الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

ما حده الله سبحانه له فلم يقل إلا ما أمر أن يقول ذلك ، واشتغل بالعمل بما كلفه الله أن يشتغل به وهو أمر الشهادة ، وقد صدقه الله تعالى فيما ذكره من حق الربوبية والعبودية.

وبهذا تنطبق الآيات على الغرض النازل لأجله السورة ، وهو بيان الحق المجعول لله على عباده أن يفوا بالعهد الذي عقدوه وأن لا ينقضوا الميثاق ؛ فليس لهم أن يسترسلوا كيفما أرادوا وأن يرتعوا رغدا حيث شاءوا فلم يملكوا هذا النوع من الحق من قبل ربهم ، ولا أنهم قادرون على ذلك من حيال أنفسهم ، و (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وبذلك تختتم السورة.

قوله تعالى : « وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ » « إِذْ » ظرف متعلق بمحذوف يدل عليه المقام ، والمراد به يوم القيامة لقوله تعالى فيها : « قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ » وقول عيسى عليه‌السلام فيها « وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ».

وقد عبرت الآية عن مريم بالأمومة فقيل : « اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ » دون أن يقال : « اتخذوني ومريم إلهين للدلالة على عمدة حجتهم في الألوهية وهو ولادته منها بغير أب ، فالبنوة والأمومة الكذائيتين هما الأصل في ذلك فالتعبير به وبأمه أدل وأبلغ من التعبير بعيسى ومريم.

و « دُونِ » كلمة تستعمل بحسب المال في معنى الغير ، قال الراغب : يقال للقاصر عن الشيء « دون » قال بعضهم : هومقلوب من الدنو ، والأدون الدني ، وقوله تعالى : « لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ » أي من لم يبلغ منزلتكم في الديانة ، وقيل : في القرابة ، وقوله : « وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ » أي ما كان أقل من ذلك ، وقيل : ما سوى ذلك ، والمعنيان متلازمان ، وقوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) » أي غير الله ، انتهى.

وقد استعمل لفظ « مِنْ دُونِ اللهِ » كثيرا في القرآن في معنى الإشراك دون

٢٤١

الاستقلال بمعنى أن المراد من اتخاذ إله أو إلهين أو آلهة من دون الله هو أن يتخذ غير الله شريكا لله سبحانه في ألوهيته لا أن يتخذ غير الله إلها وتنفي ألوهية الله سبحانه فإن ذلك من لغو القول الذي لا يرجع إلى محصل فإن الذي أثبته حينئذ يكون هو الإله سبحانه وينفي غيره ، ويعود النزاع إلى بعض الأوصاف التي أثبتها فمثلا لو قال قائل : « إن الإله هو المسيح ونفى إله المسيح عاد مفاد كلامه إلى إثبات الإله تعالى وتوصيفه بصفات المسيح البشرية ، ولو قال قائل : إن الأصنام أو أرباب الأصنام آلهة ونفى الله تعالى وتقدس فإنه يقول بأن للعالم إلها فقد أثبت الله سبحانه لكنه نعته بنعت الكثرة والتعدد فقد جعل لله شركاء ، أو يقول كما يقوله النصارى : (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي واحد هو ثلاث وثلاث هو واحد.

ومن قال : إن مبدأ العالم هو الدهر أو الطبيعة ونفى أن يكون للعالم إله تعالى عن ذلك فقد أثبت للعالم صانعا وهو الله عز اسمه لكنه نعته بنعوت القصور والنقص والإمكان.

ومن نفى أن يكون لهذا النظام العجيب مبدأ أصلا ونفى العلية والتأثير على الرغم من صريح ما تقضي به فطرته فقد أثبت عالما موجودا ثابتا لا يقبل النفي والانعدام من رأس أي هو واجب الثبوت وحافظ ثبوته ووجوده إما نفسه وليس لطرو الزوال والتغير إلى أجزائه ، وإما غيره فهو الله تبارك وتعالى ، وله نعوت كماله.

فتبين أن الله سبحانه لا يقبل النفي أصلا إلا بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى معقول.

والملاك في ذلك كله أن الإنسان إنما يثبت الإله تعالى من جهة الحاجة العامة في العالم إلى من يقيم أود وجوده ويدبر أمر نظامه ثم يثبت خصوصيات وجوده فما أثبته من شيء لسد هذه الخلة ورفع تلك الحاجة فهو الله سبحانه ثم إذا أثبت إلها غيره أو أثبت كثرة فإما أن يكون قد أخطأ في تشخيص صفاته وألحد في أسمائه ، أو يثبت له شريكا أو شركاء تعالى عن ذلك ، وأما نفيه وإثبات غيره فلا معنى له.

فظهر أن معنى قوله : « إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ » شريكين لله هما من غيره ، وإن سلم أن الكلمة لا تؤدي معنى الشركة بوجه ، قلنا : إن معناها لا يتعدى اتخاذ إلهين هما

٢٤٢

من سنخ غير الله سبحانه وأما كون ذلك مقارنا لنفي ألوهيته تعالى أو إثباتها فهو مسكوت عنه لا يدل عليه لفظ وإنما يعلم من خارج ، والنصارى لا ينفون ألوهيته تعالى مع اتخاذهم المسيح وأمه إلهين من دون الله سبحانه.

وربما استشكل بعضهم الآية بأن النصارى غير قائلين بألوهية مريم العذراء (ع) ، وذكروا في توجيهها وجوها.

لكن الذي يجب أن يتنبه عليه أن الآية إنما ذكرت اتخاذهم إياها إلهة ولم يذكر قولهم بأنها إلهة بمعنى التسمية ، واتخاذ الإله غير القول بالألوهية إلا من باب الالتزام ، واتخاذ الإله يصدق بالعبادة والخضوع العبودي قال تعالى : « أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ » : الجاثية : ٢٣ وهذا المعنى مأثور عن أسلاف النصارى مشهود في أخلافهم.

قال الآلوسي في روح المعاني ، : إن أبا جعفر الإمامي حكى عن بعض النصارى أنه كان فيما مضى قوم يقال لهم : « المريمية » يعتقدون في مريم أنها إله.

وقال في تفسير المنار ، : أما اتخاذهم المسيح إلها فقد تقدم في مواضع من تفسير هذه السورة ، وأما أمه فعبادتها كانت متفقا عليها في الكنائس الشرقية والغربية بعد قسطنطين ، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التي حدثت بعد الإسلام بعدة قرون (١).

