الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

ذاته ذات وإلا لهدده بالتحديد وقهره بالتقدير ، فهو المحيط بكل شيء ، المهيمن على كل أمر ، ولا يلحقه صفة تمتاز عن ذاته ، فإن في ذلك بطلان أزليته وعدم محدوديته.

وإن صفته تعالى الكمالية غير محدودة بحد يدفع الغير أو يدفعه الغير كما أن العلم فينا غير القدرة لما بينهما من المدافعة مفهوما ومصداقا ، ولا تدافع بينهما فيه تعالى ، بل الصفة عين الصفة وعين كل صفة من صفاته العليا والاسم عين كل اسم من أسمائه الحسنى.

بل إن هنالك ما هو ألطف معنى وأبعد غورا من ذلك وهو أن هذه المعاني والمفاهيم للعقل بمنزلة الموازين والمكاييل يوزن ويكتال بها الوجود الخارجي والكون الواقعي ؛ فهي حدود محدودة لا تنعزل عن هذا الشأن وإن ضممنا بعضها إلى بعض ، واستمددنا من أحدها للآخر ، لا يغترف بأوعيتها إلا ما يقاربها في الحد ، فإذا فرضنا أمرا غير محدود ثم قصدناه بهذه المقاييس المحدودة لم ننل منه إلا المحدود وهو غيره ، وكلما زدنا في الإمعان في نيله زاد تعاليا وابتعادا.

فمفهوم العلم مثلا هو معنى أخذناه من وصف محدود في الخارج نعده كمالا لما يوجد له ، وفي هذا المفهوم من التحديد ما يمنعه أن يشمل القدرة والحياة مثلا ، فإذا أطلقناه عليه تعالى ثم عدلنا محدوديته بالتقييد في نحو قولنا : علم لا كالعلوم فهب أنه يخلص من بعض التحديد لكنه بعد مفهوم لا ينعزل عن شأنه وهو عدم شموله ما وراءه (ولكل مفهوم وراء يقصر عن شموله) وإضافة مفهوم إلى مفهوم آخر لا يؤدي إلى بطلان خاصة المفهومية ، وهو ظاهر.

وهذا هو الذي يحير الإنسان اللبيب في توصيفه تعالى بما يثبته له لبه وعقله ، وهو المستفاد من قوله عليه‌السلام : « لا تحده الصفات » ومن قوله فيما تقدم من خطبته المنقولة : « وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه » وقوله أيضا في تلك الخطبة : « الذي ليس لصفته حد محدود ، ولا نعت موجود » وأنت ترى أنه عليه‌السلام يثبت الصفة في عين أنه ينفيها أو ينفي حدها ، ومن المعلوم أن إثباتها هي لا تنفك عن الحد فنفي الحد عنها إسقاط لها بعد إقامتها ، ويئول إلى أن إثبات شيء من صفات الكمال فيه لا ينفي ما وراءها فتتحد الصفات بعضها مع بعض ثم تتحد مع الذات ولا حد ، ثم لا ينفي ما وراءها مما لا مفهوم لنا نحكي عنه ، ولا إدراك لنا يتعلق به فافهم ذلك.

١٠١

ولو لا أن المفاهيم تسقط عند الإشراف على ساحة عظمته وكبريائه بالمعنى الذي تقدم لأمكن للعقل أن يحيط به بما عنده من المفاهيم العامة المبهمة كوصفه بأنه ذات لا كالذوات ، وله علم لا كالعلوم ، وقدرة لا كقدرة غيره ، وحياة لا كسائر أقسام الحياة ، فإن هذا النحو من الوصف لا يدع شيئا إلا أحصاه وأحاط به إجمالا فهل يمكن أن يحيط به سبحانه شيء؟ أو أن الممنوع هو الإحاطة به تفصيلا ، وأما الإحاطة الإجمالية فلا بأس بها؟ وقد قال تعالى : « وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً » : طه : ١١٠ ، وقال : « أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ » : حم السجدة : ٥٤ ، والله سبحانه لا يحيط به شيء من جهة من الجهات بنحو من أنحاء الإحاطة ، ولا يقبل ذاته المقدسة إجمالا وتفصيلا حتى يتبعض فيكون لإجماله حكم ولتفصيله حكم آخر فافهم ذلك.

وفي الإحتجاج ، عنه عليه‌السلام في خطبة : « دليله آياته ، ووجوده إثباته ، ومعرفته توحيده ، وتوحيده تمييزه من خلقه ، وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة إنه رب خالق ، غير مربوب مخلوق ، ما تصور فهو بخلافه ـ ثم قال عليه‌السلام : ليس بإله من عرف بنفسه ، هو الدال بالدليل عليه ، والمؤدي بالمعرفة إليه ».

أقول : التأمل فيما تقدم يوضح أن الخطبة مسوقة لبيان كون وحدته تعالى وحدة غير عددية لصراحته في أن معرفته تعالى عين توحيده أي إثبات وجوده عين إثبات وحدته ، ولو كانت هذه الوحدة عددية لكانت غير الذات فكانت الذات في نفسها لا تفي بالوحدة إلا بموجب من خارج عن جهة ثبوت الذات.

