعالى لا يقهره شيء في شيء البتة من ذاته ولا صفته ولا فعله وهو القاهر فوق كل شيء فليس بمحدود في شيء يرجع إليه ، فهو موجود لا يشوبه عدم ، وحق لا يعرضه بطلان ، وهو الحي لا يخالطه موت ، والعليم لا يدب إليه جهل ، والقادر لا يغلبه عجز ، والمالك والملك من غير أن يملك منه شيء والعزيز الذي لا ذل له ، وهكذا.

فله تعالى من كل كمال محضه ، وإن شئت زيادة تفهم وتفقه لهذه الحقيقة القرآنية فافرض أمرا متناهيا وآخر غير متناه تجد غير المتناهي محيطا بالمتناهي بحيث لا يدفعه المتناهي عن كماله المفروض أي دفع ، فرضته بل غير المتناهي مسيطر عليه بحيث لا يفقده المتناهي في شيء من أركان كماله ، وغير المتناهي هو القائم على نفسه ، الشهيد عليه ، المحيط به ، ثم انظر في ذلك إلى ما يفيده قوله تعالى : « أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ » : حم السجدة : ٥٤.

وهذا هو الذي يدل عليه عامة الآيات الواصفة لصفاته تعالى الواقعة في سياق الحصر أو الظاهر فيه كقوله تعالى : « اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى » : طه : ٨ ، وقوله : « وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ » : النور : ٢٥ ، وقوله : « هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » : المؤمن : ٦٥ ، وقوله : « وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ » : الروم : ٥٤ ، وقوله : « أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً » : البقرة : ١٦٥ ، وقوله : « لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ » : التغابن : ١ ، وقوله : « إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً » : يونس : ٦٥ ، وقوله : « الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ » : البقرة : ١٤٧ ، وقوله : « أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ » : فاطر : ١٥ ، إلى غير ذلك من الآيات.

فالآيات ـ كما ترى ـ تنادي بأعلى صوتها أن كل كمال مفروض فهو لله سبحانه بالأصالة ، وليس لغيره شيء إلا بتمليكه تعالى له ذلك من غير أن ينعزل عما يملكه ويملكه كما ننعزل نحن معاشر الخليقة عما ملكناه غيرنا.

فكلما فرضنا شيئا من الأشياء ذا شيء من الكمال في قباله تعالى ليكون ثانيا له وشريكا عاد ما بيده من معنى الكمال لله سبحانه محضا ، وهو الحق الذي يملك كل شيء ، وغيره الباطل الذي لا يملك لنفسه شيئا قال تعالى : « لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً » : الفرقان : ٣.

وهذا المعنى هو الذي ينفي عنه تعالى الوحدة العددية إذ لو كان واحدا عدديا

٨٩

أي موجودا محدودا منعزل الذات عن الإحاطة بغيره من الموجودات صح للعقل أن يفرض مثله الثاني له سواء كان جائز التحقق في الخارج أو غير جائز التحقق ، وصح عند العقل أن يتصف بالكثرة بالنظر إلى نفسه وإن فرض امتناعه في الواقع ، وليس كذلك.

فهو تعالى واحد بمعنى أنه من الوجود بحيث لا يحد بحد حتى يمكن فرض ثان له فيما وراء ذلك الحد وهذا معنى قوله تعالى : « قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ » : سورة التوحيد ـ ٤ فإن لفظ أحد إنما يستعمل استعمالا يدفع إمكان فرض العدد في قباله يقال : « ما جاءني أحد » وينفي به أن يكون قد جاء الواحد وكذا الاثنان والأكثر وقال تعالى : « وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ » : التوبة : ٦ فشمل الواحد والاثنين والجماعة ولم يخرج عن حكمه عدد ، وقال تعالى : « أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ » فشمل الواحد وما وراءه ، ولم يشذ منه شاذ.

فاستعمال لفظ أحد في قوله : « هُوَ اللهُ أَحَدٌ » في الإثبات من غير نفي ولا تقييد بإضافة أو وصف يفيد أن هويته تعالى بحيث يدفع فرض من يماثله في هويته بوجه سواء كان واحدا أو كثيرا فهو محال بحسب الفرض الصحيح مع قطع النظر عن حاله بحسب الخارج.

