الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

غير أن التوحيد حكمه سار إلى أعمالهم متمكن فيها والدليل عليه قوله : « لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » فلو لا أن الشرك جار في الأعمال متسرب فيها لم يستوجب حبطها فالتوحيد المنافي له كذلك.

ومعنى سراية التوحيد في الأعمال كون صورها تمثل التوحيد وتحاكيه محاكاة المرآة لمرئيها بحيث لو فرض أن التوحيد تصور لكان هو تلك الأعمال بعينها ، ولو أن تلك الأعمال تجردت اعتقادا محضا لكانت هي هو بعينه.

وهذا المعنى كثير المصداق في الصفات الروحية فإنك ترى أعمال المتكبر يمثل ما في نفسه من صفة الكبر والخيلاء ، وكذلك البائس المسكين يحاكي جميع حركاته وسكناته ما في سره من الذلة والاستكانة وهكذا.

ثم أدب تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمره أن يقتدي بهداية من سبقه من الأنبياء عليهم‌السلام لا بهم ، والاقتداء إنما يكون في العمل دون الاعتقاد فإنه غير اختياري بحسب نفسه أي أن يختار أعمالهم الصالحة المبنية على التوحيد الصادرة عنهم عن تأديب عملي إلهي.

ونعني بهذا التأديب العملي ما يشير إليه قوله تعالى : « وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ » : الأنبياء : ٣٧ فإن إضافة المصدر في قوله « فِعْلَ الْخَيْراتِ » « إلخ » ، تدل على أن المراد به الفعل الصادر منهم من خيرات فعلوها وصلاة أقاموها وزكاة آتوها دون مجرد الفعل المفروض فهذا الوحي المتعلق بالأفعال في مرحلة صدورها منهم وحي تسديد وتأديب ، وليس هو وحي النبوة والتشريع ، ولو كان المراد به وحي النبوة لقيل : « وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » كما في قوله تعالى : « ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ » : النحل : ١٢٣ وقوله : « وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ » : يونس : ٨٧ إلى غير ذلك من الآيات ، ومعنى وحي التسديد أن يخص الله عبدا من عباده بروح قدسي يسدده في أعمال الخير والتحرز عن السيئة كما يسددنا الروح الإنساني في التفكر في الخير والشر ، والروح الحيواني في اختيار ما نشتهيه من الجذب والدفع بالإرادة ، وسيجيء الكلام المبسوط في ذلك إن شاء الله.

وبالجملة فقوله : « فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ » تأديب إلهي إجمالي له صلى‌الله‌عليه‌وآله بأدب التوحيد

٢٦١

المنبسط على أعمال الأنبياء عليهم‌السلام المنزهة من الشرك.

ثم قال تعالى ـ بعد ما ذكر عدة من أنبيائه عليه‌السلام ـ في سورة مريم « (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ، إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) : مريم : ٦٠.

فذكر تعالى أدبهم العام في حياتهم أنهم يعيشون على الخضوع عملا وعلى الخشوع قلبا لله عز اسمه فإن سجودهم عند ذكر آيات الله تعالى مثال الخضوع وبكاءهم وهو لرقة القلب وتذلل النفس آية الخشوع وهما معا كناية عن استيلاء صفة العبودية على نفوسهم بحيث كلما ذكروا بآية من آيات الله بان أثره في ظاهرهم كما استولت الصفة على باطنهم فهم على أدبهم الإلهي وهو سمة العبودية إذا خلوا مع ربهم وإذا خلوا للناس ، فهم يعيشون على أدب إلهي مع ربهم ومع الناس جميعا.

ومن الدليل على أن المراد به الأدب العام قوله تعالى في الآية الثانية : « فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ » فإن الصلاة وهي التوجه إلى الله هي حالهم مع ربهم واتباع الشهوات حالهم مع غيرهم من الناس ، وحيث قوبل أولئك بهؤلاء أفاد الكلام أن أدب الأنبياء العام أن يراجعوا ربهم بسمة العبودية وأن يسيروا بين الناس بسمة العبودية أي تكون بنية حياتهم مبنية على أساس أن لهم ربا يملكهم ويدبر أمرهم ، منه بدءوهم وإليه مرجعهم فهذا هو الأصل في جميع أحوالهم وأعمالهم.

والذي ذكره تعالى من استثناء التائبين منهم أدب آخر إلهي بدأ فيه بآدم عليه‌السلام أول الأنبياء حيث قال : « وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى » : طه : ١٣٢ وسيجيء بعض القول فيه إن شاء الله تعالى.

وقال تعالى : « ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ؛ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً » : الأحزاب : ٣٩.

أدب عام أدب الله سبحانه به أنبياءه عليه‌السلام وسنة جارية له فيهم أن لا

٢٦٢

يتحرجوا في ما قسم لهم من الحياة ولا يتكلفوا في أمر من الأمور إذ كانوا على الفطرة والفطرة لا تهدي إلا إلى ما جهزها الله بما يلائمها في نيله ، ولا تتكلف الاستواء على ما لم يسهل الله لها الارتقاء على مستواه ، قال تعالى حكاية عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ » : ص : ٨٦ وقال تعالى : « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » : البقرة : ٢٨٦ وقال تعالى : « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها » : الطلاق : ٧ وإذ كان التكلف خروجا عن الفطرة فهو من اتباع الشهوة والأنبياء في مأمن منه.

وقال تعالى وهو أيضا من التأديب بأدب جامع : « يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ » : المؤمنون : ٥٢ أدبهم تعالى أن يأكلوا من الطيبات أي أن يتصرفوا في الطيبات من مواد الحياة ولا يتعدوها إلى الخبائث التي تتنفر منها الفطرة السليمة وأن يأتوا من الأعمال بالصالح منها وهو الذي يصلح للإنسان أن يأتي به مما تميل إليه الفطرة بحسب ما جهزها الله من أسباب تحفظ بعملها بقائه إلى حين ، أو أن يأتوا بالعمل الذي يصلح أن يقدم إلى حضرة الربوبية ، والمعنيان متقاربان ، فهذا أدب يتعلق بالإنسان الفرد.

