الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ) » : القصص : ٧٠ ، وقوله : « يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » : التغابن : ١.

وكيفما كان فالعبودية المعتبرة بالنسبة إليه تعالى معنى تحليلي مأخوذ من العبودية التي تعتبره العقلاء من الإنسان في مجتمعهم فلها أصل في المجتمع الإنساني فلننظر ما هو أصله؟.

٢ ـ استعباد الإنسان وأسبابه : كان الاستعباد والاسترقاق دائرا في المجتمع الإنساني شائعة معروفة إلى ما يقرب من سبعين سنة قبل هذا التاريخ ، ولعلها توجد معمولة في بعض القبائل المتطرفة النائية في إفريقيا وآسيا حتى اليوم ، وكان اتخاذ العبيد والإماء من السنن الدائرة بين الأقوام القديمة لا يكاد يضبط بدء تاريخي له ؛ وكان ذا نظام مخصوص وأحكام وقوانين عامة بين الأمم ، وأخرى مخصوصة بأمة أمة.

والأصل في معناه كون النفس الإنسانية عند وجود شرائط خاصة سلعة مملوكة كسائر السلع المملوكة من حيوان ونبات وجماد ، وإذا كانت النفس مملوكة كانت مسلوبة الاختيار مملوكة الأعمال والآثار يتصرف فيها كيف أريد.

هذه سنتهم الدائرة بينهم في الاسترقاق غير أنه لم يكن متكئا على إرادة جزافية أو مطلقا غير مبني على أي شرط فلم يكن يسع لأحدهم أن يتملك كل من أحب ، ولا أن يملك كل من شاء وأراد ببيع أو هبة أو غير ذلك فلم يكن أصل المعنى متكئا على الجزاف ، وإن كان ربما يوجد في تضاعيف القوانين المتبعة فيه بحسب اختلاف آراء الأقوام وسننهم أمور جزافية كثيرة.

كانت الاستعباد مبنيا على نوع من الغلبة والسيطرة كغلبة الحرب التي تنتج للغالب الفاتح أن يفعل بخصمه المغلوب ما يشاء من قتل أو سبي أو غيره ، وغلبة الرئاسة التي تصير الرئيس الجبار فعالا لما يشاء في حوزة رئاسته ، واختصاص التوليد والإنتاج الذي يضع ولاية أمر المولود الضعيف في كف والده القوي يصنع به ما بدا له حتى البيع والهبة والتبديل والإعارة ونحو ذلك.

وقد تكرر في أبحاثنا السابقة : أن أصل الملك في المجتمع الإنساني مبني على القدرة المغروزة في الإنسان على الانتفاع من كل شيء يمكنه أن ينتفع به بوجه ـ والإنسان

٣٤١

مستخدم بالطبع ـ فالإنسان يستخدم في سبيل إبقاء حياته كل ما قدر عليه واستخدامه والانتفاع بمنافع وجوده آخذا من المادة الأصلية فالعناصر فالمركبات الجمادية المتنوعة فالحيوان حتى الإنسان الذي هو مثله في الإنسانية.

غير أن حاجته المبرمة إلى الاجتماع والتعاون اضطره إلى قبول الاشتراك مع سائر أفراد نوعه في الانتفاع بالمنافع المحصلة من الأشياء بأعمالهم المشتركة فهو وسائر الأفراد من نوعه يكونون لذلك مجتمعا يختص كل جزء من أجزائه وكل طرف من أطرافه بعمل أو أعمال ثم ينتفع المجموع بالمجموع ، وإن شئت فقل : ثم تقسم نتائج الأعمال بينهم فيتمتع كل واحد منهم بذلك على مقدار زنته الاجتماعية ، ولذلك نرى أن الفرد من الإنسان وهو اجتماعي كلما قوي واشتد أبطل المدنية الطبعية وأخذ يستخدم الناس بالغلبة ، ويتملك رقابهم ، ويحكم في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم بما يقترحه.

ولأجل ذلك إذا تأملت تأملا حرا في سنتهم في استعباد الإنسان وجدت أنهم لا يعتبرون تملك الإنسان ما دام داخلا في المجتمع وجزء من أجزائه بل إما أن يكون الإنسان المملوك محكوما بالخروج عن المجتمع كالعدو المحارب الذي لا هم له إلا أن يهلك الحرث والنسل ويمحي الإنسان باسمه ورسمه فهو خارج عن مجتمع عدوه ، وله أن يهلكه بالإفناء ويتملك منه ما يشاء لأن الحرمة مرفوعة ، ومثله الأب بالنسبة إلى صغار أولاده والتابعين لنفسه فإنه يرى أنهم من توابعه في المجتمع من غير أن يكافئوه أو يماثلوه أو يوازنوه فله أن يتصرف فيهم حتى بالقتل والبيع وغيرهما.

وإما أن يكون الإنسان المالك ذا خصيصة تدعوه إلى أن يعتقد أنه فوق المجتمع من غير أن يعادلهم في وزن أو يشاركهم في نفع بل له نفوذ الحكم ، والتمتع بصفوة ما يختار ، والتصرف في نفوسهم حتى بالملك والاستعباد.

فقد تبين أن الأصل الأساسي الذي كان يبني عليه الإنسان سنة الاستعباد والاسترقاق هو حق الاختصاص والتملك المطلق الذي يعتقده الإنسان لنفسه ، وأن الإنسان لا يستثني عنه أحدا إلا مشاركيه في مجتمعة الإنساني ممن يعادله في الزنة الاجتماعية ويتحصن منه في حصن التعاون والتعاضد ، وأما الباقون فلا مانع عنده من تملكهم واستعبادهم.

٣٤٢

وعمدتهم في ذلك طوائف ثلاث : العدو المحارب ، والأولاد الضعفاء بالنسبة إلى آبائهم وكذا النساء بالنسبة إلى أوليائهن ، والمغلوب المستبذل بالنسبة إلى الغالب المتعزز.

٣ ـ سير الاستعباد في التاريخ : سنة الاستعباد وإن كانت مجهولة من حيث تاريخ شيوعها في المجتمع الإنساني غير أن الأشبه أن يكون أرقاء مأخوذين في أول الأمر بالقتال والتغلب ثم يلحق به الأولاد والنساء ، ولذلك نعثر في تاريخ الأمم القوية الحربية من القصص والحكايات وكذا القوانين والأحكام المربوطة بالاسترقاق بالسبي على ما لا يوجد في غيرهم.

وقد كان دائرا بين الأمم المتمدنة القديمة كالهند واليونان والرومان وإيران ، وبين المليين كاليهود والنصارى على ما يستفاد من التوراة والإنجيل حتى ظهر الإسلام فأنفذ أصله مع تضييق في دائرته وإصلاح لأحكامه المقررة ، ثم آل الأمر إلى أن قرر مؤتمر بروسل إلغاء الاستعباد قبل سبعين سنة تقريبا.