ولذلك وصفه تعالى أولا بأنه صمد ، وهو المصمت الذي لا جوف له ولا مكان خاليا فيه ، وثانيا بأنه لم يلد ، وثالثا بأنه لم يولد ، ورابعا بأنه لم يكن له كفوا أحد ، وكل هذه الأوصاف مما يستلزم نوعا من المحدودية والانعزال.

وهذا هو السر في عدم وقوع توصيفات غيره تعالى عليه حق الوقوع والاتصاف قال تعالى : « سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ » : الصافات : ١٦٠ ، وقال تعالى : « وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً » : طه : ١١٠ ، فإن المعاني الكمالية التي نصفه تعالى بها أوصاف محدودة ، وجلت ساحته سبحانه عن الحد والقيد ، وهو الذي يرومه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلمته المشهورة : لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ».

وهذا المعنى من الوحدة هو الذي يدفع به تثليث النصارى فإنهم موحدون في عين التثليث لكن الذي يذعنون به من الوحدة وحدة عددية لا تنفي الكثرة من جهة أخرى فهم يقولون : إن الأقانيم (الأب والابن والروح) (الذات والعلم والحياة) ثلاثة وهي واحدة كالإنسان الحي العالم فهو شيء واحد لأنه إنسان حي عالم وهو ثلاثة لأنه إنسان وحياة وعلم.

٩٠

لكن التعليم القرآني ينفي ذلك لأنه يثبت من الوحدة ما لا يستقيم معه فرض أي كثرة وتمايز لا في الذات ولا في الصفات ، وكل ما فرض من شيء في هذا الباب كان عين الآخر لعدم الحد فذاته تعالى عين صفاته ، وكل صفة مفروضة له عين الأخرى ، تعالى الله عما يشركون ، وسبحانه عما يصفون.

ولذلك ترى أن الآيات التي تنعته تعالى بالقهارية تبدأ أولا بنعت الوحدة ثم تصفه بالقهارية لتدل على أن وحدته لا تدع لفارض مجال أن يفرض له ثانيا مماثلا بوجه فضلا عن أن يظهر في الوجود ، وينال الواقعية والثبوت ، قال تعالى : « أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ » : يوسف : ٤٠ ، فوصفه بوحدة قاهرة لكل شريك مفروض لا تبقى لغيره تعالى من كل معبود مفروض إلا الاسم فقط ، وقال تعالى : « أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » : الرعد : ١٦ ، قال تعالى : « لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ » : المؤمن : ١٦ ، إذ ملكه تعالى المطلق لا يخلي مالكا مفروضا غيره دون أن يجعله نفسه وما يملكه ملكا لله سبحانه ، وقال تعالى : « (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) : ص : ٦٥ ، وقال تعالى : « لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » : الزمر : ٤ ، فرتب القهارية في جميع الآيات على صفة الوحدة.

(بحث روائي)

في التوحيد ، والخصال ، بإسناده عن المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه قال : إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين أتقول : إن الله واحد؟ قال : فحمل الناس عليه وقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين ـ من تقسم القلب؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : دعوه ـ فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم!.

ثم قال : يا أعرابي ـ إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل ، ووجهان يثبتان فيه ؛ فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في

٩١

باب الأعداد ـ أما ترى أنه كفر من قال : إنه ثالث ثلاثة؟ وقول القائل : هو واحد من الناس ـ يريد به النوع من الجنس ـ فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه ، وجل ربنا وتعالى عن ذلك.

وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربنا ، وقول القائل : إنه عز وجل أحدي المعنى ـ يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربنا عز وجل.

أقول:ورواه أيضا في المعاني،بسند آخرعن أبي المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه عنه (ع). وفي النهج ، : أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ـ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ، ومن ثناه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حده ، ومن حده فقد عده (الخطبة).

أقول : وهو من أبدع البيان ، ومحصل الشطر الأول من الكلام أن معرفته تنتهي في استكمالها إلى نفي الصفات عنه ، ومحصل الشطر الثاني المتفرع على الشطر الأول ـ أعني قوله عليه‌السلام : فمن وصف الله فقد قرنه (إلخ) ـ أن إثبات الصفات يستلزم إثبات الوحدة العددية المتوقفة على التحديد غير الجائز عليه تعالى ، وتنتج المقدمتان أن كمال معرفته تعالى يستوجب نفي الوحدة العددية منه ، وإثبات الوحدة بمعنى آخر ، وهو مراده عليه‌السلام من سرد الكلام.