إن هذه العبادة التي توجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح (عليه‌السلام) منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء واستغاثة واستشفاع ، ومنها صيام ينسب إليها ويسمى باسمها ، وكل ذلك يقرن بالخضوع والخشوع لذكرها ولصورها وتماثيلها ، واعتقاد السلطة الغيبية لها التي يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع وتضر في الدنيا والآخرة بنفسها أو بواسطة ابنها ، وقد صرحوا بوجوب العبادة لها ، ولكن لا يعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة « إله » عليها بل يسمونها « والدة الإله » ويصرح بعض فرقهم أن ذلك حقيقة لا مجاز.

__________________

(١) كما أن القول برسالة المسيح ونفي ألوهيته لا يزال يشيع في هذه الأيام وهي سنة ١٩٥٨ م بين نصارى أمريكا ، وقد ذكر المحقق ه. ج. فلز في مجمل التاريخ : أن هذه العبادة التي تأتي بها عامة النصارى للمسيح وأمه لا توافق تعليم المسيح لأنه نهى كما في إنجيل مرقس أن يعبد غير الله الواحد ليراجع ص ٥٢٦ وص ٥٣٩ من الكتاب المزبور.

٢٤٣

والقرآن يقول هنا : إنهم اتخذوها وأمها إلهين ، والاتخاذ غير التسمية فهو يصدق بالعبادة وهي واقعة قطعا ، وبين في آية أخرى أنهم قالوا : إن الله هو المسيح عيسى بن مريم ، وذلك معنى آخر ، وقد فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله تعالى في أهل الكتاب : « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ » أنهم اتبعوهم فيما يحلون ويحرمون لا أنهم سموهم أربابا.

وأول نص صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقية ما في كتاب « السواعي » من كتب الروم الأرثوذكس ، وقد اطلعت على هذا الكتاب في دير يسمى « دير التلميد » وأنا في أول العهد بمعاهد التعليم ، وطوائف الكاثوليك يصرحون بذلك ويفاخرون به.

وقد زين الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلتهم « المشرق » بصورتها وبالنقوش الملونة إذ جعلوه تذكارا لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس التاسع : أن مريم البتول حبل بها بلا دنس الخطية » وأثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقية لمريم كالكنائس الغربية.

ومنه قول الأب « لويس شيخو » في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقية : « أن تعبد الكنيسة الأرمنية للبتول الطاهرة أم الله لأمر مشهور » وقوله « قد امتازت الكنيسة القبطية بعبادتها للبتولة المغبوطة أم الله » انتهى كلامه.

ونقل أيضا بعض مقالة للأب « إنستاس الكرملي » نشرت في العدد الرابع عشر من السنة الخامسة من مجلة المشرق الكاثوليكية البيروتية قال تحت عنوان قدم « التعبد للعذراء » بعد ذكر عبارة سفر التكوين في عداوة الحية للمرأة ونسلها وتفسير المرأة بالعذراء : « ألا ترى أنك لا ترى من هذا النص شيئا ينوه بالعذراء تنويها جليا إلى أن جاء ذلك النبي العظيم « إيليا » الحي فأبرز عبادة العذراء من حيز الرمز والإبهام إلى عالم الصراحة والتبيان ».

ثم فسر هذه الصراحة والتبيان بما في سفر الملوك الثالث (بحسب تقسيم الكاثوليك) من أن إيليا حين كان مع غلامه في رأس الكرمل أمره سبع مرات أن يتطلع نحو البحر فأخبره الغلام بعد تطلعه المرة السابعة : أنه رأى سحابة قدر راحة

٢٤٤

الرجل طالعة من البحر.

قال صاحب المقالة : فمن ذلك النشئ (أول ما ينشأ من السحاب) (١) قلت : إن هو إلا صورة مريم على ما أحقه المفسرون بل وصورة الحبل بلا دنس أصلي ، ثم قال : هذا أصل عبادة العذراء في الشرق العزيز ، وهو يرتقي إلى المائة العاشرة قبل المسيح ، والفضل في ذلك عائد إلى هذا النبي إيليا العظيم ، ثم قال : ولذلك كان أجداد الكرمليين أول من آمن أيضا بالإله يسوع بعد الرسل والتلامذة ، وأول من أقام للعذراء معبدا بعد انتقالها إلى السماء بالنفس والجسد ، انتهى. (٢)

قوله تعالى : « قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ » إلى آخر الآية هذه الآية والتي تتلوها جواب المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام عما سئل عنه وقد أتى عليه‌السلام فيه بأدب عجيب.

فبدأ بتسبيحه تعالى لما فاجأه أن سمع ذكر ما لا يليق نسبته إلى ساحة الجلال والعظمة وهو اتخاذ الناس إلهين من دون الله شريكين له سبحانه فمن أدب العبودية أن يسبح العبد ربه إذا سمع ما لا ينبغي أن يسمع فيه تعالى أو ما يخطر بالبال تصور ذلك ، وعليه جرى التأديب الإلهي في كلامه كقوله : « وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ » : الأنبياء : ٢٦ وقوله : « وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ » : النحل : ٥٧.

ثم عاد إلى نفي ما استفهم عن انتسابه إليه ، وهو أن يكون قد قال للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ، ولم ينفه بنفسه بل بنفي سببه مبالغة في التنزيه فلو قال : « لم أقل ذلك أو لم أفعل » لكان فيه إيماء إلى إمكان وقوعه منه لكنه لم يفعل ، لكن إذا نفاه بنفي سببه فقال : « ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ » كان ذلك نفيا لما يتوقف عليه ذلك القول ، وهو أن يكون له أن يقول ذلك حقا فنفي هذا الحق نفي ما يتفرع عليه بنحو أبلغ نظير ما إذ قال المولى لعبده : لم فعلت ما لم آمرك أن تفعله؟ فإن أجاب العبد بقوله : « لم أفعل » كان نفيا لما هو في مظنة الوقوع ، وإن

__________________

(١) يشير به إلى السحابة التي شاهدها الغلام ناشئة من البحر.

(٢) وإنما نقلنا ما نقلناه بطوله لأن فيه ما يطلع به الباحث المتأمل على نوع منطقهم في إثبات العبادة لها ويشاهد بعض مجازفاتهم في الدين.

٢٤٥

قال : « أنا أعجز من ذلك » كان نفيا بنفي السبب وهو القدرة ، وإنكارا لأصل إمكانه فضلا عن الوقوع.