وهذا من عجيب المنطق وأبلغ البيان في باب التوحيد الذي يحتاج شرحه إلى مجال وسيع لا يسعه طراز البحث في هذا الكتاب ، ومن ألطف المقاصد الموضوعة فيه قوله عليه‌السلام : « وجوده إثباته » يريد به أن البرهان عليه نفس وجوده الخارجي أي أنه لا يدخل الذهن ، ولا يسعه العقل.

قوله : « ما تصور فهو بخلافه » ليس المراد به أنه غير الصورة الذهنية فإن جميع الأشياء الخارجية على هذا النعت ، بل المراد أنه تعالى بخلاف ما يكشف عنه التصور الذهني أيا ما كان ، فلا يحيط به صورة ذهنية ، ولا ينبغي لك أن تغفل عن أنه أنزه ساحة حتى من هذا التصور أعني تصور أنه بخلاف كل تصور.

وقوله : « ليس بإله من عرف بنفسه » مسوق لبيان جلالته تعالى عن أن يتعلق

١٠٢

به معرفة ، وقهره كل فهم وإدراك ؛ فإن كل من يتعلق بنفسه معرفتنا هو في نفسه غير نفسنا ومعرفتنا ثم يتعلق به معرفتنا ، لكنه تعالى محيط بنا وبمعرفتنا ، قيم على ذلك فلا معصم تعتصم به أنفسنا ولا معرفتنا عن إحاطة ذاته وشمول سلطانه حتى يتعلق به تعلق منعزل بمنعزل.

وبين عليه‌السلام ذلك بقوله : « هو الدال بالدليل عليه والمؤدي بالمعرفة إليه » أي أنه تعالى هو الدليل يدل الدليل على أن يدل عليه ، ويؤدي المعرفة إلى أن يتعلق به تعالى نوع تعلق لمكان إحاطته تعالى وسلطانه على كل شيء ، فكيف يمكن لشيء أن يهتدي إلى ذاته ليحيط به وهو محيط به وباهتدائه؟.

وفي المعاني ، بإسناده عن عمر بن علي عن علي عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « التوحيد ظاهره في باطنه ، وباطنه في ظاهره ، ظاهره موصوف لا يرى ، وباطنه موجود لا يخفى ، يطلب بكل مكان ، ولم يخل عنه مكان طرفة عين ، حاضر غير محدود ، وغائب غير مفقود ».

أقول : كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله مسوق لبيان وحدته تعالى غير العددية المبنية على كونه تعالى غير محدود بحد ، فإن عدم المحدودية هو الموجب لعدم انعزال ظاهر توحيده وتوصيفه تعالى عن باطنه ، وباطنه عن ظاهره فإن الظاهر والباطن إنما يتفاوتان وينعزل كل منهما عن الآخر بالحد فإذا ارتفع الحد اختلطا واتحدا.

وكذلك الظاهر الموصوف إنما يحاط به ، والباطن الموجود إنما يخفى ويتحجب إذا تحددا فلم يتجاوز كل منهما حده المضروب له ، وكذلك الحاضر إنما يكون محدودا مجموعا وجوده عند من حضر عنده ، والغائب يكون مفقودا لمكان المحدودية ، ولو لا ذلك لم يجتمع الحاضر بتمام وجوده عند من حضر عنده ، ولم يستر الغائب حجاب الغيبة ولا ساتر دونه عمن غاب عنه ، وهو ظاهر.

(بحث تاريخي)

القول بأن للعالم صانعا ثم القول بأنه واحد من أقدم المسائل الدائرة بين متفكري هذا النوع تهديه إليه فطرته المركوزة فيه ، حتى أن الوثنية المبنية على الإشراك ، إذا

١٠٣

أمعنا في حقيقة معناها وجدناها مبنية على أساس توحيد الصانع ، وإثبات شفعاء عنده ؛ (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) وإن انحرفت بعد عن مجراها ، وآل أمرها إلى إعطاء الاستقلال والأصالة لآلهة دون الله.

والفطرة الداعية إلى توحيد الإله وإن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة والكبرياء ذاتا وصفة ـ على ما تقدم بيانه بالاستفادة من الكتاب العزيز ـ غير أن ألفة الإنسان وأنسه في ظرف حياته بالآحاد العددية من جانب ، وبلاء المليين بالوثنيين والثنويين وغيرهم لنفي تعدد الآلهة من جانب آخر سجل عددية الوحدة وجعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه.

ولذلك ترى المأثور من كلمات الفلاسفة الباحثين في مصر القديم واليونان وإسكندرية وغيرهم ممن بعدهم يعطي الوحدة العددية حتى صرح بها مثل الرئيس أبي علي بن سينا في كتاب الشفاء ، وعلى هذا المجرى يجري كلام غيره ممن بعده إلى حدود الألف من الهجرة النبوية.

وأما أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم على التوحيد لا تعطي أزيد من الوحدة العددية أيضا في عين أن هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامة ؛ فهذا ما يتحصل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة.

فالذي بينه القرآن الكريم من معنى التوحيد أول خطوة خطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة ، غير أن أهل التفسير والمتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة والتابعين ثم الذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف ، فهذه جوامع الحديث وكتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثرا من هذه الحقيقة لا ببيان شارح ، ولا بسلوك استدلالي.