أما مسألة نفي الصفات عنه فقد بينه عليه‌السلام : « بقوله أول الدين معرفته » لظهور أن من لم يعرف الله سبحانه ولو بوجه لم يحل بعد في ساحة الدين ، والمعرفة ربما كانت مع عمل بما يرتبط به من الأفعال وترتب آثار المعروف ، وربما كانت من غير عمل ، ومن المعلوم أن العلم فيما يتعلق نوع تعلق بالأعمال إنما يثبت ويستقر في النفس إذا ترتب عليه آثاره العملية ، وإلا فلا يزال العلم يضعف بإتيان الأعمال المخالفة حتى يبطل أو يصير سدى لا أثر له ، ومن كلامه عليه‌السلام في هذا الباب ـ وقد رواه في النهج ـ : « العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل ، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه.

٩٢

فالعلم والمعرفة بالشيء إنما يكمل إذا أخذ العارف معروفه صدقا ، وأظهر ذلك في باطنه وظاهره ، وجنانه وأركانه بأن يخضع له روحا وجسما ، وهو الإيمان المنبسط على سره وعلانيته ، وهو قوله : « وكمال معرفته التصديق به ».

ثم هذا الخضوع المسمى بالتصديق به وإن جاز تحققه مع إثبات الشريك للرب المخضوع له كما يخضع عبدة الأصنام لله ولسائر آلهتهم جميعا لكن الخضوع بشيء لا يتم من غير انصراف عن غيره بالبداهة ، فالخضوع لواحد من الآلهة في معنى الإعراض عن غيره والاستكبار في الجملة عنه فلا يكمل التصديق بالله والخضوع لمقامه إلا بالإعراض عن عبادة الشركاء ، والانصراف عن دعوة الآلهة الكثيرة ، وهو قوله : « وكمال التصديق به توحيده ».

ثم إن للتوحيد مراتب مختلفة بعضها فوق بعض ، ولا يكمل حتى يعطى الإله الواحد حقه من الألوهية المنحصرة ، ولا يقتصر على مجرد تسميته إلها واحدا بل ينسب إليه كل ما له نصيب من الوجود والكمال كالخلق والرزق والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، وأن يخص الخضوع والعبادة به فلا يتذلل لغيره بوجه من الوجوه بل لا يرجى إلا رحمته ، ولا يخاف إلا سخطه ، ولا يطمع إلا فيما عنده ، ولا يعكف إلا على بابه.

وبعبارة أخرى أن يخلص له علما وعملا ، وهو قوله عليه‌السلام : « وكمال توحيده الإخلاص له ».

وإذا استوى الإنسان على أريكة الإخلاص ، وضمته العناية الإلهية إلى أولياء الله المقربين لاحت على بصيرته لوائح العجز عن القيام بحق المعرفة ، وتوصيفه بما يليق بساحة كبريائه وعظمته فإنه ربما شاهد أن الذي يصفه تعالى به معان مدركة مما بين يديه من الأشياء المصنوعة ، وأمور ألفها من مشهوداته الممكنة ، وهي صور محدودة مقيدة يدفع بعضها بعضا ، ولا تقبل الائتلاف والامتزاج ، انظر إلى مفاهيم الوجود والعلم والقدرة والحياة والرزق والعزة والغنى وغيرها.

والمعاني المحدودة يدفع بعضها بعضا لظهور كون كل مفهوم خلوا عن المفهوم الآخر كمعنى العلم عن معنى القدرة فإنا حين ما نتصور العلم نصرف عن القدرة فلا نجد معناها في معنى العلم ، وإذا تصورنا معنى العلم وهو وصف من الأوصاف ننعزل عن

٩٣

معنى الذات وهو الموصوف.

فهذه المفاهيم والعلوم والإدراكات تقصر عن الانطباق عليه جل شأنه حق الانطباق ، وعن حكاية ما هو عليه حق الحكاية ؛ فتمس حاجة المخلص في وصفه ربه إلى أن يعترف بنقص لا علاج له ، وعجز لا جابر دونه ؛ فيعود فينفي ما أثبته ، ويتيه في حيرة لا مخلص منها ، وهو قوله عليه‌السلام : « وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ـ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنها غير الصفة ».

وهذا الذي فسرنا به هذا العقد من كلامه عليه‌السلام هو الذي يؤيده أول الخطبة حيث يقول : « الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن ، الذي ليس لصفته حد محدود ، ولا نعت موجود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود » على ما يظهر للمتأمل الفطن.