قال « فردينان توتل » في معجمه (١) لأعلام الشرق والغرب : كان الرق شائعا عند الأقدمين ، وكان الرقيق يؤخذ من أسرى وسبايا الحرب ومن الشعوب المغلوبة ، كان للرق نظام معروف عند اليهود واليونان والرومان والعرب في الجاهلية والإسلام.

وقد ألغي نظام الرق تدريجا : في الهند سنة (١٨٤٣) وفي المستعمرات الإفرنسية سنة (١٨٤٨) وفي الولايات المتحدة بعد حرب الانفصال سنة (١٨٦٥) وفي البرازيل سنة (١٨٨٨) إلى أن اتخذ مؤتمر بروسل قرارا بإلغاء الاستعباد سنة (١٨٩٠) غير أنه لا يزال موجودا فعلا بين بعض القبائل في إفريقيا وآسيا.

ومبدأ إلغاء الرق هو تساوي البشر بالحقوق والواجبات ، انتهى.

٤ ـ ما الذي رآه الإسلام في ذلك؟ قسم الإسلام الاستعباد بحسب أسبابه ، وقد تقدم أن عمدتها كانت ثلاثة : الحرب ، والتغلب والولاية كالأبوة ونحوها فألغى سببين من الثلاثة من أصله وهما التغلب والولاية.

فاعتبر احترام الناس شرعا سواء من ملك ورعية وحاكم ومحكوم وأمير وجندي

__________________

(١) ص ٢١٩.

٣٤٣

ومخدوم وخادم بإلغاء الامتيازات والاختصاصات الحيوية ، والتسوية بين الأفراد في حرمة نفوسهم وأعراضهم وأموالهم ، والاعتناء بشعورهم وإرادتهم ـ وهو الاختيار التام في حدود الحقوق المحترمة ـ وأعمالهم وما اكتسبوه وهو تسلطهم على أموالهم ومنافع وجودهم من الأفعال فليس لوالي الأمر في الإسلام إلا الولاية على الناس في إجراء الحدود والأحكام وفي أطراف المصالح العامة العائدة إلى المجتمع الديني ، وأما ما تشتهيه نفسه وما يستحبه لحياته الفردية فهو كأحد الناس لا يختص من بينهم بخصيصة ، ولا ينفذ أمره في الكثير مما يهواه لنفسه ولا في القليل ، ويرتفع بذلك الاسترقاق التغلبي بارتفاع موضوعه.

وعدل ولاية الآباء لأبنائهم فلهم حق الحضانة والحفظ وعليهم حق التربية والتعليم وحفظ أموالهم ما داموا محجورين بالصغر فإذا بلغوا بالرشد فهم وآباؤهم سواء في الحقوق الاجتماعية الدينية ، وهم أحرار في حياتهم ، لهم الخيرة فيما رضوا لأنفسهم.

نعم أكدت التوصية لآبائهم عليهم بالإحسان ومراعاة حرمة التربية ، قال تعالى : « وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ، وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ » : لقمان : ١٥ وقال تعالى : « وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً » : الإسراء : ٢٤ وقد عد في الشرع الإسلامي عقوقهما من المعاصي الكبيرة الموبقة.

وأما النساء فقد وضع لهن من المكانة في المجتمع واعتبر لهن من الزنة الاجتماعية ما لا يجوز عند العقل السليم التخطي عنه ولو بخطوة ، فصرن بذلك أحد شقي المجتمع الإنساني وقد كن في الدنيا محرومات من ذلك ، وأعطين زمام الازدواج والمال وقد كن محرومات أو غير مستقلات في ذلك.

وشاركن الرجال في أمور واختصصن عنهم بأمور واختص الرجال بأمور كل ذلك عن مراعاة تامة لقوام وجودهن وتركيب بناهن ، ثم سهل عليهن في أمور شق فيها على الرجال كأمر النفقة وحضور معارك القتال ونحو ذلك.

٣٤٤

وقد تقدم الكلام في ذلك كله تفصيلا في أواخر سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب ، وفي أوائل سورة النساء في الجزء الرابع منه ، وتبين هناك أن النساء مختصات في الإسلام من مزيد الإرفاق بالنسبة إلى الرجال بما لا يوجد نحوه في سائر السنن الاجتماعية قديمها وحديثها.

قال تعالى : « لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ » : النساء : ٣١ وقال تعالى : « فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ » : البقرة : ٢٣٤ وقال تعالى : « وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ » : البقرة : ٢٢٨ وقال : « أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ » : آل عمران : ١٩٥ ثم جمع الجميع في بيان واحد فقال : « لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ » : البقرة : ٢٨٦ وقال (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) » : الأنعام : ١٦٤ إلى غير ذلك من الآيات المطلقة التي تأخذ الفرد من الإنسان جزءا تاما كاملا من المجتمع ، ويعطيه من الاستقلال الفردي ما ينفصل به عن أي فرد آخر في نتائج أعماله من خير أو شر أو نفع أو ضر من غير أن يستثني صغيرا أو كبيرا أو ذكرا أو أنثى.

ثم سوى بينهم جميعا في العزة والكرامة ثم ألغى كل عزة وكرامة إلا الكرامة الدينية المكتسبة بالتقوى والعمل فقال : « لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ » : المنافقون : ٨ وقال : « يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ » : الحجرات : ١٣.

وقد أبقى الإسلام السبب الثالث من الأسباب الثلاثة للاستعباد أعني الحرب ، وهو أن يسبي الكافر المحارب لله ورسوله والمؤمنين ، وأما اقتتال المؤمنين بعضهم مع بعض فلا سبي فيه ولا استعباد بل يقاتل الباغي من الطائفتين حتى ينقاد لأمر الله قال تعالى : « وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ » : الحجرات : ١٠.

وذلك أن العدو المحارب الذي لا هم له إلا أن يفني الإنسانية ويهلك الحرث والنسل لا ترتاب الفطرة الإنسانية أدنى ريب في أنه يجب أن لا يعد جزء من المجتمع

٣٤٥

الإنساني الذي له التمتع بمزايا الحياة والتنعم بحقوق الاجتماع ، وأنه يجب دفعه بالإفناء فما دونه ، وعلى ذلك جرت سنة بني آدم منذ عمروا في الأرض إلى يومنا هذا وعلى ذلك ستجري.

والإسلام لما وضع بنية المجتمع ـ المجتمع الديني ـ على أساس التوحيد وحكومة الدين الإسلامي ألغى جزئية كل مستنكف عن التوحيد وحكومة الدين من المجتمع الإنساني إلا مع ذمة أو عهد فكان الخارج عن الدين وحكومته وعهده خارجا عن المجتمع الإنساني لا يعامل معه إلا معاملة غير الإنسان الذي للإنسان أن يحرمه عن أي نعمة يتمتع بها الإنسان في حياته ، ويدفعه بتطهير الأرض من رجس استكباره وإفساده فهو مسلوب الحرمة عن نفسه وعمله ونتائج أي مسعى من مساعيه ، فللجيش الإسلامي أن يتخذ أسرى ويستعبد عند الغلبة.