ولم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلا ما ورد في كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصة ، فإن كلامه هو الفاتح لبابها ، والرافع لسترها وحجابها على أهدى سبيل وأوضح طريق من البرهان ، ثم ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميين بعد الألف الهجري ، وقد صرحوا بأنهم إنما استفادوه من كلامه عليه‌السلام.

وهذا هو السر في اقتصارنا في البحث الروائي السابق على نقل نماذج من غرر كلامه عليه‌السلام الرائق ، لأن السلوك في هذه المسألة وشرحها من مسلك الإحتجاج

١٠٤

البرهاني لا يوجد في كلام غيره عليه‌السلام.

ولهذا بعينه تركنا عقد بحث فلسفي مستقل لهذه المسألة فإن البراهين الموردة في هذا الغرض مؤلفة من هذه المقدمات المبينة في كلامه لا تزيد على ما في كلامه بشيء ، والجميع مبنية على صرافة الوجود وأحدية الذات جلت عظمته (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩))

__________________

(١) وللناقد البصير والمتدبر أن يقضي عجبا من ما صدر من الهفوة من عدة من العلماء الباحثين حيث ذكروا أن هذه الخطب العلوية الموضوعة في نهج البلاغة موضوعة دخيلة ، وقد ذكر بعضهم أنها من وضع الشريف الرضي رحمه الله ، وقد تقدم الكلام في أطراف هذه السقطة.

وليت شعري كيف يسع للوضع والدس أن يتسرب إلى موقف علمي دقيق لم يقو بالوقوف عليه أفهام العلماء حتى بعد ما فتح ع بابه ورفع ستره قرونا متمادية إلى أن وفق لفهمه بعد ما سير في طريق الفكر المترقي مسير ألف سنة ، ولا أطاق حمله غيره من الصحابة ولا التابعون ، بل كلام هؤلاء الرامين بالوضع ينادي بأعلى صوته أنهم كانوا يظنون أن الحقائق القرآنية والأصول العالية العلمية ليست إلا مفاهيم مبتذلة عامية وإنما تتفاضل باللفظ الفصيح والبيان البليغ.

١٠٥

(بيان)

الآيات الثلاثة وعدة من الآيات الواقعة بعدها إلى بضع ومائة من آيات السورة آيات مبينة لعدة من فروع الأحكام ، وهي جميعا كالمتخللة بين الآيات المتعرضة لقصص المسيح عليه‌السلام والنصارى ، وهي لكونها طوائف متفرقة نازلة في أحكام متنوعة كل منها ذات استقلال وتمام في ما تقصده من المعنى يشكل القضاء كونها نزلت دفعة أو صاحبت بقية آيات السورة في النزول إذ لا شاهد يشهد بذلك من مضامينها ، وأما ما ورد من أسباب النزول فسيأتي بعض ما هو العمدة منها في البحث الروائي.

وكذلك القول في هذه الآيات الثلاث المبحوث عنها فإن الآية الثالثة مستقلة في معناها ، وتستقل عنها الآية الأولى وإن لم تخلو من نوع من المناسبة فبينهما بعض الارتباط من جهة أن من جملة مصاديق لغو اليمين أن تتعلق بتحريم بعض الطيبات مما أحله الله تعالى ، ولعل هذا هو الداعي لمن نقل عنه في أسباب النزول أنه ذكر نزول الآيات جميعا في اليمين اللاغية.

هذا حال الآية الأولى مع الثالثة ، وأما الآية الثانية فكأنها من تمام الآية الأولى كما يشهد به بعض الشهادة ذيلها أعني قوله تعالى : « وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ » بل وصدرها حيث يشتمل على العطف ، وعلى الأمر بأكل الحلال الطيب الذي تنهى الآية الأولى عن تحريمه واجتنابه ، وبذلك تلتئم الآيتان معنى وتتحدان حكما ذواتي سياق واحد.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ » ، قال الراغب في المفردات : الحرام الممنوع منه إما بتسخير إلهي ، وإما بمنع قهري ، وإما بمنع من جهة العقل أو جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره ، انتهى موضع الحاجة.

وقال أيضا : أصل الحل حل العقدة ، ومنه قوله عز وجل : « وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي » ، وحللت : نزلت ، أصله من حل الأحمال عند النزول ثم جرد استعماله للنزول فقيل : حل حلولا وأحله غيره ، قال عز وجل : « (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) ، (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) » ، ويقال : حل الدين وجب أداؤه ، والحلة القوم النازلون وحي حلال مثله ، والمحلة مكان النزول ، وعن حل العقدة أستعير قولهم : حل الشيء حلا

١٠٦

قال الله تعالى : « وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً » ، وقال تعالى : « هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ » ، انتهى.

فالظاهر أن مقابلة الحل الحرمة وكذا التقابل بين الحل والحرم أو الإحرام من جهة تخيل العقد في المنع الذي هو معنى الحرمة وغيرها ثم مقابلته بالحل المستعار لمعنى الجواز والإباحة ، واللفظان أعني الحل والحرمة من الحقائق العرفية قبل الإسلام دون الشرعية أو المتشرعة.