ثم وصله تعالى بأدب اجتماعي فذكر لهم أن الناس ليسوا إلا أمة واحدة : المرسلون والمرسل إليهم ، وليس لهم إلا رب واحد فليجتمعوا على تقواه ، ويقطعوا بذلك دابر الاختلافات والتحزبات ، فإذا التقى الأمران أعني الأدب الفردي والاجتماعي تشكل مجتمع واحد بشرى مصون عن الاختلاف يعبد ربا واحدا ، ويجري الآحاد منه على الأدب الإلهي فاتقوا خبائث الأفعال وسيئات الأعمال فقد استووا على أريكة السعادة.

وهذا ما جمعته آية أخرى وهي قوله تعالى : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ » : الشورى : ١٣.

وقد فرق الله الأدبين في موضع آخر فقال : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ » : الأنبياء : ٢٥ فأدبهم بتوحيده وبناء

٢٦٣

العبادة عليه ، وهذا هو أدبهم بالنسبة إلى ربهم ، وقال : « (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ـ إلى أن قال ـ وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) » : الفرقان : ٢٠ فذكر أن سيرة الأنبياء جميعا وهو أدبهم الإلهي هو الاختلاط بالناس ورفض التحجب والاختصاص والتميز من بين الناس فكل ذلك مما تدفعه الفطرة ، وهذا أدبهم في الناس.

٦ ـ [ أدب الأنبياء المحكي في القرآن تفصيلا ] من أدب الأنبياء عليهم‌السلام في توجيههم الوجوه إلى ربهم ودعائهم إياه ما حكاه الله تعالى من قول آدم عليه‌السلام وزوجته : « رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ » : الأعراف : ٢٣ كلمة قالاها بعد ما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله أن يقربا منها ، وإنما كان نهي إرشاد ليس بالمولوي ، ولم يعصياه عصيان تكليف بل كان ذلك منهما مخالفة نصيحة في رعايتها صلاح حالهما ، وسعادة حياتهما في الجنة الأمنة من كل شقاء وعناء ، وقد قال لهما ربهما في تحذيرهما عن متابعة إبليس : « فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى » : طه : ١١٩.

فلما وقعا في المحنة وشملتهما البلية ، وأخذت سعادة الحياة يوادعهما وداع ارتحال لم يشتغلا بأنفسهما اشتغال اليائس البائس ، ولم يقطع القنوط ما بينهما وبين ربهما من السبب الموصول بل بادرا إلى الالتجاء بالله الذي إليه أمرهما ، وبيده كل خير يأملانه لأنفسهما فأخذا وتعلقا بصفة ربوبيته المشتملة على كل ما يدفع به الشر ويجلب به الخير ، فالربوبية هي الصفة الكريمة يربط العبد بالله سبحانه.

ثم ذكرا الشر الذي يهددهما بظهور آياته وهو الخسران ـ كأنهما اشتريا لذة الأكل بطاعة الإرشاد الإلهي فبان لهما أن سعادتهما قد أشرفت بذلك على الزوال ـ في الحياة ، وذكرا حاجتهما إلى ما يدفع هذا الشر عنهما فقالا : « وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ » أي إن خسران الحياة يهددنا وقد أطل بنا وما له من دافع إلا مغفرتك للذنب الصادر عنا وغشيانك إيانا بعد ذلك برحمتك وهي السعادة لما أن الإنسان بل كل موجود مصنوع يشعر بفطرته المغروزة أن من شأن الأشياء الواقعة في منزل الوجود

٢٦٤

ومسير البقاء أن تستتم ما يعرضها من النقص والعيب ، وأن السبب الجابر لهذا الكسر هو الله سبحانه وحده فهو من عادة الربوبية.

ولذلك كان يكفي مجرد إظهار الحال ، وإبراز ما نزل على العبد من مسكنة الحاجة فلا حاجة إلى السؤال بلفظ بل في بدو الحاجة أبلغ السؤال وأفصح الاقتراح.

ولذلك لم يصرحا بما يسألانه ولم يقولا : « فاغفر لنا وارحمنا » ولأنهما ـ وهو العمدة ـ أوقفا أنفسهما بما صدر عنهما من المخالفة موقف الذلة والمسكنة التي لا وجه معها ولا كرامة ، فنتجت لهما التسليم المحض لما يصدر في ذلك من ساحة العزة ومن الحكم فكفا عن كل مسألة واقتراح غير أنهما ذكرا أنه ربهما فأشارا إلى ما يطمعان فيه منه مع اعترافهما بالظلم.

فكان معنى قولهما : « رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ » : أسأنا فيما ظلمنا أنفسنا فأشرفنا بذلك على الخسران المهدد لعامة سعادتنا في الحياة فهو ذا الذلة والمسكنة أحاطت بنا ، والحاجة إلى إمحاء وسمة الظلم وشمول الرحمة شملتنا ، ولم يدع ذلك لنا وجهة ولا كرامة نسألك بها ، فها نحن مسلمون لحكمك أيها الملك العزيز فلك الأمر ولك الحكم غير أنك ربنا ونحن مربوبان لك نأمل منك ما يأمله مربوب من ربه.

ومن أدبهم ما حكاه الله تعالى من دعوة نوح عليه‌السلام في ابنه : « (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ، قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ ـ إلى أن قال ـ وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ، قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) » : هود : ٤٧.

لا ريب أن الظاهر من قول نوح عليه‌السلام أنه كان يريد الدعاء لابنه بالنجاة غير أن التدبر في آيات القصة يكشف الغطاء عن حقيقة الأمر بنحو آخر :

فمن جانب أمره الله بركوب السفينة هو وأهله والمؤمنون بقوله : « (احْمِلْ فِيها مِنْ

٢٦٥

كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) » : هود : ٤٠ فوعده بإنجاء أهله واستثنى منهم من سبق عليه القول ، وقد كانت امرأته كافرة كما ذكرها الله في قوله : « ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ » : التحريم : ١٠ وأما ابنه فلم يظهر منه كفر بدعوة نوح ، والذي ذكره الله من أمره مع أبيه وهو في معزل إنما هو معصية بمخالفة أمره عليه‌السلام وليس بالكفر الصريح فمن الجائز أن يظن في حقه أنه من الناجين لظهور كونه من أبنائه وليس من الكافرين فيشمله الوعد الإلهي بالنجاة.