٥ ـ ما هو السبيل إلى الاستعباد في الإسلام؟ يتأهب المسلمون على من يلونهم من الكفار فيتمون عليهم الحجة ويدعونهم إلى كلمة الحق بالحكمة والموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن فإن أجابوا فإخوان في الدين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم وإن أبوا إلا الرد فإن كانوا أهل كتاب وقبلوا الجزية تركوا وهم على ذمتهم ، وإن أخذوا عهدا كانوا أهل كتاب أم لا وفي بعهدهم ، وإن لم يكن شيء من ذلك أوذنوا على سواء وقوتلوا.

يقتل منهم من شهر سيفا ودخل المعركة ولا يقتل منهم من ألقى السلم ، ولا يقتل منهم المستضعفون من الرجال والنساء والولدان ، ولا يبيتون ولا يغتالون ، ولا يقطع عنهم الماء ، ولا يعذبون ولا يمثل بهم فيقاتلون حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين.

فإذا غلبوهم ووضعت الحرب أوزارها فما تسلط عليه المسلمون من نفوسهم وأموالهم فهو لهم ؛ وقد اشتمل تاريخ حروب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومغازيه على صحائف غر متلمعة مملوءة من السيرة العادلة الجميلة فيها لطائف الفتوة والمروة ، وطرائف البر والإحسان.

٦ ـ ما هي سيرة الإسلام في العبيد والإماء؟ إذا استقرت العبودية على من استقرت

٣٤٦

عليه صار ملك يمين ، منافع عمله لغيره ونفقته على مولاه.

وقد وصى الإسلام أن يعامل المولى مع عبده معاملة الواحد من أهله وهو منهم فيساويهم في لوازم الحياة وحوائجها ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يؤاكل عبيده وخدمه ويجالسهم ، ولا يؤثر نفسه عليهم في مأكل ولا ملبس ونحوهما.

وأن لا يشق عليهم ولا يعذبوا ولا يسبوا ولا يظلموا ، وأجيز أن يتزوجوا فيما بينهم بإذن أهلهم ، وأن يتزوج بهم الأحرار ، وأن يشاركوهم في الشهادات ، ويساهموهم في الأعمال حال الرق وبعد الانعتاق.

وقد بلغ من إرفاق الإسلام في حقهم أن شاركوا الأحرار في عامة الأمور ، وقد قلد جمع منهم الولاية والإمارة وقيادة الجيش على ما يضبطه تاريخ صدر الإسلام ، ويوجد بين الصحابة الكبار عدة من الموالي كسلمان وبلال وغيرهما.

وهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعتق جاريته صفية بنت حي بن أخطب وتزوج بها ، وتزوج جويرية بنت الحارث بعد وقعة بني المصطلق وقد كانت بين سباياهم ، وكانوا مائتي بيت بالنساء والذراري ، وصار ذلك سببا لانعتاق الجميع ، وقد مر إجمال القصة في الجزء الرابع من الكتاب.

ومن الضروري من سيرة الإسلام أنه يقدم العبد المتقي على المولى الحر الفاسق ، وأنه يبيح للعبد أن يتملك المال ويتمتع بعامة مزايا الحياة بإذن من أهله هذا إجمال من صنيع الإسلام فيهم.

ثم أكد الوصية وندب أجمل الندب إلى تحرير رقبتهم ، وإخراجهم من ظرف الاستعباد إلى جو الحرية ولا يزال يقل بذلك عددهم ويتبدل جمعهم موالي وأحرارا لوجه الله ، ولم يقنع بذلك دون أن جعل تحرير الرقبة أحد خصال الكفارات مثل كفارة القتل وكفارة الإفطار ، وأجاز لهم الاشتراط والكتابة والتدبير ، كل ذلك عناية بهم وقصدا إلى تخليصهم وإلحاقا لهم بالمجتمع الإنساني الصالح إلحاقا تاما يقطع دابر الاستذلال.

٧ ـ محصل البحث في الفصول السابقة :تحصل مما مر أمور ثلاث :

الأول : أن الإسلام لم يأل جهدا في إلغاء أسباب الاستعباد وتقليلها وتضعيفها حتى

٣٤٧

وقف على واحد منها لا محيص عن اعتباره بحكم الفطرة القاطع وهو جواز استعباد كل إنسان محارب للدين مضاد للمجتمع الإنساني غير خاضع للحق بوجه من وجوه الخضوع.

الثاني : أنه استعمل جميع الوسائل الممكنة في إكرامهم ـ العبيد والإماء ـ وتقريب شئونهم الحيوية من حياة أجزاء المجتمع الحرة حتى صاروا كأحدهم وإن لم يصيروا أحدهم ، ولم يبق عليهم إلا حجاب واحد رقيق ، وهو أن الزائد من أعمالهم على واجب حياتهم حياة متوسطة لمواليهم لا لهم ، وإن شئت فقل : لا فاصل في الحقيقة بين الحر والعبد في الإسلام إلا إذن المولى في العبد.

الثالث : أنه احتال بكل حيلة مؤثرة إلى إلحاق صنف المماليك إلى مجتمع الأحرار بالترغيب والتحريص في موارد ، وبالفرض والإيجاب في أخرى كالكفارات ، وبالتسويغ والإنفاذ في مثل الاشتراط والتدبير والكتابة.

٨ ـ سير الاستعباد في التاريخ ذكروا (١) أن الاستعباد ظهر أول ما ظهر بالسبي والأسر ، وكانت القبائل قبل ذلك إذا غلبت في حروبها ومقاتلها وأخذت سبايا قتلتهم عن آخرهم ثم رأوا أن يتركوهم أحياء ويتملكوهم كسائر الغنائم الحربية لا لينتفعوا بأعمالهم بل إحسانا في حقهم وحفظا للنوع واحتراما للقوانين الأخلاقية التي ظهرت فيهم بالترقي في صراط المدنية شيئا بعد شيء.

وإنما ظهرت هذه السنة بين القبائل بعد ما ارتحلت عنهم طريقة الارتزاق لاصطياد إذ لم تكن لهم فيها من السعة ما يسوغ لهم الإنفاق على العبيد والإماء حتى انتقلوا إلى عيشة النزول والارتحال وتمكنوا من ذلك.

وبشيوع الاستعباد بين القبائل والأمم على أي وتيرة كانت تحولت حياة الإنسان الاجتماعية بظهور جهات من الانتظام والانضباط في المجتمعات أولا وتقسيم الأعمال ثانيا.

ولم يكن الاستعباد إذ كان دائرا في الدنيا على وتيرة واحدة في أقطار المعمورة فلم يستن في بعض المناطق أصلا كأوستراليا وآسيا المركزية وسيبريا وأميركا الشمالية

__________________

(١) مأخوذ من ١ ـ دائرة المعارف : المذهب والأخلاق تأليف جان هيسينيك طبعة بريطانية ، ٢ ـ مجمل التاريخ تأليف ه. ج. ولز طبعة بريطانية ، ٣ ـ روح القوانين تأليف مونيسكيو طبعة طهران.