والآية أعني قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا » « إلخ » ، تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله لهم وتحريم ، ما أحل الله هو جعله حراما كما جعله الله تعالى حلالا وذلك إما بتشريع قبال تشريع ، وإما بالمنع أو الامتناع بأن يترك شيئا من المحللات بالامتناع عن إتيانه أو منع نفسه أو غيره من ذلك فإن ذلك كله تحريم ومنع ومنازعة لله سبحانه في سلطانه واعتداء عليه ينافي الإيمان بالله وآياته ، ولذلك صدر النهي بقوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » فإن المعنى : لا تحرموا ما أحل الله لكم وقد آمنتم به وسلمتم لأمره.

ويؤيده أيضا قوله في ذيل الآية التالية : « وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ».

وإضافة قوله : « طَيِّباتِ » إلى قوله : « ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ » ـ مع أن الكلام تام بدونه ـ للإشارة إلى تتميم سبب النهي فإن تحريم المؤمنين لما أحل الله لهم على أنه اعتداء منهم على الله في سلطانه ، ونقض لإيمانهم بالله وتسليمهم لأمره كذلك هو خروج منهم عن حكم الفطرة ، فإن الفطرة تستطيب هذه المحللات من غير استخباث ، وقد أخبر الله سبحانه عن ذلك فيما نعت به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله والشريعة التي جاء بها حيث قال : « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » : الأعراف : ١٥٧.

وبهذا الذي بينا يتأيد أولا : أن المراد بتحريم طيبات ما أحل الله هو الإلزام والالتزام بترك المحللات.

وثانيا : أن المراد بالحل مقابل الحرمة ويعم المباحات والمستحبات بل والواجبات

١٠٧

قضاء لحق المقابلة.

وثالثا : أن إضافة الطيبات إلى ما أحل الله في قوله : « طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ » إضافة بيانية.

ورابعا : أن المراد بالاعتداء في قوله : « وَلا تَعْتَدُوا » هو الاعتداء على الله سبحانه في سلطانه التشريعي ، أو التعدي عن حدود الله بالانخلاع عن طاعته والتسليم له وتحريم ما أحله كما قال تعالى في ذيل آية الطلاق : « تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ » : البقرة : ٢٢٩ ، وقوله في ذيل آيات الإرث : « تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ » : النساء : ١٤ ، والآيات ـ كما ترى ـ تعد الاستقامة والالتزام بما شرعه الله طاعة له تعالى ولرسوله ممدوحة ، والخروج عن التسليم والالتزام والانقياد اعتداء وتعديا لحدود الله مذموما معاقبا عليه.

فمحصل مفاد الآية النهي عن تحريم ما أحله الله بالاجتناب عنه والامتناع من الاقتراب منه فإنه يناقض الإيمان بالله وآياته ويخالف كون هذه المحللات طيبات لا خباثة فيها حتى يجتنب عنها لأجلها ، وهو اعتداء والله لا يحب المعتدين.

قوله تعالى : « وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ » قد عرفت أن ظاهر السياق أن المراد بالاعتداء هو التحريم المذكور في الجملة السابقة عليه فقوله : « وَلا تَعْتَدُوا » يجري مجرى التأكيد لقوله : « (لا تُحَرِّمُوا) ، إلخ ».

وأما ما ذكره بعضهم : أن المراد بالاعتداء تجاوز حد الاعتدال في المحللات بالانكباب على التمتع بها ولاستلذاذ منها قبال تركها واجتناب تناولها تقشفا وترهبا فيكون معنى الآية : لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات المستلذة بأن تتعمدوا ترك التمتع بها تنسكا وتقربا إليه تعالى ، ولا تعتدوا بتجاوز حد الاعتدال إلى الإسراف والإفراط الضار بأبدانكم أو نفوسكم.

أو أن المراد بالاعتداء تجاوز المحللات الطيبة إلى الخبائث المحرمة ، ويعود المعنى إلى أن لا تجتنبوا المحللات ولا تقترفوا المحرمات ، وبعبارة أخرى : لا تحرموا ما أحل

١٠٨

الله لكم ، ولا تحللوا ما حرم الله عليكم.

فكل من المعنيين وإن كان في نفسه صحيحا يدل عليه الكتاب بما لا غبار عليه لكن شيئا منهما لا ينطبق على الآية بظاهر سياقها وسياق ما يتلوها من الآية اللاحقة فما كل معنى صحيح يمكن تحميله على كل لفظ كيفما سيق وأينما وقع.

قوله تعالى : « وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً » إلى آخر الآية ، ظاهر العطف أعني انعطاف قوله : « وَكُلُوا » على قوله : « لا تُحَرِّمُوا » أن يكون مفاد هذه الآية بمنزلة التكرار والتأكيد لمضمون الآية السابقة ، ويؤيده سياق صدر الآية من حيث اشتماله على قوله : « حَلالاً طَيِّباً » ، وهو يحاذي قوله في الآية السابقة : « طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ » ، وكذا ذيلها من حيث المحاذاة الواقعة بين قوله فيه : « وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ » وقوله في الآية السابقة : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » وقد مر بيانه.

وعلى هذا فقوله : « كُلُوا » « إلخ » ، من قبيل ورود الأمر عقيب الحظر ، وتخصيص قوله : « كُلُوا » بعد تعميم قوله : « لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ » « إلخ » ، إما تخصيص بحسب اللفظ فقط ، والمراد بالأكل مطلق التصرف فيما رزقه الله تعالى من طيبات نعمه ، سواء كان بالأكل بمعنى التغذي أو بسائر وجوه التصرف ، وقد تقدم مرارا أن استعمال الأكل بمعنى مطلق التصرف استعمال شائع ذائع.