ومن جانب قد أوحى الله تعالى إلى نوح عليه‌السلام حكمه المحتوم في أمر الناس كما قال : « (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) : هود ـ ٣٧ فهل المراد بالذين ظلموا الكافرون بالدعوة أو يشمل كل ظلم أو هو مبهم مجمل يحتاج إلى تفسير من لدن قائله تعالى؟.

فكان هذه الأمور رابته عليه‌السلام في أمر ابنه ولم يكن نوح عليه‌السلام بالذي يغفل من مقام ربه وهو أحد الخمسة أولي العزم سادات الأنبياء ، ولم يكن لينسى وحي ربه : « وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ » ولا ليرضى بنجاة ابنه ولو كان كافرا ماحضا في كفره ، وهو عليه‌السلام القائل فيما دعا على قومه : « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً » : نوح : ٢٦ ولو رضي في ابنه بذلك لرضي بمثله في امرأته.

ولذلك لم يجترئ عليه‌السلام على مسألة قاطعة بل ألقى مسألته كالعارض المستفسر لعدم إحاطته بالعوامل المجتمعة واقعا على أمر ابنه ، بل بدأ بالنداء باسم الرب لأنه مفتاح دعاء المربوب المحتاج السائل ثم قال : « إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ » كأنه يقول وهذا يقضي بنجاة ابني « وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ » لا خطأ في أمرك ولا مغمض في حكمك فما أدري إلى م انجر أمره؟.

وهذا هو الأدب الإلهي أن يقف العبد على ما يعلمه ، ولا يبادر إلى مسألة ما لا يدري وجه المصلحة فيه.

فألقى نوح عليه‌السلام القول على وجد منه كما يدل عليه لفظ النداء في قوله : « وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ » فذكر الوعد الإلهي ولما يزد عليه شيئا ولا سأل أمرا.

٢٦٦

فأدركته العصمة الإلهية وقطعت عليه الكلام ، وفسر الله سبحانه له معنى قوله في الوعد : « وَأَهْلَكَ » أن المراد به الأهل الصالحون وليس الابن بصالح ، وقد قال تعالى من قبل : « وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ » وقد أخذ نوح عليه‌السلام بظاهر الأهل وأن المستثنى منهم هو امرأته الكافرة فقط ، ثم فرع عليه النهي عن السؤال فيما ليس له به علم ، وهو سؤال نجاة ابنه على ما كان يلوح إليه كلامه أنه سيسألها.

فانقطع عنه السؤال بهذا التأديب الإلهي ، واستأنف عليه‌السلام بكلام آخر صورته صورة التوبة وحقيقته الشكر لما أنعم الله بهذا الأدب الذي هو من النعمة فقال : « رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ » فاستعاذ إلى ربه مما كان من طبع كلامه أن يسوقه إليه وهو سؤال نجاة ابنه ولا علم له بحقيقة حاله.

ومن الدليل على أنه لم يقع منه سؤال بعد هو قوله : « أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ » « إلخ » ولم يقل : « أعوذ بك من سؤال ما ليس لي به علم » لتدل إضافة المصدر إلى فاعله وقوع الفعل منه.

« لا تَسْالْنِ » « إلخ » ، ولو كان سأله لكان من حق الكلام أن يقابل بالرد الصريح أو يقال مثلا : « لا تعد إلى مثله » كما وقع نظيره في موارد من كلامه تعالى كقوله : « قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي » : الأعراف : ١٤٣ ، وقوله : « (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ـ إلى أن قال ـ يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) » : النور : ١٧.

ومن دعاء نوح عليه‌السلام ما حكاه الله تعالى بقوله : « رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً » : نوح : ٢٨ حكاه الله تعالى عنه في آخر سورة نوح بعد آيات كثيرة أوردها في حكاية شكواه عليه‌السلام الذي بثه لربه فيما جاهد به من دعوة قومه ليلا ونهارا فيما يقرب من ألف سنة من مدى حياته ، وما قاساه من شدتهم وكابده من المحنة في جنب الله سبحانه ، وبذل من نفسه مبلغ جهدها ، وصرف منها في سبيل هدايتهم منتهى طوقها فلم ينفعهم دعاؤه إلا فرارا ، ولم يزدهم نصحه إلا استكبارا.

ولم يزل بعد ما بثه فيهم من النصيحة والموعظة الحسنة وقرعه أسماعهم من الحق والحقيقة ، ويشكو إلى ربه ما واجهوه به من العناد والإصرار على الخطيئة ، وقابلوه

٢٦٧

به من المكر والخديعة حتى هاج به الوجد والأسف وأخذته الغيرة الإلهية فدعا عليهم فقال : « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً » : نوح : ٢٧.

وما ذكره من إضلالهم عباد الله إن تركهم الله على الأرض هو الذي ذكره عنهم في ضمن كلامه السابق المحكي عنه : « وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً » وقد أضلوا كثيرا من المؤمنين به فخاف إضلالهم الباقين منهم ، وقوله : « وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً » إخبار ببطلان استعداد أصلابهم وأرحامهم أن يخرج منها مؤمن ؛ ذكره ـ وهو من أخبار الغيب ـ عن تفرس نبوي ووحي إلهي.

وإذا دعا على الكافرين لغيرة إلهية أخذته ، وهو النبي الكريم أول من جاء بكتاب وشريعة ، وانتهض لإنقاذ الدنيا من غمرة الوثنية ولم يلبه من المجتمع البشري إلا قليل ـ وهو قريب من ثمانين نسمة على ما في الأخبار ـ فكان من أدب هذا الموقف أن لا ينسى المؤمنين بربه الآخذين بدعوته ، ويدعو لهم إلى يوم القيامة بالخير.