وأما قوله عليه‌السلام : « فمن وصف الله فقد قرنه » (إلخ) ، فهو توصل منه إلى المطلوب ـ وهو أن الله سبحانه لا حد له ولا عد ـ من طريق تحليل إثبات الوصف كما كان البيان الأول توصلا منه من طريق تحليل المعرفة إلى نفي الوصف.

فمن وصف الله فقد قرنه لما عرفت من المغايرة بين الموصوف والصفة ، والجمع بين المتغارين قرن ، ومن قرنه فقد ثناه لأخذه إياه موصوفا وصفة وهما اثنان ، ومن ثناه فقد جزأه إلى جزءين ، ومن جزأه فقد جهله بالإشارة إليه إشارة عقلية ، ومن أشار إليه فقد حده لكون الإشارة مستلزمة لانفصال المشار إليه عن المشير حتى تتوسط بينهما الإشارة التي هي إيجاد بعد ما بين المشير والمشار إليه ـ يبتدئ من الأول وينتهي إلى الثاني ـ « ومن حده فقد عده » وجعله واحدا عدديا لأن العدد لازم الانقسام والانعزال الوجودي تعالى الله عن ذلك.

وفي النهج : من خطبة له عليه‌السلام : « الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا ـ فيكون أولا قبل أن يكون آخرا ، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا ، كل مسمى بالوحدة غيره قليل ، وكل عزيز غيره ذليل ، وكل قوي غيره ضعيف ، وكل مالك غيره مملوك ، وكل عالم غيره متعلم ، وكل قادر غيره يقدر ويعجز ، وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات ويصمه كبيرها ـ ويذهب عنه ما بعد منها ، وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام ، وكل ظاهر غيره باطن ، وكل باطن غيره ظاهر ».

٩٤

أقول : بناء البيان على كونه تعالى غير محدود وكون غيره محدودا فإن هذه المعاني والنعوت وكل ما كان من قبيلها إذا طرأ عليها الحد كانت لها إضافة ما إلى غيرها ، ويستوجب التحدد حينئذ أن تنقطع وتزول عما أضيفت إليه ، وتتبدل إلى ما يقابلها من المعنى.

فالظهور إذا فرض محدودا كان بالنسبة إلى جهة أو إلى شيء دون جهة أخرى وشيء آخر ، وصار الأمر الظاهر باطنا خفيا بالنسبة إلى تلك الجهة الأخرى والشيء الآخر ، والعزة إذا أخذت بحد بطلت فيما وراء حدها فكانت ذلة بالنسبة إليه ، والقوة إذا كانت مقيدة تبدلت بالنسبة إلى ما وراء قيدها ضعفا ، والظهور بطون في غير محله ، والبطون ظهور في الخارج عن مستواه.

والملك إذا كان محدودا كان من يحده مهيمنا على هذا المالك ؛ فهو وملكه تحت ملك غيره ، والعلم إذا كان محدودا لم يكن من صاحبه لأن الشيء لا يحد نفسه ، فكان بإفاضة الغير وتعليمه ، وهكذا.

والدليل على أنه عليه‌السلام بنى بيانه على معنى الحد قوله : « وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات » (إلخ) ، فإنه وما بعده ظاهر في الإشارة إلى محدودية المخلوقات ، والسياق واحد.

وأما قوله عليه‌السلام : « وكل مسمى بالوحدة غيره قليل » ـ والجملة هي المقصودة من نقل الخطبة ـ فبناؤه على معنى الحد ظاهر فإن الوحدة العددية المتفرعة على محدودية المسمى بالواحد لازمة تقسم المعنى وتكثره ، وكلما زاد التقسم والتكثر أمعن الواحد في القلة والضعف بالنسبة إلى الكثرة الحادثة ، فكل واحد عددي فهو قليل بالنسبة إلى الكثير الذي بإزائه ولو بالفرض.

وأما الواحد الذي لا حد لمعناه ولا نهاية له فلا يحتمل فرض الكثرة لعدم احتماله طرو الحد وعروض التميز ولا يشذ عن وجوده شيء من معناه حتى يكثره ويقوى بضمه ، ويقل ويضعف بعزله ، بل كلما فرض له ثان في معناه فإذا هو هو.