وقوله : « ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ » إن كان لفظ « يَكُونُ » ناقصة فاسمها قوله : « أَنْ أَقُولَ » وخبرها قوله : « لِي » واللام للملك ، والمعنى : ما أملك ما لم أملكه وليس من حقي القول بغير حق ، وإن كانت تامة فلفظ « لِي » متعلق بها وقوله : « (أَنْ أَقُولَ) ، إلخ » فاعلها ، والمعنى : ما يقع لي القول بغير حق ، والأول من الوجهين أقرب ، وعلى أي حال يفيد الكلام نفي الفعل بنفي سببه.

وقوله عليه‌السلام : « إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ » نفي آخر للقول المستفهم عنه لا نفيا لنفسه بنفسه بل بنفي لازمه فإن لازم وقوع هذا القول أن يعلم به الله لأنه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو القائم على كل نفس بما كسبت ، المحيط بكل شيء.

وهذا الكلام منه عليه‌السلام يتضمن أولا فائدة إلقاء القول مع الدليل من غير أن يكتفي بالدعوى المجردة ؛ وثانيا الإشعار بأن الذي كان يعتبره في أفعاله وأقواله هو علم الله سبحانه من غير أن يعبأ بغيره من خلقه علموا أو جهلوا ، فلا شأن له معهم.

وبلفظ آخر السؤال إنما يصح طبعا في ما كان مظنة الجهل فيراد به نفي الجهل وإفادة العلم ، إما لنفس السائل إذا كان هو الجاهل بواقع الأمر ، أو لغيره إذا كان السائل عالما وأراد أن يعلم غيره بما يعلم هو من واقع الأمر كما يحمل عليه نوع السؤال الواقع في كلامه تعالى ، وقوله عليه‌السلام في الجواب في مثل المقام (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) » إرجاع للأمر إلى علمه تعالى وإشعار أنه لا يعتبر شيئا في أفعاله وأقواله غير علمه تعالى.

ثم أشار بقوله : « تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ » ليكون تنزيها لعلمه تعالى عن مخالطة الجهل إياه وهو وإن كان ثناء أيضا في نفسه لكنه غير مقصود لأن المقام ليس بمقام الثناء بل مقام التبري عن انتساب ما نسب إليه.

فقوله عليه‌السلام : « تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي » توضيح لنفوذ العلم الذي ذكره في قوله : « إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ » وبيان أن علمه تعالى بأعمالنا وهو الملك الحق يومئذ ليس من قبيل علم الملوك منا بأحوال رعيته بارتفاع أخبار المملكة إليه ليعلم بشيء ويجهل بشيء ، ويستحضر حال بعض ويغفل عن حال بعض ، بل هو سبحانه لطيف خبير

٢٤٦

بكل شيء ومنها نفس عيسى بن مريم بخصوصه.

ومع ذلك لم يستوف حق البيان في وصف علمه تعالى فإنه سبحانه يعلم كل شيء ، لا كعلم أحدنا بحال الآخر وعلم الآخر بحاله ، بل يعلم ما يعلم بالإحاطة به من غير أن يحيط به شيء ولا يحيطون به علما فهو تعالى إله غير محدود وكل من سواه محدود مقدر لا يتعدى طور نفسه المحدود ، ولذلك ضم عليه‌السلام إلى الجملة جملة أخرى فقال : « تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ».

أما قوله : « إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ » ففيه بيان العلة لقوله : « تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي » « إلخ » ، وفيه استيفاء حق البيان من جهة أخرى وهو رفع توهم أن حكم العلم في قوله : « تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ » مقصور بما بينه وبين ربه لا يطرد في كل شيء فبين بقوله : « إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ » أن العلم التام بجميع الغيوب منحصر فيه فما كان عند شيء من الأشياء وهو غيب عن غيره فهو معلوم لله سبحانه وهو محيط به.

ولازم ذلك أن لا يعلم شيء من الأشياء بغيبه تعالى ولا بغيب غيره الذي هو تعالى عالم به لأنه مخلوق محدود لا يتعدى طور نفسه فهو علام جميع الغيوب ، ولا يعلم شيء غيره تعالى بشيء من الغيوب لا الكل ولا البعض.

على أنه لو أحيط من غيبه تعالى بشيء فإن أحاط تعالى به لم يكن هذا المحيط محيطا حقيقة بل محاطا له تعالى ملكه الله بمشيئته أن يحيط بشيء من ملكه من غير أن يخرج بذلك من ملكه كما قال تعالى : « وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ » : البقرة : ٢٥٥.

وإن لم يحط سبحانه تعالى بما أحاط به كان مضروبا بحد فكان مخلوقا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

قوله تعالى : « ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ » لما نفى عليه‌السلام القول المسئول عنه عن نفسه بنفي سببه أولا نفاه ببيان وظيفته التي لم يتعدها ثانيا فقال : « ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ » « إلخ » ، وأتى فيه بالحصر بطريق النفي والإثبات ليدل على الجواب بنفي ما سئل عنه وهو القول : « اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ».

وفسر ما أمره به ربه من القول بقوله : « أَنِ اعْبُدُوا اللهَ » ثم وصف الله سبحانه

٢٤٧

بقوله : « رَبِّي وَرَبَّكُمْ » لئلا يبقى أدنى شائبة من الوهم في أنه عبد رسول يدعو إلى الله ربه ورب جميع الناس وحده لا شريك له.

وعلى هذه الصراحة كان يسلك عيسى بن مريم عليه‌السلام في دعوته ما دعاهم إلى التوحيد على ما يحكي عنه القرآن الشريف ، قال تعالى حكاية عنه : « إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ » : الزخرف : ٦٤ وقال : « وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ » : مريم : ٣٦.

قوله تعالى : « وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » ثم ذكر عليه‌السلام وظيفته الثانية من جانب الله سبحانه وهو الشهادة على أعمال أمته كما قال تعالى : « وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً » : « النساء : ١٥٩.

يقول عليه‌السلام ما كان لي من الوظيفة فيهم إلا الرسالة إليهم والشهادة على أعمالهم : أما الرسالة فقد أديتها على أصرح ما يمكن ، وأما الشهادة فقد كنت عليها ما دمت فيهم ، ولم أتعد ما رسمت لي من الوظيفة فأنا براء من أن أكون ألقي إليهم أن اتخذوني وأمي إلهين من دون الله.