فقال : « رَبِّ اغْفِرْ لِي » فبدأ بنفسه لأن الكلام في معنى طلب المغفرة لمن يسلك سبيله فهو إمامهم وأمامهم « وَلِوالِدَيَّ » وفيه دليل على إيمانهما « وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً » وهم المؤمنون به من أهل عصره « وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ » وهم جميع المؤمنين أهل التوحيد فإن قاطبتهم أمته ، ورهن منته إلى يوم القيامة ، وهو أول من أقام الدعوة الدينية في الدنيا بكتاب وشريعة ، ورفع أعلام التوحيد بين الناس ، ولذلك حياة الله سبحانه بأفضل تحيته إذ قال : « سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ » : الصافات : ٧٩ فعليه السلام من نبي كريم كلما آمن بالله مؤمن ، أو عمل له بعمل صالح ، وكلما ذكر لله عز اسمه اسم ، وكلما كان في الناس من الخير والسعادة رسم ؛ فذلك كله من بركة دعوته ، وذنابة نهضته ، صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أجمعين.

ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم عليه‌السلام في محاجته قومه : « (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ، وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي

٢٦٨

بِالصَّالِحِينَ ، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ، وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ، وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) » : الشعراء : ٨٧.

دعاء يدعو عليه‌السلام به لنفسه ، ولأبيه عن موعدة وعدها إياه ، وقد كان هذا أول أمره ولم ييأس بعد من إيمان أبيه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.

وقد بدأ فيه بالثناء على ربه ثناء جميلا على ما هو أدب العبودية وهذا أول ثناء مفصل حكاه الله سبحانه عنه عليه‌السلام ، وما حكى عنه قبل ذلك ليس بهذا النحو كقوله : « يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » : الأنعام : ٧٩ وقوله لأبيه : « سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا » : مريم : ٤٧.

وقد استعمل عليه‌السلام من الأدب في ثنائه أن أتى بثناء جامع أدرج فيه عناية ربه به من بدء خلقه إلى أن يعود إلى ربه ، وأقام فيه نفسه مقام الفقر والحاجة كلها ، ولم يذكر لربه إلا الغنى والجود المحض ، ومثل نفسه عبدا داخرا لا يقدر على شيء وتقلبه المقدرة الإلهية حالا إلى حال من خلق ثم إطعام وسقي وشفاء عن مرض ثم أماته ثم إحياء ثم إشخاص إلى جزاء يوم الجزاء ، وليس له إلا الطاعة المحضة والطمع في غفران الخطيئة.

ومن الأدب المراعي في بيانه نسبة المرض إلى نفسه في قوله : « وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ » لما أن نسبته إليه تعالى في مثل المقام وهو مقام الثناء لا يخلو عن شيء ، والمرض وإن كان من جملة الحوادث وهي لا تخلو عن نسبة إليه تعالى ، لكن الكلام ليس مسوقا لبيان حدوثه حتى ينسب إليه تعالى بل لبيان أن الشفاء من المرض من رحمته وعنايته تعالى ، ولذلك نسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه بدعوى أنه لا يصدر منه إلا الجميل.

ثم أخذ في الدعاء واستعمل فيه من الأدب البارع أن ابتدأ باسم الرب وقصر مسألته على النعم الحقيقية الباقية من غير أن يلتفت إلى زخارف الدنيا الفانية ، واختار مما اختاره ما هو أعظم وأفخم فسأل الحكم وهو الشريعة واللحوق بالصالحين وسأل لسان صدق في الآخرين وهو أن يبعث الله بعده زمانا بعد زمان ، وحينا بعد حين من يقوم بدعوته ، ويروج شريعته ، وهو في الحقيقة سؤال أن يخصه بشريعة باقية إلى يوم

٢٦٩

القيامة ثم سأل وراثة الجنة ومغفرة أبيه وعدم الخزي يوم القيامة.

وقد أجابه الله تعالى إلى جميع ما سأله عنه على ما ينبئ به كلامه تعالى إلا دعاءه لأبيه وحاشا رب العالمين أن يذكر دعاء عبد من عباده المكرمين مما ذهب سدى لم يستجبه ، قال تعالى : « مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ » : الحج : ٧٨ وقال : « وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ » : الزخرف : ٢٨ وقال : « لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ » : البقرة : ١٣٠ وحياة بسلام عام إذ قال : « سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ » : الصافات : ١٠٩.

وسير التاريخ بعده عليه‌السلام يصدق جميع ما ذكره القرآن الشريف من محامده وأثنى فيه عليه فإنه عليه‌السلام هو النبي الكريم قام وحده بدين التوحيد وإحياء ملة الفطرة وانتهض لهدم أركان الوثنية ، وكسر الأصنام على حين اندرست فيه آيات التوحيد ، وعفت الأيام فيها رسوم النبوة ونسيت الدنيا اسم نوح والكرام من أنبياء الله ، فأقام دين الفطرة على ساق ، وبث دعوة التوحيد بين الناس ودين التوحيد حتى اليوم وقد مضى من زمنه ما يقرب من أربعة آلاف سنة حي باسمه باق في عقبه فإن الذي تعرفه الدنيا من دين التوحيد هو دين اليهود ونبيهم موسى ، ودين النصارى ونبيهم عيسى ، وهما من آل إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام ، ودين الإسلام الذي بعث به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه‌السلام.

ومما ذكره الله من دعائه قوله : « رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ » : الصافات : ١٠٠ يسأل الله فيه ولدا صالحا ، وفيه اعتصام بربه ، وإصلاح لمسألته الذي هي بوجه دنيوية بوصف الصلاح ليعود إلى جهة الله وارتضائه.

