الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

والمتيقن من معانيها ـ كما عرفت ـ أن هذه الأصناف من الأنعام كانت في الجاهلية محررة نوعا من التحرير ذات أحكام مناسبة لذلك كحماية الظهر وحرمة أكل اللحم وعدم المنع من الماء والكلاء ، وأن الوصيلة من الغنم والثلاثة الباقية من الإبل.

وفي المجمع ، : روى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكة ، وكان أول من غير دين إسماعيل ، واتخذ الأصنام ونصب الأوثان ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه ، ويروى يجر قصبه في النار.

أقول : وروي في الدر المنثور ، هذا المعنى بعدة طرق عن ابن عباس وغيره.

وفي الدر المنثور ، أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إني لأعرف أول من سيب السوائب ، ونصب النصب ، وأول من غير دين إبراهيم ، قالوا : من هو يا رسول الله؟ قال : عمرو بن لحي أخو بني كعب ـ لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه.

وإني لأعرف من نحر النحائر ، قالوا : من هو يا رسول الله؟ قال : رجل من بني مدلج كانت له ناقتان ـ فجذع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما ـ وقال : هاتان لله ثم احتاج إليهما ـ فشرب ألبانهما وركب ظهورهما.

قال : فلقد رأيته في النار ، وهما يقصمانه بأفواههما ويطئانه بأخفافهما.

وفيه ، : أخرج أحمد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن أبي الأحوص ، عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خلقان من الثياب ـ فقال لي : هل لك من مال؟ قلت : نعم ؛ قال : من أي المال؟ قلت : من كل المال : من الإبل والغنم والخيل والرقيق ـ قال : فإذا آتاك الله فلير عليك.

ثم قال : تنتج إبلك رافعة آذانها؟ قلت : نعم وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟

١٦١

قال : فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها ، وتقول : هذه بحر ، وتشق آذان طائفة منها ـ وتقول : هذه الصرم؟ قلت : نعم ، قال : فلا تفعل إن كل ما آتاك الله لك حل ، ثم قال : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

(بيان)

الآية تأمر المؤمنين أن يلزموا أنفسهم ، ويلازموا سبيل هدايتهم ولا يوحشهم ضلال من ضل من الناس فإن الله سبحانه هو المرجع الحاكم على الجميع حسب أعمالهم ، والكلام مع ذلك لا يخلو عن غور عميق.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » لفظة « عَلَيْكُمْ » اسم فعل بمعنى ألزموا ، و « أَنْفُسَكُمْ » مفعوله.

ومن المعلوم أن الضلال والاهتداء ـ وهما معنيان متقابلان ـ إنما يتحققان في سلوك الطريق لا غير ؛ فالملازم لمتن الطريق ينتهي إلى ما ينتهي إليه الطريق ، وهو الغاية المطلوبة التي يقصدها الإنسان السالك في سلوكه ، أما إذا استهان بذلك وخرج عن مستوى الطريق فهو الضلال الذي تفوت به الغاية المقصودة فالآية تقدر للإنسان طريقا يسلكه ومقصدا يقصده غير أنه ربما لزم الطريق فاهتدى إليه أو فسق عنه فضل وليس هناك مقصد يقصده القاصد إلا الحياة السعيدة ، والعاقبة الحسنى بلا ريب لكنها مع ذلك تنطق بأن الله سبحانه هو المرجع الذي يرجع إليه الجميع : المهتدي والضال.

فالثواب الذي يريده الإنسان في مسيره بالفطرة إنما هو عند الله سبحانه يناله المهتدون ، ويحرم عنه الضلال ، ولازم ذلك أن يكون جميع الطرق المسلوكة لأهل

١٦٢

الهداية والطرق المسلوكة لأهل الضلال تنتهي إلى الله سبحانه ، وعنده سبحانه الغاية المقصودة وإن كانت تلك الطرق مختلفة في إيصال الإنسان إلى البغية والفوز والفلاح أو ضربه بالخيبة والخسران ، وكذلك في القرب والبعد كما قال تعالى : « يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ » : الإنشقاق : ٦ وقال تعالى : « أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » : المجادلة : ٢٢ وقال تعالى : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ » : إبراهيم : ٢٨ وقال تعالى : « فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ » : البقرة : ١٨٦ وقال تعالى : « وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ » : حم السجدة : ٤٤.

بين تعالى في هذه الآيات أن الجميع سائرون إليه سبحانه سيرا لا مناص لهم عنه ، غير أن طريق بعضهم قصير وفيه الرشد والفلاح ، وطريق آخرين طويل لا ينتهي إلى سعادة ، ولا يعود إلى سالكه إلا الهلاك والبوار.

وبالجملة فالآية تقدر للمؤمنين وغيرهم طريقين اثنين ينتهيان إلى الله سبحانه ، وتأمر المؤمنين بأن يشتغلوا بأنفسهم وينصرفوا عن غيرهم وهم أهل الضلال من الناس ولا يقعوا فيهم ولا يخافوا ضلالهم فإنما حسابهم على ربهم لا على المؤمنين وليسوا بمسئولين عنهم حتى يهمهم أمرهم ؛ فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى : « قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ » : الجاثية : ١٤ ونظيرها قوله تعالى : « تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ » : البقرة : ١٣٤.