وإما أن يكون المراد ـ ومن الممكن ذلك ـ الأكل بمعناه الحقيقي ، ويكون سبب نزول الآيتين تحريم بعض المؤمنين في زمن النزول المأكولات الطيبة على أنفسهم فتكون الآيتان نازلتين في النهي عن ذلك ، وقد عمم النهي في الآية الأولى للأكل وغيره إعطاء للقاعدة الكلية لكون ملاك النهي يعم محللات الأكل وغيرها على حد سواء.

وقوله : « مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ » لازم ما استظهرناه من معنى الآيتين كونه مفعولا لقوله : « كُلُوا » وقوله : « حَلالاً طَيِّباً » حالين من الموصول وبذلك تتوافق الآيتان ، وربما قيل : إن قوله : « حَلالاً طَيِّباً » مفعول قوله : « كُلُوا » وقوله : « مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ » متعلق بقوله : « كُلُوا » أو حال من الحلال قدم عليه لكونه نكرة ، أو كون قوله : « حَلالاً » وصفا لمصدر محذوف ، والتقدير : رزقا حلالا طيبا إلى غير ذلك.

وربما استدل بعضهم بقوله : « حَلالاً » على أن الرزق يشمل الحلال والحرام

١٠٩

معا وإلا لغا القيد.

والجواب : أنه ليس قيدا احترازيا لإخراج ما هو رزق غير حلال ولا طيب بل قيد توضيحي مساو لمقيده ، والنكتة في الإتيان به بيان أن كونه حلالا طيبا لا يدع عذرا لمعتذر في الاجتناب والكف عنه على ما تقدم ، وقد تقدم الكلام في معنى الرزق في ذيل الآية ٢٧ من سورة آل عمران في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

قوله تعالى : « لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ » اللغو ما لا يترتب عليه أثر من الأعمال ، والأيمان جمع يمين وهو القسم والحلف ؛ قال الراغب في المفردات : واليمين في الحلف مستعار من اليد اعتبارا بما يفعله المعاهد والمحالف وغيره ، قال تعالى : « (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) ، (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) » انتهى ، والتعقيد مبالغة في العقد وقرئ : عقدتم بالتخفيف ، وقوله : « فِي أَيْمانِكُمْ » متعلق بقوله : « لا يُؤاخِذُكُمُ » أو بقوله : « بِاللَّغْوِ » وهو أقرب.

والتقابل الواقع بين قوله : « بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ » وقوله : « بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ » يعطي أن المراد باللغو في الأيمان ما لا يعقد عليه الحالف ، وإنما يجري على لسانه جريا لعادة اعتادها أو لغيرها وهو قولهم ـ وخاصة في قبيل البيع والشري ـ : لا والله ، بلى والله ، بخلاف ما عقد عليه عقدا بالالتزام بفعل أو ترك كقول القائل : والله لأفعلن كذا ، وو الله لأتركن كذا.

هذا هو الظاهر من الآية ، ولا ينافي ذلك أن يعد شرعا قول القائل : والله لأفعلن المحرم الفلاني ، والله لأتركن الواجب الفلاني مثلا من لغو اليمين لكون الشارع ألغى اليمين فيما لا رجحان فيه ، فإنما هو إلحاق من جهة السنة ، وليس من الواجب أن يدل القرآن على خصوص كل ما ثبت بالسنة بخصوصه.

وأما قوله : « وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ » فلا يشمل إلا اليمين الممضاة شرعا لمكان قوله في ذيل الآية : « وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ » فإنه لا مناص عن شموله لهذه الأيمان بحسب إطلاق لفظه ، ولا معنى للأمر بحفظ الأيمان التي ألغى الله سبحانه اعتبارها فالمتعين أن اللغو من الأيمان في الآية ما لا عقد فيه ، وما عقد عليه هو اليمين الممضاة.

١١٠

قوله تعالى : « (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ـ إلى قوله ـ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ، الكفارة هي العمل الذي يستر به مساءة المعصية بوجه ، من الكفر بمعنى الستر ، قال تعالى : « نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ » : النساء : ٣١ ، قال الراغب : والكفارة ما يغطي الإثم ومنه كفارة اليمين ، انتهى.

وقوله : « فَكَفَّارَتُهُ » تفريع على اليمين باعتبار مقدر هو نحو من قولنا : فإن حنثتم فكفارته كذا ، وذلك لأن في لفظ الكفارة دلالة على معصية تتعلق به الكفارة ، وليست هذه المعصية هي نفس اليمين ، ولو كان كذلك لم يورد في ذيل الآية قوله : « وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ » إذ لا معنى لحفظ ما فيه معصية فالكفارة إنما تتعلق بحنث اليمين لا بنفسها.

ومنه يظهر أن المؤاخذة المذكورة في قوله : « وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ » هي المؤاخذة على حنث اليمين لا على نفس إيقاعها ، وإنما أضيفت إلى اليمين لتعلق متعلقها ـ أعني الحنث ـ بها ، فقوله : « فَكَفَّارَتُهُ » متفرع على الحنث المقدر لدلالة قوله : « (يُؤاخِذُكُمُ) ، إلخ ، عليه ، ونظير هذا البيان جار في قوله : « ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ » وتقديره : إذا حلفتم وحنثتم.