٣٤٨

وإسكيمو وبعض المناطق بإفريقيا بشمال النيل وجنوب رامبيز.

وبالعكس كان رائجا في جزيرة العرب وإفريقيا الوحشية وأوروبا وأميركا الجنوبية وكان دائرا بين اليهود ، وفي التوراة دعاء العبيد إلى طاعة مواليهم ، وكذا بين النصارى وفي كتاب بولس إلى فيلمن أن أفسيموس كان عبدا شاردا رده بولس إلى سيده.

وكانت اليهود أرفق الناس بعبيدهم ، ومن الشواهد على ذلك أنا لم نعثر لهم من شواهق الأبنية على ما يشبه الأهرام المعمولة بمصر والأبنية الآشورية التاريخية فإنها كانت من أعمال العبيد الشاقة ، وكانت الروم واليونان أكثر الأمم تشديدا على العبيد.

وقد ذاع في الروم الشرقي بعد قسطنطين فكر التحرير حتى لغا الرق فيها في القرن ١٣ الميلادي ، وبقي في الروم الغربي على شكل آخر وهو أنهم كانوا يبيعون ويشترون المزارع بزراعها ـ وكانت الزراعة من مشاغل العبيد ـ لكن لغت بينهم الأعمال الإجبارية.

وكان الاستعباد دائرا في معظم ممالك أوروبا إلى سنة ١٧٧٢ الميلادية وقد انعقدت قبل ذلك بحين معاهدة بين الدولتين إنجلترا وإسبانيا على أن يجبي الإنجليز إليهم كل سنة أربعة آلاف وثمان مائة نسمة من رقيق إفريقيا إلى ثلاثين سنة ليبيعهم منهم قبال مبالغ خطيرة يأخذها منهم.

وقد ثارت الأفكار العامة سنة ١٧٦١ على الرق والاستعباد بينهم ، وأقدم الطوائف التي قامت عليه منهم طائفة « لرزان » (١) المذهبية ، ولم يزالوا على ذلك حتى وضعت مادة قانونية سنة ١٧٧٢ أن كل من دخل أرض بريطانيا فهو حر.

وقد ظهر سنة ١٧٨٨ بعد بحث دقيق أن إنجلترا يعامل كل سنة مائتي ألف نسمة رقيقا ، وكان الذين يجلبون منهم من إفريقيا إلى أميركا وحدها مائة ألف.

ولم يزل حتى ألغي الاستعباد في بريطانيا سنة ١٨٣٣ وأدت الدولة إلى كمبانيات النخس عشرين ميليونا ليرة أثمان من حررته من رقيقهم العبيد والإماء ، وانعتق في هذه الواقعة فيها (٧٧٠٣٨٠) نسمة.

__________________

(١) Quaker.

٣٤٩

ولغا الاستعباد في أميركا سنة ١٨٦٢ بعد مجاهدات شديدة تحملتها أهالي أميركا وقد كان شمال هذه المملكة وجنوبها مختلفين في أخذ الرقيق : أما أميركا الشمالية فإنما كانت تأخذ العبيد والإماء للتجمل فحسب ، وأما الجنوبية فكان معظم الأشغال فيها شغل الزراعة والحرث ، وكانوا في حاجة شديدة إلى كثرة الأيدي العمالة فكانوا يأخذون الأرقاء استثمارا بأعمالهم ، ولذلك كانوا يتحرجون من قبول التحرير العام.

ولم يزل الاستعباد يلغى في مملكة بعد مملكة حتى انعقد قرار بروسل سنة (١٨٩٠) الميلادية على إلغاء سنة الاستعباد ، وأمضاها الدول وأجريت في الممالك ، ولغت العبودية في الدنيا ، وانعتقت بذلك الملايين من النسمات ، انتهى ما ذكروه ملخصا.

وأنت تجد بثاقب نظرك أن هذه المجاهدة الطويلة والمشاجرة ثم ما وضع من قوانين الإلغاء وأنفذ من الحكم كل ذلك إنما كان يدور حول الاسترقاق من طريق الولاية أو التغلب كما يشهد به أن جل الأرقاء أو كلهم كانوا يجلبون من نواحي إفريقيا المعمول فيها ذلك ، وأما الاسترقاق من طريق السبي الحربي الذي أنفذ الإسلام فلم يكن موردا للبحث قط.

٩ ـ نظرة في بنائهم : هذه الحرية الفطرية التي نسميها بالحرية الموهوبة للإنسان (ولسنا ندري ما هو السبب الذي يسلبها عن سائر أنواع الحيوان وهي تماثل الإنسان في الشعور النفساني والإرادة الباعثة؟ غير أن نقول إن الإنسان هو الذي يسلبها ذلك لينتفع بها) لا تتفرع على أصل إلا على أن الإنسان مجهز بشعور باطني يميز له ما يلتذ به وما يتألم به ثم بإرادة تبعثه إلى جذب ما يلذه ودفع ما يؤلمه فكان له أن يختار لنفسه ما يشاء.

ولم يتقيد الشعور الإنساني بأن يتعلق بشيء ولا يتعلق بآخر كأن لا يشعر الإنسان الضعيف المستذل بما يشعر به الإنسان القوي المتعزز ، ولا تحددت الإرادة الإنسانية بحد يمنعها عن التعلق ببعض ما يستحبه أو يجبرها على التعلق بما تعلقت به إرادة غيره لتنطلق لنفع غيره وتنسى نفسها ، فالإنسان الضعيف المغلوب يريد لنفسه نظائر جميع ما يريده الإنسان الذي غلبه وقهره لنفسه ، ولا رابطة طبيعية بين إرادة الضعيف وإرادة القوي تجبر إرادة الضعيف على أن لا تتعلق بما تعلقت به إرادة القوي ، أو تفنى في إرادة القوي فتعود الإرادتان إرادة واحدة تجري لنفع القوي ، أو تتبع الإرادة اتباعا يسلبها الاستقلال.

٣٥٠

وإذ كان كذلك وكان من حق قوانين الحياة أن تبتني على أساس البنية الطبيعية كان من الواجب أن يعيش الإنسان حرا في نفسه وحرا في عمله ، ومن هذا الثدي يرتضع إلغاء الاستعباد.

لكن ينبغي لنا أن نتأمل هذه الحرية الموهوبة للإنسان هل هي في المجتمع الإنساني على إطلاقها منذ ولدت وعاشت في البنى الإنسانية؟.

فلم يزل النوع الإنساني ـ فيما نعلم ـ يعيش في حال الاجتماع ولا يسعه بحسب جهازه الوجودي إلا ذلك ، ومن المحال أن يدوم مجتمع في حال الاجتماع ولو حينا ما إلا مع سنة مشتركة بين أفراد المجتمع سواء كانت سنة عادلة تعقلية أو سنة جائرة أو مجازفة أو بأي وصف اتصفت ، وهذه السنة كيفما كانت تحدد الحرية الفردية.

