الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

مسير حياته كالشمعة الصغيرة يحملها طارق الليل المظلم لا ينتفع من نورها إلا أن يميز ما يضع عليه قدمه من الأرض.

فما يتعلق به علم الإنسان ناشب بوجوده متعلق بواقعيته بأطراف ثم بأطراف أطراف وهكذا كل ذلك في غيب من إدراك الإنسان فلا يتعلق العلم بحقيقة معنى الكلمة بشيء إلا إذا كان متعلقا بجميع الغيوب في الوجود ، ولا يسع ذلك لمخلوق محدود مقدر إنسانا أو غيره إلا لله الواحد القهار الذي عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، قال الله تعالى : « وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » : البقرة : ٢١٦ فدل على أن من طبع الإنسان الجهل فلا يرزق من العلم إلا محدودا مقدرا كما قال تعالى : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ » : الحجر : ٢١ وهو قوله عليه‌السلام : حيث سئل عن علة احتجاب الله عن خلقه ـ فقال : لأنه بناهم بنية على الجهل، وقال تعالى : « وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ » : البقرة : ٢٥٥ فدل على أن العلم كله لله ، وإنما يحيط منه الإنسان بما شاء الله ، وقال تعالى : « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً » : الإسراء : ٨٥ فدل على أن هناك علما كثيرا لم يؤت الإنسان إلا قليلا منه.

فإذن حقيقة الأمر أن العلم حق العلم لا يوجد عند غير الله سبحانه ، وإذ كان يوم القيامة يوما يظهر فيه الأشياء بحقائقها على ما تفيده الآيات الواصفة لأمره فلا مجال فيه إلا للكلام الحق كما قال تعالى : « لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً ، ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ » : النبأ ـ ٣٩ كان من الجواب الحق إذا ما سئل الرسل فقيل لهم : « ما ذا أُجِبْتُمْ » أن يجيبوا بنفي العلم عن أنفسهم لكونه من الغيب ، ويثبتوه لربهم سبحانه بقولهم : « لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ».

وهذا الجواب منهم عليه‌السلام نحو خضوع لحضرة العظمة والكبرياء واعتراف بحاجتهم الذاتية وبطلانهم الحقيقي قبال مولاهم الحق رعاية لأدب الحضور وإظهارا لحقيقة الأمر ، وليس جوابا نهائيا لا جواب بعده البتة :

أما أولا فلأن الله سبحانه جعلهم شهداء على أممهم كما ذكره في قوله : « فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً » : النساء : ٤١ وقال : « وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ » : الزمر : ٦٩ ولا معنى لجعلهم شهداء

٢٠١

إلا ليشهدوا على أممهم يوم القيامة بما هو حق الشهادة يومئذ ، فلا محالة هم سيشهدون يومئذ كما قدر الله ذلك فقولهم يومئذ : « لا عِلْمَ لَنا » جري على الأدب العبودي قبال الملك الحق الذي له الأمر والملك يومئذ ، وبيان لحقيقة الحال وهو أنه هو يملك العلم لذاته ولا يملك غيره إلا ما ملكه ، ولا ضير أن يجيبوا بعد هذا الجواب بما لهم من العلم الموهوب المتعلق بأحوال أممهم ، وهذا مما يؤيد ما قدمناه في البحث عن قوله تعالى : « (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، » الآية : البقرة : ١٤٣ في الجزء الأول من هذا الكتاب : أن هذا العلم والشهادة ليسا من نوع العلم والشهادة المعروفين عندنا وأنهما من العلم المخصوص بالله الموهوب لطائفة من عباده المكرمين.

وأما ثانيا فلأن الله سبحانه أثبت العلم لطائفة من مقربي عباده يوم القيامة على ما له من الشأن ، قال تعالى : « وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ » : الروم : ٥٦ وقال تعالى : « وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ » : الأعراف : ٤٦ وقال تعالى : « وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » : الزخرف : ٨٧ وعيسى بن مريم عليه‌السلام ممن تعمه الآية وهو رسول فهو ممن يشهد بالحق وهم يعلمون ، وقال تعالى : « وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً » : الفرقان : ٣١ والمراد بالرسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي تحكيه الآية من قوله هو بعينه جواب لما تشتمل عليه هذه الآية من السؤال أعني قوله تعالى : « فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ » فظهر أن قول الرسل عليه‌السلام : « لا علم لنا » ليس جوابا نهائيا كما تقدم.

وأما ثالثا فلأن القرآن يذكر السؤال عن المرسلين والمرسل إليهم جميعا كما قال تعالى : « (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) : الأعراف : ٦ ثم ذكر عن الأمم المرسل إليهم جوابات كثيرة عن سؤالات كثيرة ، والجواب يستلزم العلم كما أن السؤال يقرره ، وقال أيضا فيهم : « لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ » : ق : ٢٢ ، وقال أيضا : « وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ » : السجدة : ١٢ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة ، وإذا كانت الأمم ـ وخاصة المجرمون منهم ـ على علم في هذا اليوم فكيف يتصور أن يعدمه الرسل الكرام عليه‌السلام فالمصير إلى ما قدمناه.

٢٠٢

(كلام في معنى الشهادة)

الاجتماع المدني الدائر بيننا والتفاعل الواقع في عامة جهات الحياة الأرضية بين قوانا الفعالة يسوقنا ـ ولا محيص ـ إلى أنواع الاختلافات والخصومات فالذي يختص بالتمتع به أحدنا ربما أحب الآخر أن يشاركه فيه أو يختص به هو مكانه فتاقت إليه نفسه ونازعته في ذلك فأدى إلى تنبه الإنسان لوجوب اعتبار القضاء والحكم ليرتفع به هذه الخصومات.

