الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

والدعاء بالشر غير الدعاء بالخير حكما فإن الرحمة الإلهية سبقت غضبه وقد قال لموسى فيما أوحي إليه : « عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ » : الأعراف : ١٥٦ فسعة الرحمة الإلهية تقضي بكراهية إصابة الشر والضر لعبد من عباده وإن كان ظالما ، ويشهد بذلك ما يفيض الله سبحانه من نعمه عليهم وسترهم بكرمه وأمره عباده بالحلم والتصبر عند جهالتهم وخرقهم اللهم إلا في إقامة حق لازم ، أو عند اضطرار في مظلمة إذا كانوا على علم بأن مصلحة ملزمة كمصلحة الدين أو أهل الدين تقتضي ذلك.

على أن جهات الخير والسعادة كلما كانت أرق لطافة وأدق رتبة كانت أوقع عند النفوس بالفطرة التي فطر الله الناس عليها بخلاف جهات الشر والشقاء فإن الإنسان بحسب طبعه يفر من الوقوف عليها ، ويحتال أن لا يلتفت إلى أصلها فضلا عن تفاصيل خصوصياتها ، وهذا المعنى يوجب اختلاف الدعاءين أعني الدعاء بالخير والدعاء بالشر من حيث الآداب.

فمن أدب الدعاء بالشر أن تذكر الأمور التي بعثت إلى الدعاء بالتكنية وخاصة في الأمور الشنيعة الفظيعة بخلاف الدعاء بالخير فإن التصريح بعوامل الدعاء فيه هو المطلوب ، وقد راعاه عليه‌السلام في دعائه حيث قال : « لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ » ولم يأت بتفاصيل ما كانت تأتي به آل فرعون من الفظائع.

ومن أدبه الإكثار من الاستغاثة والتضرع وقد راعاه فيما يقول : « رَبَّنا » وتكرره مرات في دعائه على قصره.

ومن أدبه أن لا يقدم عليه إلا مع العلم بأنه على مصلحة الحق من دين أو أهله من دون أن يجري على ظن أو تهمة ، وقد كان عليه‌السلام على علم منه وقد قال الله فيه : « وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى » : طه : ٥٦ وكأنه لذلك أمره الله سبحانه وأخاه عند ما أخبرهما بالاستجابة بقوله : « فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ » والله أعلم.

ومن دعاء موسى ما حكاه الله عنه في قوله : « (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا

٢٨١

وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ ، وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) : الأعراف : ١٥٦.

يبتدئ الدعاء من قوله : « (فَاغْفِرْ لَنا) ، إلخ » غير أن الموقف لما كان موقفا صعبا قد أخذهم الغضب الإلهي والبطش الذي لا يقوم له شيء ، وما مسألة المغفرة والرحمة من سيد ساخط قد هتكت حرمته وأهين على سؤدده كمسألة من هو في حال سوي فلذلك قدم عليه‌السلام ما تسكن به فورة الغضب الإلهي حتى يتخلص إلى طلب المغفرة والرحمة.

فقال : « رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ » يريد عليه‌السلام ـ كما تدل عليه قرينة المقام ـ رب إن نفسي ونفوسهم جميعا قبض قدرتك ، وطوع مشيئتك ، لو شئت أهلكتهم وأنا فيهم قبل اليوم كما أهلكتهم اليوم وأبقيتني ؛ فما ذا أقول لقومي إذا رجعت إليهم واتهموني بأني قتلتهم ، وحالهم ما أنت أعلم به؟ وهذا يبطل دعوتي ويحبط عملي.

ثم عد عليه‌السلام إهلاك السبعين إهلاكا له ولقومه فذكر أنهم سفهاء من قومه لا يعبأ بفعلهم فأخذ ربه برحمته حيث لم يكن من عادته تعالى أن يهلك قوما بفعل السفهاء منهم ، وليس ذلك إلا موردا من موارد الامتحان العام الذي لا يزال جاريا على الإنسان فيضل به كثير ، ويهتدي به كثير ، ولم تقابلها إلا بالصفح والستر.

وإذ كان بيدك أمر نفسي ونفوسنا تقدر على إهلاكنا متى شئت ، وكانت هذه الواقعة غير بدع في مسير امتحانك العام الذي يعقب ضلال قوم وهداية آخرين ، ولا ينتهي إلا إلى مشيئتك فأنت ولينا الذي يقوم بأمرك ومشيئتك تدبير أمورنا ، ولا صنع لنا فيها فاقض فينا بالمغفرة والرحمة فإن من جملة صفاتك أنك خير الغافرين ، واكتب لنا في هذه الدنيا عيشة آمنة من العذاب وهي التي يستحسنها من أحاط به غمر السخط الإلهي ، وفي الآخرة حسنة بالمغفرة والجنة.

وهذا ما ساقه عليه‌السلام في مسألته ، وقد أخذتهم الرجفة وشملتهم البلية ؛ فانظر كيف استعمل جميل أدب العبودية واسترحم ربه ، ولم يزل يستوهب الرحمة ، ويسكن بثنائه فورة السخط الإلهي حتى أجيب إلى ما لم يذكره من الحاجة بين ما ذكره ، وهو إعادة حياتهم إليهم بعد الإهلاك ، وأوحي إليه بما حكاه الله تعالى : « (قالَ عَذابِي

٢٨٢

أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) » : الأعراف : ١٥٦ فما ظنك به تعالى بعد ما قال لموسى عليه‌السلام جوابا لمسألته : « (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).

وقد ذكر تعالى صريح عفوه عن هؤلاء ، وإجابته إلى مسألته موسى عليه‌السلام بإعادة الحياة إليهم وقد أهلكوا وردهم إلى الدنيا بقوله : « (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ، ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : البقرة : ٥٦ ويقرب من ذلك ما في سورة النساء.