وقوله : « فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ » الرقوب والرقابة هو الحفظ ، والمراد به في المقام بدلالة السياق هو الحفظ على الأعمال ، وكأنه أبدل الشهيد من الرقيب احترازا عن تكرر اللفظ بالنظر إلى قوله بعد : « وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » ، ولا نكتة تستدعي الإتيان بلفظ « الشهيد » ثانيا بالخصوص.

واللفظ أعني قوله : « كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ » يدل على الحصر ، ولازمه أنه تعالى كان شهيدا ما دام عيسى عليه‌السلام شهيدا وشهيدا بعده ؛ فشهادته عليه‌السلام كانت وساطة في الشهادة لا شهادة مستقلة على حد سائر التدبيرات الإلهية التي وكل عليها بعض عباده ثم هو على كل شيء وكيل كالرزق والإحياء والإماتة والحفظ والدعوة والهداية وغيرها ، والآيات الشريفة في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.

ولذلك عقب عليه‌السلام قوله : « فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ » بقوله : « وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » ليدل بذلك على أن الشهادة على أعمال أمته التي كان

٢٤٨

يتصداها ما دام فيهم كانت حصة يسيرة من الشهادة العامة المطلقة التي هي شهادة الله سبحانه على شيء فإنه تعالى شهيد على أعيان الأشياء وعلى أفعالها التي منها أعمال عباده ، التي منها أعمال أمة عيسى ما دام فيهم وبعد توفيه ، وهو تعالى شهيد مع الشهداء وشهيد بدونهم.

ومن هنا يظهر أن الحصر صادق في حقه تعالى مع قيام الشهداء على شهادتهم فإنه (عليه‌السلام) حصر الشهادة بعد توفيه في الله سبحانه مع أن لله بعده شهداء من عباده ورسله وهو (عليه‌السلام) يعلم ذلك.

ومن الدليل على ذلك بشارته عليه‌السلام بمجيء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ على ما يحكيه القرآن ـ بقوله : « يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » : الصف : ٦ وقد نص القرآن على كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الشهداء قال تعالى : « وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً » : النساء : ٤١.

على أن الله سبحانه حكى عنه هذا الحصر : « فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ » ولم يرده بالإبطال فالله سبحانه هو الشهيد لا غير مع وجود كل شهيد أي إن حقيقة الشهادة هي لله سبحانه كما أن حقيقة كل كمال وخير هو لله سبحانه ، وأن ما يملكه غيره من كمال أو خير أو حسن فإنما هو بتمليكه تعالى من غير أن يستلزم هذا التمليك انعزاله تعالى عن الملك ولا زوال ملكه وبطلانه ، وعليك بالتدبر في أطراف ما ذكرناه.

فبان بما أورده من بيان حاله المحكي عنه في الآيتين أنه بريء مما قاله الناس في حقه وأن لا عهدة عليه فيما فعلوه ، ولذلك ختم (عليه‌السلام) كلامه بقوله : « إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ » إلى آخر الآية.

قوله تعالى : « إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » لما اتضح بما أقام (عليه‌السلام) من الحجة أن لم يكن له من الوظيفة بالنسبة إلى الناس إلا أداء الرسالة والقيام بأمر الشهادة ، وأنه لم يشتغل فيهم إلا بذلك ولم يتعده إلى ما ليس له بحق فهو غير مسئول عما تفوهوا به من كلمة الكفر ، بان أنه (عليه‌السلام) بمعزل عن الحكم الإلهي المتعلق بهم فيما بينهم وبين ربهم ، ولذلك استأنف الكلام ثانيا فقال من غير

٢٤٩

وصل وتفريع : « (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) ، إلخ ».

فالآية كالصالحة لأن يوضع موضع البيان السابق ، ومفادها أنه لا عهدة علي فيما وقعوا فيه من الشرك الشنيع ، ولم أداخل أمرهم في شيء حتى أشاركهم فيما بينك وبينهم من الحكم عليهم بما شئت فهم وحكمك في حقهم بما أردت ، وهم وصنعك فيهم بما صنعت ، إن تعذبهم بما حكمت فيمن أشرك بك بدخول النار فإنهم عبادك ، وإليك تدبير أمرهم ، ولك أن تسخط عليهم به لأنك المولى الحق وإلى المولى أمر عباده ، وأن تغفر لهم بإمحاء أثر هذا الظلم العظيم فإنك أنت العزيز الحكيم لك حق العزة والحكمة ، وللعزيز (وهو الذي له من الجدة والقدرة ما ليس لغيره) ولا سيما إذا كان حكيما (لا يقدم على أمر إلا إذا كان مما ينبغي أن يقدم عليه) أن يغفر الظلم العظيم فإن العزة والحكمة إذا اعتنقتا في فاعل لم تدعا قدرة تقوم عليه ولا مغمضة في ما قضى به من أمر.

وبما تقدم من البيان ظهر أولا : أن قوله : « فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ » بمنزلة أن يقال : « فإنك مولاهم الحق » على ما هو دأب القرآن من ذكر أسماء الله بعد ذكر أفعاله كما في آخر الآية.

وثانيا : أن قوله : « فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » ليس مسوقا للحصر بل الإتيان بضمير الفصل وإدخال اللام في الخبر للتأكيد ، ويئول معناه إلى أن عزتك وحكمتك مما لا يداخله ريب فلا مجال للاعتراض عليك إن غفرت لهم.

وثالثا : أن المقام (مقام المشافهة بين عيسى بن مريم عليه‌السلام وربه) لما كان مقام ظهور العظمة الإلهية التي لا يقوم لها شيء كان مقتضاه أن يراعي فيه جانب ذلة العبودية للغاية بالتحرز عن الدلال والاسترسال والتجنب عن مداخلة في الأمر بدعاء أو سؤال ، ولذلك قال (ع) : « وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » ولم يقل « فإنك غفور رحيم » لأن سطوع آية العظمة والسطوة الإلهية القاهرة الغالبة على كل شيء لا يدع للعبد إلا أن يلتجئ إليه بما له من ذلة العبودية ومسكنة الرقية والمملوكية المطلقة ، والاسترسال عند ذلك ذنب عظيم.

وأما قول إبراهيم (عليه‌السلام) لربه : « (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : إبراهيم : ٣٦ فإنه من مقام الدعاء وللعبد أن يثير فيه ناشئة الرحمة الإلهية

٢٥٠

بما استطاع.

قوله تعالى : « قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ » تقرير لصدق عيسى بن مريم (عليه‌السلام) على طريق التكنية فإنه لم يصرح بشخصه وإنما المقام هو الذي يفيد ذلك.