وأول ما يحتاج إليه القضاء أن تحفظ القضايا والوقائع على النحو الذي وقعت وتضبط ضبطا لا يتطرق إليه التغير والتبدل ليقع عليه قضاء القاضي ، هذا مما لا شك فيه.

ويتأتى ذلك بأن يستشهد على الواقعة بأن يطلع عليها إنسان فيتحملها ثم يؤدي ما تحمله عند اللزوم والاقتضاء أو يضبط بوجه آخر كالكتابة أو أدوات أخر معمولة لذلك اهتدى الإنسان إلى التوصل بها.

وتفارق الشهادة سائر أسباب الحفظ والضبط أولا بأن غير الشهادة من الأسباب أمور غير عامة فإن أعمها وأعرفها الكتابة وهي لم تستوعب الإنسانية حتى اليوم فكيف بغيرها وهذا بخلاف الشهادة والتحمل.

وثانيا بأن الشهادة وهو البيان اللساني من نفس الشاهد عن تحمله وحفظه أبعد من عروض الخلل وأمنع جانبا من طرو أنواع الآفات بالقياس إلى الكتابة وغيره من أسباب الحفظ والضبط.

ولذلك نرى أن الشهادة لا تتجافى عن اعتبارها أمة من الأمم في مجتمعاتهم على اختلافها الفاحش في السنن الاجتماعية والسلائق القومية والملية والتقدم والتأخر في الحضارة والتوحش ، فهي لا تخلو عن اعتبار ما عندهم.

والاعتبار فيها بالواحد من القوم المعدود فردا من الأمة وجزءا من الجماعة ، ولذلك لا يعبأ بشهادة الصبي غير المميز ولا بشهادة المجنون الذي لا يدري ما يقول مثلا ، ولذلك

٢٠٣

أيضا لا يعبأ بعض الأمم الهمجية بشهادة النسوان لما لم يعدوا المرأة جزء من المجتمع ، وعلى ذلك كانت تجري أغلب السنن الاجتماعية في الأمم القديمة كالروم واليونان وغيرهم.

والإسلام وهو دين الفطرة يعتبر الشهادة ويعطيها وحدها من بين سائر الأسباب الحجية ، وأما سائر الأسباب فلا عبرة بها إلا مع إفادة العلم ، قال تعالى : « وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ » : الطلاق : ٢ وقال تعالى : « وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » : البقرة : ٢٨٣ وقال تعالى : « وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ » : المعارج : ٣٣.

وقد اعتبر الإسلام في عامة الموارد غير مورد الزنا من العدد في الشهداء اثنين لتأييد أحدهما الآخر قال تعالى : « وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا » : » البقرة : ٢٨٢ ، فأفاد أن ما بينته الآية واعتبرته من أحكام الشهادة ـ ومنها ضم الواحد إلى آخر ليكونا اثنين ـ أكثر مطابقة للقسط وقيام الشهادة ورفع الريب.

ثم لما كان الإسلام في تشخيصه فرد المجتمع وبعبارة أخرى في اعتباره الواحد الذي يتكون منه المجتمع الإنساني يعد المرأة جزءا مشمولا للحكم أشركها مع الرجل في إعطاء حق إقامة الشهادات إلا أنه لما اعتبر في المجتمع الذي كونه أن يكون مبنيا على التعقل دون العواطف والمرأة إنسان عاطفي أعطاها من الحق والوزن نصف ما للرجل ، فشهادة امرأتين اثنتين تعدل شهادة رجل واحد كما يشير إليه قوله تعالى في الآية السابقة : « أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى » ، وقد مر في الجزء الرابع من هذا الكتاب من الكلام في حقوق المرأة في الإسلام ما ينفع في المقام ، وللشهادة أحكام كثيرة فرعية مبسوطة في الفقه خارجة من غرضنا في هذا البحث.

(كلام في العدالة)

كثيرا ما يعثر الباحث في الأحكام الإسلامية في خلال أبحاثه بلفظ العدالة وربما وجد للفظ تعريفات مختلفة وتفسيرات متنوعة حسب اختلاف الباحثين ومسالكهم.

٢٠٤

لكن الذي يلائم مقامنا هذا من البحث ـ وهو بحث قرآني ـ في تحليل معناها وكيفية اعتبارها بالتطبيق على الفطرة التي عليها بني الإسلام أن نسلك طريقا آخر من البحث فنقول :

إن للعدالة وهي الاعتدال والتوسط بين النمطين : العالي والداني ، والجانبين : الإفراط والتفريط قيمة حقيقية ووزنا عظيما في المجتمعات الإنسانية ، والوسط العدل هو الجزء الجوهري الذي يركن إليه التركيب والتأليف الاجتماعي فإن الفرد العالي الشريف الذي يتلبس بالفضائل العالية الاجتماعية ، ويمثل بغية الاجتماع النهائية لا يجود منه الزمان إلا بالنزر القليل والواحد بعد الواحد ، ومن المعلوم أنه لا يتألف المجتمع بالفرد النادر ، ولا تتم به كينونته وإن كان هو العضو الرئيس في جثمانه حيثما وجد.

والفرد الدنيء الخسيس الذي لا يقوم بالحقوق الاجتماعية ، ولا يتحقق فيه القدر المتوسط من أماني المجتمع ممن لا داعي له يدعوه إلى رعاية الأصول العامة الاجتماعية التي بها حياة المجتمع ، ولا رادع له يردعه عن اقتحام الآثام الاجتماعية التي تهلك الاجتماع وتبطل التجاذب الواجب بين أجزائه ، وبالجملة لا اعتماد على جزئيته في بنية الاجتماع ولا وثوق بتأثيره الحسن ونصيحته الصالحة.