وقد استعمل عليه‌السلام من الأدب في كلامه حيث قال : « تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ » لم يذكر أن ذلك من سوء اختيار هؤلاء الضالين لينزهه تعالى لفظا كما كان ينزهه قلبا فيكون على حد قوله تعالى : « يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ » : البقرة : ٢٦ لأن المقام كان يصرفه عن التعرض إلا لكونه تعالى وليا على الإطلاق ينتهي إليه كل التدبير لا غير.

ولم يورد في الذكر أيضا عمدة ما في نفسه من المسألة وهو أن يحييهم الله سبحانه بعد الإهلاك لأن الموقف على ما كان فيه من هول وخطر كان يصرفه عن الاسترسال ، وإنما أشار إليه إشارة بقوله : « (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) ، إلخ ».

ومن دعائه عليه‌السلام ما دعا به حين رجع إلى قومه من الميقات فوجدهم قد عبدوا العجل من بعده ، وقد كان الله سبحانه أخبره بذلك قال تعالى « وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ، قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » : « الأعراف : ١٥٠ فعند ذلك رق له ودعا له ولنفسه ليمتازا بذلك من القوم الظالمين : « قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ » : الأعراف : ١٥١.

ولم يكن يريد التميز منهم وأن يدخلهما الله في رحمته إلا لما كان يعلم أن الغضب الإلهي سينال القوم بظلمهم كما ذكره الله بقوله بعد ذلك : « إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » : الأعراف : ١٥٢ ويعرف بما تقدم وجوه من الأدب في كلامه.

٢٨٣

ومن دعائه عليه‌السلام ـ وهو في معنى الدعاء على قومه إذ قالوا له حين أمرهم بدخول الأرض المقدسة : « يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ » : المائدة : ٢٤ ـ ما حكاه الله تعالى بقوله : « قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ » : المائدة : ٢٥.

وقد أخذ عليه‌السلام بالأدب الجميل حيث كنى عن الإمساك عن أمرهم وتبليغهم أمر ربهم ثانيا بعد ما جبهوا أمره الأول بأقبح الرد وأشنع القول بقوله : « رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي » أي لا يطيعني فيما أمرته إلا نفسي وأخي أي إنهم ردوا علي بما لا مطمع فيهم بعده ، فها أنا أكف عن أمرهم بأمرك وإرشادهم إلى ما فيه صلاح جماعتهم.

وإنما نسب ملك نفسه وأخيه إلى نفسه لأن مراده من الملك بقرينة المقام ملك الطاعة ولو كان هو الملك التكويني لم ينسبه إلى نفسه إلا مع بيان أن حقيقته لله سبحانه ، وإنما له من الملك ما ملكه الله إياه ، ولما عرض لربه من نفسه الإمساك واليأس عن إجابتهم إليه أحال الحكم في ذلك فقال : « فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ».

ومن ذلك ما دعا به شعيب عليه‌السلام على قومه إذ قال : « رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ » : الأعراف : ٨٩.

وهذا استنجاز منه للوعد الإلهي بعد ما يئس من نجاح دعوته فيهم ، ومسألة للقضاء بينه وبينهم بالحق على ما قاله الله تعالى : « وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ » : يونس : ٤٨.

وإنما قال « بَيْنَنا » لأنه ضم المؤمنين به إلى نفسه ، وقد كان الكافرون من قومه هددوا إياه والمؤمنين به جميعا إذ قالوا : « لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا » : الأعراف : ٨٨ فضمهم إلى نفسه وهاجر قومه في عملهم وسار بهم إلى ربه وقال : « (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا) ، إلخ ».

وقد استمسك في دعائه باسمه الكريم : « خَيْرُ الْفاتِحِينَ » لما مر أن التمسك بالصفة المناسبة لمتن الدعاء تأييد بالغ بمنزلة الإقسام ، وهذا بخلاف قول موسى عليه‌السلام : « (رَبِ

٢٨٤

إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) » المنقول آنفا لما تقدم أن لفظه ع ليس بدعاء حقيقة بل هو كناية عن الإمساك عن الدعوة وإرجاع للأمر إلى الله فلا مقتضى للإقسام بخلاف قول شعيب.

ومن ذلك ما حكاه الله من ثناء داود وسليمان عليه‌السلام قال تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ » : النمل : ١٥.

وجه الأدب في حمدهما وشكرهما ونسبة ما عندهما من فضيلة العلم إلى الله سبحانه ظاهر ، فلم يقولا مثل ما حكى عن غيرهما كقول قارون لقومه إذ وعظوه أن لا يستكبر في الأرض بماله : « إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي » : القصص : ٧٨ وكما حكى الله عن قوم آخرين : « فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ » : المؤمن : ٨٣.

ولا ضير في الحمد على تفضيل الله إياهما على كثير من المؤمنين فإنه من ذكر خصوص النعمة وبيان الواقع ، وليس ذلك من التكبر على عباد الله حتى يلحق به ذم ، وقد ذكر الله عن طائفة من المؤمنين سؤال التفضيل ومدحهم على علو طبعهم وسمو همتهم حيث قال : « (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا ـ إلى أن قال ـ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) » : الفرقان : ٧٤.

ومن ذلك ما حكاه عن سليمان عليه‌السلام في قصة النملة بقوله : « حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ » : النمل : ١٩.

ذكرته النملة بما قالته ما له من الملك العظيم الذي شيدت أركانه بتسخير الريح تجري بأمره ، والجن يعملون له ما يشاء والعلم بمنطق الطير وغيره غير أن هذا الملك لم يقع في ذكره عليه‌السلام في صورة أجلى أمنية يبلغها الإنسان كما فينا ولم ينسه عبوديته ومسكنته بل إنما وقع في نفسه في صورة نعمة أنعمها عليه ربه فذكر ربه ونعمته أنعمها عليه وعلى والديه بما خصهم به ، وهو من مثله عليه‌السلام والحال هذا الحال أفضل الأدب مع ربه.