وفي النهج ، : ومن خطبة له عليه‌السلام : « الحمد لله الدال على وجوده بخلقه ، وبمحدث خلقه على أزليته ، وباشتباههم على أن لا شبه له ، لا يستلمه المشاعر ، ولا يحجبه السواتر ـ

٩٥

لافتراق الصانع والمصنوع ، والحاد والمحدود ، والرب والمربوب ، الأحد لا بتأويل عدد ، والخالق لا بمعنى حركة ونصب ، والسميع لا بأداة ، والبصير لا بتفريق آلة ، والشاهد لا بمماسة ، والبائن لا بتراخي مسافة ، والظاهر لا برؤية ، والباطن لا بلطافة ؛ بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه ، من وصفه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن عده فقد أبطل أزله ».

أقول : أول كلامه عليه‌السلام مبني على أن جميع المعاني والصفات المشهودة في الممكنات أمور محدودة لا تتم إلا بحاد يحدها وصانع يصنعها ، ورب يربها ، وهو الله سبحانه ، وإذ كان الحد من صنعه فهو متأخر عنه غير لازم له ، فقد تنزهت ساحة كبريائه عن هذه الحدود.

وإذا كان كذلك كان ما يوصف به من الصفات غير محدود بحد ـ وإن كان لفظنا قاصرا عنه ، والمعنى غير واف به ـ فهو تعالى أحد لا بتأويل عدد يقضي بالمحدودية ، وعلى هذا النهج خلقه وسمعه وبصره وشهوده وغير ذلك.

ومن فروع ذلك أن بينونته من خلقه ليس بمعنى الانفصال والانعزال تعالى عن الاتصال والانفصال ، والحلول والانعزال ، بل بمعنى قهره لها وقدرته عليها ، وخضوعهم ورجوعهم إليه.

وقوله عليه‌السلام : « من وصفه فقد حده ومن حده ، فقد عده ـ ومن عده ، فقد أبطل أزله » فرع على إثبات الوحدة العددية إبطال الأزل لأن حقيقة الأزل كونه تعالى غير متناه في ذاته وصفاته ولا محدود فإذا اعتبر من حيث إنه غير مسبوق بشيء يتقدم عليه كان هو أزله ، وإذا اعتبر من حيث إنه غير ملحوق بشيء يتأخر عنه كان هو أبده ، وربما اعتبر من الجانبين فكان دواما.

وأما ما يظهر من عدة من الباحثين أن معنى كونه تعالى أزليا أنه سابق متقدم على خلقه المحدث تقدما في أزمنة غير متناهية لا خبر فيها عن الخلق ولا أثر منهم فهو من أشنع الخطإ ، وأين الزمان الذي هو مقدار حركة المتحركات والمشاركة معه تعالى في أزله؟!.

وفي النهج ، : ومن خطبة له عليه‌السلام : « الحمد لله خالق العباد ، وساطح المهاد ،

٩٦

ومسبل الوهاد ، ومخصب النجاد ، ليس لأوليته ابتداء ، ولا لأزليته انقضاء ، هو الأول لم يزل ، والباقي بلا أجل ، خرت له الجباه ، ووحدته الشفاه ، حد الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها ، لا تقدره الأوهام بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح والأدوات ، لا يقال : متى؟ ولا يضرب له أمد بحتى ، الظاهر لا يقال : مما؟ والباطن لا يقال : فيما؟ لا شبح فيتقضى ولا محجوب فيحوى ، لم يقرب من الأشياء بالتصادق ، ولم يبعد عنها بافتراق ، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة ، ولا كرور لفظة ، ولا ازدلاف ربوة ، ولا انبساط خطوة في ليل داج ، ولا غسق ساج ، يتفيأ عليه القمر المنير ، وتعقبه الشمس ذات النور في الأفول والكرور ـ وتقلب الأزمنة والدهور ـ من إقبال ليل مقبل وإدبار نهار مدبر ، قبل كل غاية ومدة ، وكل إحصاء وعدة ، تعالى عما ينحله المحددون من صفات الأقدار ، ونهايات الأقطار ، وتأثل المساكن ، وتمكن الأماكن ، فالحد لخلقه مضروب ، وإلى غيره منسوب ، لم يخلق الأشياء من أصول أزلية ، ولا أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده ، وصور ما صور فأحسن صورته ».