وإنما الحكم لأفراد المجتمع المتوسطين الذين تقوم بهم بنية المجتمع وتتحقق فيهم مقاصده ومآربه ، وتظهر بهم آثاره الحسنة التي لم تأتلف أجزاؤه وأعضاؤه إلا للحصول عليها والتمتع بها.

هذا كله مما لا يرتاب فيه الإنسان الاجتماعي عند أول ما يجيل نظره في هذا الباب.

فمن الضروري عنده أنه على حاجة شديدة في حياته الاجتماعية إلى أفراد في المجتمع يعتمد على سلوكهم الاجتماعي متلبسين بالاعتدال في الأمور والاحتراز عن الاسترسال في نقض القوانين ومخالفة السنن والآداب الجارية من غير مبالاة وانقباض في أبواب كثيرة كالحكومة والقضاء والشهادات وغيرها في الجملة.

وهذا الحكم الضروري أو القريب من الضروري عند الفطرة هو الذي يعتبره الإسلام في الشاهد ، قال تعالى : « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ » : الطلاق : ٢ ، وقال تعالى : « (شَهادَةُ

٢٠٥

بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) » : « المائدة : ١٠٦ » والخطاب في الآيتين للمؤمنين فاشتراط كون الشاهدين ذوي عدل منهم مفاده كونهما ذوي حالة معتدلة متوسطة بالنسبة إلى مجتمعهم الديني ، وأما بالقياس إلى المجتمع القومي والبلدي فالإسلام لا يعبأ بأمثال هذه الروابط غير الدينية ، وظاهر أن محصل كونهما على حالة معتدلة بالقياس إلى المجتمع الديني هو كونهما ممن يوثق بدينه غير مقترفين ما يعد من المعاصي الكبيرة الموبقة في الدين ، قال تعالى : « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً » : النساء : ٣١ ، وقد تكلمنا في معنى الكبائر في ذيل الآية في الجزء الرابع من هذا الكتاب.

وعلى هذا المعنى جرى كلامه تعالى في قوله : « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » : النور : ٥

ونظير الآية السابقة الشارطة للعدالة قوله تعالى : « مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ » : البقرة : ٢٨٢ فإن الرضا المأخوذ في الآية هو الرضا من المجتمع الديني ، ومن المعلوم أن المجتمع الديني بما هو ديني لا يرضى أحدا إلا إذا كان على نوع من السلوك يوثق به في أمر الدين.

وهذا هو الذي نسميه في فن الفقه بملكة العدالة وهي غير ملكة العدالة بحسب اصطلاح فن الأخلاق فإن العدالة الفقهية هي الهيئة النفسانية الرادعة عن ارتكاب الكبائر بحسب النظر العرفي والتي في فن الأخلاق هي الملكة الراسخة بحسب الحقيقة.

والذي استفدناه من معنى العدالة هو الذي يستفاد من مذهب أئمة أهل البيت عليه‌السلام على ما ورد من طرقهم :

ففي الفقيه ، بإسناده عن ابن أبي يعفور قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين ـ حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال : إن تعرفوه (١) بالستر والعفاف ـ وكف البطن والفرج واليد واللسان ، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد

__________________

(١) أن يعرفوه ـ خ

٢٠٦

الله تعالى عليها النار ـ من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين ـ والفرار من الزحف وغير ذلك.

والدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه ـ حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته بين الناس ، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن ـ وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين ـ وأن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة.

فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس ـ فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته قالوا : ما رأينا منه إلا خيرا ، مواظبا على الصلوات ، متعاهدا لأوقاتها في مصلاه ؛ فإن ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين ـ وذلك أن الصلاة ستر وكفارة للذنوب ، وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلي ـ إذا كان لا يحضر مصلاه ولا يتعاهد جماعة المسلمين.

وإنما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة ـ لكي يعرف من يصلي ممن لا يصلي ـ ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع ، ولو لا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد على آخر بصلاح لأن من لا يصلي لا صلاح له بين المسلمين ـ فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هم بأن يحرق قوما في منازلهم ـ بتركهم الحضور لجماعة المسلمين ـ وقد كان منهم من يصلي في بيته فلم يقبل منه ذلك ـ فكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ـ ممن جرى الحكم من الله عز وجل ومن رسوله فيه الحرق في جوف بيته بالنار؟ وقد كان يقول (ص). لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلا من علة.

أقول : ورواه في التهذيب ، مع زيادة تركناها ، والستر والعفاف كلاهما بمعنى الترك على ما في الصحاح ، والرواية ـ كما ترى ـ تجعل أصل العدالة أمرا معروفا بين المسلمين وتبين أن الأثر المترتب عليه الدال على هذه الصفة النفسية هو ترك محارم الله والكف عن الشهوات الممنوعة ، ومعرف ذلك اجتناب الكبائر من المعاصي ، ثم تجعل الدليل على ذلك كله حسن الظاهر بين المسلمين على ما بينه عليه‌السلام تفصيلا.

وفيه ، عن عبد الله بن المغيرة عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : من ولد على الفطرة ـ وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته.

٢٠٧

وفيه ، : روى سماعة عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : لا بأس بشهادة الضعيف إذا كان عفيفا صائنا.

وفي الكافي ، بإسناده عن علي بن مهزيار عن أبي علي بن راشد قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إن مواليك قد اختلفوا فأصلي معهم جميعا؟ فقال لا تصل إلا خلف من تثق بدينه.

أقول : دلالة الروايات على ما قدمناه ظاهرة ، وفيها أبحاث أخر خارجة عن غرضنا في المقام.