ومما ذكره تعالى من دعائه ما دعا به حين قدم إلى أرض مكة وقد أسكن إسماعيل وأمه بها ، قال تعالى : « وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » : البقرة : ١٢٦.

يسأل ربه أن يتخذ أرض مكة ـ وهي يومئذ أرض قفرة وواد غير ذي زرع ـ حرما لنفسه ليجمع بذلك شمل الدين ، ويكون ذلك رابطة أرضية جسمانية بين الناس وبين ربهم يقصدونه لعبادة ربهم ، ويتوجهون إليه في مناسكهم ، ويراعون حرمته

٢٧٠

فيما بينهم فيكون ذلك آية باقية خالدة لله في الأرض يذكر الله كل من ذكره ، ويقصده كل من قصده ، وتتشخص به الوجهة ، وتتحد به الكلمة.

والدليل على أنه عليه‌السلام يريد بالأمن الأمن التشريعي الذي هو معنى اتخاذه حرما دون الأمن الخارجي من وقوع المقاتلات والحروب وسائر الحوادث المفسدة للأمن المخلة بالرفاهية قوله تعالى : « أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ » : القصص : ٥٧ فإن في الآية امتنانا عليهم بأمن الحرم وهو المكان الذي احترمه الله لنفسه فاتصف بالأمن من جهة ما احترمه الناس لا من جهة عامل تكويني يقيه من الفساد والقتل ، والآية نزلت وقد شاهدت مكة حروبا مبيدة بين قريش وجرهم فيها ، وكذا من القتل والجور والفساد ما لا يحصى ، وكذا قوله تعالى : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ » : العنكبوت : ٦٧ أي لا يتخطفون من الحرم لاحترام الناس إياه لمكان الحرمة التي جعلناها.

وبالجملة كان مطلوبه عليه‌السلام هو أن يكون لله في الأرض حرم تسكنه ذريته ، وكان لا يحصل ذلك إلا ببناء بلد يقصده الناس من كل جانب فيكون مجمعا دينيا يؤمونه بالسكونة واللواذ والزيارة إلى يوم القيامة فلذلك سأل أن يجعله بلدا آمنا ، وقد كان غير ذي زرع فسأل أن يرزقهم من الثمرات حتى يعمر بسكانه ولا يتفرقوا منه.

ثم لما أحس أن دعاءه بهذا التشريف يشمل المؤمن والكافر قيد مسألته بإيمان المدعو لهم بالله واليوم الآخر فقال : « مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ » وأما أن ذلك كيف يمكن في بلد لو اتفق أن يسكن فيه المؤمنون والكفار معا واختلفوا ، أو إذا قطن فيه الكفار فقط؟ وكيف يرزقون من الثمرات والأرض بطحاء غير ذي زرع؟ فلم يتعرض له في مسألته.

وهذا من أدبه عليه‌السلام في مقام الدعاء فإن من فضول القول أن يعلم الداعي ربه كيف يقضي حاجته؟ وما هو الطريق إلى إجابة مسألته؟ وهو رب عليم حكيم قدير إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

لكن الله سبحانه إذ كان يريد أن يقضي حاجته على السنة الجارية في الأسباب العادية ولا يفرق فيها بين المؤمن والكافر تمم دعاءه عليه‌السلام بما قيد به كلامه من قوله :

٢٧١

« وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ».

وهذا الدعاء الذي أدى إلى تشريع الحرم الإلهي وبناء الكعبة المقدسة التي هي أول بيت وضع للناس ببكة مباركة وهدى للعالمين هو إحدى ثمرات همته العالية المقدسة التي امتن به على من بعده من المسلمين إلى يوم القيامة.

ومما دعا عليه‌السلام دعاؤه في آخر عمره على ما حكاه الله تعالى بقوله : « وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ، رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ » : إبراهيم : ٤١.

وهذا مما دعا عليه‌السلام به في أواخر عمره الشريف وقد بنيت بلدة مكة ، والدليل عليه قول فيه : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ » وقوله : « اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً » ولم يقل كما في دعائه السابق : « واجعل هذا بلدا آمنا ».

ومما استعمل فيه من الأدب تمسكه بالربوبية في دعائه ، وكلما ذكر ما يختص بنفسه قال : « رَبِّ » وكلما ذكر ما يشاركه فيه غيره قال : « رَبَّنا ».

ومن الأدب المستعمل في دعائه أن كلما ذكر حاجة من الحوائج يمكن أن يسأل لغرض مشروع أو غير مشروع ذكر غرضه الصحيح من حاجته ، وفيه من إثارة الرحمة الإلهية ما لا يخفى فلما قال : « اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ » « إلخ » ، ذكر بعده قوله : « رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ » « إلخ » ، وحيث قال : « رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ » « إلخ » ، قال بعده : « رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ » وإذ دعا بقوله : « فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ » ذيله بقوله : « لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ».

ومن أدبه فيه أنه أردف كل حاجة ذكرها بما يناسب مضمونها من أسماء الله

٢٧٢

الحسنى كالغفور والرحيم وسميع الدعاء ، وكرر اسم الرب كلما ذكر حاجة من حوائجه فإن الربوبية هي السبب الموصول بين العبد وبين الله تعالى ، وهو المفتاح لباب كل دعاء.

ومن أدبه فيه قوله : « وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » حيث لم يدع عليهم بشيء يسوء غير أنه ذكر مع ذكرهم اسمين من أسماء الله تعالى هما الواسطتان في شمول نعمة السعادة على كل إنسان أعني الغفور الرحيم حبا منه لنجاة أمته وانبساط جود ربه.

ومن ذلك ما حكاه الله عنه وعن ابنه إسماعيل وقد اشتركا فيه ، وهو قوله تعالى : « وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » : البقرة : ١٢٩.

دعاء دعوا به عند بنائهما الكعبة ، وفيه من الأدب الجميل ما في سابقه.

ومن ذلك ما حكاه الله عن إسماعيل عليه‌السلام في قصة الذبح قال تعالى : « فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ » : الصافات : ١٠٢.