والمراد بهذا الصدق من الصادقين صدقهم في الدنيا فإنه تعالى يعقب هذه الجملة بقوله : « (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، إلخ » ومن البين أنه بيان لجزاء صدقهم عند الله سبحانه فهو النفع الذي يعود إليهم من جهة الصدق ، والأعمال والأحوال الأخروية ـ ومنها صدق أهل الآخرة ـ لا يترتب عليها أثر النفع بمعنى الجزاء وبلفظ آخر : الأعمال والأحوال الأخروية لا يترتب عليها جزاء كما يترتب على الأعمال والأحوال الدنيوية ؛ إذ لا تكليف في الآخرة ، والجزاء من فروع التكليف ، وإنما الآخرة دار حساب وجزاء كما أن الدنيا دار عمل وتكليف ، قال تعالى : « يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ » : » إبراهيم : ٤١ وقال : « الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » : الجاثية : ٢٨ وقال تعالى : « إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ » : المؤمن : ٣٩.

والذي ذكره عيسى (عليه‌السلام) من حاله في الدنيا مشتمل على قول وفعل وقد قرره الله على الصدق فالصدق الذي ذكر في الآية يشمل الصدق في الفعل كما يشمل الصدق في القول ؛ فالصادقون في الدنيا في قولهم وفعلهم ينتفعون يوم القيامة بصدقهم ، لهم الجنات الموعودة وهم الراضون المرضيون الفائزون بعظيم الفوز.

على أن الصدق في القول يستلزم الصدق في الفعل ـ بمعنى الصراحة وتنزه العمل عن سمة النفاق ـ وينتهي به إلى الصلاح ، وقد روي أن رجلا من أهل البدو استوصى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فوصاه أن لا يكذب ثم ذكر الرجل أن رعاية ما وصى به كفه عن عامة المعاصي إذ ما من معصية عرضت إلا ذكر أنه لو اقترحها ثم سئل عنها وجب عليه أن يعترف بها على نفسه ويخبر بها الناس فلم يقترفها مخافة ذلك.

قوله تعالى : « لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » رضي الله عنهم بما قدموا إليه من الصدق ، ورضوا عن الله بما آتاهم من الثواب.

وقد علق رضاه بهم أنفسهم لا بأعمالهم كما في قوله تعالى : « وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً » :

٢٥١

طه : ١٠٩ وقوله : « وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ » : الزمر : ٧ وبين القسمين من الرضى فرق فإن رضاك عن شيء هو أن لا تدفعه بكراهة ومن الممكن أن يأتي عدوك بفعل ترضاه وأنت تسخط على نفسه ، وأن يأتي صديقك الذي تحبه بفعل لا ترضاه.

فقوله : « رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ » يدل على أن الله يرضى عن أنفسهم ، ومن المعلوم أن الرضى لا يتعلق بأنفسهم ما لم يحصل غرضه جل ذكره من خلقهم ، وقد قال تعالى : « وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » : الذاريات : ٥٦ ، فالعبودية هو الغرض الإلهي من خلق الإنسان فالله سبحانه إنما يرضى عن نفس عبده إذا كان مثالا للعبودية أي أن يكون نفسه نفس عبد لله الذي هو رب كل شيء فلا يرى نفسه ولا شيئا غيره إلا مملوكا لله خاضعا لربوبيته لا يئوب إلا إلى ربه ولا يرجع إلا إليه كما قال تعالى في سليمان وأيوب : « نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ » : ص : ٤٤ وهذا هو الرضى عنه.

وهذا من مقامات العبودية ، ولازمه طهارة النفس عن الكفر بمراتبه وعن الاتصاف بالفسق كما قال تعالى : « وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ » : الزمر : ٧ وقال تعالى : « فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ » : التوبة : ٩٦.

ومن آثار هذا المقام أن العبودية إذا تمكنت من نفس العبد ورأى ما يقع عليه بصره وتبلغه بصيرته مملوكا لله خاضعا لأمره فإنه يرضى عن الله فإنه يجد أن كل ما آتاه الله فإنما آتاه من فضله من غير أن يتحتم عليه فهو جود ونعمة ، وأن ما منعه فإنما منعه عن حكمة.

على أن الله سبحانه يذكر عنهم وهم في الجنة بقوله : « لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ » : النحل : ٣١ ، الفرقان : ١٦ ، ومن المعلوم أن الإنسان إذا وجد كل ما يشاؤه لم يكن له إلا أن يرضى.

وهذا غاية السعادة الإنسانية بما هو عبد ، ولذلك ختم الكلام بقوله : « ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ».

قوله تعالى : « لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » ، ـ الملك ـ بالكسر ـ سلطة خاصة على رقبة الأشياء وأثره نفوذ الإرادة فيما يقدر عليه المالك من التصرف فيها ، والملك ـ بالضم ـ سلطة خاصة على النظام الموجود بين الأشياء

٢٥٢

وأثره نفوذ الإرادة فيما يقدر عليه ، وبعبارة ساذجة : الملك ـ بالكسر ـ متعلق بالفرد ، والملك ـ بالضم ـ متعلق بالجماعة.

وحيث كان الملك في نفوذ الإرادة بالفعل مقيدا أو متقوما بالقدرة فإذا تمت القدرة وأطلقت كان الملك ملكا مطلقا غير مقيد بشيء دون شيء وحال دون حال ، ولبيان هذه النكتة عقب تعالى قوله:« لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ » بقوله : « وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ».

واختتمت السورة بهذه الآية الدالة على الملك المطلق ، والمناسبة ظاهرة ، فإن غرض السورة هو حث العباد وترغيبهم على الوفاء بالعهود والمواثيق المأخوذة عليهم من جانب ربهم ، وهو الملك على الإطلاق فلا يبقى لهم إلا أنهم عباد مملوكون على الإطلاق ليس لهم فيما يأمرهم به وينهاهم عنه إلا السمع والطاعة ، ولا فيما يأخذ منهم من العهود والمواثيق إلا الوفاء بها من غير نقض.

(بحث روائي)

في تفسير العياشي ، عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قول الله تبارك وتعالى لعيسى : « أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ » ـ قال : لم يقله وسيقوله ، إن الله إذا علم أن شيئا كائن أخبر عنه خبر ما قد كان.

أقول : وفيه ، أيضا عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : مثله ، وحاصله أن الإتيان بصيغة الماضي في الأمر المستقبل للعلم بتحقق وقوعه ، وهو شائع في اللغة.