(كلام في اليمين)

حقيقة معنى قولك : « لعمري إن كذا وكذا ، وحياتي إن الأمر على ما أخبرته » أنك تعلق ما أخبرت به من الخبر وتقيده نوع تقييد في صدقه بعمرك وحياتك التي لها مكانة واحترام عندك بحيث يتلازمان في الوجود والعدم ، ولو كنت كاذبا في خبرك أبطلت مكانة حياتك واحترامها عندك فسقطت بذلك عن مستوى الإنسانية الداعية إلى الاحترام لأمر الحياة.

ومعنى قولك : « أقسمك بالله أن تفعل كذا أو تترك كذا » إنك ربطت أمرك أو نهيك بالمكانة والعزة التي لله عز اسمه عند المؤمنين بحيث تكون مخالفة الأمر أو معصية النهي استهانة بمقامه تعالى وإذهابا لحرمة الإيمان به.

وكذا معنى قولك : « والله لأفعلن كذا » وصل خاص بين عزيمتك على ما عزمت عليه من الأمر وبين ما لله سبحانه عندك من المكانة والحرمة بحسب إيمانك به بحيث يكون فسخك عزيمتك ونقضك همتك إبطالا لما له سبحانه من المكانة عندك ، والغرض من ذلك أن تكون على رادع من فسخ العزيمة ونقض الهمة فالقسم إيجاد ربط خاص بين شيء من الخبر أو الإنشاء وبين شيء آخر ذي مكانة وشرف بحيث يبطل المربوط إليه ببطلان المربوط بحسب الدعوى ، وحيث كان المربوط إليه ذا مكانة وشرف عند الجاعل مثلا لا يرضى بإذهاب مكانته والإهانة بمقامه فهو صادق في خبره أو مطاع فيما يأمر به أو ينهى عنه ، أو ماض في عزيمته من غير فسخ لا محالة ، ونتيجته التأكيد البالغ.

٢٠٨

ويوجد في اللغات نوع آخر من جعل الربط يقابل القسم وهو ربط الخبر مثلا بما لا قيمة له ولا شرافة عند المخبر ليدل بذلك على الاستهانة بما يخبر به أو بلغه من الخبر ويعد نوعا من الشتم وهو في اللغة العربية نادر جدا.

والحلف واليمين ـ فيما نعلم ـ من العادات الدائرة في ألسنة الناس الموروثة جيلا بعد جيل ، ولا يختص بلغة دون لغة ، وهو الدليل على أنه ليس من الشئون اللغوية اللفظية بل إنما يهدي الإنسان إليه حياته الاجتماعية في موارد يتنبه على وجوب الالتجاء إليه والاستفادة منه.

ولم تزل اليمين دائرا بين الأمم ربما يبنى عليه ويركن إليه في موارد متفرقة غير مضبوطة تحدث في مجتمعاتهم لأغراض متنوعة لدفع التهمة ورفع الفرية وتطييب النفس وتأييد الخبر حتى اعتنى بأمره القوانين المدنية وأعطتها وجهة قانونية في بعض من الموارد كحلف الرؤساء وأولياء الأمور عند تقلد المناصب الهامة وإشغال المقامات العظيمة العالية وغير ذلك.

وقد اعتنى الإسلام بشأن اليمين اعتناء تاما إذا وقع على الله سبحانه خاصة ، وليس ذلك إلا في ظل العناية برعاية حرمة المقام الربوبي ووقاية ساحته تعالى أن يواجه بما يأباه ناموس الربوبية والعبودية ، ولذلك وضعت كفارة خاصة عند حنث اليمين ، وكره الإكثار من الحلف بالله عز شأنه ، قال تعالى : « (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) ، » الآية : المائدة : ٨٩ وقال تعالى : « وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ » : البقرة : ٢٢٤.

واعتبر اليمين في موارد من القضاء خلت عن البينة ، قال تعالى : « فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا » الآية : « المائدة : ١٠٧ » ومن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله : البينة على المدعي واليمين على من أنكر.

وحقيقة اعتبار اليمين الاكتفاء بدلالة نفس الإيمان فيما لا دليل سواه ، وذلك أن المجتمع الديني مبني على إيمان الأفراد بالله ، والإنسان المؤمن هو الجزء من هذا المركب المؤلف ، وهو المنبع الذي ينبع منه السنن المتبعة والأحكام الجارية ، وبالجملة

٢٠٩

جميع الآثار البارزة في القوم الناشئة من حالتهم الدينية كما أن المجتمع غير الديني مبني على إيمان الأفراد بمقاصدهم القومية ، ومنها تنشأ السنن والقوانين المدنية والآداب والرسوم الدائرة بينهم.

فإذا كان كذلك وصح الاعتماد في جميع الشئون الاجتماعية والاتكاء في عامة لوازم الحياة على إيمان الأفراد بطرق مختلفة كان من الجائز أن يعتمد على إيمانهم في ما لا دليل آخر يعتمد عليه ، وهو اليمين فيما لا بينة عليه بأن يربط المنكر ما ينكره من دعوى المدعي ويقيده بإيمانه بحيث يزول اعتبار إيمانه بالله ببطلان إنكاره وظهور كذبه فيما أظهره وأخبر به.

فإيمانه بسبب ما عقده باليمين بمنزلة مال الرهن الذي يجعل تحت تسلط الدائن ويراعي في عوده إلى سلطة راهن صدق وعده وتأديته الدين إلى أجل وإلا ذهب المال وبقي صفر اليد.

كذلك الحالف يعتبر مرهون الإيمان بما حلف عليه ما لم يظهر خلافه وإذا ظهر الخلاف عاد صفر الكف من الإيمان ساقطا عن درجة الاعتبار محروما من التمتع بثمرة الإيمان وهي في المجتمع الديني جميع المزايا الاجتماعية ، ورجع مطرودا من المجتمع المتلائم الأجزاء ؛ لا سماء تظله ولا أرض تقله.