على أن الإنسان لا يتأتى له أن يعيش إلا مع تصرف ما في المادة يضمن له البقاء ولا يتأتى له ذلك إلا بأن يختص بما يتصرف فيه نوعا من الاختصاص الذي نسميه بالملك ـ أعم من الحق والملك المصطلح عليه ـ فالذي يلبسه هذا حين يلبس لا يسع لذاك أن يلبسه والذي يأكله فرد أو يشربه أو يشغله بالتمكن فيه لا يمكن لغيره أن يستقل به ، وليس ذلك إلا تحديدا لغير المتصرف في إطلاق إرادته ، وتقييدا لحريته.

ولم يزل الاختلاف يلازم هذا النوع منذ سكن الأرض فلم يمض على هؤلاء الأفراد المنتشرة في رحب الأرض يوم إلا وتطلع فيه الشمس على اختلافات ، وتغيب عن اختلافات تسير بهم إلى فناء نفوس وضيعة أعراض وانتهاب أموال ، ولو كان الإنسان يرى لنفسه ـ أي للإنسانية ـ حرية مطلقة لم يكن لهذه الاختلافات بينهم أثر.

وسنة المجازاة والمؤاخذة لم تزل دائرة معمولة بين المجتمعات المتنوعة مدنية كانت أو همجية ، ولا معنى للمجازاة إلا أن يملك المجتمع من الإنسان المجرم بعض ما وهبه له الخلقة من النعم ، وأن يسلب عنه بعض الحرية فلو لا أن المجتمع أو من بيده الأمر في المجتمع يملك من المجرم القاتل المحكوم بالقصاص حياته لما وسعه أن يسلبها عنه ، ولو لا أن الإثم المأخوذ بإثمه المؤاخذ بأنواع التعذيب والنكاية كالقطع والضرب والحبس وغيره ذلك يملك الحكم والإجراء منه ما يسلبه من شئون الحياة أو الراحة أو السلطة المالية لما صح ذلك ، وكيف يصح منع الجائر المتعدي أن يجور ويتعدى ولا الذب عن حريم

٣٥١

نفس أو عرض أو مال إلا مع سلب بعض حرية المتغلب الممنوع؟.

وبالجملة فمما لا يشك فيه ذو مسكة أن بقاء الحرية الإنسانية على إطلاقها في المجتمع الإنساني ولو لحظة يوجب اختلال النظام الاجتماعي من وقته فهذا الاجتماع الذي هو أيضا فطري للإنسان ولا يعيش بدونه هو يقيد إطلاق الحرية الفطرية التي وهبته للإنسان إرادته وشعوره الغريزيان فلا يتأتى لمجتمع إنساني أن يعيش إلا مع تقييد ما لإطلاق الحرية كما لا يتأتى له أن يعيش مع بطلان الحرية من أصلها ، ولم يزل المجتمع الإنساني يحفظ بين الحدين هذه الحرية التي يخيل لنا من كثرة التبليغات الغربية أنهم هم الذين خلقوا اسمها بعد ما اخترعوا معناها ، وحفظوها على إطلاقها.

فهذا الاجتماع الفطري هو الذي يقيد تلك الحرية الفطرية ويحددها على حد تقييد القوى الطبيعية البدنية وغير البدنية بعضها ؛ بعضا فيقف البعض عن الفعل اعتناء بشأن بعض آخر يزامله كقوة الإبصار التي هي مبدأ للإبصار على الإطلاق تفعل فعلها حتى تكل لامسة العين أو تتعب القوة المفكرة فتقف الباصرة عن فعلها تقيدا بفعل مزاملها ، والذائقة تلتذ بالتقام الغذاء اللذيذ وازدراده وبلعه حتى تكل عضلات الفك فتقيد الذائقة فتكف عن مشتهاها.

فالاجتماع الفطري لا يتم للإنسان إلا بأن يجود ببعض حريته في العمل واسترساله في التمتع.

١٠ ـ ما مقدار التحديد : وأما المقدار الذي تحدد به الحرية الموهوبة من قبل الاجتماع الفطري ويتقيد به إطلاقها الفطري فهو يختلف باختلاف المجتمعات الإنسانية بحسب كثرة القوانين الدائرة المعتبرة في المجتمع وقلتها فإن المقيد للحرية بعد أصل الاجتماع إنما هو القانون المجرى بين الناس فكلما زادت القوانين ودقت في رقوب أعمالهم زاد الحرمان من الحرية والاسترسال وكلما نقصت نقص.

لكن الذي لا مناص عنه في أي اجتماع لأي مجتمع فرض ، والواجب الذي ليس في وسع الإنسان الاجتماعي أن يستهين به ويتساهل في أمره : هو حفظ وجود الاجتماع وكونه إذ لا حياة للإنسان دونه ، وحفظ السنن الدائرة والقوانين الجارية فيه من النقص والانتقاض ، ولذلك لست تجد مجتمعا من المجتمعات البشرية إلا وفيه جهة دفاعية

٣٥٢

تذب عن النفوس والذراري وتقيهم من الفناء والهلاك ، وولي يلي أمرهم ويحفظ السنة الجارية والعادات الدائرة المحترمة بينهم من الانتقاض ببسط الأمن الاجتماعي ، وسياسة المتعدي الجائر ، والموجود من التاريخ يصدق ذلك أيضا.

وإذا كان كذلك فأول حق مشروع للمجتمع في شريعة الفطرة أن يسلب الحرية عن عدو المجتمع في أصل اجتماعه ، وإن شئت فقل : أن يملك من عدوه المبيد لحياته المفسد لحرثه ونسله نفسه وعمله ويذهب بحرية إرادته بما يشاء من قتل فما دونه ، وأن يسلب عن عدو السنة والقانون حرية العمل والاسترسال في النقض ، ويملك منه ما يفقده بالمجازاة من نفس أو مال أو غيرهما.

وكيف يسع الإنسان ـ حتى الإنسان الفرد ـ أن يذعن بحرية عدو لا لحياة مجتمعة يحترم فيؤاخيه ويشاركه ويمتزج به ، ولا عن إبادة مجتمعة وإفنائه يغمض فيتركهم وشأنهم؟ وهل الجمع بين العناية الفطرية بالاجتماع وبين ترك هذا العدو وحريته في العمل إلا جمعا بين المتناقضين صريحا وسفها أو جنونا؟.

فتبين مما مر أولا : أن البناء على إطلاق حرية الإنسان أمر مخالف لصريح الحق الفطري المشروع للإنسان الذي هو من أول الحقوق الفطرية المشروعة.