وقد ذكر نعمة ربه ، وهي وإن كانت كثيرة في حقه غير أن مورد نظره عليه‌السلام والمقام ذاك المقام ـ هو الملك العظيم والسلطة القاهرة ، ولذلك ذكر العمل الصالح

٢٨٥

وسأل ربه أن يوزعه ليعمل صالحا لأن العمل الصالح والسيرة الحسنة هو المطلوب ممن استوى على عرش الملك.

فلذلك كله سأل ربه أولا أن يوزعه على شكر نعمته ، وثانيا أن يعمل صالحا ، ولم يرض بسؤال العمل الصالح دون أن قيده بقوله : (تَرْضاهُ) فإنه عبد لا شغل له بغير ربه ؛ ولا يريد الصالح من العمل إلا لأن ربه يرضاه ، ثم تمم مسألة التوفيق لصلاح العمل بمسألة صلاح الذات فقال : « وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ».

ومن ذلك ما حكاه الله عن يونس عليه‌السلام وقد دعا به وهو في بطن الحوت الذي التقمه قال تعالى : « وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ » : الأنبياء : ٨٧.

كان عليه‌السلام ـ على ما يقصه القرآن ـ قد سأل ربه أن ينزل على قومه العذاب فأجابه إلى ذلك فأخبرهم به فلما أشرف عليهم العذاب بالنزول تابوا إلى ربهم فرفع عنهم العذاب ، ولما شاهد يونس ذلك ترك قومه ، وذهب لوجهه حتى ركب السفينة فاعترضها حوت فساهمهم في أن يدفعوا الحوت بإلقاء رجل منهم إليه ليلتقمه وينصرف عن الباقين ، فخرجت القرعة باسمه فألقي في البحر فالتقمه الحوت فكان يسبح الله في بطنه إلى أن أمره الله أن يلقيه إلى ساحل البحر ، ولم يكن ذلك إلا تأديبا إلهيا يؤدب به أنبياءه على حسب ما يقتضيه مختلف أحوالهم ، وقد قال تعالى : « فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ » : الصافات : ١٤٤ فكان حاله في تركه العود إلى قومه وذهابه لوجهه يمثل حال عبد أنكر على ربه بعض عمله فغضب عليه فأبق منه وترك خدمته وما هو وظيفة عبوديته فلم يرتض الله له ذلك فأدبه فابتلاه وقبض عليه في سجن لا يقدر فيه أن يتوسع قدر أنملة في ظلمات بعضها فوق بعض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

ولم يكن ذلك كله إلا لأن يتمثل له على خلاف ما كان يمثله حاله أن الله سبحانه قادر على أن يقبض عليه ويحبسه حيث شاء ، وأن يصنع به ما شاء فلا مهرب من الله سبحانه إلا إليه ، ولذلك لقنه الحال الذي تمثل له وهو في سجنه من بطن الحوت أن يقر لله بأنه هو المعبود الذي لا معبود غيره ، ولا مهرب عن عبوديته فقال : « (لا

٢٨٦

إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) » ولم يناده تعالى بالربوبية ، وهذا أوحد دعاء من أدعية الأنبياء عليهم‌السلام لم يصدر باسم الرب.

ثم ذكر ما جرى عليه الحال من تركه قومه إثر عدم إهلاكه تعالى إياهم بما أنزل عليهم من العذاب فأثبت الظلم لنفسه ونزه الله سبحانه عن كل ما فيه شائبة الظلم والنقص فقال : « سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ».

ولم يذكر مسألته ـ وهي الرجوع إلى مقامه العبودي السابق ـ عدا لنفسه دون لياقة الاستعطاء واستحقاق العطاء استغراقا في الحياء والخجل ، والدليل على مسألته قوله تعالى بعد الآية السابقة : « فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ » : الأنبياء : ٨٨.

والدليل على أن مسألته كانت هي الرجوع إلى سابق مقامه قوله تعالى : « فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ، وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ، وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ » : الصافات : ١٤٨.

ومن ذلك ما ذكره الله تعالى عن أيوب (عليه‌السلام) بعد ما أزمنه المرض وهلك عنه ماله وولده حيث قال : « وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ » : الأنبياء : ٨٣.

وجوه التأدب فيه ظاهرة مما تقدم بيانه ، ولم يذكر (عليه‌السلام) حاجته صريحا على حد ما تقدم من أدعية آدم ونوح وموسى ويونس عليه‌السلام هضما لنفسه واستحقارا لأمره ، وأدعية الأنبياء كما تقدم ويأتي خالية عن التصريح بالحاجة إذا كان مما يرجع إلى أمور الدنيا وإن كانوا لا يريدون شيئا من ذلك اتباعا لهوى أنفسهم.

وبوجه آخر ذكره السبب الباعث إلى المسألة كمس الضر والصفة الموجودة في المسئول المطمعة للسائل في المسألة ككونه تعالى أرحم الراحمين ، والسكوت عن ذكر نفس الحاجة ، أبلغ كناية عن أن الحاجة لا تحتاج إلى ذكر فإن ذكرها يوهم أن الأسباب المذكورة ليست بكافية في إثارة رحمة من هو أرحم الراحمين بل يحتاج إلى تأييد بالذكر وتفهيم باللفظ.

ومن ذلك ما حكاه عن زكريا (ع) : حيث قال : « (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ

٢٨٧

زَكَرِيَّا ، إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ، قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) » : مريم : ٦.