فعلى المؤمن أن يشتغل بما يهم نفسه من سلوك سبيل الهدى ، ولا يهزهزه ما يشاهده من ضلال الناس وشيوع المعاصي بينهم ولا يشغله ذلك ولا يشتغل بهم فالحق حق وإن ترك والباطل باطل وإن أخذ به كما قال تعالى : « قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » : المائدة : ١٠٠ وقال تعالى : « وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ » : حم السجدة : ٣٤.

فقوله تعالى : « لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » بناء على ما مر مسوق سوق الكناية

١٦٣

أريد به نهي المؤمنين عن التأثر من ضلال من ضل من الناس فيحملهم ذلك على ترك طريق الهداية كأن يقولوا : إن الدنيا الحاضرة لا تساعد الدين ولا تبيح التنحل بالمعنويات فإنما ذلك من السنن الساذجة وقد مضى زمنه وانقرض أهله ، قال تعالى : « وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا » : القصص : ٥٧.

أو يخافوا ضلالهم على هدى أنفسهم فيشتغلوا بهم وينسوا أنفسهم فيصيروا مثلهم فإنما الواجب على المؤمن هو الدعوة إلى ربه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالجملة الأخذ بالأسباب العادية ثم إيكال أمر المسببات إلى الله سبحانه فإليه الأمر كله ، فأما أن يهلك نفسه في سبيل إنقاذ الغير من الهلكة فلم يؤمر به ، ولا يؤاخذ بعمل غيره ، وما هو عليه بوكيل ، وعلى هذا فتصير الآية في معنى قوله تعالى : « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ، إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ، وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً » : الكهف : ٨ ، وقوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً » : الرعد : ٣١ ونحو ذلك.

وقد تبين بهذا البيان أن الآية لا تنافي آيات الدعوة وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الآية إنما تنهى المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم وإهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم وإنجائه.

على أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شئون اشتغال المؤمن بنفسه وسلوكه سبيل ربه ، وكيف يمكن أن تنافي الآية آيات الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تنسخها؟ وقد عدهما الله سبحانه من مشخصات هذا الدين وأسسه التي بني عليها كما قال تعالى : « قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي » : يوسف : ١٠٨ وقال تعالى : « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » : آل عمران : ١١٠.

فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الإلهية وليس عليه أن يجيش ويهلك نفسه حزنا أو يبالغ في الجد في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه.

١٦٤

وإذا كانت الآية قدرت للمؤمنين طريقا فيه اهتداؤهم ولغيرهم طريقا من شأنه ضلال سالكيه ، ثم أمر المؤمنين في قوله : « عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ » بلزوم أنفسهم كان فيه دلالة على أن نفس المؤمن هو الطريق الذي يؤمر بسلوكه ولزومه فإن الحث على الطريق إنما يلائم الحث على لزومه والتحذير من تركه لا على لزوم سألك الطريق كما نشاهده في مثل قوله تعالى : « وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » : الأنعام : ١٥٣.

فأمره تعالى المؤمنين بلزوم أنفسهم في مقام الحث على التحفظ على طريق هدايتهم يفيد أن الطريق الذي يجب عليهم سلوكه ولزومه هو أنفسهم ، فنفس المؤمن هو طريقه الذي يسلكه إلى ربه وهو طريق هداه ، وهو المنتهى به إلى سعادته.

فالآية تجلي الغرض الذي تؤمه إجمالا آيات أخرى كقوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ، لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ » : الحشر : ٢٠.

فالآيات تأمر بأن تنظر النفس وتراقب صالح عملها الذي هو زادها غدا وخير الزاد التقوى فللنفس يوم وغد وهي في سير وحركة على مسافة ، والغاية هو الله سبحانه وعنده حسن الثواب وهو الجنة فعليها أن تدوم على ذكر ربها ولا تنساه فإنه سبحانه هو الغاية ، ونسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نسي ربه نسي نفسه ، ولم يعد لغده ومستقبل مسيره زادا يتزود به ويعيش باستعماله وهو الهلاك ، وهذا معنى ما رواه الفريقان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من عرف نفسه فقد عرف ربه.

وهذا المعنى هو الذي يؤيده التدبر التام والاعتبار الصحيح فإن الإنسان في مسير حياته إلى أي غاية امتدت لا هم له في الحقيقة إلا خير نفسه وسعادة حياته وإن اشتغل في ظاهر الأمر ببعض ما يعود نفعه إلى غيره ، قال تعالى : « (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها).

وليس هناك إلا هذا الإنسان الذي يتطور طورا بعد طور ، ويركب طبقا عن طبق من جنين وصبي وشاب وكهل وشيخ ثم الذي يديم الحياة في البرزخ ثم يوم القيامة

١٦٥

ثم ما بعده من جنة أو نار ، فهذه هي المسافة التي يقطعها الإنسان من موقفه في أول تكونه إلى أن ينتهي إلى ربه ، قال تعالى : « وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى » : النجم : ٤٢.

وهو الإنسان لا يطأ موطأ في مسيره ولا يسير ولا يسري إلا بأعمال قلبية هي الاعتقادات ونحوها وأعمال جوارحية صالحة ، أو طالحة وما أنتجه عمله يوما كان هو زاده غدا فالنفس هو طريق الإنسان إلى ربه ، والله سبحانه هو غايته في مسيره.