ويتأيد هذا البيان بما يروى من تظاهر الناس على مقت المتخلفين عن السنن الدينية كالصلاة مع الجماعة والشخوص في الجهاد ونحوهما في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين كان تمام السلطة والحكومة للدين على الأهواء.

وأما في أمثال هذه الأعصار التي ضعف فيها نفوذ الدين وتسرب الهوى في القلوب وانعقد بيننا مجتمع مؤتلف من المقاصد الدينية على وهن في بنيتها وإعراض من الناس عنها ومن مقاصد المدنية الحديثة ويجمعها الاسترسال في التمتعات المادية على شيد في أساسها وإقبال عام من عامة الناس إليها ثم أخذ التنازع والتشاجر الشديد بين الدواعي الدينية والمدنية الطارقة ولا يزال يغلب هذا وينهزم ذاك ، وانثلمت وحدة النظام الواجب انبساطه على مستوى المجتمع ، وبدا الهرج والمرج في الروحيات فحينئذ لا يكاد ينفع اليمين ولا ما هو أقوى من ذلك وأحفظ لحقوق الناس ، وزال الاعتماد لا على الأسباب

٢١٠

الدينية الموجودة عند المجتمع فحسب بل عليها وعلى النواميس الحديثة جميعا.

غير أن الله سبحانه لا ينسخ أحكامه ولا يغمض عن شرائعه بتولي الناس عنها وسأمهم منها ؛ وأن الدين عند الله الإسلام ولا يرضى لعباده الكفر ، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ، وإنما الإسلام دين متعرض لجميع شئون الحياة الإنسانية شارح لها مبين لأحكامها ذو أجزاء متلائمة متناسبة متلازمة تعيش بروح التوحيد الواحد إذا اعتل بعض أجزائه اعتل الجميع ، وإذا فسد بعضها أثر ذلك في عمل الجميع كالواحد من الإنسان بعينه.

فإذا فسد بعض أجزائه أو اعتل كان من الواجب إبقاء السالم منها على سلامته وعلاج المعتل وإصلاح الفاسد ، ولم يكن من الجائز إبقاء المعتل على علته والفاسد على فساده ، والإعراض عن السالم.

والإسلام وإن كان ملة حنيفية سهلة سمحة ذات مراتب مختلفة وسيعة يقدر تكاليفه على قدر ما يستطاع من إتيانها وإجرائها ، يتمدد حبلها الموصول من حالة اجتماعية آمنة تتضمن شرائعها وقوانينها جمعاء من غير استثناء إلى حالة انفرادية اضطرارية تكتفى فيها من الصلاة بالإشارة لكن التنزل من مرتبة من مراتبها إلى ما هي دونها مشروطة بالاضطرار النافي للتكليف والمبيح للتوسع ، قال تعالى : « (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ـ إلى أن قال ـ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) » : « النحل : ١١٠ ».

وأما بناء الحياة على التمتع المادي ثم التعلل في رفض ما يناقضه من المواد الدينية بأنه لا يوافق السنة الجارية في الدنيا الحاضرة فإنه جري على المنطق المادي دون منطق الدين.

ومن البحث المتعلق بهذا الباب ما في قول بعض : (إن الحلف بغير الله من الشرك بالله) فينبغي أن يستفهم هذا القائل ما ذا يريد بهذا الشرك الذي ذكره؟.

فإن أراد به أن في اليمين بغير الله إعظاما للمقسم به وإجلالا لأمره لابتناء معنى القسم على ذلك ففيه نوع خضوع وعبادة له وهو الشرك فما كل إعظام شركا إلا إعطاء عظمة الربوبية المستقلة التي يستغني بها عن غيره.

٢١١

وقد أقسم الله تعالى بكثير من خلقه كالسماء والأرض والشمس والقمر والكنس الخنس من الكواكب وبالنجم إذا هوى ، وأقسم بالجبل والبحر والتين والزيتون والفرس وأقسم بالليل والنهار والصبح والشفق والعصر والضحى ويوم القيامة ، وأقسم بالنفس ، وأقسم بالكتاب والقرآن العظيم وحياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالملائكة إلى غير ذلك في آيات كثيرة ولا يستقيم قسم إلا عن إعظام.

فما المانع من أن نجري على ما جرى عليه كلامه تعالى من إعظامها بالعظمة الموهوبة ونقتصر على ذلك ، ولو كان ذلك من الشرك لكان كلامه تعالى أولى بالتحرز منه وأحرى برعايته.

وأيضا قد عظم الله تعالى أمورا كثيرة في كلامه كالقرآن والعرش وخلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال تعالى : « وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ » : الحجر : ٨٧ ، وقال : « وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ » : التوبة : ١٢٩ ، وقال : « وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » : ن : ٤ ، وجعل لأنبيائه ورسله والمؤمنين حقوقا على نفسه وعظمها واحترمها ، قال تعالى : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ » : الصافات : ١٧٢ ، وقال : « وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ » : الروم : ٤٧ فما المانع من أن نعظمها ونجري على ما جرى عليه كلامه في مطلق القسم ، وأن نقسمه تعالى بشيء مما أقسم به أو بحق من الحقوق التي جعلها لأوليائه على نفسه؟ نعم اليمين الشرعي الذي له آثار شرعية في باب اليمين أو القضاء لا ينعقد بغير الله سبحانه كما بين في الفقه وليس كلامنا فيه.

وإن أراد به أن مطلق الإعظام كيفما كان لا يجوز في غير الله حتى إعظامها بما عظمها الله تعالى فهو مما لا دليل عليه بل القاطع من الدليل على خلافه.