وصدر كلامه وإن كان من أدبه مع أبيه إلا أن الذيل فيما بينه وبين ربه على أن التأدب مع مثل إبراهيم خليل الله عليه‌السلام تأدب مع الله تعالى.

وبالجملة لما ذكر له أبوه ما رآه في المنام ، وكان أمرا إلهيا بدليل قول إسماعيل :« افْعَلْ ما تُؤْمَرُ » أمره أن يرى فيه رأيه ، وهو من أدبه عليه‌السلام مع ابنه فقال له إسماعيل : « (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ، إلخ » ولم يذكر أنه الرأي الذي رآه هضما لنفسه وتواضعا لأبيه كأنه لا رأي له قبال رأيه ولذلك صدر القول بخطابه بالأبوة ، ولم يقل : « إن شئت فافعل ذلك ليكون مسألته القطعية تطييبا لنفس أبيه ، ولأنه ذكر في كلامه أنه أمر أمر به إبراهيم ، ولا يتصور في حق مثله أن يتروي أو يتردد في فعل ما أمر به دون أن يمتثل أمر ربه.

٢٧٣

ثم في قوله : « سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ » تطييب آخر لنفس أبيه ، وكل ذلك من أدبه مع أبيه عليه‌السلام.

وقد تأدب مع ربه إذ لم يأت بما وعده إياه في صورة القطع والجزم دون أن استثنى بمشيئة الله فإن في القطع من غير تعليق الأمر بمشيئة الله شائبة دعوى الاستقلال في السببية ، ولتخل عنها ساحة النبوة ، وقد ذم الله لذلك قوما إذ قطعوا أمرا ولم يعلقوا كما قال في قصة أصحاب الجنة : « إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ ، وَلا يَسْتَثْنُونَ » : القلم : ١٨ وقد أدب الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه بأن يستثني في قوله تأديبا بكناية عجيبة إذ قال : « وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ » : الكهف : ٢٤.

ومن ذلك ما حكاه الله عن يعقوب عليه‌السلام حين رجع بنوه من مصر وقد تركوا بنيامين ويهودا بها قال تعالى : « وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ، قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ، قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ » : يوسف : ٨٦.

يقول لبنيه إن مداومتي على ذكر يوسف شكاية مني سوء حالي إلى الله ولست بائس من رحمة ربي أن يرجعه إلي من حيث لا يحتسب ، وذلك أن من أدب الأنبياء مع ربهم أن يتوجهوا في جميع أحوالهم إلى ربهم ويوردوا عامة حركاتهم وسكناتهم في سبيله فإن الله سبحانه ينص على أنه هداهم إليه صراطا مستقيما قال : « أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ » : الأنعام : ٩٠ وقال في خصوص يعقوب : « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا » : الأنعام : ٨٤ ثم ذكر أن اتباع الهوى ضلال عن سبيل الله فقال تعالى : « وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ » : ص : ٢٦.

فالأنبياء وهم المهديون بهداية الله لا يتبعون الهوى البتة فعواطفهم النفسانية وأميالهم الباطنية من شهوة أو غضب أو حب أو بغض أو سرور أو حزن مما يتعلق بمظاهر الحياة من مال وبنين ونكاح ومأكل وملبس ومسكن وغير ذلك كل ذلك واقعة في سبيل الله لا يقصدون به إلا الله جلت عظمته فإنما هما سبيلان مسلوكان سبيل يتبع فيه الحق وسبيل يتبع فيه الهوى ، وإن شئت قلت : سبيل ذكر الله

٢٧٤

وسبيل نسيانه.

والأنبياء عليهم‌السلام إذ كانوا مهديين إلى الله لا يتبعون الهوى كانوا على ذكر من ربهم لا يقصدون بحركة أو سكون غيره تعالى ، ولا يقرعون بحاجة من حوائج حياتهم باب غيره من الأسباب بمعنى أنهم إذا تعلقوا بسبب لم ينسهم ذلك ربهم وأن الأمر إليه تعالى لا أنهم ينفون الأسباب نفيا مطلقا لا يبقى مع ذلك لها وجود في التصور مطلقا فإن ذلك مما لا مطمع فيه ، ولا أنهم يرون ذوات الأشياء وينفون عنها وصفة السببية فإن في ذلك خروجا عن صراط الفطرة الإنسانية بل التعلق به أن لا يرى لغيره استقلالا ، ويضع كل شيء موضعه الذي وضعه الله فيه.

وإذ كان حالهم عليه‌السلام ما ذكرنا من تعلقهم بالله حق التعلق تمكن منهم هذا الأدب الإلهي أن يراقبوا مقام ربهم ويراعوا جانب ربوبيته فلا يقصدوا شيئا إلا لله ، ولا يتركوا شيئا إلا لله ، ولا يتعلقوا بسبب إلا وهم متعلقون بربهم قبله ومعه وبعده ، فهو غايتهم على كل حال.

فقوله عليه‌السلام : « إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ » يريد به أن ذكري المستمر ليوسف وأسفي عليه ليس على حد ما يلغو أحدكم إذا أصابته مصيبة ففقد نعمة من نعم الله فيذكرها لمن لا يملك منه نفعا ولا ضرا بجهل منه ، وإنما ذلك شكوى مني إلى الله فيما دخلني من فقد يوسف ، وليس ذلك مسألة مني في أمر لا يكون فإني (أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

ومن ذلك ما حكاه الله عن يوسف الصديق حين هددته امرأة العزيز بالسجن إن لم يفعل ما كانت تأمره به : « قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ » : يوسف : ٣٣.