وهذا طريق اضطراري لا مناص للإنسان عن سلوكه كما يدل عليه قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ » : الإنشقاق : ٦ فهذا طريق ضروري السلوك يشترك فيه المؤمن والكافر والملتفت المتنبه والغافل العامة ، والآية لا تريد الحث على لزومه بمعنى البعث على سلوكه ممن لا يسلك.

وإنما تريد الآية تنبيه المؤمنين على هذه الحقيقة بعد غفلتهم عنها ، فإن هذه الحقيقة كسائر الحقائق التكوينية وإن كانت ثابتة غير متغيرة بالعلم والجهل لكن التفات الإنسان إليها يؤثر في عمله تأثيرا بارزا ، والأعمال التي تربي النفس الإنسانية تربية مناسبة لسنخها وإذا كان العمل ملائما لواقع الأمر مناسبا لغاية الصنع والإيجاد كانت النفس المستكملة بها سعيدة في جدها ، غير خائبة في سعيها ولا خاسرة في صفقتها ، وقد مر بيان ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب بما لا يبقى معه ريب.

وتوضيح ذلك بما يناسب هذا المقام أن الإنسان كغيره من خلق الله سبحانه واقع تحت التربية الإلهية من دون أن يفوته تعالى شيء من أمره ، وقد قال تعالى : « ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » : هود : ٥٦ وهذه تربية تكوينية على حد ما يربي الله سبحانه غيره من الأمور ، في مسيرها جميعا إليه تعالى ، وقد قال : « أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ » : الشورى : ٥٣ ولا يتفاوت الأمر ولا يختلف الحال في هذه التربية بين شيء وشيء فإن الصراط مستقيم ، والأمر متشابه مطرد ، وقد قال تعالى أيضا : « ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ » : الملك : ٣.

وقد جعل سبحانه غاية الإنسان وما ينتهي إليه أمره ويستقر عليه عاقبته من حيث السعادة والشقاوة والفلاح والخيبة مبنية على أحوال وأخلاق نفسانية مبنية على أعمال من الإنسان تنقسم تلك الأعمال إلى صالحة وطالحة وتقوى وفجور كما قال تعالى : « (وَنَفْسٍ

١٦٦

وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) » : الشمس : ١٠ فالآيات ـ كما ترى ـ تضع النفس المسواة في جانب وهو مبدأ الحال ، والفلاح والخيبة في جانب وهو الغاية ومنتهى المسير ، ثم تبني الغايتين أعني الفلاح والخيبة على تزكية النفس وتدسيتها وذلك مرحلة الأخلاق ، ثم تبني الفضيلة والرذيلة على التقوى والفجور أعني الأعمال الصالحة والطالحة التي تنطق الآيات بأن الإنسان ملهم بها من جانب الله تعالى.

والآيات في بيانها لا تتعدى طور النفس بمعنى أنها تعتبر النفس هي المخلوقة المسواة وهي التي أضيف إليها الفجور والتقوى ، وهي التي تزكى وتدسى ، وهي التي يفلح فيها الإنسان ويخيب ، وهذا كما عرفت جري على مقتضى التكوين.

لكن هذه الحقيقة التكوينية أعني كون الإنسان في حياته سائرا في مسير نفسه لا يسعه التخطي عنها ولو بخطوة ، ولا تركها والخروج منها ولو لحظة ، لا يتساوى حال من تنبه له وتذكر به تذكرا لازما لا يتطرق إليه نسيان ، وحال من غفل عنه ونسي الواقع الذي لا مفر له منه ، وقد قال تعالى : « هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ » : الزمر : ٩.

وقال تعالى : « فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ، قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى » : طه : ١٢٦.

وذلك أن المتنبه إلى هذه الحقيقة حيثما يلتفت إلى حقيقة موقفه من ربه ونسبته إلى سائر أجزاء العالم وجد نفسه منقطعة عن غيره وقد كان يجدها على غير هذا النعت ومضروبا دونها الحجاب لا يمسها بالإحاطة والتأثير إلا ربها المدبر لأمرها الذي يدفعها من ورائها ويجذبها إلى قدامها بقدرته وهدايته ، ووجدها خالية بربها ليس لها من دونه من وال ، وعند ذلك يفقه معنى قوله تعالى : « إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » بعد قوله : « عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » ومعنى قوله تعالى : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » : الأنعام : ١٢٢.

١٦٧

وعند ذلك يتبدل إدراك النفس وشعورها ، ويهاجر من موطن الشرك إلى موقف العبودية ومقام التوحيد ولا يزال يعوض شركا من توحيد وتوهما من تحقق وبعدا من قرب واستكبارا شيطانيا من تواضع رحماني واستغناء وهميا من فقر عبودي إن أخذت بيدها العناية الإلهية وساقها سائق التوفيق.

ونحن وإن كان لا يسعنا أن نفقه هذه المعاني حق الفقه لمكان إخلادنا إلى الأرض واشتغالنا عن الغوص في أغوار هذه الحقائق التي يكشف عنها الدين ويشير إليها الكتاب الإلهي بما لا يعنينا من فضولات هذه الحياة الفانية التي لا يعرفها الكلام الإلهي في بيانه إلا بأنها لعب ولهو كما قال تعالى : « وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ » : الأنعام : ٣٢ وقال تعالى : « ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ » : النجم : ٣٠.