وربما قيل : إن في الإقسام بحق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر الأولياء والتقرب إليهم والاستشفاع بهم بأي وجه كان عبادة وإعطاء سلطة غيبية لها. والكلام فيه كالكلام في سابقه : فإن أريد بهذه السلطة الغيبية السلطة المستقلة الخاصة بالله فلا يذعن بها مسلم مؤمن بكتاب الله في غيره تعالى ، وإن أريد بها مطلق السلطة غير المادية ولو كان بإذن الله فما الدليل على امتناع أن يتصف بها بعض عباد الله كأوليائه مثلا بإذنه ، وقد نص القرآن الشريف على كثير من السلطات الغيبية في الملائكة كما قال : « حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ » : الأنعام : ٦١ ، وقال : « (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ

٢١٢

الْمَوْتِ) » : السجدة : ١١ وقال : « وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً ، وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً ، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً » : النازعات : ٥ ، وقال : « مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ » : البقرة : ٩٧ والآيات في هذا الباب كثيرة جدا.

وقال في إبليس وجنوده : « إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ » : الأعراف : ٢٧ وقد نزلت في شفاعة الأنبياء وغيرهم في الآخرة ، وآياتهم المعجزة في الدنيا آيات كثيرة.

وليت شعري ما الفرق بين الآثار المادية التي يثبتها هؤلاء في الموضوعات من غير استنكاف وبين آثار غير المادية التي يسمونها بالسلطة الغيبية؟ فإن كان إثبات التأثير لغير الله ممنوعا لم يكن فرق بين الأثر المادي وغيره وإن كان جائزا بإذن الله سبحانه كان الجميع فيه سواء.

(بحث روائي)

في الكافي ، عن علي بن إبراهيم عن رجاله رفعه قال : خرج تميم الداري وابن بندي وابن أبي مارية في سفر ، وكان تميم الداري مسلما ـ وابن بندي وابن أبي مارية نصرانيين ، وكان مع تميم الداري ـ خرج له فيه متاع وآنية منقوشة بالذهب ـ وقلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع.

فاعتل تميم الداري علة شديدة ـ فلما حضره الموت ـ دفع ما كان معه إلى ابن بندي وابن أبي مارية ـ وأمرهما أن يوصلاه إلى ورثته فقدما المدينة ، وقد أخذا من المتاع الآنية والقلادة ، وأوصلا سائر ذلك إلى ورثته ، فافتقد القوم الآنية والقلادة ـ فقال أهل تميم لهما : هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة؟ فقالا : لا ما مرض إلا أياما قلائل ، قالوا : فهل سرق منه شيء في سفره هذا؟ قالا : لا ، فقالوا : فهل اتجر تجارة خسر فيها؟ قالا : لا ، قالوا : فقد افتقدنا أفضل شيء كان معه : آنية منقوشة بالذهب مكللة بالجواهر وقلادة ، فقالا : ما دفعه إلينا فقد أديناه إليكم.

فقدموهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأوجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهما اليمين ـ فحلفا فخلا عنهما ، ثم ظهرت تلك الآنية والقلادة عليهما ـ فجاء أولياء تميم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ

٢١٣

فقالوا : يا رسول الله ـ قد ظهر على ابن بندي وابن أبي مارية ـ ما ادعيناه عليهما ، فانتظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الله عز وجل الحكم في ذلك.

فأنزل الله تبارك وتعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ـ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ـ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ » فأطلق الله عز وجل ـ شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط ـ إذا كان في سفر ولم يجد المسلمين.

ثم قال : « فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ـ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ـ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ـ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ ـ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ » ، فهذه الشهادة الأولى التي حلفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً » أي أنهما حلفا على كذب « فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما » يعني من أولياء المدعي « مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ » الأولين ـ « فَيُقْسِمانِ بِاللهِ » ـ أي يحلفان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما وأنهما قد كذبا فيما حلفا بالله ـ « لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا ـ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ».

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أولياء تميم الداري ـ أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به فحلفوا ـ فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله القلادة والآنية ـ من ابن بندي وابن أبي مارية ـ وردهما إلى أولياء تميم الداري ـ « ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها ـ أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ »).

أقول : وأورده القمي في تفسيره مثله وفيه بعد قوله : « (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) : يعني صلاة العصر ، وقوله عليه‌السلام « الأولين » الظاهر أنه بصيغة التثنية والمراد بهما الشاهدان الأولان تفسيرا لقوله تعالى : « الْأَوْلَيانِ » وظاهره على قراءته عليه‌السلام « اسْتَحَقَّ » بالبناء للفاعل كما نسبت إلى علي عليه‌السلام ، وقد قدمنا في البيان السابق أنه أوضح المعاني المحتملة على هذه القراءة.

وفي الدر المنثور ، : أخرج الترمذي وضعفه وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر وهو الكلبي عن باذان مولى أم هاني عن ابن عباس عن تميم الداري : في هذه الآية : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ » ـ قال : برىء الناس منهما غيري وغير عدي بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ـ فأتيا الشام لتجارتهما ، وقدم عليهما مولى لبني سهم ـ يقال له : بديل بن أبي مريم بتجارة ، ومعه جام من فضة يريد

٢١٤

به الملك وهو عظم تجارته ، فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله.

قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ـ ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء ـ فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا ـ وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا : ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره.

قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ـ تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ـ وأديت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فسألهم البينة فلم يجدوا ـ فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه ـ فحلف فأنزل الله : « (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ـ إلى قوله ـ أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) » ـ فقام عمرو بن العاص ورجل آخر ـ فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بداء.