وفيه ، عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام : في تفسير هذه الآية : « تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ـ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ » ، قال : إن اسم الله الأكبر ثلاثة وسبعون حرفا ـ فاحتجب الرب تبارك وتعالى منها بحرف ـ فمن ثم لا يعلم أحد ما في نفسه عز وجل.

أعطى آدم اثنين وسبعين حرفا فتوارثها الأنبياء ـ حتى صار إلى عيسى عليه‌السلام فذلك قول عيسى : « تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي » ـ يعني اثنين وسبعين حرفا من الاسم الأكبر ـ يقول : أنت علمتنيها فأنت تعلمها : « وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ » ـ يقول : لأنك احتجبت بذلك الحرف ـ فلا يعلم أحد ما في نفسك.

٢٥٣

أقول : سيجيء البحث المبسوط عن أسماء الله الحسنى واسمه الأعظم الأكبر في تفسير قوله تعالى : « وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها » الآية : الأعراف : ١٨٠ ويتبين هناك أن الاسم الأكبر أو الاسم الأعظم ليس من نوع اللفظ حتى يتألف من حروف الهجاء وإنما المراد بالاسم في أمثال هذه الموارد هو المحكي عنه بالاسم اللفظي وهو الذات مأخوذا بصفة من صفاته ووجه من وجوهه ويعود الاسم اللفظي حينئذ اسم الاسم على ما سيتضح بعد.

وعلى هذا فقوله (ع) : « إن الاسم الأكبر مؤلف من ثلاثة وسبعين حرفا » ونظيره ما ورد في روايات كثيرة في هذا الباب من أن الاسم الأعظم مؤلف من كذا حرفا ، وأنها متفرقة مبثوثة في كذا سورة أو أنه في كذا آية كل ذلك بيانات مبنية على الرمز ، وأمثال مضروبة لتفهيم ما يسع تفهيمه من الحقائق فما كل حقيقة ميسورا بيانها بالصراحة من غير كناية ؛ وبالعين دون المثل.

والذي يتضح به معنى الحديث بعض الاتضاح هو أن يقال : إنه لا شك أن أسماء الله تعالى الحسنى وسائط لظهور الكون بأعيانه وحدوث حوادثه التي لا تحصى ، فإنا لا نشك في أن الله سبحانه خلق خلقه لأنه خالق جواد مبدئ مثلا لا لأنه منتقم شديد البطش ، وأنه إنما يرزق من يرزق لأنه رازق معط مثلا لا لأنه قابض مانع ، وأنه إنما يفيض الحياة للأحياء لأنه الحي المحيي لا لأنه مميت معيد ، والآيات القرآنية أصدق شاهد على هذه الحقيقة ، فإنا نرى المعارف المبينة في متون الآيات معللة بالأسماء المناسبة لمعانيها في ذيلها فربما اختتمت الآية لبيان ما تضمه من المعنى باسم ، وربما اختتمت باسمين يفيدان بمجموعهما المعنى المذكور فيها.

ومن هنا يظهر أن الواحد منا لو رزق علم الأسماء وعلم الروابط التي بينها وبين الأشياء وما تقضيه أسماؤه تعالى مفردة ومؤلفة علم النظام الكوني بما جرى وبما يجري عليه عن قوانين كلية منطبقة على جزئياتها واحدا بعد واحد.

وقد بين القرآن الشريف على ما يفهم من ظواهره قوانين عامة كثيرة في المبدإ والمعاد وما رتبه الله تعالى من أمر السعادة والشقاوة ثم خاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : « وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ».

٢٥٤

لكنها جميعا قوانين كلية ضرورية إلا أنها ضرورية لا في أنفسها وباقتضاء من ذواتها بل بما أفاده الله سبحانه عليها من الضرورة واللزوم ، وإذا كانت هذه الحكومة العقلية القطعية من جهته تعالى وبأمره وإرادته فمن البين أن فعله تعالى لا يجبره تعالى على مؤدى نفسه ، ولا يغلبه في ذاته فهو سبحانه القاهر الغالب فكيف يغلبه ما ينتهي إليه تعالى من كل جهة ويفتقر إليه في عينه وأثره ، فافهم ذلك.

فمن المحال أن يكون العقل الذي يحكم بما يحكم بإفاضة الله ذلك عليه أو تكون الحقائق التي إنما وجدت أحكامها وآثارها به تعالى ، حاكمة عليه تعالى مقتضية فيه بالحكم والاقتضاء اللذين هو المبقي لهما القاهر الغالب عليهما ، وبعبارة أخرى : ما في الأشياء من اقتضاء وحكم إنما هو أثر التمليك الذي ملكه الله إياها ، ولا معنى لأن يملك شيء بالملك الذي ملكه الله بعينه منه تعالى شيئا فهو تعالى مالك على الإطلاق غير مملوك بوجه من الوجوه أصلا.

فلو أثاب الله المجرم أو عاقب المثيب أو فعل أي فعل أراد لم يكن عليه ضير ، ولا منعه مانع من عقل أو خارج إلا أنه تعالى وعدنا وأوعدنا بالسعادة والشقاء وحسن الجزاء وسوء الجزاء ، وأخبرنا أنه لا يخلف الميعاد وأخبرنا من طريق الوحي أو العقل بأمور ثم ذكر أنه لا يقول إلا الحق فسكنت نفوسنا به واطمأنت قلوبنا إليه بما لا طريق للريب إليه ، قال تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ » : آل عمران : ٩ ، الرعد : ٣١ وقال تعالى : « وَالْحَقَّ أَقُولُ » : ص : ٨٤ وفي معناهما الضرورة العقلية في أحكامها.

وهذا الذي بينه هو مقتضى أسمائه تعالى فيما علمنا بتعليمه منها لكن من وراء ذلك أنه تعالى هو المالك على الإطلاق له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، قال تعالى : « لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ » : الأنبياء : ٢٣ ، وهذا المعنى بعينه اسم من أسمائه تعالى مجهول الكنه لا طريق إلى تعلق العلم به لأحد من خلقه فإن كل ما نعلمه من أسمائه فهو مما يحكيه مفهوم من المفاهيم ثم نشخص بنسبته آثاره في الوجود وأما الآثار التي لا طريق إلى تشخيصها في الوجود فهي لا محالة آثار لاسم لا طريق إلى الحصول على معناها وإن شئت فقل : إنه اسم لا يصطاد بمفهوم ، وإنما يشير إليه صفة ملكه المطلق نوعا من الإشارة.