إلا أن الاعتبار الصحيح والبحث البالغ والتدبر الوافي يوصلنا إلى التصديق بكلياتها إجمالا وإن قصرنا عن إحصاء التفاصيل والله الهادي.

ولعلنا خرجنا عن طور الاختصار فلنرجع إلى أول الكلام فنقول : وتسع الآية أن تحمل على الخطاب الاجتماعي بأن يكون المخاطب بقوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله : « عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ » هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الإسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإلهية بأن يحتفظوا على معارفهم الدينية والأعمال الصالحة والشعائر الإسلامية العامة كما قال تعالى : « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا » : آل عمران : ١٠٣ وقد تقدم في تفسيره أن المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الأخذ بالكتاب والسنة.

ويكون قوله : « لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » يراد به أنهم في أمن من إضرار المجتمعات الضالة غير الإسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الإسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدم.

أو أنه لا يجوز لهم أن ينسلوا مما بأيديهم من الهدى من مشاهدة ما عليه المجتمعات الضالة من الانهماك في الشهوات والتمتع من مزايا العيش الباطلة فإن الجميع مرجعهم إلى الله فينبئهم بما كانوا يعملون ، وتجري الآية على هذا مجرى قوله تعالى : « لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ » : آل عمران : ١٩٧ ،

١٦٨

وقوله : « وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا » : طه : ١٣١.

وهنا معنى آخر لقوله : « لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » من جهة أن المنفي في الآية هو الإضرار المنسوب إلى نفس الضالين دون شيء معين من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الإطلاق ، ويكون المعنى نفي أن يكون الكفار ضارين للمجتمع الإسلامي بتبديله مجتمعا غير إسلامي بقوة قهرية فتكون الآية مسوقة سوق قوله تعالى : « الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ » : المائدة : ٣ ، وقوله : « لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ » : آل عمران : ١١١.

وقد ذكر جمع من مفسري السلف أن مفاد الآية هو الترخيص في ترك الدعوة الدينية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذكروا أن الآية خاصة تختص بزمان أو حال لا يوجد فيه شرط الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو الأمن من الضرر وقد رووا في ذلك روايات ستأتي الإشارة إليها في البحث الروائي الآتي.

ولازم هذا المعنى أن يكون قوله : « لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » كناية عن انتفاء التكليف أي لا تكليف عليكم في ذلك وإلا فتضرر المجتمع الديني من شيوع الضلال من كفر أو فسق مما لا يرتاب فيه ذو ريب.

لكن ذلك معنى بعيد لا يحتمله سياق الآية فإن الآية لو أخذت مخصصة لعمومات وجوب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلسانها ليس لسان التخصيص ، وإن أخذت ناسخة فآيات الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آبية من النسخ ، وللكلام تتمة ستوافيك.

(بحث روائي)

في الغرر والدرر ، للآمدي عن علي عليه‌السلام قال : من عرف نفسه عرف ربه :.

أقول : ورواه الفريقان عن النبي أيضا ، وهو حديث مشهور ، وقد ذكر بعض العلماء : أنه من تعليق المحال ، ومفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الإحاطة العلمية

١٦٩

بالله سبحانه ؛ ورد أولا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في رواية أخرى : أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه ، وثانيا بأن الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى : « وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ».

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : الكيس من عرف نفسه وأخلص أعماله.

أقول : تقدم في البيان السابق معنى ارتباط الإخلاص وتفرعه على الاشتغال بمعرفة النفس.

وفيه عنه عليه‌السلام : قال : المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين.

أقول : الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالآيات الأنفسية والمعرفة بالآيات الآفاقية ، قال تعالى : « سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » : حم السجدة : ٥٣ وقال تعالى : « وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ » : الذاريات : ٢١.

وكون السير الأنفسي أنفع من السير الآفاقي لعله لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادة من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الآفاقية ، وذلك أن كون معرفة الآيات نافعة إنما هو لأن معرفة الآيات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله ككونه تعالى حيا لا يعرضه موت ، وقادرا لا يشوبه عجز ، وعالما لا يخالطه جهل ، وأنه تعالى هو الخالق لكل شيء ، والمالك لكل شيء ، والرب القائم على كل نفس بما كسبت ، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل لينعم عليهم بما استحقوه ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

وهذه وأمثالها معارف حقة إذا تناولها الإنسان وأتقنها مثلت له حقيقة حياته ، وأنها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة ، وليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية ، وهذا موقف علمي يهدي الإنسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وهي التي نسميها بالدين ، فإن السنة التي يلتزمها الإنسان في حياته ، ولا يخلو عنها حتى البدوي والهمجي إنما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه من حيث إنه يقدر لنفسه نوعا من الحياة أي نوع كان ،

١٧٠

ثم يعمل بما استحسنه من السنة لإسعاد تلك الحياة ، وهذا من الوضوح بمكان.

فالحياة التي يقدرها الإنسان لنفسه تمثل له الحوائج المناسبة لها فيهتدي بها إلى الأعمال التي تضمن عادة رفع تلك الحوائج فيطبق الإنسان عمله عليها وهو السنة أو الدين.

فتخلص مما ذكرنا أن النظر في الآيات الأنفسية والآفاقية ومعرفة الله سبحانه بها يهدي الإنسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الإلهية من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانية المؤبدة له عند ذلك ، وتعلقها بالتوحيد والمعاد والنبوة.