إنما حثه على هذا الدعاء ورغبه في أن يستوهب ولدا من ربه ما شاهده من أمر مريم ابنة عمران في زهدها وعبادتها ، وما أكرمها الله سبحانه به من أدب العبودية ، وخصها به من كرامة الرزق من عنده على ما يقصه الله تعالى في سورة آل عمران قال تعالى : « وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ، هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ » : آل عمران : ٣٨.

فغشيه شوق شديد إلى ولد طيب صالح يرثه ويعبد ربه عبادة مرضية كما ورثت مريم عمران وبلغت جهدها في عبادة ربها ونالت منه الكرامة غير أنه وجد نفسه وقد نال منه الشيب ، وانهدت منه القوى ، وكذلك امرأته وقد كانت عاقرة في سني ولادتها فأدركته من حسرة الحرمان من نعمة الولد الطيب الرضي ما الله أعلم به ، لكن لم يملك نفسه مما هاج فيه من الغيرة الإلهية والاعتزاز بربه دون أن رجع إلى ربه وذكر له ما يثور به الرحمة والحنان من حاله أنه لم يزل عالقا على باب العبودية والمسألة منذ حداثة سنه حتى وهن عظمه واشتعل رأسه شيبا ، ولم يكن بدعائه شقيا ، وقد وجده سبحانه سميع الدعاء فليسمع دعاءه وليهب له وارثا رضيا.

والدليل على ما ذكرنا أنه إنما سأل ما سأل بما ملك نفسه من هيجان الوجد والحزن ما حكاه الله تعالى عنه بعد ما أوحي إليه بالاستجابة بقوله : « قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ، قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً » : مريم : ٩ فإنه ظاهر في أنه (عليه‌السلام) لما سمع الاستجابة صحا عن حاله وأخذ يتعجب من غرابة المسألة والإجابة حتى سأل ربه عن ذلك في صورة الاستبعاد وسأل لنفسه عليه آية فأجيب إليها أيضا.

وكيف كان فالذي استعمله عليه‌السلام في دعائه من الأدب هو ما ساقه إليه حال الوجد والحزن الذي ملكه ، ولذلك قدم على دعائه بيان ما بلغ به الحال في سبيل ربه

٢٨٨

فقد صرف دهره في سلوك سبيل الإنابة والمسألة حتى وقف موقفا يرق له قلب كل ناظر رحيم ثم سأل الولد وعلله بأن ربه سميع الدعاء.

فهذا معنى ما ذكره مقدمة لمسألته لا أنه كان يمتن بطول عبوديته على ربه ـ حاشا مقام النبوة ـ فمعنى قوله على ما في سورة آل عمران : « رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ » أني أسألك ما أسألك لا لأن لطول عبوديتي ـ وهو دعاؤه المديد ـ قدرا عندك أو فيه منه عليك بل لأني أسألك ، وقد وجدتك سميعا لدعاء عبادك ومجيبا لدعوة السائلين المضطرين ، وقد اضطرني خوف الموالي من ورائي ، والحث الشديد لذرية طيبة يعبدك أن أسألك.

وقد تقدم أن من الأدب الذي استعمله في دعائه أن ألحق تخوف الموالي قوله : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » والرضي وإن كان طبعه يدل بهيئته على ثبوت الرضا لموصوفه ، والرضا يشمل بإطلاقه رضى الله ورضى زكريا ورضى يحيى لكن قوله في آية آل عمران : « ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً » يدل على أن المراد بكونه رضيا كونه مرضيا عند زكريا لأن الذرية إنما تكون طيبة لصاحبها لا غير.

ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المسيح حين سأل المائدة بقوله : « قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ » : المائدة : ١١٤.

القصة المذكورة في كلامه تعالى في سؤال الحواريين عيسى عليه‌السلام نزول مائدة من السماء عليهم تدل بسياقه أن هذه المسألة كانت من الأسئلة الشاقة على عيسى عليه‌السلام لأن ما حكي عنهم من قولهم له : « يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ » كان أولا مشتملا بظاهره على الاستفهام عن قدرة الله سبحانه ، ولا يوافق ذلك أدب العبودية وإن كان حاق مرادهم السؤال عن المصلحة دون أصل القدرة فإن حزازة اللفظ على حالها.

وكان ثانيا متضمنا لاقتراح آية جديدة مع أن آياته عليه‌السلام الباهرة كانت قد أحاطت بهم من كل جهة فكانت نفسه الشريفة آية ، وتكلمه في المهد آية ، وإحياؤه

٢٨٩

الموتى وخلقه الطير وإبراؤه الأكمه والأبرص وإخباره عن المغيبات وعلمه بالتوراة والإنجيل والكتاب والحكمة آيات إلهية لا تدع لشاك شكا ولا لمرتاب ريبا فاختيارهم آية لأنفسهم وسؤالهم إياه كان بظاهره كالعبث بآيات الله واللعب بجانبه ، ولذلك وبخهم بقوله : « اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »

لكنهم أصروا على ذلك ووجهوا مسألتهم بقولهم : « نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ » وألجئوه إلى السؤال فسأل.

أصلح عليه‌السلام بأدبه الموهوب من جانب الله سبحانه ما اقترحوه من السؤال بما يصلح به أن يقدم إلى حضرة العزة والكبرياء فعنونه أولا بعنوان أن يكون عيدا لهم يختصون هو وأمته به فإنها آية اقتراحية عديمة النظير بين آيات الأنبياء عليهم‌السلام حيث كانت آياتهم إنما تنزل لإتمام الحجة أو لحاجة الأمة إلى نزولها ، وهذه الآية لم تكن على شيء من هاتين الصفتين.

ثم أجمل ثانيا ما فصله الحواريون من فوائد نزولها من اطمئنان قلوبهم بها وعلمهم بصدقه عليه‌السلام وشهادتهم عليها ، في قوله : « وَآيَةً مِنْكَ ».