أقول : والرواية على ضعفها لا تنطبق على الآية تمام الانطباق وهو ظاهر ، وروي عن ابن عباس وعن عكرمة ما يقرب من رواية القمي السابقة.

وفيه ، : أخرج الفاريابي وعبد بن حميد وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب : أنه كان يقرأ : « مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ » بفتح التاء.

وفيه ، : أخرج ابن مردويه والحاكم وصححه ، عن علي بن أبي طالب : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ : « الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ».

وفيه ، : أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : هذه الآية منسوخة.

أقول : ولا دليل على ما في الرواية من حديث النسخ.

وفي الكافي ، عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان وعلي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله تبارك وتعالى : « أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ » قال : إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم ـ جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية.

أقول : ومعنى الرواية مستفاد من الآية.

وفيه ، بإسناده عن يحيى بن محمد قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز

٢١٥

وجل : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ـ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ـ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ »؟ قال : « اللذان منكم » مسلمان « واللذان من غيركم » من أهل الكتاب ، فإن لم يجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس ـ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سن في المجوس ـ سنة أهل الكتاب في الجزية.

وذلك إذا مات الرجل في أرض غربة ـ فلم يجد مسلمين ـ أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر ـ فيقسمان بالله عز وجل « لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ـ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ ـ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ » ـ قال : وذلك إذا ارتاب ولي الميت في شهادتهما ، فإن عثر على أنهما شهدا بالباطل ـ فليس له أن ينقض شهادتهما حتى يجيء بشاهدين ـ فيقومان مقام الشاهدين الأولين ـ « فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما ـ وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ » ـ فإن فعل ذلك نقض شهادة الأولين ، وجازت شهادة الآخرين يقول الله عز وجل : « ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها ـ أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ».

أقول : والرواية ـ كما ترى ـ توافق ما تقدم من معنى الآية ، وفي معناها روايات أخر في الكافي ، وتفسير العياشي ، عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليه‌السلام.

وفي بعض الروايات تفسير قوله : « أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ » بالكافرين ، وهو أعم من أهل الكتاب كما رواه في الكافي ، عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله.

وفي تفسير العياشي ، عن أبي أسامة عنه عليه‌السلام أيضا : في الآية : ما « آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ »؟ قال : هما كافران ـ قلت : « ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ »؟ فقال : مسلمان ، والرواية السابقة المقيدة بأهل الكتاب وإن لم تصلح لتقييد هذا الإطلاق بحسب صناعة الإطلاق والتقييد لكونهما متوافقين إيجابيين لكن سياق الرواية الأولى يصلح لتفسير إطلاق الثانية بما يوافق التقييد.

وفي تفسير البرهان ، عن الصدوق بإسناده إلى أبي زيد عياش بن يزيد بن الحسن عن أبيه يزيد بن الحسن قال : حدثني موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : قال الصادق عليه‌السلام : في قول الله عز وجل : « يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا » ـ قال : يقولون لا علم لنا بسواك ـ قال وقال : الصادق عليه‌السلام : القرآن كله تقريع وباطنه تقريب.

٢١٦

قال صاحب البرهان : قال ابن بابويه : يعني بذلك أنه من وراء آيات التوبيخ والوعيد آيات الرحمة والغفران.

أقول : وما نقله عن الصدوق رحمه الله في معنى قوله عليه‌السلام : « القرآن كله تقريع وباطنه تقريب » لا ينطبق عليه لا بالنظر إلى صدر الرواية فإن كون معنى قول الرسل عليه‌السلام : « لا عِلْمَ لَنا » أنه لا علم لنا بسواك غير مرتبط بكون القرآن مشتملا على نوعين من الآيات : آيات الوعد وآيات الوعيد.

ولا بالنظر إلى سياق نفس الجملة أعني قوله : « القرآن كله تقريع وباطنه تقريب » فإن الكلام ظاهر في أن القرآن كله تقريع وكله تقريب ، وإنما يختلف الأمر بحسب الباطن والظاهر فباطنه تقريب وظاهره تقريع ، لا أن القرآن منقسم إلى قسمين فقسم منه آيات التقريع ووراءه القسم الآخر وهو آيات التقريب.

والتأمل في كلامه عليه‌السلام مع ملاحظة صدر الرواية يعطي أن مراده عليه‌السلام من التقريع بالنظر إلى مقابلة التقريب لازم معناه وهو التبعيد المقابل للتقريب ، والقرآن كله معارف وحقائق فظاهره تبعيد الحقائق بعضها من بعض وتفصيل أجزائها ، وباطنه تقريب البعض من البعض وإحكامها وتوحيدها ، ويعود محصل المراد إلى أن القرآن بحسب ظاهره يعطي حقائق من المعارف مختلفة بعضها بائن منفصل من بعض لكنها على كثرتها وبينونتها وابتعاد بعضها من بعض بحسب الباطن يقترب بعضها من بعض وتلتئم شتى معانيها حتى تتحد حقيقة واحدة كالروح الساري في الجميع ، وليست إلا حقيقة التوحيد قال الله تعالى : « كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ » : هود : ١.

ويظهر حينئذ انطباقه على ما ذكره عليه‌السلام في صدر الرواية أن معنى قول الرسل : « لا عِلْمَ لَنا » أن لا علم لنا بسواك فإن الإنسان أو أي عالم فرض إنما يعلم ما يعلم بالله بمعنى أن الله سبحانه هو المعلوم بذاته وغيره معلوم به ، وبعبارة أخرى إذا تعلق العلم بشيء فإنما يتعلق أولا بالله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه وكبريائه ثم يتعلق من جهته بذلك الشيء لما أن الله سبحانه عنده علم كل شيء يرزق منه لمن يشاء من عباده على قدر ما يشاء كما قال تعالى : « (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ

٢١٧

كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) » : البقرة : ٢٥٥ وقد تقدم رواية عبد الأعلى مولى آل سام عن الصادق عليه‌السلام وغيره من الروايات في هذا المعنى.