وثانيا : أن حق الاستعباد الذي اعتبره الإسلام هو المطابق لشريعة الفطرة ، وهو أن يستعبد أعداء الدين الحق المحاربين للمجتمع الإسلامي فيسلب عنهم حرية العمل ، ويجلبوا إلى داخل المجتمع الديني ويكلفوا بأن يعيشوا في زي العبودية حتى يتربوا بالتربية الصالحة الدينية ، وينعتقوا تدريجا ، ويلتحقوا بالمجتمع الحر سالمين غانمين ، ولولي الأمر أن يشتريهم ويعتقهم عن آخرهم إن رأى صلاح المجتمع الديني في ذلك ، أو يسلك في ذلك طريقا آخر لا ينتسخ بذلك الأحكام الإلهية.

١٠ ـ إلى م آل أمر الإلغاء؟ : أجرت الدول المعظمة قرار مؤتمر بروسل ومنعوا بيع الرقيق أشد المنع وانعتقت الإماء والعبيد فلا يصطفون اليوم في دكاك النخاسين ولا يساقون سوق الأغنام ، وتبع ذلك أن انتسخ اتخاذ الخصيان ، ولا يكاد يوجد اليوم من هؤلاء وأولئك ولو نماذج قليلة إلا ما ربما يذكر من أمر الأقوام الهمجية.

٣٥٣

لكن هذا المقدار أعني ارتفاع اسم الاستعباد والاسترقاق من الألسنة وغيبة المسمين بهذا الاسم عن الأنظار هل يقنع الباحث الناقد في هذه المسألة؟ أوليس يسأل أن هذه المسألة هل هي مسألة لفظية يجزي فيها المنع من أن يذكر الاسم ، ويكفي في إجرائها أن يسمى العبد حرا وإن سلب منافع عمله وتبع غيره في إرادته ، أو أن المسألة معنوية يراعى فيها حال المعنى بحسب حقيقته وآثاره الخارجية؟.

فهاتيك الحرب العالمية الثانية لم يمض عليها إلا بضع عشرة سنة حملت الدول الفاتحة على عدوها المغلوب التسليم بلا شرط ثم احتلوا بلادهم ، وأخذوا ملايين من أموالهم ، وتحكموا على نفوسهم وذراريهم ، ونقلوا الملايين من أسراهم إلى داخل مملكتهم يستعملونهم فيما شاءوا وكيف شاءوا ، والأمر يجري على ذلك حتى اليوم.

فليت شعري هل للاستعباد مصداق ليس به وإن منع من إطلاق لفظه؟ وهل له معنى إلا سلب إطلاق الحرية ، وتملك الإرادة والعمل ، وإنفاذ القوي المتعزز حكمه في الضعيف المستذل كيف شاء وأراد عدلا أو ظلما؟.

فيا لله العجب يسمي حكم الإسلام بنظير الحكم على أصلح وجه يمكن استعبادا ولا يسمى حكمهم بذلك ، والإسلام يأخذ فيه بأسهل الوجوه وأخفها وهم يأخذون بأشقها وأعنفها ، فقد رأينا محبتهم وصداقتهم حينما احتلوا بلادنا تحت عنوان المحبة والحماية والوقاية ، فكيف حال من استعلوا عليه بالعداوة والنكاية؟.

ومن هنا يظهر أن قرار الإلغاء لم يكن إلا لعبا سياسيا هو في الحقيقة أخذ في صورة الرد ، أما الاستعباد عن حرب وقتال فقد أنفذه الإسلام وأنفذوه عملا وإن منعوا عن التلفظ باسمه لسانا ، وأما الاستعباد من طريق بيع الآباء أبناءهم الذي منعوه فقد كان الإسلام منعه من قبل ، وأما الاستعباد من طريق الغلبة والسلطة الحكمية فقد منعه الإسلام من قبل ، وأما هؤلاء فقد أجمعوا على منعه لكن هل توقف المنع في مرحلة اللفظ كنظيره أو تعداها إلى مرحلة المعنى ووافقه العمل؟!.

يمكنك أن تستخرج الجواب لهذا السؤال بإمرار النظر في تاريخ الاستعمارات الأروبية في آسيا وإفريقيا وأميركا ، والفجائع التي ارتكبوها ، والدماء والأعراض والأموال التي أهرقوها واستباحوها ونهبوها ، والتحكمات التي أتوا بها وليس بالواحد

٣٥٤

والمائة والألف.

ليس يلزمك أن تسلك هذا السبيل على بعدها ـ إن كان بعيدا ـ فقد يجزيك أن تتأمل أخبار ما يقاسيه أهل الجزائر من فرنسا منذ سنين من إبادة النفوس وتخريب البلاد والتشديد على أهله ، وما تلقاه الممالك العربية من الإنجليز ، وما يتحمله السودان والحمر في أميركا ، والأوروبة الشرقية من الجمهوريات الاشتراكية ، وما نكابده نحن من أيدي هؤلاء وأولئك ، كل ذلك في لفظه نصح وإشفاق ، وفي معناه استعباد واسترقاق!.

فظهر من جميع ما مر أنهم أخذوا في مرحلة العمل بما شرعه الإسلام من إباحة وسلب إطلاق الحرية عند وجود سببها الفطري الذي هو حرب من يريد هدم المجتمع وإهلاك الإنسانية ، وهو حكم مشروع في شريعة الفطرة له أصل واقعي لا يتغير وهو حاجة الإنسانية في بقائها إلى دفع ما يطاردها وجودا ويناقضها بقاء ثم أصل اجتماعي عقلائي لا يتبدل متفرع على أصله الواقعي وهو وجوب حفظ المجتمع الإنساني عن الانعدام والانهدام.

فهذا هو الذي راموه في عملهم وأخذوه معنى وأنكروه اسما غير أنهم تعدوا هذا القسم المشروع إلى غيره غير المشروع وهو الاستعباد بسبب الغلبة والسلطة فلا يزالون يستعبدون الألوف والملايين قبل حديث الإلغاء وبعده ، ويبيعون ويشترون ويهبون ويعيرون إلا أنهم لا يسمون ذلك استعبادا ، وإنما يسمى استعمارا أو استملاكا أو قيمومة أو حماية أو عناية وإعانة أو غير ذلك من الألفاظ التي لا يراد بشيء منها إلا أن يكون سترة على معنى الاستعباد ، وكلما خلق أو خرق شيء منها رمي به وجيء بآخر.

ولم يبق مما نسخه قرار بروسل ولا يزال يقرع به أسماع الدنيا وأهلها ويتباهى به الدول المتمدنة الذين هم رواد المدنية الراقية ، وبأيديهم راية الحرية الإنسانية إلا الاستعباد من طريق بيع الأبناء والبنات والإخصاء ولا فائدة هامة فيه تعود إليهم مع كونه أشبه بالمسألة الفردية منه بالمسألة الاجتماعية ، ونسخه مع ذلك حجة لفظية تبليغية بأيديهم كسائر حججهم التي لا تعدو مقام اللفظ وتؤثر أثر المعنى.