ثم ذكر ثالثا ما ذكروه من عرض الأكل وأخره وإن كانوا قدموه في قولهم : « (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) ، إلخ » وألبسه لباسا آخر أوفق بأدب الحضور فقال : « وَارْزُقْنا » ثم ذيله بقوله : « وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ » ليكون تأييدا للسؤال بوجه ، وثناء له تعالى من وجه آخر.

وقد صدر مسألته بندائه تعالى : « اللهُمَّ رَبَّنا » فزاد على ما يوجد في سائر أدعية الأنبياء عليهم‌السلام من قولهم « رب » أو « ربنا » لأن الموقف صعب كما تقدم بيانه.

ومنه مشافهته عليه‌السلام ربه المحكية بقوله تعالى : « وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » :

٢٩٠

« المائدة : ١١٨.

تأدب عليه‌السلام في كلامه أولا بأن صدره بتنزيهه تعالى عما لا يليق بقدس ساحته كما جرى عليه كلامه تعالى قال : « وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ » : الأنبياء : ٢٦.

وثانيا بأن أخذ نفسه أدون وأخفض من أن يتوهم في حقه أن يقول مثل هذا القول حتى يحتاج إلى أن ينفيه ، ولذلك لم يقل من أول مقالته إلى آخرها : « ما قلت » أو « ما فعلت » وإنما نفى ذلك مرة بعد مرة على طريق الكناية وتحت الستر فقال : « ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ » فنفاه بنفي سببه أي لم يكن لي حق في ذلك حتى يسعني أن أتفوه بمثل ذاك القول العظيم ، ثم قال : « إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ » ، إلخ » فنفاه بنفي لازمه أي إن كنت قلته كان لازم ذلك أن تعلمه لأن علمك أحاط بي وبجميع الغيوب.

ثم قال : « ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ » فنفاه بإيراد ما يناقضه مورده على طريق الحصر بما وإلا أي إني قلت لهم قولا ولكنه هو الذي أمرتني به وهو أن اعبدوا الله ربي وربكم ، وكيف يمكن أن أقول لهم مع ذلك أن اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟.

ثم قال : « وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ » وهو نفي منه عليه‌السلام لذلك كالمتمم لقوله : « ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ » « إلخ » وذلك لأن معناه : ما قلت لهم شيئا مما ينسب إلي والذي قلت لهم إنما قلته عن أمر منك ، وهو « أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ » ولم يتوجه إلى أمر فيما سوى ذلك ، ولا مساس بهم إلا الشهادة والرقوب لأعمالهم ما دمت ، فلما توفيتني انقطعت عنهم ، وكنت أنت الرقيب عليهم بشهادتك الدائم العام قبل أن توفيتني وبعده وعليهم وعلى كل شيء غيرهم.

وإذ قد بلغ الكلام هذا المبلغ توجه له عليه‌السلام أن ينفي ذلك القول عن نفسه بوجه آخر متمم للوجوه التي ذكرها ، وبه يحصل تمام النفي فقال : « (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) ، « إلخ » يقول ـ على ما يؤيده السياق ـ وإذا كان الأمر على ما ذكرت فأنا بمعزل منهم وهم بمعزل مني فأنت وعبادك هؤلاء إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وللسيد الرب أن يعذب عبيده بمخالفتهم وإشراكهم به وهم مستحقون للعذاب ، وإن تغفر لهم فلا

٢٩١

عتب عليك لأنك عزيز غير مغلوب وحكيم لا يفعل الفعل السفهي اللغو ، وإنما يفعل ما هو الأصلح.

وبما بينا يظهر وجوه لطيفة من أدب العبودية في كلامه عليه‌السلام ولم يورد جملة في كلامه إلا وقد مزجها بأحسن الثناء بأبلغ بيان وأصدق لسان.

ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ألحق به في ذلك المؤمنين من أمته فقال تعالى : « آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ » : البقرة : ٢٨٦.

كلامه تعالى ـ كما ترى ـ يحكي إيمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن الكريم فيما اشتمل عليه من أصول المعارف ، وفيما اشتمل عليه من الأحكام الإلهية جميعا ، ثم يلحق به صلى‌الله‌عليه‌وآله المؤمنين من أمته دون المعاصرين الحاضرين عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم فحسب ، بل المؤمنين من جميع الأمة على ما هو ظاهر السياق.

ولازم ذلك أن يكون ما ذكر فيه من إقرار أو ثناء أو دعاء بالنسبة إلى بعضهم محكيا عن لسان حالهم ، وإن أمكن أن يكون ذلك مما قاله آخرون بلسان قالهم ، أو يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو القائل ذلك مشافها ربه عن نفسه الشريفة وعن المؤمنين لأنهم بإيمانهم من فروع شجرة نفسه الطيبة المباركة.

والآيتان تشتملان على ما هو كالمقايسة والموازنة بين أهل الكتاب وبين مؤمني هذه الأمة من حيث تلقيهم ما أنزل إليهم في كتاب ، الله وإن شئت قلت : من حيث تأدبهم بأدب العبودية تجاه الكتاب النازل إليهم ، فإنه ظاهر ما أثنى الله سبحانه على هؤلاء وخفف الله عنهم في الآيتين بعين ما وبخ أولئك عليه وعيرهم به في الآيات السابقة من سورة البقرة فقد ذم أهل الكتاب بالتفريق بين ملائكة الله فأبغضوا جبريل وأحبوا غيره ، وبين كتب الله المنزلة فكفروا بالقرآن وآمنوا بغيره ، وبين رسل الله فآمنوا

٢٩٢

بموسى أو به وبعيسى وكفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبين أحكامه فآمنوا ببعض ما في كتاب الله وكفروا ببعض ، والمؤمنون من هذه الأمة آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله.