٢٥٥

فقد تبين أن من أسمائه تعالى ما لا سبيل إليه لأحد من خلقه وهو الذي احتجب تعالى به فافهم ذلك.

(كلام في معنى الأدب)

نبحث فيه عن الأدب الذي أدب به أنبياءه ورسله عليه‌السلام في عدة فصول :

١ ـ [ معنى الأدب ] ـ الأدب على ما يتحصل من معناه ـ هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليه الفعل المشروع إما في الدين أو عند العقلاء في مجتمعهم كآداب الدعاء وآداب ملاقاة الأصدقاء وإن شئت قلت : ظرافة الفعل.

ولا يكون إلا في الأمور المشروعة غير الممنوعة فلا أدب في الظلم والخيانة والكذب ولا أدب في الأعمال الشنيعة والقبيحة ، ولا يتحقق أيضا إلا في الأفعال الاختيارية التي لها هيئات مختلفة فوق الواحدة حتى يكون بعضها متلبسا بالأدب دون بعض كأدب الأكل مثلا في الإسلام ، وهو أن يبدأ فيه باسم الله ويختم بحمد الله ويؤكل دون الشبع إلى غير ذلك ، وأدب الجلوس في الصلاة وهو التورك على طمأنينة ووضع الكفين على الوركين فوق الركبتين والنظر إلى حجره ونحو ذلك.

وإذ كان الأدب هو الهيئة الحسنة في الأفعال الاختيارية والحسن وإن كان بحسب أصل معناه وهو الموافقة لغرض الحياة مما لا يختلف فيه أنظار المجتمعات لكنه بحسب مصاديقه مما يقع فيه أشد الخلاف ، وبحسب اختلاف الأقوام والأمم والأديان والمذاهب وحتى المجتمعات الصغيرة المنزلية وغيرها في تشخيص الحسن والقبح يقع الاختلاف بينهم في آداب الأفعال.

فربما كان عند قوم من الآداب ما لا يعرفه آخرون ، وربما كان بعض الآداب المستحسنة عند قوم شنيعة مذمومة عند آخرين كتحية أول اللقاء فإنه في الإسلام بالتسليم تحية من عند الله مباركة طيبة ، وعند قوم برفع القلانس ، وعند بعض برفع اليد حيال الرأس ، وعند آخرين بسجدة أو ركوع أو انحناء بطأطأة الرأس ، وكما أن

٢٥٦

في آداب ملاقاة النساء عند الغربيين أمورا يستشنعها الإسلام ويذمها ، إلى غير ذلك.

غير أن هذه الاختلافات جميعا إنما نشأت في مرحلة تشخيص المصداق وأما أصل معنى الأدب ، وهو الهيأة الحسنة التي ينبغي أن يكون عليها الفعل فهو مما أطبق عليه العقلاء من الإنسان وأطبقوا أيضا على تحسينه فلا يختلف فيه اثنان.

٢ ـ [ اختلاف الآداب ] لما كان الحسن من مقومات معنى الأدب على ما ذكر في الفصل السابق ، وكان مختلفا بحسب المقاصد الخاصة في المجتمعات المختلفة أنتج ذلك ضرورة اختلاف الآداب الاجتماعية الإنسانية فالأدب في كل مجتمع كالمرآة يحاكي خصوصيات أخلاق ذلك المجتمع العامة التي رتبها فيهم مقاصدهم في الحياة ، وركزتها في نفوسهم عوامل اجتماعهم وعوامل مختلفة أخر طبيعية أو اتفاقية.

وليست الآداب هي الأخلاق لما أن الأخلاق هي الملكات الراسخة الروحية التي تتلبس بها النفوس ، ولكن الآداب هيئات حسنة مختلفة تتلبس بها الأعمال الصادرة عن الإنسان عن صفات مختلفة نفسية ، وبين الأمرين بون بعيد.

فالآداب من منشئات الأخلاق والأخلاق من مقتضيات الاجتماع بخصوصه بحسب غايته الخاصة فالغاية المطلوبة للإنسان في حياته هي التي تشخص أدبه في أعماله ، وترسم لنفسه خطأ لا يتعداه إذا أتى بعمل في مسير حياته والتقرب من غايته.

٣ ـ [ معنى الأدب الإلهي ] وإذ كان الأدب يتبع في خصوصيته الغاية المطلوبة في الحياة فالأدب الإلهي الذي أدب الله سبحانه به أنبياءه ورسله عليه‌السلام هو الهيئة الحسنة في الأعمال الدينية التي تحاكي غرض الدين وغايته ، وهو العبودية على اختلاف الأديان الحقة بحسب كثرة موادها وقلتها وبحسب مراتبها في الكمال والرقي.

والإسلام لما كان من شأنه التعرض لجميع جهات الحياة الإنسانية بحيث لا يشذ عنه شيء من شئونها يسير أو خطير دقيق أو جليل فلذلك وسع الحياة أدبا ، ورسم في كل عمل هيئة حسنة تحاكي غايته.

وليس له غاية عامة إلا توحيد الله سبحانه في مرحلتي الاعتقاد والعمل جميعا أي

٢٥٧

أن يعتقد الإنسان أن له إلها هو الذي منه بدئ كل شيء وإليه يعود كل شيء ؛ له الأسماء الحسنى والأمثال العليا ، ثم يجري في الحياة ويعيش بأعمال تحاكي بنفسها عبوديته وعبودية كل شيء عنده لله الحق عز اسمه ، وبذلك يسري التوحيد في باطنه وظاهره ، وتظهر العبودية المحضة من أقواله وأفعاله وسائر جهات وجوده ظهورا لا ستر عليه ولا حجاب يغطيه.

فالأدب الإلهي ـ أو أدب النبوة ـ هي هيئة التوحيد في الفعل.

٤ ـ [ الأدب إنما ينتج مع العمل ] من المعلوم بالقياس ويؤيده التجربة القطعية أن العلوم العملية ـ وهي التي تتعلم ليعمل بها ـ لا تنجح كل النجاح ولا تؤثر أثرها الجميل دون أن تلقى إلى المتعلم في ضمن العمل ، لأن الكليات العلمية ما لم تنطبق على جزئياتها ومصاديقها تتثاقل النفس في تصديقها والإيمان بصحتها لاشتغال نفوسنا طول الحياة بالجزئيات الحسية وكلالها بحسب الطبع الثانوي من مشاهدة الكليات العقلية الخارجة عن الحس فالذي صدق حسن الشجاعة في نفسها بحسب النظر الخالي عن العمل ثم صادف موقفا من المواقف الهائلة التي تطير فيها القلوب أدى به ذلك إلى النزاع بين عقله الحاكم بحسن الشجاعة ووهمه الجاذب إلى لذة الاحتراز من تعرض الهلكة الجسمانية وزوال الحياة المادية الناعمة فلا تزال النفس تتذبذب بين هذا وذاك ، وتتحير في تأييد الواحد من الطرفين المتخاصمين ، والقوة في جانب الوهم لأن الحس معه.