وقوله : « إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » خصال ثلاث يدل الترديد على تعيين إحداها عند الحنث من غير جمع ، ويدل قوله بعده : « فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ » على كون الخصال المذكورة تخييرية من غير لزوم مراعاة الترتيب الواقع بينها في الذكر ، وإلا لغا التفريع في قوله : « فَمَنْ لَمْ يَجِدْ » « إلخ » ، وكان المتعين بحسب اقتضاء السياق أن يقال : أو صيام ثلاثة أيام.

وفي الآية أبحاث فرعية كثيرة مرجعها علم الفقه.

قوله تعالى : « ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ » تقدم أن الكلام في تقدير : إذا حلفتم وحنثتم ، وفي قوله : « ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ » وكذا في قوله : « كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ » نوع التفات ورجوع من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعل النكتة فيه أن الجملتين جميعا من البيان الإلهي للناس إنما هو بوساطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان في ذلك حفظا لمقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيان ما أوحي إليه للناس كما قال تعالى : « (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ

١١١

لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) » : النحل : ٤٤.

قوله تعالى : « كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » أي يبين لكم بواسطة نبيه أحكامه لعلكم تشكرونه بتعلمها والعمل بها.

(بحث روائي)

في تفسير القمي ، : في قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ » (الآية) ، : قال حدثني أبي عن ابن أبي عمير ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ وبلال وعثمان بن مظعون ـ فأما أمير المؤمنين عليه‌السلام فحلف أن لا ينام بالليل أبدا ، وأما بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا ، وأما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا.

فدخلت امرأة عثمان على عائشة ، وكانت امرأة جميلة فقالت عائشة : ما لي أراك متعطلة؟ فقالت : ولمن أتزين؟ فوالله ما قربني زوجتي منذ كذا وكذا ـ فإنه قد ترهب ولبس المسوح وزهد في الدنيا.

فلما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبرته عائشة بذلك ـ فخرج فنادى الصلاة جامعة ـ فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات؟ ألا إني أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهار ، فمن رغب عن سنتي فليس مني.

فقاموا هؤلاء فقالوا : يا رسول الله ـ فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله عليه : « لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ـ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ـ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ـ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ـ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ـ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ـ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ».

أقول : وفي انطباق قوله تعالى : « لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ » (الآية) ، على حلفهم خفاء ، وقد تقدم بعض الكلام فيه ، وقد روى الطبرسي في مجمع البيان ، القصة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ولم يذكر الذيل فليتأمل فيه.

وفي الإحتجاج ، عن الحسن بن علي عليه‌السلام في حديث : أنه قال لمعاوية وأصحابه :

١١٢

أنشدكم بالله ـ أتعلمون أن عليا أول من حرم الشهوات على نفسه ـ من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنزل الله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ».

وفي المجمع ، في الآية : قال المفسرون : جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما فذكر الناس ـ ووصف القيامة فرق الناس وبكوا ـ واجتمع عشرة من الصحابة ـ في بيت عثمان بن مظعون الجمحي ، وهم علي وأبو بكر وعبد الله بن مسعود ـ وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة ـ وعبد الله بن عمر والمقداد بن الأسود الكندي ـ وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن ، واتفقوا على أن يصوموا النهار ، ويقوموا الليل ، ولا يناموا على الفرش ، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويلبسوا المسوح ، ويرفضوا الدنيا ، ويسيحوا في الأرض ، وهم بعضهم أن يجب مذاكيره.

فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتى دار عثمان فلم يصادفه ـ فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية ـ واسمها حولاء وكانت عطارة ـ : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وكرهت أن تبدي على زوجها ـ فقالت : يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك ـ فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما دخل عثمان أخبرته بذلك.

فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو وأصحابه ـ فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا : بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إني لم أومر بذلك ، ثم قال : إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر ـ وآكل اللحم والدسم وآتي النساء ، ومن رغب عن سنتي فليس مني.

ثم جمع الناس وخطبهم وقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب ـ والنوم وشهوات الدنيا ـ أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا ـ فإنه ليس في ديني ترك اللحم ـ ولا النساء ولا اتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي الصوم ، ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وحجوا ، واعتمروا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، واستقيموا يستقم لكم ـ فإنما هلك من كان قبلكم

١١٣

بالتشديد ـ شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ـ فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع ـ فأنزل الله الآية.

أقول : ويظهر بالرجوع إلى روايات القوم أن هذه الرواية إنما هي تلخيص للروايات المروية في هذا الباب ، وهي كثيرة جدا فقد أوردها بالجمع بين شتات مضامينها بإدخال بعضها في بعض ، وسبكها رواية واحدة.

وأما نفس هذه الروايات على كثرتها فلم يجتمع أسماء هؤلاء الصحابة في واحدة منها بل ذكر الأجمع منها لفظا هؤلاء الصحابة بلفظ عثمان بن مظعون وأصحابه ؛ وفي بعضها أناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي بعضها رجال من أصحاب النبي ص.