فقد تأدبوا مع ربهم بالتسليم لما أحقه الله من المعارف الملقاة إليهم ثم تأدبوا بالتلبية لما ندب الله إليه من أحكامه إذ قالوا : « سَمِعْنا وَأَطَعْنا » لا كقول اليهود : « سَمِعْنا وَعَصَيْنا » ثم تأدبوا فعدوا أنفسهم عبادا مملوكين لربهم لا يملكون منه شيئا ولا يمتنون عليه بإيمانهم وطاعتهم فقالوا : « غُفْرانَكَ رَبَّنا » لا كما قالت اليهود : « سَيُغْفَرُ لَنا » وقالت : « إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ » وقالت : « لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً » إلى غير ذلك من هفواتهم.

ثم قال الله سبحانه : « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ » فإن التكليف الإلهي يتبع بحسب طبعه الفطرة التي فطر الناس عليها ، ومن المعلوم أن الفطرة التي هي نوع الخلقة لا تدعو إلا إلى ما جهزت به ، وفي ذلك سعادة الحياة البتة.

نعم لو كان الأمر على ضرب من الأهمية القاضية بزيادة الاهتمام به ، أو خرج العبد المأمور عن حكم الفطرة وزي العبودية جاز بحكم آخر من قبل الفطرة أن يوجه المولى أو كل من بيده الأمر إليه من الحكم ما هو خارج عن سعته المعتادة كان يأمره بالاحتياط بمجرد الشك ، واجتناب النسيان والخطإ إذا اشتد الاهتمام بالأمر ، نظير وجوب الاحتياط في الدماء والفروج والأموال في الشرع الإسلامي ، أو يحمل عليه الكلفة ويزيد في التضييق عليه كلما زاد في اللجاج وألح في المسألة كما أخبر الله بنظائر ذلك في بني إسرائيل.

وكيف كان فقوله : « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً » إما ذيل كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنون ، وإنما قالوه تقدمة لقولهم : « (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) ، إلخ » ليجري مجرى الثناء عليه تعالى ودفعا لما يتوهم أن الله سبحانه يؤاخذ بما فوق الطاقة ويكلف بالحرجي من الحكم فيندفع بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وأن الذي سألوه بقولهم : « (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) ، إلخ » إنما هو الأحكام بعناوين ثانوية ناشئة من قبل الحكم أو من قبل المكلفين بالعناد

٢٩٣

لا من قبله تعالى.

وإما كلام له تعالى موضوع بين فقرتين من دعائم المحكي في كلامه أعني قولهم : « (غُفْرانَكَ رَبَّنا) إلخ » وقولهم : « (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) ، إلخ » ليفيد ما مر من الفائدة ويكون تأديبا وتعليما لهم منه تعالى فيكون جاريا مجرى كلامهم لأنهم مؤمنون بما أنزل الله ، وهو منه ، وعلى أي حال فهو مما يعتمد عليه كلامهم ، ويتكئ عليه دعاؤهم.

ثم ذكر بقية دعائهم وإن شئت فقل : طائفة أخرى من مسائلهم : « رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا » إلخ « رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً » إلخ « رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا » وكان مرادهم به العفو عما صدر منهم من النسيان والخطإ وسائر موجبات الحرج « وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا » في سائر ذنوبنا وخطيئاتنا ولا يلزم من ذكر المغفرة هاهنا التكرار بالنظر إلى قولهم سابقا : « غُفْرانَكَ رَبَّنا » لأنها كلمة حكيت عنهم لفائدة قياس حالهم وأدبهم مع ربهم على أهل الكتاب في معاملتهم مع ربهم وبالنسبة إلى كتابهم المنزل إليهم ، على أن مقام الدعاء لا يمانع التكرار كسائر المقامات.

واشتمال هذا الدعاء على أدب العبودية في التمسك بذيل الربوبية مرة بعد مرة والاعتراف بالمملوكية والولاية ، والوقوف موقف الذلة ومسكنة العبودية قبال رب العزة مما لا يحتاج إلى بيان.

وفي القرآن الكريم تأديبات إلهية وتعليمات عالية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأقسام من الثناء يثني بها على ربه أو المسألة التي يسأله بها كما في قوله تعالى : « قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ » إلى آخر الآيتين : آل عمران : ٢٦ وقوله تعالى : « قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ » : الزمر : ٤٦ وقوله تعالى : « قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى » : النمل : ٥٩ وقوله تعالى : « قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ » الخ : الأنعام : ١٦٢ ، وقوله تعالى : « وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً » : طه : ١١٤ وقوله : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) » الخ : المؤمنون : ٩٧ إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة جدا.

ويجمعها جميعا أنها تشتمل على أدب بارع أدب الله به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وندب هو إليه أمته.

٢٩٤

٧ ـ [ أدبهم مع ربهم بين الناس ] رعايتهم الأدب عن ربهم فيما حاوروا قومهم ، وهذا أيضا باب واسع وهو ملحق بالأدب في الثناء على الله سبحانه ، وهو من جهة أخرى من أبواب التبليغ العملي الذي لا يقصر أو يزيد أثرا على التبليغ القولي.

وفي القرآن من ذلك شيء كثير قال تعالى في محاورة جرت بين نوح وقومه : « قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ، وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » : هود : ٣٤ ينفي عليه‌السلام عن نفسه ما نسبوا إليه من إتيان الآية ليعجزوه به ، وينسبه إلى ربه ويبالغ في الأدب بقوله : « إِنْ شاءَ » ثم بقوله « وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ » أي لله ، ولذلك نسبه إليه تعالى بلفظ « اللهُ » دون لفظ « ربي » لأن الله هو الذي ينتهي إليه كل جمال وجلال ، ولم يكتف بنفي القدرة على إتيان الآية عن نفسه وإثباته حتى ثناه بنفي نفع نصحه لهم إن لم يرد الله أن ينتفعوا به فأكمل بذلك نفي القدرة عن نفسه وإثباته لربه ، وعلل ذلك بقوله : « هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ».