وهذه هداية إلى الإيمان والتقوى يشترك فيها الطريقان معا أعني طريقي النظر إلى الآفاق والأنفس فهما نافعان جميعا غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها والملكات الفاضلة أو الرذيلة ، والأحوال الحسنة أو السيئة التي تقارنها.

واشتغال الإنسان بمعرفة هذه الأمور والإذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفك من أن يعرفه الداء والدواء من موقف قريب فيشتغل بإصلاح الفاسد منها ، والالتزام بصحيحها بخلاف النظر في الآيات الآفاقية فإنه وإن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الأخلاق ورذائلها ، وتحليتها بالفضائل الروحية لكنه ينادي لذلك من مكان بعيد ، وهو ظاهر.

وللرواية معنى آخر أدق مستخرج من نتائج الأبحاث الحقيقية في علم النفس وهو أن النظر في الآيات الآفاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكري وعلم حصولي بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلية منها فإنه نظر شهودي وعلم حضوري ، والتصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى نظم الأقيسة واستعمال البرهان ، وهو باق ما دام الإنسان متوجها إلى مقدماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها ، ولذلك يزول العلم بزوال الإشراف على دليله وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الاختلاف.

وهذا بخلاف العلم النفساني بالنفس وقواها وأطوار وجودها فإنه من العيان فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آيات نفسه ، وشاهد فقرها إلى ربها ، وحاجتها في جميع أطوار وجودها ، وجد أمرا عجيبا ؛ وجد نفسه متعلقة بالعظمة والكبرياء متصلة في

١٧١

وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبها وسائر صفاتها وأفعالها بما لا يتناهى بهاء وسناء وجمالا وجلالا وكمالا من الوجود والحياة والعلم والقدرة ، وغيرها من كل كمال.

وشاهد ما تقدم بيانه أن النفس الإنسانية لا شأن لها إلا في نفسها ، ولا مخرج لها من نفسها ، ولا شغل لها إلا السير الاضطراري في مسير نفسها ، وأنها منقطعة عن كل شيء كانت تظن أنها مجتمعة معه مختلطة به إلا ربها المحيط بباطنها وظاهرها وكل شيء دونها فوجدت أنها دائما في خلإ مع ربها وإن كانت في ملإ من الناس.

وعند ذلك تنصرف عن كل شيء وتتوجه إلى ربها وتنسى كل شيء وتذكر ربها فلا يحجبه عنها حجاب ولا تستتر عنه بستر وهو حق المعرفة الذي قدر لإنسان.

وهذه المعرفة الأحرى بها أن تسمى بمعرفة الله بالله ، وأما المعرفة الفكرية التي يفيدها النظر في الآيات الآفاقية سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك فإنما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية ، وجل الإله أن يحيط به ذهن أو تساوي ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه ، ولا يحيطون به علما.

وقد روي في الإرشاد ، والإحتجاج ، على ما في البحار عن الشعبي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلام له : إن الله أجل من أن يحتجب عن شيء أو يحتجب عنه شيء. وفي التوحيد ، عن موسى بن جعفر عليه‌السلام في كلام له : ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ـ احتجب بغير حجاب محجوب ـ واستتر بغير ستر مستور لا إله إلا هو الكبير المتعال. وفي التوحيد ، مسندا عن عبد الأعلى عن الصادق عليه‌السلام في حديث : ومن زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال ـ فهو مشرك لأن الحجاب والصورة والمثال غيره ، وإنما هو واحد موحد فكيف يوحد من زعم أنه يوحده بغيره ـ إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به ـ فليس يعرفه إنما يعرف غيره ، الحديث. والأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام في معنى ما قدمناه كثيرة جدا لعل الله يوفقنا لإيرادها وشرحها في ما سيأتي إن شاء الله العزيز من تفسير سورة الأعراف.

فقد تحصل أن النظر في آيات الأنفس أنفس وأغلى قيمة وأنه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب ، وعلى هذا فعده عليه‌السلام إياها أنفع المعرفتين لا معرفة متعينة إنما هو

١٧٢

لأن العامة من الناس قاصرون عن نيلها ، وقد أطبق الكتاب والسنة وجرت السيرة الطاهرة النبوية وسيرة أهل بيته الطاهرين على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقي وهو النظر الشائع بين المؤمنين فالطريقان نافعان جميعا لكن النفع في طريق النفس أتم وأغزر.

وفي الدرر والغرر ، عن علي عليه‌السلام قال : العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزهها عن كل ما يبعدها.

أقول : أي أعتقها عن إسارة الهوى ورقية الشهوات.

وفيه ، عنه عليه‌السلام قال : أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : أعظم الحكمة معرفة الإنسان نفسه.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه.

أقول : وذلك لكونه أعلمهم بربه وأعرفهم به ، وقد قال الله سبحانه : « (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ).

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : أفضل العقل معرفة المرء بنفسه فمن عرف نفسه عقل ، ومن جهلها ضل.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : عجبت لمن ينشد ضالته ، وقد أضل نفسه فلا يطلبها.

وفيه ، عنه عليه‌السلام قال : عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه؟.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه.

أقول : وقد تقدم وجه كونها غاية المعرفة فإنها المعرفة حقيقة.