فمن الواجب عند التعليم أن تتلقى المتعلم الحقائق العلمية مشفوعة بالعمل حتى يتدرب بالعمل ويتمرن عليه لتزول بذلك الاعتقادات المخالفة الكائنة في زوايا نفسه ويرسخ التصديق بما تعلمه في النفس ، لأن الوقوع أحسن شاهد على الإمكان.

ولذلك نرى أن العمل الذي لم تعهد النفس وقوعه في الخارج يصعب انقيادها له فإذا وقع لأول مرة بدا كأنه انقلب من امتناع إلى إمكان وعظم أمر وقوعه وأورث في النفس قلقا واضطرابا ، ثم إذا وقع ثانيا وثالثا هان أمره وانكسر سورته والتحق بالعاديات التي لا يعبأ بأمرها ، وإن الخير عادة كما أن الشر عادة.

ورعاية هذا الأسلوب في التعليمات الدينية وخاصة في التعليم الديني الإسلامي من أوضح الأمور فلم يأخذ شارع الدين في تعليم مؤمنيه بالكليات العقلية والقوانين العامة

٢٥٨

قط بل بدأ بالعمل وشفعه بالقول والبيان اللفظي فإذا استكمل أحدهم تعلم معارف الدين وشرائعه استكمله وهو مجهز بالعمل الصالح مزود بزاد التقوى.

كما أن من الواجب أن يكون المعلم المربي عاملا بعلمه ؛ فلا تأثير في العلم إذا لم يقرن بالعمل لأن للفعل دلالة كما أن للقول دلالة فالفعل المخالف للقول يدل على ثبوت هيئة مخالفة في النفس يكذب القول فيدل على أن القول مكيدة ونوع حيلة يحتال بها قائله لغرور الناس واصطيادهم.

ولذلك نرى الناس لا تلين قلوبهم ولا تنقاد نفوسهم للعظة والنصيحة إذا وجدوا الواعظ به أو الناصح بإبلاغه غير متلبس بالعمل متجافيا عن الصبر والثبات في طريقه ، وربما قالوا : « لو كان ما يقوله حقا لعمل به » إلا أنهم ربما اشتبه عليهم الأمر في استنتاج منه فإن النتيجة أن القول ليس بحق عند القائل إذ لو كان حقا عنده لعمل به ، وليس ينتج أن القول ليس بحق مطلقا كما ربما يستنتجونه.

فمن شرائط التربية الصالحة أن يكون المعلم المربي نفسه متصفا بما يصفه للمتعلم متلبسا بما يريد أن يلبسه ، فمن المحال العادي أن يربي المربي الجبان شجاعا باسلا ، أو يتخرج عالم حر في آرائه وأنظاره من مدرسة التعصب واللجاج وهكذا.

قال تعالى : « أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » : يونس : ٣٥ وقال : « أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ » : البقرة : ٤٤ وقال حكاية عن قول شعيب لقومه : « وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ » : هود : ٨٨ إلى غير ذلك من الآيات.

فلذلك كله كان من الواجب أن يكون المعلم المربي ذا إيمان بمواد تعليمه وتربيته.

على أن الإنسان الخالي عن الإيمان بما يقوله حتى المنافق المتستر بالأعمال الصالحة المتظاهر بالإيمان الصريح الخالص لا يتربى بيده إلا من يمثله في نفسه الخبيثة فإن اللسان وإن أمكن إلقاء المغايرة بينه وبين الجنان بالتكلم بما لا ترضى به النفس ولا يوافقه السر إلا أن الكلام من جهة أخرى فعل والفعل من آثار النفس ورشحاتها ، وكيف يمكن مخالفة الفعل لطبيعة فاعله؟.

٢٥٩

فالكلام من غير جهة الدلالة اللفظية الوضعية حامل لطبيعة نفس المتكلم من إيمان أو كفر أو غير ذلك ، وواضعها وموصلها إلى نفس المتعلم البسيطة الساذجة فلا يميز جهة صلاحه ـ وهو جهة دلالته الوضعية ـ من جهة فساده ـ وهو سائر جهاته ـ إلا من كان على بصيرة من الأمر ، قال تعالى في وصف المنافقين لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ » : سورة محمد : ٣٠ فالتربية المستعقبة للأثر الصالح هو ما كان المعلم المربي فيها ذا إيمان بما يلقيه إلى تلامذته مشفوعا بالعمل الصالح الموافق لعلمه ، وأما غير المؤمن بما يقوله أو غير العامل على طبق علمه فلا يرجى منه خير.

ولهذه الحقيقة مصاديق كثيرة وأمثلة غير محصاة في سلوكنا معاشر الشرقيين والإسلاميين خاصة في التعليم والتربية في معاهدنا الرسمية وغير الرسمية فلا يكاد تدبير ينفع ولا سعي ينجح.

٥ ـ [ أدب النبوة العام إجمالا ] وإلى هذا الباب يرجع ما نرى أن كلامه تعالى يشتمل على حكاية فصول من الأدب الإلهي المتجلي من أعمال الأنبياء والرسل عليه‌السلام مما يرجع إلى الله سبحانه من أقسام عباداتهم وأدعيتهم وأسئلتهم أو يرجع إلى الناس في معاشراتهم ومخاطباتهم فإن إيراد الأمثلة في التعليم نوع من التعليم العملي بإشهاد العمل.

قال الله تعالى بعد ذكر قصة إبراهيم في التوحيد مع قومه : « وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ، وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ، وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ » : الأنعام : ٩٠ ، يذكر تعالى أنبياءه الكرام عليه‌السلام ذكرا جامعا ثم يذكر أنه أكرمهم بالهداية الإلهية وهي الهداية إلى التوحيد فحسب والدليل عليه قوله : « وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ » ، فلم يذكر منافيا لما حباهم به من الهداية إلا الشرك فلم يهدهم إلا إلى التوحيد.

٢٦٠