نعم يبقى هناك محل بحث آخر وهو أن الإسلام يبدأ في غنائمه الحربية من رقيق أو مال غير الأرض المفتوحة عنوة بالأفراد من مجتمعة فيقسمها بينهم ثم ينتهي إلى الدولة

٣٥٥

على ما سير به في صدر الإسلام وهؤلاء يحفظون الاستفادة منها حقا موقوفا على الدولة ، وهذه مسألة أخرى غير مسألة أصل الاسترقاق لعلنا نوفق لاستقصاء البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله من الكلام في آيات الزكاة والخمس والله المستعان.

وبعد ذلك كله نعود إلى كلمة صاحب معجم الأعلام المنقولة سابقا : « مبدأ إلغاء الرق هو تساوي البشر في الحقوق والواجبات » فما معنى تساوي البشر في الحقوق (إلخ) ، فإن أريد به تساويهم في استحقاق ما لهم من الحقوق الواجبة مراعاتها وإن كانت نفس تلك الحقوق مختلفة غير متساوية البتة كاختلاف الرئيس والمرءوس والحاكم والمحكوم والآمر والمأمور والمطيع للقانون والمتخلف عنه والعادل والظالم من جهة اختلافهم في الزنة الاجتماعية.

فهو كذلك لكنه لا يستلزم التسوية بين من هو جزء شريف نافع في المجتمع وبين من ليس في صلاحيته أن ينضم إلى المجتمع ولا كرامة ، وإنما هو كالسم المهلك الذي أينما حل أبطل الحياة فإن من الحكم الفطري الصريح أن يفرق بينهما بإعطاء الحرية الكاملة للأول ، وسلبها عن الثاني فلا حق للعدو على عدوه فيما يعاديه ، ولا واجب للذئب في ذمة الغنم ولا للأسد على فريسته.

وإن أريد به أن الإنسانية لما كانت مشتركة بين أفراد الإنسان وكان في قوة الفرد من الإنسان كائنا من كان أن يرقى في المدنية وينال من السعادة ما يناله الآخر كان من حق الإنسانية على المجتمع الراقي أن يجود بالحرية على كل إنسان ويربيه حتى يلحق المجتمع الصالح.

فلذلك حق لكن ربما كان من شرائط التربية أن يسلب المربي حرية الإرادة والعمل حينا حتى تتم التربية ، ويتبصر النفس المرباة في استعمال إرادتها ، وتتنعم بنعمة حريتها كما يعالج المريض بما يسوؤه ويربى الصغير بما يتحرج منه ، وهذا هو الذي يراه الإسلام من سلب حرية الإرادة والعمل عن الأمة الكافرة المحاربة ، واجتلابهم إلى داخل المجتمع الديني ، وتربيتهم فيها ، وتخليصهم تدريجا إلى ساحة الحرية فإن السلوك سلوك اجتماعي ينبغي أن ينظر إليه وإلى نتيجته وأثره بنظر عام كلي ، وليس بأمر فردي ينظر إليه بنظر فردي جزئي ، ثم من العجب أن هؤلاء أيضا يجرون عملا بما جرت عليه السيرة الإسلامية وإن خالفوه في التسمية وحسن النية كما تقدم بيانه.

٣٥٦

وإن أريد به أن من حق الحرية الإنسانية أن تطرد في الجميع ويخلى بين كل إنسان وإرادته المطلقة.

فمن الواضح الذي لا مرية فيه أن ذلك غير جائز التسليم ولا ميسور العمل على إطلاقه وخاصة في الخصم المحارب وهو المورد الوحيد الذي يعتني به الإسلام في سلب إطلاق الحرية.

ثم لو كان هذا حقا لم يكن فيه فرق بين الواحد والاثنين وبين الجماعة فما بالهم يسلمون للواحد من الحرية القانونية حتى مثل « الانتحار » وللاثنين مثل « دئل » ولا يسلمون لطائفة مساكين من أبناء نوعهم أن ينعزلوا في ملجإ أو مغارات ويشتغلوا بأنفسهم ويأكلوا رزق ربهم ويسلكوا سبيل حياتهم؟.

بقي هنا شيء وهو أنه ربما قال القائل : ما بال الإسلام لم يشرع للرقيق تملك المال حتى يستعين به على حوائجه الضرورية من غير أن يكون كلا على مولاه؟ وما باله لم يحدد الرق بالإسلام حتى ينعتق العبد بالإسلام وينمحي عنه لوث المحرومية اللازمة له ولأعقابه إلى يوم القيامة.

لكن ينبغي أن يتنبه هذا القائل إلى أن الحكم باستقرار الرق والحرمان من تملك المال إنما ظهوره ووقوعه بحسب نظر التشريع في أول زمان الاستيلاء عليه ، وحكم الفطرة عليهم ـ وهم الأعداء المحاربون ـ بجواز سلب الحرية إنما هو لإبطال كيدهم وسلب قوتهم على المقاومة لهدم الاجتماع الديني الصالح ، ولا قوة ولا قدرة إلا بالملك فإذا لم يملكوا عملا ولا نتاج عمل لم يقووا على المخاصمة والمحاربة.

نعم أجاز الإسلام لهم أن يتملكوا في الجملة بتمليك الموالي ، وهذا ملك في طول ملك ، وليس فيه محذور الاستقلال بالتصرف.

وأما تحديد رقهم بالإيمان فهو أمر يبطل السياسة الدينية في حفظ بيضة الإسلام وإقامة المجتمع الديني على ساقه وبسط التربية الدينية على هؤلاء المحاربين المستعلى عليهم بالعدة والقوة ، ولو لا ذلك لدخلوا في ظاهر الدين بمجرد أن استقرت عليهم سيطرة الدين ، وضربت عليهم بذلة العبودية فحفظوا بذلك عدتهم وقوتهم ثم عادوا لما نهوا عنه.

٣٥٧

وليرجع في ذلك إلى السنة الجارية بين الأمم والأقوام من يومنا هذا إلى أقدم العهود التي يستطاع العثور فيها على تاريخ الإنسانية فالأمتان أو القبيلتان إذا تحاربتا وتقاتلتا ثم غلبت إحداهما الأخرى واستعلت عليها فإنها ترى من حقها المشروع لها في الحرب أن تضع في عدوها السيف حتى يسلم لها الأمر تسليما مطلقا من غير شرط.

وليست ترضى من التسليم بمجرد أن تضع الأمة المقاتلة المغلوبة أسلحتها على الأرض فتتركهم وما يريدون بل بالتسليم لأمر الأمة الغالبة ، والخضوع التام لما تحكم فيهم ، وترى لهم أو عليهم ، وتتصرف في نفوسهم وأموالهم.

ومن سفه الرأي أن تقيد هذه السيطرة بقيد يفسد أثر هذا التسليم المطلق ، ويبطل حكمه ، ويمهد الطريق للعدو في الرجوع إلى كيده ومكره ، ويجدد له رجاء العود إلى ما بدأ ، وكيف يسوغ للأمة الغالبة ذلك وقد فدت عن استقلال مجتمعها المقدس عندها بالنفوس والأموال؟ وهل ذلك إلا ظلما لنفسها واستهانة بأعز ما عندها ، وتبذيرا للدماء والأموال والمساعي؟.