وفيه ، عنه عليه‌السلام قال : كيف يعرف غيره من يجهل نفسه.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه ، وكفى بالمرء جهلا أن يجهل نفسه.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : من عرف نفسه تجرد.

١٧٣

أقول : أي تجرد عن علائق الدنيا ، أو تجرد عن الناس بالاعتزال عنهم أو تجرد عن كل شيء بالإخلاص لله.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : من عرف نفسه جاهدها ومن جهل نفسه أهملها.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : من عرف نفسه جل أمره.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : من عرف نفسه كان لغيره أعرف ـ ومن جهل نفسه كان بغيره أجهل.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة ، وخبط في الضلال والجهالات.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : معرفة النفس أنفع المعارف.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : قال : لا تجهل نفسك فإن الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شيء.

وفي تحف العقول ، عن الصادق عليه‌السلام في حديث : من زعم أنه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك ، ومن زعم أنه يعرف الله بالاسم دون المعنى ـ فقد أقر بالطعن لأن الاسم محدث ، ومن زعم أنه يعبد الاسم والمعنى ـ فقد جعل مع الله شريكا ، ومن زعم أنه يعبد بالصفة لا بالإدراك ـ فقد أحال على غائب ، ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة ـ فقد صغر بالكبير ، وما قدروا الله حق قدره.

قيل له : فكيف سبيل التوحيد؟ قال : باب البحث ممكن وطلب المخرج موجود ـ إن معرفة عين الشاهد قبل صفته ، ومعرفة صفة الغائب قبل عينه.

قيل : وكيف يعرف عين الشاهد قبل صفته؟ قال : تعرفه وتعلم علمه ، وتعرف نفسك به ولا تعرف نفسك من نفسك ، وتعلم أن ما فيه له وبه كما قالوا ليوسف : « إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ » ـ قال : « أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي » ـ فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره ، ولا أثبتوه

١٧٤

من أنفسهم بتوهم القلوب ، الحديث.

أقول : قد أوضحنا في ذيل قوله عليه‌السلام المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين (الرواية الثانية من الباب) أن الإنسان إذا اشتغل بآية نفسه وخلا بها عن غيرها انقطع إلى ربه من كل شيء ، وعقب ذلك معرفة ربه معرفة بلا توسيط وسط ، وعلما بلا تسبيب سبب إذ الانقطاع يرفع كل حجاب مضروب ، وعند ذلك يذهل الإنسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه ، وأحرى بهذه المعرفة أن تسمى معرفة الله بالله.

وانكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنها الفقيرة إلى الله سبحانه المملوكة له ملكا لا تستقل بشيء دونه ، وهذا هو المراد بقوله عليه‌السلام : « تعرف نفسك به ، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك ، وتعلم أن ما فيه له وبه ».

وفي هذا المعنى ما رواه المسعودي في إثبات الوصية ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال في خطبة له : « فسبحانك ملأت كل شيء وباينت كل شيء ـ فأنت لا يفقدك شيء وأنت الفعال لما تشاء ـ تباركت يا من كل مدرك من خلقه ، وكل محدود من صنعه.

ـ إلى أن قال ـ سبحانك أي عين تقوم نصب بهاء نورك ، وترقى إلى نور ضياء قدرتك ، وأي فهم يفهم ما دون ذلك إلا أبصار كشفت عنها الأغطية ، وهتكت عنها الحجب العمية ، فرقت أرواحها على أطراف أجنحة الأرواح ، فناجوك في أركانك ، وولجوا بين أنوار بهائك ، ونظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك ، فسماهم أهل الملكوت زوارا ، ودعاهم أهل الجبروت عمارا ».

وفي البحار ، عن إرشاد الديلمي ، ـ وذكر بعد ذلك سندين لهذا الحديث ـ وفيه : « فمن عمل برضائي ألزمه ثلاث خصال : أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل ـ وذكرا لا يخالطه النسيان ، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين.

فإذا أحبني أحببته ، وأفتح عين قلبه إلى جلالي ، ولا أخفي عليه خاصة خلقي ، وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار ـ حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم ، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، وأعرفه السر الذي سترته عن خلقي ، وألبسه الحياء حتى يستحيي منه الخلق كلهم ، ويمشي على الأرض مغفورا له ، وأجعل قلبه واعيا

١٧٥

وبصيرا ، ولا أخفي عليه شيئا من جنة ولا نار ، وأعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة ، وما أحاسب به الأغنياء والفقراء ـ والجهال والعلماء ، وأنومه في قبره وأنزل عليه منكرا ونكيرا حتى يسألاه ، ولا يرى غم الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطلع ، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه ، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشورا ـ ثم لا أجعل بيني وبينه ترجمانا ، فهذه صفات المحبين.

يا أحمد اجعل همك هما واحدا ، واجعل لسانك لسانا واحدا ، واجعل بدنك حيا لا يغفل أبدا ، من يغفل عني لا أبالي بأي واد هلك ».

والروايات الثلاثة الأخيرة وإن لم يكن من أخبار هذا البحث المعقود على الاستقامة إلا أنا إنما أوردناها ليقضي الناقد البصير بما قدمناه من أن المعرفة الحقيقية لا تستوفي بالعلم الفكري حق استيفائها فإن الروايات تذكر أمورا من المواهب الإلهية المخصوصة بأوليائه لا ينتجها السير الفكري البتة.