وكذلك ما وقع في هذه الرواية من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطبته على تفصيلها متفرقة الجمل في الروايات ، وكذلك الذي عقدوا عليه وهموا به من التروك لم تصرح الروايات بأنهم اتفقوا جميعهم على جميعها بل صرح بعض الروايات باختلافهم فيما هموا به أو عقدوا عليه كما في صحيح البخاري ومسلم عن عائشة : إن ناسا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سألوا أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عن عمله في السر ـ فقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ـ فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟ لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ـ فمن رغب عن سنتي فليس مني.

ولعل المراد بقوله في الرواية : واتفقوا على أن يصوموا النهار « إلخ » ، أن المجموع اتفقوا على المجموع لا أن كل واحد منهم عزم على الجميع. والروايات وإن كانت مختلفة في مضامينها ، وفيها الضعيف والمرسل والمعتبر لكن التأمل في جميعها يوجب الوثوق بأن رهطا من الصحابة عزموا على هذا النوع من التزهد والتنسك ، وأنه كان فيهم علي عليه‌السلام وعثمان بن مظعون ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم : من رغب عن سنتي فليس مني ، والله أعلم ، فعليك بالرجوع إلى التفاسير الروائية كتفسير الطبري والدر المنثور وفتح القدير وأمثالها.

وفي الدر المنثور ، : أخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال :

١١٤

يا رسول الله ـ إني إذا أكلت اللحم ـ انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي ، وإني حرمت علي اللحم فنزلت : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ».

وفيه ، : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم : أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله ـ وهو عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له ، فقال لامرأته : حبست ضيفي من أجلي هو حرام علي ، فقالت امرأته : هو علي حرام ، قال الضيف : هو علي حرام ، فلما رأى ذلك وضع يده وقال : كلوا بسم الله ، ثم ذهب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره ، فقال النبي : ص قد أصبت فأنزل الله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ».

أقول : من الممكن أن يكون السببان المذكوران في الروايتين الأخيرتين من تطبيق الرواة ، وهو شائع في روايات أسباب النزول ، ومن الممكن أن يقع لنزول الآية أسباب عديدة.

وفي تفسير العياشي ، عن عبد الله بن سنان قال : سألته عن رجل قال لامرأته : طالق ، أو مماليكه أحرار إن شربت حراما ولا حلالا ـ فقال : أما الحرام فلا يقربه حلف أو لم يحلف ، وأما الحلال فلا يتركه ـ فإنه ليس أن يحرم ما أحل الله ـ لأن الله يقول : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ » ـ فليس عليه شيء في يمينه من الحلال.

وفي الكافي ، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول في قول الله عز وجل : « لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ » ـ قال : « اللغو » قول الرجل : « لا والله ، وبلى والله » ولا يعقد على شيء.

أقول : وروى العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان مثله ، وعن محمد بن مسلم مثله وفيه : ولا يعقد عليها.

وفي الدر المنثور ، : أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما نزلت : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ » ـ في القوم الذين حرموا النساء واللحم على أنفسهم ـ قالوا : يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله : « لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ».

١١٥

أقول : والرواية تشاكل ذيل الرواية الأولى التي أوردناها في صدر البحث غير أنها لا تنطبق على ظاهر الآية فإن الحلف على ترك واجب أو مباح لا يخلو من عقد عليه ، وقد قوبل في الآية قوله : « بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ » بقوله : « بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ » ودل ذلك على كون اللغو من اليمين ما لا عقد عليه ، وهذا الظاهر إنما يوافق الرواية المفسرة للغو اليمين بقول القائل : لا والله ، وبلى والله ، من غير أن يعقد على شيء ، وأما اليمين الملغاة شرعا ففيها عقد على ما حلف عليه فالمتعين أن يستند إلغاؤه إلى السنة دون الكتاب.

على أن سياق الآية أدل دليل على أنها مسوقة لبيان كفارة اليمين والأمر بحفظها استقلالا لا على نحو التطفل كما هو لازم هذا التفسير.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣))

(بيان)

الآيات متلائمة سياقا فكأنها نزلت دفعة أو هي متقاربة نزولا ، والآية الأخيرة بمنزلة دفع الدخل على ما سنبينه تفصيلا ، فهي جميعا تتعرض لحال الخمر ، وبعضها

١١٦

يضيف إليها الميسر والأنصاب والأزلام.

وقد تقدم في قوله تعالى : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما » : البقرة ـ ٢١٩ ، في الجزء الأول ، وفي قوله تعالى :(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) » : النساء ـ ٤٣ في الجزء الرابع من هذا الكتاب أن هاتين الآيتين مع قوله تعالى : « قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ » : الأعراف : ٣٣ ، وهذه الآية المبحوث عنها : « (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ـ إلى قوله ـ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) » إذا انضم بعضها إلى بعض دلت سياقاتها المختلفة على تدرج الشارع في تحريم الخمر.

لكن لا بمعنى السلوك التدريجي في تحريمها من تنزيه وإعافة إلى كراهية إلى تحريم صريح حتى ينتج معنى النسخ ، أو من إبهام في البيان إلى إيضاح أو كناية خفية إلى تصريح لمصلحة السياسة الدينية في إجراء الأحكام الشرعية فإن قوله تعالى : (وَالْإِثْمَ) آية مكية في سورة الأعراف إذا انضم إلى قوله تعالى : « قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ » وهي آية مدنية واقعة في سورة البقرة أول سورة مفصلة نزلت بعد الهجرة أنتج ذلك حرمة الخمر إنتاجا صريحا لا يدع عذرا لمعتذر ، ولا مجالا لمتأول.