وليس لمعترض أن يعترض على أمة غالبة غلبت بتضحية النفوس والأموال فضربت على عدوها بالذلة والمسكنة ، وحفظهم على حالة الرق : بأن رجالهم قاتلوا وقتلوا وأفسدوا فأخذوا بالأسر وجوزوا بسلب الحرية على ما يبيحه الحق المشروع للمحارب على محاربه فما ذنب الأصاغر من الذراري المتولدين بعد ذلك ، ولم يحملوا سلاحا ، ولا سلوا سيفا ، ولا دخلوا معركة؟ وذلك أنهم ضحايا آبائهم.

بعد ذلك كله لا ينبغي أن ينسى أن للحكومة الإسلامية أن يحتال في انعتاق الرقيق بشراء وعتق ونحو ذلك إذا أحرزت أن الأصلح بحال المجتمع الإسلامي ذلك والله أعلم.

(كلام في المجازاة والعفو في فصول)

١ ـ ما معنى الجزاء؟ : لا يخلو أي مجتمع من المجتمعات من تكاليف اجتماعية على أجزائه أن يحترموها فلا هم للمجتمع إلا أن يوافق بين أعمال الأفراد ويقرب بعضها من بعض ، ويربط جانبا منها بجانب حتى تأتلف وتجتمع وترفع بآثارها ونتائجها حوائج

٣٥٨

الأفراد بمقدار ما يستحقه كل واحد بعمله وسعيه.

وهذه التكاليف لما كانت متعلقة بأمور اختيارية يسع الإنسان أخذها وتركها ، وهي بعينها لا تتم إلا مع سلب ما لحرية الإنسان في إرادته وعمله لم يمتنع أن يتخلف عنها أو عن بعضها الإنسان المتمائل بطبعه إلى الاسترسال وإطلاق الحرية.

والتنبه إلى هذا النقص في التكاليف والفتور في بني القوانين هو الذي بعث الإنسان الاجتماعي على أن يتمم نقصها ويحكم فتورها بأمر آخر ، وهو أن يضم إلى مخالفتها والتخلف عنها أمورا يكرهها الإنسان المكلف فيدعوه ذلك إلى طاعة التكليف الذي يكلف به حذرا من أن يحل به ما يكرهه ويتضرر به.

وهذا هو جزاء السيئة ، وهو حق للمجتمع أو لولي الأمر على المتخلف العاصي ، وله نظير في جانب طاعة التكاليف فمن الممكن أن يوضع للمطيع الممتثل بإزاء عمله بالتكليف أمر يؤثره ويحبه ليكون ذلك داعيا يدعوه إلى إتيان الواجب أو المطلوب مطلقا من التكاليف ، وهو حق للمكلف المطيع على المجتمع أو لولي الأمر ، وهذا هو جزاء الحسنة ، وربما يسمى جزاء السيئة عقابا وجزاء الحسنة ثوابا.

وعلى هذه الوتيرة يجري حكم الشريعة الإلهية ؛ قال تعالى : « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى » : يونس : ٢٦ وقال تعالى : « وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها » : يونس : ٢٧ وقال : « وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها » : الشورى : ٤٠.

وللعقاب والثواب عرض عريض آخذا من الاستكراه والاستحسان والذم والمدح إلى آخر ما يتعلق به القدرة من الشر والخير ويرتبطان في ذلك بعوامل مختلفة من خصوصيات الفعل والفاعل وولي التكليف ومقدار الضرر والنفع العائدين إلى المجتمع ، ولعله يجمع الجميع أن العمل كلما زاد الاهتمام بأمره زاد عقابا في صورة المعصية وثوابا في صورة الطاعة.

ويعتبر بين العمل وبين جزائه ـ كيف كان ـ نوع من المماثلة والمسانخة ولو تقريبا ، وعلى ذلك يجري كلامه تعالى أيضا كما هو ظاهر أمثال قوله تعالى : « لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى » : النجم : ٣١ وأوضح منه قوله تعالى وقد حكاه عن صحف إبراهيم وموسى عليه‌السلام : « (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا

٣٥٩

ما سَعى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) » : النجم : ٤١.

وهذا فيما شرعه الله في أمر القصاص أظهر ، قال تعالى : « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى » : البقرة : ١٧٨ وقال : « الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ » : البقرة : ١٩٤.

ولازم هذه المماثلة والمسانخة أن يعود العقاب أو الثواب إلى نفس العامل بمثل ما عمل بمعنى أنه إذا عصى حكما اجتماعيا مثلا فإنما تمتع لنفسه بما يضر المجتمع أي بما يفسد تمتعا من تمتعات المجتمع فينقص من تمتعاته في نفسه ما يعادل ذلك من نفسه أو بدنه أو ماله أو جاهه أو نحو ذلك مما يعود بوجه إليه.

وهذا هو الذي أومأنا إليه في البحث عن معنى الاستعباد أن المجتمع أو من يلي أمره يملك من المجرم نفسه أو شأنا من شئون نفسه يعادل الجرم الذي اجترمه ونقيصة الضرر الذي أوقعه على المجتمع فيعاقب بذلك أي يتصرف المجتمع أو ولي الأمر استنادا إلى هذا الملك ـ وهو الحق ـ في حياة المجرم أو شأن من شئون حياته ، ويسلب حريته في ذلك.

فلو قتل نفسا مثلا بغير نفس أو فساد في الأرض في المجتمع الإسلامي ملك ولي الأمر من المجرم نفسه حيث نقصهم نفسا محترمة ، وحده الذي هو القتل تصرف في نفسه عن الملك الذي ملكه ، ولو سرق ما يبلغ ربع دينار من حرز فقد أضر بالمجتمع بهتك ستر من أستار الأمن العام الذي أسدلته يد الشريعة وحفظته يد الأمانة ، وحدها الذي هو القطع ليس حقيقته إلا أن ولي الأمر ملك من السارق بإزاء ما أتى به شأنا من شئون حياته وهو الشأن الذي تشتمل عليه اليد فيتصرف فيه بسلب ما له من الحرية ووسيلتها من هذه الجهة ، وقس على ذلك أنواع الجزاء في الشرائع والسنن المختلفة.

فيتبين من هنا أن الاجرام والمعصية الاجتماعية يستجلب نوعا من الرق والعبودية ، ولذلك كان العبد أظهر مصاديق المؤاخذة والعقاب قال تعالى : « إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ » : « المائدة : ١١٨ ».

ولهذا المعنى مظاهر متفرقة في سائر الشرائع والسنن المختلفة قال الله تعالى في قصة يوسف عليه‌السلام إذ جعل السقاية في رحل أخيه ليأخذه إليه : « (قالُوا فَما جَزاؤُهُ

٣٦٠