فهذه محاورة غاصة بالأدب الجميل في جنب الله سبحانه حاور بها نوح عليه‌السلام الطغاة من قومه محاجا لهم ، وهو أول نبي من الأنبياء عليهم‌السلام فتح باب الاحتجاج في الدعوة إلى التوحيد ، وانتهض على الوثنية على ما يذكره القرآن الشريف.

وهذا أوسع هذه الأبواب مسرحا لنظر الباحث في أدب الأنبياء عليهم‌السلام يعثر على لطائف من سيرتهم المملوءة أدبا وكمالا فإن جميع أقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم مبنية على أساس المراقبة والحضور العبودي ، وإن كانت صورتها صورة عمل من غاب عن ربه وغاب عنه ربه سبحانه قال تعالى : « وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ » : الأنبياء : ٢٠.

وقد حكى الله تعالى في كلامه محاورات كثيرة عن هود وصالح وإبراهيم وموسى وشعيب ويوسف وسليمان وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيرهم من الأنبياء عليهم‌السلام في حالات لهم مختلفة كالشدة والرخاء والحرب والسلم والإعلان والإسرار والتبشير والإنذار وغير ذلك.

٢٩٥

تدبر في قوله تعالى : « فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي » : طه : ٨٦ يذكر موسى عليه‌السلام إذ رجع إلى قومه وقد امتلأ غيظا وحنقا لا يصرفه ذلك عن رعاية الأدب في ذكر ربه.

وقوله تعالى : « وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » : يوسف : ٢٣ وقوله تعالى : « قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ، قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ » : يوسف : ٩٢ يذكر يوسف في خلإ المراودة الذي يملك من الإنسان كل عقل ويبطل عنده كل حزم لا يشغله ذلك عن التقوى ثم عن رعاية الأدب في ذكر ربه ومع غيره.

وقوله تعالى : « فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ » : النمل : ٤٠ وهذا سليمان عليه‌السلام وقد أوتي من عظيم الملك ونافذ الأمر وعجيب القدرة أن أمر بإحضار عرش ملكة سبإ من سبإ إلى فلسطين فأحضر في أقل من طرفة عين فلم يأخذه كبر النفس وخيلاؤها ، ولم ينس ربه ولم يمكث دون أن أثنى على ربه في ملئه بأحسن الثناء.

وليقس ذلك إلى ما ذكره الله من قصة نمرود مع إبراهيم عليه‌السلام إذ قال : : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ » : البقرة : ٢٥٨ وقد قال ذلك إذ أحضر رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر.

أو إلى ما ذكره فرعون مصر إذ قال كما حكاه الله : « يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ ، فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ » : الزخرف : ٥٣ يباهي بملك مصر وأنهاره ومقدار من الذهب كان يملكه هو وملؤه ولا يلبث دون أن يقول كما حكى الله : « أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى » وهو الذي كانت تستذله آيات موسى يوما بعد يوم من طوفان وجراد وقمل

٢٩٦

وضفادع وغير ذلك.

وقوله تعالى : « إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا » : التوبة : ٤٠ وقوله : « (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً ـ إلى أن قال ـ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) » : التحريم : ٣ فلم يهزهزه صلى‌الله‌عليه‌وآله شدة الأمر والهول والفزع في يوم الخوف أن يذكر أن ربه معه ولم تنجذب نفسه الشريفة إلى ما كان يهدده من الأمر ، وكذا ما أسر به إلى بعض أزواجه في الخلوة في اشتماله على رعاية الأدب في ذكر ربه.

وعلى وتيرة هذه النماذج المنقولة تجري سائر ما وقع في قصصهم عليه‌السلام في القرآن الكريم من الأدب الرائع والسنن الشريفة ، ولو لا أن الكلام قد طال بنا في هذه الأبحاث لاستقصينا قصصهم وأشبعنا فيها البحث.

٨ ـ [ أدب الأنبياء مع الناس ] أدب الأنبياء عليهم‌السلام مع الناس في معاشرتهم ومحاورتهم ، مظاهر هذا القسم هي الاحتجاجات المنقولة عنهم في القرآن مع الكفار ، والمحاورات التي حاوروا بها المؤمنين منهم ، ثم شيء يسير من سيرتهم المنقولة.

أما الأدب في القول فإنك لا تجد فيما حكي من شذرات أقوالهم مع العتاة والجهلة أن يخاطبوهم بشيء مما يسوؤهم أو شتم أو إهانة وإزراء وقد نال منهم المخالفون بالشتم والطعن والاستهزاء والسخرية كل منال فلم يجيبوهم إلا بأحسن القول وأنصح الوعظ معرضين عنهم بسلام وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.

قال تعالى : « (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ـ يعني قوم نوح ـ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ ، قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) » : هود : ٢٨.

وقال تعالى حكاية عن عاد قوم هود : « إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، مِنْ دُونِهِ » : هود : ٥٥ يريدون باعتراء بعض آلهتهم إياه بسوء ابتلائه عليه‌السلام بمثل جنون أو سفاهة ونحو ذلك.

وقال تعالى حكاية عن آزر : « (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ

٢٩٧

تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ، قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) » : مريم : ٤٧.

وقال تعالى حكاية عن قوم شعيب عليه‌السلام : « قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ ، قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ » : الأعراف : ٦٨.