وفي النهج : من خطبة له عليه‌السلام : « ما وحده من كيفه ، ولا حقيقته أصاب من مثله ، ولا إياه عنى من شبهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول ، فاعل لا باضطراب آلة ، مقدر لا يحول فكره ، غني لا باستفادة ، لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده الأدوات ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله ، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ؛ ضاد النور بالظلمة ، والوضوح بالبهمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصرد ، مؤلف بين متعادياتها ، مقارن بين متبايناتها ، مقرب بين متباعداتها ، مفرق بين متدانياتها ، لا يشمل بحد ، ولا يحسب بعد ، وإنما تحد الأدوات أنفسها ، وتشير الإله إلى نظائرها ، منعتها « منذ » القدمة ، وحمتها « قد » الأزلية ، وجنبتها « لو لا » التكملة ، بها تجلى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون ، لا يجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟ ويعود فيه ما هو أبداه؟ ويحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذا لتفاوتت ذاته ، ولتجزأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ، ولكان له وراء إذا وجد له أمام ، ولالتمس

٩٧

التمام إذا لزمه النقصان ، وإذا لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه »

أقول : أول كلامه عليه‌السلام مسوق لبيان امتناع ذاته المقدسة عن الحد ، ولزمه في جميع ما عداه ، وقد تقدم توضيحه الإجمالي فيما تقدم.

وقوله : « لا يشمل بحد ولا يحسب بعد » كالنتيجة لما تقدمه من البيان ، وقوله : « وإنما تحد الأدوات أنفسها ، وتشير الإله إلى نظائرها » بمنزلة بيان آخر لقوله : « لا يشمل بحد ، إلخ » فإن البيان السابق إنما سيق من مسلك أن هذه الحدود المستقرة في المصنوعات مجعولة للذات المتعالية متأخرة عنها تأخر الفعل عن فاعله فلا يمكن أن تتقيد بها الذات إذ كان ذات ولا فعل.

وأما ما في قوله : « وإنما تحد » « إلخ » ، من البيان فهو مسوق من طريق آخر ، وهو أن التقدير والتحديد الذي هو شأن هذه الأدوات والحدود إنما هو بالمسانخة النوعية كما أن المثقال الذي هو واحد الوزن مثلا توزن به الأثقال دون الألوان والأصوات مثلا ، والزمان الذي هو مقدار الحركة إنما تحد به الحركات ، والإنسان مثلا إنما يقدر بما له من الوزن الاجتماعي المتوسط مثلا من يماثله في الإنسانية ، وبالجملة كل حد من هذه الحدود يعطي لمحدوده شبيه معناه ، وكل صفة إمكانية كائنة ما كانت مبنية على قدر وحد وملزومة لأمد ونهاية ، وكيف يمكن أن يحمل معناها المحدود على ذات أزلية أبدية غير متناهية؟.

فهذا هو مراده عليه‌السلام ، ولذلك أردفه بقوله : « منعتها منذ القدمة » « إلخ » ، أي صدق كلمة « منذ » وكلمة « قد » الدالتين على الحدوث الزماني ، على الأشياء منعتها وحمتها أن تتصف بالقدمة ، وكذلك صدق كلمة « لو لا » في الأشياء وهي تدل على النقص واقتران المانع جنبتها وبعدتها أن تكون كاملة من كل وجه.

وقوله : « بها تجلى صانعها للعقول وبها امتنع من نظر العيون » الضميران للأشياء أي إن ، الأشياء بما هي آيات له تعالى والآية لا تري إلا ذا الآية فهي كالمرائي لا تجلي إلا إياه تعالى فهو بها تجلى للعقول وبها أيضا امتنع عن نظر العيون إذ لا طريق إلى النظر إليه تعالى إلا هذه الآيات وهي محدودة لا تنال إلا مثلها لا ربها المحيط بكل شيء.

٩٨

وهذا المعنى بعينه هو الموجب لامتناعه عن نظر العيون فإنها آلات مركبة مبنية على الحدود لا تعمل إلا في المحدود ، وجلت ساحة رب العزة عن الحد.