وهي أخبار مستقيمة صحيحة تشهد على صحتها الكتاب الإلهي على ما سنبين ذلك فيما سيوافيك من تفسير سورة الأعراف إن شاء الله العزيز.

وفي تفسير القمي ، : في قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ » (الآية) ، قال : قال عليه‌السلام : أصلحوا أنفسكم ـ ولا تتبعوا عورات الناس ـ ولا تذكروهم فإنه لا يضركم ضلالتهم إذا أنتم صالحون.

أقول : والرواية منطبقة على ما قدمناه في البيان السابق أن الآية متوجهة إلى النهي عن التعرض لإصلاح حال الناس أزيد من متعارف الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليست مسوقة للترخيص في ترك فريضة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي نهج البيان ، عن : الصادق عليه‌السلام أنه قال : نزلت هذه الآية في التقية.

أقول : مفاد الرواية أن الآية خاصة بصورة التقية من أهل الضلال في الدعوة إلى الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمكان اشتراط ذلك شرعا بعدم التقية ، وقد تقدم في البيان السابق أن ظاهر الآية لا تساعد على ذلك.

١٧٦

وقد روي في الدر المنثور ، عن مفسري السلف قول جمع منهم بذلك كابن مسعود وابن عمر وأبي بن كعب وابن عباس ومكحول ، وما روي في ذلك من الروايات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غير دالة على ذلك.

وهي ما عن الترمذي وصححه وابن ماجة وابن جرير والبغوي في معجمه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع هذه الآية؟ قال : أية آية؟ قال : (١) قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ـ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ـ حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ـ فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام ـ فإن من ورائكم أيام الصبر ، الصابر فيهن كالقابض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم.

أقول : وفي هذا المعنى ما رواه ابن مردويه عن معاذ بن جبل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والرواية إنما تدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يرتفعا بالآية.

وفي الدر المنثور ، : أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي عامر الأشعري : أنه كان فيهم شيء فاحتبس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ثم أتاه فقال : ما حبسك؟ قال : يا رسول الله قرأت هذه الآية : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ـ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » قال : فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أين ذهبتم؟ إنما هي : لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم.

أقول : والرواية كما ترى تخص الأمر في الآية بالترخيص في ترك دعوة الكفار إلى الحق وتصرفها عن الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفروع مع أن آيات وجوب الدعوة وما يتبعها من آيات الجهاد ونحوها لا تقصر في الإباء عن ذلك عن آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

__________________

(١) قلت. ظ

١٧٧

وفيه ، : أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : ذكرت هذه الآية عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قول الله عز وجل : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ـ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » ـ فقال نبي الله ص : لم يجيء تأويلها ، لا يجيء تأويلها حتى يهبط عيسى بن مريم عليه‌السلام.

أقول : والكلام في الرواية نظير الكلام فيما تقدم.

وفيه ، : أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حذيفة : في قوله : « عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » قال : إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر).

أقول : وهو معنى معتدل مآله إلى ما ذكرناه ، وروي مثله عن سعيد بن المسيب.

(بحث علمي)

ملفق من إشارات تاريخية وأبحاث أخر نفسية وغير ذلك في فصول :

١ ـ لم يزل الإنسان فيما نعلم ـ حتى الإنسان الأولي ـ يقول في بعض قوله : « أنا » و « نفسي » يحكي به عن حقيقة من الحقائق الكونية وهو لا محالة يدري ما يقول ويعلم ما يريد غير أن انصراف همه إلى تعبئة أركان الحياة البدنية واشتغاله بالأعمال الجسمية لرفع الحوائج المادية يصرفه عن التعمق في أمر هذه النفس المحكي عنها بقوله : « أنا » و « نفسي » وربما ألقى ذلك في وهمه أن ذلك هو البدن لا غير.

وربما وجد الإنسان أن الفارق بين الحي والميت بحسب ظهور الحس هو النفس الذي يتنفس به الإنسان ما دام حيا فإذا فقده أو سد عليه مجاريه عاد ميتا لا يشعر بشيء وبطل وجوده وانعدمت شخصيته وإنيته فأذعن أن النفس هو النفس (محركة) وهو الريح أو نوع خاص من الريح فسماه لذلك روحا ، وقضى أن الإنسان هو المجموع من الروح والبدن.

أو رأى أن الحس والحركة البدنيين كأنهما رهينا ما يحتبس في البدن من الدم الساري في أعضائه أو الجاري في عروقه من شرائين وأوردة وأن الحياة التي ترتحل الإنسانية بارتحالها متعلقة بهذا المائع الأحمر وجودا وعدما فحكم بأن النفس هو الدم

١٧٨

فسمى النفس دما بل الدم نفسا سائلة أو غير سائلة.

وربما دعا الإنسان ما يشاهده من أمر النطفة أن المني حينما يلتقمه الرحم ويطرؤه التطور الكوني طورا بعد طور هو الذي يصير إنسانا ، أن يذهب إلى أن النفس الإنسانية هي الأجزاء الأصلية المجتمعة في النطفة ، وهي باقية في البنية البدنية مدى الحياة ، وربما ذهب الذاهب إلى أنها مصونة عن التغير والبطلان ، وأن الإنسانية باقية ببقائها لا تنالها يد الحدثان ولا أنها تقبل البطلان والانعدام مع أن النفس الإنسانية لو كانت هذه الأجزاء المنعوتة سواء اشترطنا فيها الاجتماع على هيئة خاصة أو لم نشترط استلزم ذلك القول بمحالات كثيرة مذكورة في محله.