وعلى هذا فمعنى قولهم : « (لا عِلْمَ لَنا) بسواك (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) » على تفسيره عليه‌السلام أنه لا علم لنا بشيء من دونك وإنما نعلم ما نعلم من جهة علمنا بك لأن العلم كله لك وإذا كان كذلك فأنت أعلم به منا لأن الذي نعلمه من شيء هو علمك الذي أحطنا بشيء منه بمشيئتك ورزقك.

وعلى هذا يتجلى معنى آخر لقوله : « إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ » هو أرفع منالا مما تقدم من المعنى ، وهو أن كل شيء من الخليقة لما كان منفصل الوجود عن غيره كان في غيب منه لما أن وجوده محدود مقدر لا يحيط إلا بما شاء الله أن يحيط به ، والله سبحانه هو المحيط بكل شيء ، العالم بكل غيب لا يعلم شيء شيئا إلا من جهته تعالى وتقدس عن كل نقص.

وعلى هذا فتقسيم الأمور إلى غيب وشهادة تقسيم بالحقيقة إلى غيب شاء الله إحاطتنا به وغيب مستور عنا ، وربما تؤيد هذا المعنى بظاهر قوله تعالى : « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » : الجن : ٢٧ بالنظر إلى ما تفيده إضافة الغيب إلى الضمير ، وعليك بإجادة التأمل في هذا المقام.

وفي تفسير العياشي ، عن يزيد الكناسي عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله تعالى : « (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) ، الآية » قال : يقول : ما ذا أجبتم في أوصيائكم الذين خلفتم على أمتكم؟ قال : فيقولون : لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا.

أقول : ورواه القمي في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه (ع).

وفي الكافي ، عن يزيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ما في معناه ، وهو من الجري أو من قبيل الباطن.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى

٢١٨

والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١))

(بيان)

الآيتان وكذا الآيات التالية لها القاصة قصة نزول المائدة والتالية لها المخبرة عما سيسأل الله عيسى بن مريم عليه‌السلام عن اتخاذ الناس إياه وأمه إلهين من دون الله سبحانه وما يجيب به عن ذلك ، كلها مرتبطة بغرض السورة الذي افتتحت به ، وهو الدعوة إلى الوفاء بالعهد والشكر للنعمة والتحذير عن نقض العهود وكفران النعم الإلهية وبذلك يتم رجوع آخر السورة إلى أولها وتحفظ وحدة المعنى المراد.

قوله تعالى : « (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ـ إلى قوله ـ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) » الآية تعد عدة من الآيات الباهرة الظاهرة بيده عليه‌السلام إلا أنها تمتن بها عليه وعلى أمه جميعا ، وهي مذكورة بهذا اللفظ تقريبا فيما يحكيه تعالى من تحديث الملائكة مريم عند بشارتها بعيسى عليه‌السلام في سورة آل عمران ، قال تعالى : « (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ـ إلى أن قال ـ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ـ إلى أن قال ـ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ، أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) » (الآيات)

٢١٩

: آل عمران : ٤٥ ٥٠.

والتأمل في سياق الآيات يوضح الوجه في عد ما ذكره من الآيات المختصة ظاهرا بالمسيح نعمة عليه وعلى والدته جميعا كما تشعر به آيات آل عمران فإن البشارة إنما تكون بنعمة ، والأمر على ذلك فإن ما اختص به المسيح عليه‌السلام من آية وموهبة كالولادة من غير أب والتأييد بروح القدس وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله سبحانه فهي بعينها كرامة لمريم كما أنها كرامة لعيسى عليه‌السلام فهما معا منعمان بالنعمة الإلهية كما قال تعالى : « نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ ».

وإلى ذلك يشير تعالى بقوله : « وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ » : الأنبياء : ٩١ حيث عدهما معا آية واحدة لا آيتين.

وقوله : « إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ » الظاهر أن التأييد بروح القدس هو السبب المهيئ له لتكليم الناس في المهد ، ولذلك وصل قوله « تُكَلِّمُ النَّاسَ » من غير أن يفصله بالعطف إلى الجملة السابقة إشعارا بأن التأييد والتكليم معا أمر واحد مؤلف من سبب ومسبب ، واكتفى في موارد من كلامه بذكر أحد الأمرين عن الآخر كقوله في آيات آل عمران المنقولة آنفا : « وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً » ، وقوله : « وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ » : البقرة : ٢٥٣.

على أنه لو كان المراد بتأييده بروح القدس مسألة الوحي بوساطة الروح لم يختص بعيسى بن مريم عليه‌السلام وشاركه فيها سائر الرسل مع أن الآية تأبى ذلك بسياقها.

وقوله : « (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) من الممكن أن يستفاد منه أنه عليه‌السلام إنما تلقى علم ذلك كله بتلق واحد عن أمر إلهي واحد من غير تدريج وتعدد كما أنه أيضا ظاهر جمع الجميع وتصديرها بإذ من غير تكرار لها.

وكذلك قوله : « إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي » ظاهر السياق من جهة عدم تكرار لفظة « إِذْ » أن خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص كانا متقارنين زمانا ، وأن تذييل خلق الطير بذكر الإذن من غير أن يكتفي بالإذن المذكور في آخر الجملة إنما هو لعظمة أمر الخلق بإفاضة

٢٢٠