وقوله عليه‌السلام : « لا يجري عليه السكون والحركة » « إلخ » ، بمنزلة العود إلى أول الكلام ببيان آخر يبين به أن هذه الأفعال والحوادث التي هي تنتهي إلى الحركة والسكون لا تجري عليه ، ولا تعود فيه ولا تحدث فإنها آثاره التي تترتب على تأثيره في غيره ، ومعنى تأثير المؤثر توجيهه أثره المتفرع على نفسه إلى غيره ، ولا معنى لتأثير الشيء في نفسه إلا بنوع من التجزي والتركيب العارض لذاته كالإنسان مثلا يدبر بنفسه بدنه ، ويضرب بيده على رأسه ، والطبيب يداوي بطبه مرضه ، فكل ذلك إنما يصح لاختلاف في الأجزاء أو الحيثيات ، ولو لا ذلك لامتنع وقوع التأثير.

فالقوة الباصرة مثلا لا تبصر نفسها ، والنار لا تحرق ذاتها ، وهكذا جميع الفواعل لا تفعل إلا في غيرها إلا مع التركيب والتجزئة كما عرفت ؛ وهذا معنى قوله : « إذا لتفاوتت ذاته ، ولتجزأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه » « إلخ ».

وقوله عليه‌السلام : « وإذا لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه » أي إذا لزمه النقص من تطرق هذه الحدود والأقدار عليه ، والنقص من علائم المصنوعية وأمارات الإمكان كان (تعالى وتقدس) مقارنا لما يدل على كونه مصنوعا وكان نفسه كسائر المصنوعات دليلا على موجود آخر أزلي كامل الوجود غير محدود الذات هو الإله المنزه عن كل نقص مفروض ، المتعالي عن أن تناله أيدي الحدود والأقدار.

واعلم أن ما يدل عليه قوله ـ من كون الدلالة هي من شئون المصنوع الممكن ـ لا ينافي ما يستفاد من سائر كلامه وكلام سائر أئمة أهل البيت عليه‌السلام : أنه تعالى معلوم بنفس ذاته ، وغيره معلوم به ، وأنه دال على ذاته ، وهو الدليل على مخلوقاته فإن العلم غير العلم والدلالة غير الدلالة ، وأرجو أن يوفقني الله تعالى لإيضاحه وبسط الكلام فيه في بعض ما يرتبط به من الأبحاث الآتية إن شاء الله العزيز.

وفي التوحيد ، بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : بينا أمير المؤمنين عليه‌السلام يخطب على منبر الكوفة ـ إذ قام إليه رجل يقال له « ذعلب » ذرب اللسان ، بليغ في

٩٩

الخطاب ، شجاع القلب ـ فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ فقال : ويلك يا ذعلب لم أكن لأعبد ربا لم أره!.

فقال : يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟ قال : يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، ويلك يا ذعلب ـ إن ربي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر ، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ ، قبل كل شيء لا يقال شيء قبله ، وبعد كل شيء لا يقال له بعد ، شاء الأشياء لا بهمة ، دراك لا بخديعة ، هو في الأشياء غير متمازج بها ولا بائن ، عنها ـ ظاهر لا بتأويل المباشرة ، متجل لا باستهلال رؤية ، بائن لا بمسافة ، قريب لا بمداناة ، لطيف لا بتجسم ، موجود لا بعد عدم ، فاعل لا باضطرار ، مقدر لا بحركة ، مريد لا بهمامة ، سميع لا بآلة ، بصير لا بأداة ، لا تحويه الأماكن ، ولا تصحبه الأوقات ، ولا تحده الصفات ، ولا تأخذه السنات ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله ، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له ، وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والجسوء بالبلل ، والصرد بالحرور ، مؤلف بين متعادياتها ، مفرق بين متدانياتها ، دالة بتفريقها على مفرقها ، وبتأليفها على مؤلفها ، وذلك قوله عز وجل : « وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » ، ففرق بها بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد ، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها ، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها ، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه غير خلقه ، كان ربا ولا مربوب ، وإلها إذ لا مألوه ، وعالما إذ لا معلوم ، وسميعا إذ لا مسموع. ثم أنشأ يقول :

ولم يزل سيدي بالحمد معروفا

ولم يزل سيدي بالجود موصوفا

وكان إذ ليس نور يستضاء به

ولا ظلام على الآفاق معكوفا

فربنا بخلاف الخلق كلهم

وكل ما كان في الأوهام موصوفا

الأبيات.

أقول : وكلامه عليه‌السلام ـ كما ترى ـ مسوق لبيان معنى أحدية الذات في جميع ما يصدق عليه ويرجع إليه ، وأنه تعالى غير متناهي الذات ولا محدودها ، فلا يقابل

١٠٠