فهذه الأقاويل وأمثالها لا تنافي ما يناله الإنسان وهو إنسان من حقيقة قوله : « أنا » و « نفسي » ولا يخطئ فيه البتة إذ ليس من البعيد أن نكون ندرك حقيقة من الحقائق الكونية إجمالا إدراكا غير خاطئ ثم نأخذ في البحث عن هويته وواقع أمره تفصيلا فنخطئ فيه عند ذاك ؛ فهناك موضوعات علمية كثيرة كالمحسوسات الظاهرية أو الباطنية نشاهدها مشاهدة عيان ـ على الرغم من السوفسطائيين والشكاكين ـ ثم العلماء لا يزالون يختلفون في أمرها خلفا عن سلف.

وكذلك العامة من غير أهل البحث يشاهدون من أنفسهم ما يشاهده الخاصة من غير فرق البتة وهم على جهل من أمر تفصيله عاجزون عن تفسير خصوصيات وجوده.

وبالجملة مما لا ريب فيه أن الإنسان في جميع أحيان وجوده يشاهد أمرا غير خارج منه يعبر عنه بأنا ونفسي ، وإذا لطف نظره وتعمق خائضا فيما يجده في مشاهدته هذه وجده شيئا على خلاف ما يجده من الأمور الجسمانية القابلة للتغير والانقسام والاقتران بالمكان والزمان ، ووجده غير هذا البدن المادي المحكوم بأحكام المادة بأعضائه وأجزائه فإنه ربما نسي أي عضو من أعضائه أو غفل عن جميع بدنه وهو لا ينسى نفسه ولا يغفل عنها ، دع عنك ما ربما تقوله : نسيت نفسي ، غفلت عن نفسي ، ذهلت عن نفسي فهذه مجازات عن عنايات نفسانية مختلفة ، ألا ترى أنك تسند النسيان والغفلة والذهول حينئذ إلى نفسك وتحكم بأن نفسك الشاعرة شعرت بأمر وغفلت عن أمر تسميه نفسك كالبدن ونحوه؟.

١٧٩

ودع عنك ما ربما يتوهم أن المغمى عليه يغفل عن ذاته ونفسه فإن الذي يجده هذا الإنسان بعد انقضاء حال الإغماء أنه لا يذكر شعوره بنفسه حالة الإغماء لا أنه يذكر أنه كان غير شاعر بها ، وبين المعنيين فرق ، وربما يذكر بعض المغمى عليهم من حالة إغمائه شيئا بشبه الرؤيا التي نذكرها من حال المنام.

وكيف كان لا ينبغي الارتياب في أن الإنسان بما أنه إنسان لا يخلو عن هذا الشعور النفسي الذي يمثل له حقيقة نفسه التي يعبر عنها بأنا ، ولو أنه استأنس قليل استيناس بما يشاهده من نفسه على انصراف من التقسم إلى مشاغله البدنية وأمانيه المادية قضى بما تقدم أن نفسه أمر مغاير لسنخ المادة والماديات لما يشاهد من مغايرة خواص نفسه وآثارها لخواص الأمور المادية وآثارها.

غير أن الاشتغال بالمشاغل اليومية وصرف الهم إلى أماني الحياة المادية ورفع الحوائج البدنية يدعوه إلى إهمال الأمر والإذعان بشيء من تلك الآراء الساذجة الأبجدية والوقف على إجمال المشاهدة.

٢ ـ الفرد العادي من الإنسان وإن كان شغله هم الغذاء والمسكن والملبس والمنكح عن الغور في حقيقة نفسه والبحث في زوايا ذاته ، لكن الحوادث المختلفة الهاجمة عليه في خلال أيام حياته ربما لم تخل من عوامل توجهه إلى الانصراف عن غيره والخلوة بنفسه كالخوف الشديد الذي تنزعج به النفس عن كل شيء وترجع إلى نفسها كالآخذة الممسكة عليها حذرا من الفناء والزوال ، وكالسرور والترح الموجب لانجذاب النفس إلى ما تستلذ به ، وكالغرام الشديد المنجر إلى الوله بالمحبوب المطلوب بحيث لا هم إلا همه ، وكالاضطرار الشديد الذي ينقطع به الإنسان عن كل شيء إلى نفسه ؛ إلى غير ذلك من العوامل الاتفاقية.

هذه العوامل المختلفة والأسباب المتنوعة ربما أدى الإنسان واحدا منها أو أزيد من واحد إلى أن يتمثل عنده بعض ما لا يكاد تناله الحواس الظاهرة أو الفكرة الخالية ، كالواقع في مكان مظلم موحش أدهشه الخوف على نفسه فإنه يبصر أشياء مخوفة أو يسمع أصواتا هائلة تهدده في نفسه ، وهو الذي ربما يسمونه غولا أو هاتفا أو جنا ونحو ذلك.

وربما أحاط به الحب الشديد أو الحسرة والأسف الشديدان فحال بينه وبين

١٨٠