يذكر عليه‌السلام لربه أن أمره يدور عندهن في موقفه ذاك بين السجن وبين إجابتهن إلى ما يسألنه ، وأنه بعلمه الذي أكرمه الله به ، وهو المحكي عنه في قوله تعالى : « وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً » : يوسف : ٢٢ يختار السجن على إجابتهن غير أن الأسباب منضودة على طبق ما يرجونه منه قوية غالبة فهي تهدده بالجهل بمقام ربه وإبطال ما عنده من العلم بالله ، ولا حكم في ذلك إلا له تعالى كما قال لصاحبه في السجن :

٢٧٥

« إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ » : يوسف : ٤٠ ولذلك تأدب ع ولم يذكر لنفسه حاجة لأنه حكم بنحو ، بل لوح إلى تهديد الجهل إياه بإبطال نعمة العلم الذي أكرمه بها ربه ، وذكر أن نجاته من مهلكة الجهل واندفاع كيدهن تتوقف إلى صرفه تعالى فسلم الأمر إليه وسكت.

فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن وهو الصبوة وإلا فالسجن فتخلص من السجن والصبوة جميعا ، ومنه يعلم أن مراده من كيدهن هو الصبوة والسجن جميعا ، وأما قوله عليه‌السلام : « (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) ، إلخ » فإنما هو تمايل قلبي إلى السجن على تقدير تردد الأمر وكناية عن النفرة والمباغضة للفحشاء وليس بسؤال منه للسجن كما قال عليه‌السلام :

الموت أولى من ركوب العار

والعار أولى من دخول النار

لا كما ربما يظن أنه سأل بذلك السجن فقضي له به ، والدليل على ما ذكرناه قوله تعالى بعده : « ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ » : يوسف : ٣٥ لظهور الآية أن سجنه كان عن رأي بدا لهم بعد ذلك ، وقد كان الله سبحانه صرف عنه قبل ذلك بالدعوة إلى أنفسهن والتهديد بالسجن.

ومنه ما حكى الله سبحانه من ثنائه ودعائه عليه‌السلام حيث قال : « فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ، وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ » : يوسف : ١٠١.

فليتدبر الباحث فيما يعطيه الآيات من أدب النبوة وليمثل عنده ما كان عليه يوسف عليه‌السلام من الملك ونفوذ الأمر وما كان عليه أبواه من توقان النفس إلى لقائه ، وما كان عليه إخوته من التواضع وهم جميعا على ذكر من تاريخ حياته من حين فقدوه إلى حين وجدوه وهو عزيز مستو على عرش العزة والهيمنة.

٢٧٦

لم يشق عليه‌السلام فما بكلام إلا ولربه فيه نصيب أو كل النصيب إلا ما أصدره من الأمر بقوله : « ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ » فأمرهم بالدخول وحكم لهم بالأمن ، ولم يستتم الكلام حتى استثنى فيه بمشيئة الله لئلا يوهم الاستقلال في الحكم دون الله ، وهو عليه‌السلام القائل : « إن الحكم إلا لله ».

ثم شرع في الثناء على ربه فيما جرى عليه منذ فارقهم إلى أن اجتمع بهم وبدأ في ذلك بقصة رؤياه وتحقق تأويلها وصدق فيه أباه لا فيما عبرها به فقط بل حتى فيما ذكره في آخر كلامه من علم الله وحكمته توغلا منه في الثناء على ربه حيث قال له أبوه : « (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ ـ إلى أن قال ـ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) » : يوسف : ٦ وقال له يوسف هاهنا بعد ما صدقه فيما عبر به رؤياه : « إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ » : يوسف : ١٠٠.

ثم أشار إلى إجمال ما جرى عليه ما بين رؤياه وتأويلها فنسبها إلى ربه ووصفها بالحسن وهو من الله إحسان ، ومن ألطف أدبه توصيفه ما لقي من إخوته حين ألقوه في غيابة الجب إلى أن شروه بثمن بخس دراهم معدودة ، واتهموه بالسرقة بقوله : « نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي »

ولم يزل يذكر نعم ربه ويثني عليه ويقول : ربي وربي حتى غشيه الوله وأخذته جذبة إلهية فاشتغل بربه وتركهم كأنه لا يعرفهم ، وقال : « (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) ، فأثنى على ربه بحاضر نعمه عنده ، وهو الملك والعلم بتأويل الأحاديث ، ثم انتقلت نفسه الشريفة من ذكر النعم إلى أن ربه الذي أنعم عليه بما أنعم لأنه فاطر السماوات والأرض ، ومخرج كل شيء من العدم البحت إلى الوجود من غير أن يكون لشيء من الأشياء جدة من نفسه يملك به ضرا أو نفعا أو نعمة أو نقمة أو صلاحية أن يدبر أمر نفسه في دنيا أو آخرة.

وإذ كان فاطر كل شيء فهو ولي كل شيء ، ولذلك ذكر بعد قوله : « فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » أنه عبد داخر لا يملك تدبير نفسه في دنيا ولا آخرة بل هو تحت ولاية الله سبحانه يختار له من الخير ما يشاء ويقيمه أي مقام أراد فقال : « أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ » وعندئذ ذكر ما له من مسألة يحتاج فيها إلى ربه وهو أن ينتقل من الدنيا

٢٧٧

إلى الآخرة وهو في حال الإسلام إلى ربه على حد ما منحه الله آباءه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قال تعالى : « (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ـ وهو الاصطفاء ـ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ، وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) » : البقرة : ١٣٢.

وهو قوله : « تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ » يسأل التوفي على الإسلام ثم اللحوق بالصالحين ، وهو الذي سأله جده إبراهيم عليه‌السلام بقوله : « رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ » : الشعراء : ٨٣ فأجيب إليه كما في الآيات المذكورة آنفا وهذا آخر ما ذكر الله من حديثه وختم به قصته ، وأن إلى ربك المنتهى ، وهذا مما في السياقات القرآنية من عجيب اللطف.

ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن نبيه موسى عليه‌السلام في أوائل نشوئه بمصر حين وكز القبطي فقضى عليه : « قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » : القصص : ١٦ وقوله حين فر من مصر فبلغ مدين وسقى لابنتي شعيب ثم تولى إلى الظل فقال : « رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ » : القصص : ٢٤.