وقال تعالى : « (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ، قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا ـ إلى أن قال ـ قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ، قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) » : الشعراء : ٢٨.

وقال تعالى حكاية عن قوم مريم : « قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا ، يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ، فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ، قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا » الخ : مريم : ٣٠.

وقال تعالى يسلي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما رموه به من الكهانة والجنون والشعر : « فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ، أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ، قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ » : الطور : ٣١.

وقال : « وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً ، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً » : الفرقان : ٩.

إلى غير ذلك من أنواع الشتم والرمي والإهانة التي حكي عنهم في القرآن ، ولم ينقل عن الأنبياء عليهم‌السلام أن يقابلوهم بخشونة أو بذاء بل بالقول الصواب والمنطق الحسن اللين اتباعا للتعليم الإلهي الذي لقنهم خير القول وجميل الأدب قال تعالى خطابا لموسى وهارون عليه‌السلام : « اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى » : طه : ٤٤ وقال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً » : الإسراء : ٢٨.

ومن أدبهم في المحاورة والخطاب أنهم كانوا ينزلون أنفسهم منزلة الناس فيكلمون كل طبقة من طبقاتهم على قدر منزلته من الفهم ، وهذا ظاهر بالتدبر فيما حكي من

٢٩٨

محاوراتهم الناس على اختلافهم المنقولة عن نوح فمن بعده ، وقد روى الفريقان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم.

». وليعلم أن البعثة بالنبوة إنما بنيت على أساس الهداية إلى الحق وبيانه والانتصار له فعليهم أن يتجهزوا بالحق في دعوتهم ، وينخلعوا عن الباطل ويتقوا شبكات الضلال أيا ما كانت سواء وافق ذلك رضى الناس أو سخطهم ، واستعقب طوعهم أو كرههم ولقد ورد منه تعالى أشد النهي في ذلك لأنبيائه وأبلغ التحذير حتى عن اتباع الباطل قولا وفعلا بغرض نصرة الحق فإن الباطل باطل سواء وقع في طريق الحق أو لم يقع ، والدعوة إلى الحق لا يجامع تجويز الباطل ولو في طريق الحق والحق الذي يهدي إليه الباطل وينتجه ليس بحق من جميع جهاته.

ولذلك قال تعالى : « وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً » : الكهف : ٥١ وقال : « وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ، إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً » : الإسراء : ٧٥ فلا مساهلة ولا ملابسة ولا مداهنة في حق ولا حرمة لباطل.

ولذلك جهز الله سبحانه رجال دعوته وأولياء دينه وهم الأنبياء عليهم‌السلام بما يسهل لهم الطريق إلى اتباع الحق ونصرته ، قال تعالى : « ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً » : الأحزاب : ٣٩ فأخبر أنهم لا يتحرجون فيما فرض الله لهم ويخشونه ولا يخشون أحدا غيره فليس أي مانع من إظهارهم الحق ولو بلغ بهم أي مبلغ وأوردهم أي مورد.

ثم وعدهم النصر فيما انتهضوا له فقال : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ » : الصافات : ١٧٣ وقال : « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا » : المؤمن : ٥١.

ولذلك نجدهم فيما حكي عنهم لا يبالون شيئا في إظهار الحق وقول الصدق وإن لم يرتضه الناس واستمروه في مذاقهم ، قال تعالى حاكيا عن نوح يخاطب قومه : « وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ » : هود : ٢٩ وقال عن قول هود : « إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ » :

٢٩٩

هود : ٥٠ وقوله لقومه : « قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ » : الأعراف : ٧١ ، وقال تعالى يحكي عن لوط : « بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ » : الأعراف : ٨١ وحكى عن إبراهيم من قوله لقومه : « أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ » : الأنبياء : ٦٧ وحكى عن موسى في جواب قول فرعون له : « إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ، قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً » : الإسراء : ١٠٢ أي ممنوعا من الإيمان بالحق مطرودا هالكا ، إلى غير ذلك من الموارد.

فهذه كلها من رعاية الأدب في جنب الحق واتباعه ، ولا مطلوب أعز منه ولا بغية أشرف منه وأغلى ، وإن كان في بعضها ما ينافي الأدب الدائر بين الناس لابتناء حياتهم على اتباع جانب الهوى والسلوك إلى أمتعة الحياة بمداهنة المبطلين والخضوع والتملق إلى المفسدين والمترفين سياسة في العمل.

وجملة الأمر أن الأدب كما تقدم في أول هذه المباحث إنما يتأتى في القول السائغ والعمل الصالح ، ويختلف حينئذ باختلاف مسالك الحياة في المجتمعات والآراء والعقائد التي تتمكن فيها وتتشكل هي عنها ، والدعوة الإلهية التي تستند إليها المجتمع الديني إنما تتبع الحق في الاعتقاد والعمل ، والحق لا يخالط الباطل ولا يمازجه ولا يستند إليه ولا يعتضد به فلا محيص عن إظهاره واتباعه ، والأدب الذي يتأتى فيه أن يسلك في طريق الحق أحسن المسالك ويتزيى فيه بأظرف الأزياء كاختيار لين القول إذا صح أن يتكلم بلينة وخشونة ، واختيار الاستعجال في الخبر إذا أمكن فيه كل من المسارعة والتبطي.

وهذا هو الذي يأمر به في قوله تعالى : « (وَكَتَبْنا لَهُ ـ أي لموسى ـ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) » : الأعراف : ١٤٥ وبشر عباده الآخذين به في قوله : « فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ » : الزمر : ١٨ فلا أدب في باطل ولا أدب في ممزوج من حق وباطل فإن الخارج من صريح الحق ضلال لا يرتضيه ولي الحق وقد قال : « فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ » : يونس : ٣٢.

٣٠٠