وقد استعمل عليه‌السلام في مسألتيه من الأدب بعد الالتجاء بالله والتعلق بربوبيته أن صرح في دعائه الأول بالطلب لأنه كان متعلقا بالمغفرة والله سبحانه يحب أن يستغفر كما قال : « وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » : البقرة : ١٩٩ وهو الذي دعا إليه نوح فمن بعده من الأنبياء عليهم‌السلام ، ولم يصرح بحاجته بعينه في دعائه الثاني الذي ظاهره بحسب دلالة المقام أنه كان يريد رفع حوائج الحياة كالغذاء والمسكن مثلا بل إنما ذكر الحاجة ثم سكت ، فما للدنيا عند الله من قدر.

واعلم أن قوله عليه‌السلام : « رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يجري في الاعتراف بالظلم وطلب المغفرة مجرى قول آدم وزوجته : « رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ » بمعنى أن المراد بالظلم هو ظلمه على نفسه لاقترافه عملا يخالف مصلحة حياته كما أن الأمر كان على هذا النحو في آدم وزوجته.

فإن موسى عليه‌السلام إنما فعل ما فعل قبل أن يبعثه الله بشريعته الناهية عن القتل وإنما قتل نفسا كافرة غير محترمة ، ولا دليل على وجود النهي عن مثل هذا القتل قبل

٢٧٨

شريعته وكان الأمر في عصيان آدم وزوجته على هذه الوتيرة فقد ظلما أنفسهما بالأكل من الشجرة قبل أن يشرع الله شريعة بين النوع الإنساني فإنما أسس الله الشرائع كائنة ما كانت بعد هبوطهما من الجنة إلى الأرض.

ومجرد النهي عن اقتراب الشجرة لا دليل على كونه مولويا مستلزما لتحقق المعصية المصطلحة بمخالفته ، مع أن القرائن قائمة على كون النهي المتعلق بهما إرشاديا كما في آيات سورة طه على ما بيناه في تفسير قصة جنة آدم في الجزء الأول من الكتاب.

على أن الكتاب الإلهي نص في كون موسى عليه‌السلام مخلصا ، وأن إبليس لا سبيل له إلى إغواء المخلصين من عباد الله تعالى ومن الضروري أن لا معصية بدون إغواء إبليس قال الله تعالى : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا » : مريم : ٥١ وقال تعالى : « قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » : ص : ٨٣.

ومن هنا يظهر أن المراد بالمغفرة المسئولة في دعائه كما في دعائهما « عليه‌السلام » ليست هي إمحاء العقاب الذي يكتبه الله على المجرمين كما في المعاصي المولوية بل إمحاء الآثار السيئة التي كان يستتبعها الظلم على النفس في مجرى الحياة فقد كان موسى عليه‌السلام يخاف أن يفشو أمره ويظهر ما هو ذنب له عندهم فسأله تعالى أن يستر عليه ويغفره ، والمغفرة في عرف القرآن أعم من إمحاء العقاب بل هي إمحاء الأثر السيئ كائنا ما كان ، ولا ريب أن أمر الجميع بيد الله سبحانه.

ونظير هذا من وجه قول نوح عليه‌السلام فيما تقدم من دعائه « وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي » أي وإن لم تؤدبني بأدبك ، ولم تعصمني بعصمتك ووقايتك وترحمني بذلك أكن من الخاسرين ، فافهم ذلك.

ومنه دعاؤه عليه‌السلام أول ما ألقي إليه الوحي وبعث بالرسالة إلى قومه على ما حكاه الله قال تعالى : « قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً » : طه : ٣٥.

٢٧٩

ينصح عليه‌السلام لما بعث لها من الدعوة الدينية ويذكر لربه ـ على ما يفيده الكلام بإعانة من المقام ـ إنك كنت بصيرا بحالي أنا وأخي أنا منذ نشأنا نحب تسبيحك ، وقد حملتني الليلة ثقل الرسالة وفي نفسي من الحدة وفي لساني من العقدة ما أنت أعلم به وإني أخاف أن يكذبوني أن دعوتهم إليك وبلغتهم رسالتك فيضيق صدري ولا ينطلق لساني فاشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، وهذا رفع التحرج الذي ذكره الله بقوله : « ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ » : الأحزاب : ٣٨ (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) وأخي هارون أفصح مني لسانا وهو من أهلي فأشركه في هذا الأمر واجعله وزيرا لي كي نسبحك ـ كما كنا نحبه ـ كثيرا ونذكرك عند ملإ الناس بالتعاضد كثيرا ؛ فهذا محصل ما سأله عليه‌السلام ربه من أسباب الدعوة والتبليغ ، والأدب الذي استعمل فيه أن ذكر غايته وغرضه من أسئلته لئلا يوهم كلامه أنه يسأل ما يسأل لنفسه فقال : « كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً » واستشهد على صدقه في دعواه بعلم الله نفسه بإلقاء أنفسهما بين يديه وعرضها عليه فقال : « إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً » وعرض السائل المحتاج نفسه في حاجتها على المسئول الغني الجواد من أقوى ما يهيج عاطفة الرحمة لأنه يفيد إراءة نفس الحاجة فوق ما يفيده ذكر الحاجة باللسان الذي لا يمتنع عليه أن يكذب.

ومنه ما حكى الله عنه مما دعا به على فرعون وملئه إذ قال : « وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ، قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ » : يونس : ٨٩.

الدعاء لموسى وهارون ولذلك صدر بكلمة « رَبَّنا » ويدل عليه ما في الآية التالية : « قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما » دعوا أولا على أموالهم أن يطمس الله عليها ثم على أنفسهم أن يشد الله على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فلا يقبل إيمانهم كما قال تعالى : « يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً » : الأنعام : ١٥٨ أي انتقم منهم بتحريم الإيمان عليهم بمفاجاة العذاب كما حرموه على عبادك بإضلالهم ، وهذا أشد ما يمكن أن يدعى به على أحد فإنه الدعاء بالشقوة الدائمة ولا شيء شرا منه بالنسبة إلى إنسان.

٢٨٠