بل بمعنى أن الآيات تدرجت في النهي عنها بالتحريم على وجه عام وذلك قوله تعالى : « وَالْإِثْمَ » ، ثم بالتحريم الخاص في صورة النصيحة وذلك قوله : « قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما » ، وقوله : « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » إن كانت الآية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم ، ثم بالتحريم الخاص بالتشديد البالغ الذي يدل عليه قوله : « (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ ـ إلى قوله ـ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) » الآيتان.

فهذه الآيات آخر ما نزل في تحريم الخمر يدل على ذلك أقسام التأكيد المودعة فيها من « إِنَّما » والتسمية بالرجس ، ونسبته إلى عمل الشيطان ، والأمر الصريح بالاجتناب ، وتوقع الفلاح فيه ، وبيان المفاسد التي تترتب على شربها ، والاستفهام عن الانتهاء ، ثم الأمر بإطاعة الله ورسوله والتحذير عن المخالفة ، والاستغناء عنهم لو خالفوا.

١١٧

ويدل على ذلك بعض الدلالة أيضا قوله تعالى في ذيل الآيات : « (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) « إلخ » بما سيأتي من الإيضاح.

قوله تعالى : « (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) ، إلى آخر الآية » قد تقدم الكلام في أول السورة في معنى الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فالخمر ما يخمر العقل من كل مائع مسكر عمل بالتخمير ، والميسر هو القمار مطلقا ، والأنصاب هي الأصنام أو الحجارة التي كانت تنصب لذبح القرابين عليها وكانت تحترم ويتبرك بها ، والأزلام هي الأقداح التي كانت يستقسم بها ، وربما كانت تطلق على السهام التي كانت يتفاءل بها عند ابتداء الأمور والعزيمة عليها كالخروج إلى سفر ونحوه لكن اللفظ قد وقع في أول السورة للمعنى الأول لوقوعه بين محرمات الأكل فيتأيد بذلك كون المراد به هاهنا هو ذلك.

فإن قلت : الميسر بعمومه يشمل الأزلام بالمعنى الآخر الذي هو الاستقسام بالأقداح ، ولا وجه لإيراد الخاص بعد العام من غير نكتة ظاهرة فالمتعين حمل اللفظ على سهام التفؤل والخيرة التي كان العمل بها معروفا عندهم في الجاهلية قال الشاعر :

فلئن جذيمة قتلت ساداتها

فنساؤها يضربن بالأزلام

وهو كما روي أنهم كانوا يتخذون أخشابا ثلاثة رقيقة كالسهام أحدها مكتوب عليه « افعل » والثاني مكتوب عليه لا تفعل والثالث غفل لا كتابة عليه فيجعلها الضارب في خريطة معه وهي متشابه فإذا أراد الشروع في أمر يهمه كالسفر وغير ذلك أخرج واحدا منها فإن كان الذي عليه مكتوب « افعل » عزم عليه ، وإن خرج الذي مكتوب عليه « لا تفعل » تركه ، وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين ، وسمي استقساما لأن فيه طلب ما قسم له من رزق أو خير آخر من الخيرات.

فالآية تدل على حرمته لأن فيه تعرضا لدعوى علم الغيب ، وكذا كل ما يشاكله من الأعمال كأخذها الخيرة بالسبحة ونحوها.

قلت : قد عرفت أن الآية في أول السورة : « وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ » ظاهرة في الاستقسام بالأقداح الذي هو نوح من القمار لوقوعه في ضمن محرمات الأكل ، ويتأيد به أن ذلك هو المراد بالأزلام في هذه الآية.

١١٨

ولو سلم عدم تأيد هذه بتلك عاد إلى لفظ مشترك لا قرينة عليه من الكلام تبين المراد فيتوقف على ما يشرحه من السنة ، وقد وردت عدة أخبار من أئمة أهل البيت عليه‌السلام في جواز الأخذ بالخيرة من السبحة وغيرها عند الحيرة.

وحقيقته أن الإنسان إذا أراد أن يقدم على أمر كان له أن يعرف وجه المصلحة فيه بما أغرز الله فيه من موهبة الفكر أو بالاستشارة ممن له صلاحية المعرفة بالصواب والخطإ ، وإن لم يهده ذلك إلى معرفة وجه الصواب ، وتردد متحيرا كان له أن يعين ما ينبغي أن يختاره بنوع من التوجه إلى ربه.

وليس في اختيار ما يختاره الإنسان بهذا النوع من الاستخارة دعوى علم الغيب ولا تعرض لما يختص بالله سبحانه من شئون الألوهية ، ولا شرك بسبب تشريك غير الله تعالى إياه في تدبير الأمور ولا أي محذور ديني آخر إذ لا شأن لهذا العمل إلا تعين الفعل أو الترك من غير إيجاب ولا تحريم ولا أي حكم تكليفي آخر ، ولا كشف عما وراء حجب الغيب من خير أو شر إلا أن خير المستخير في أن يعمل أو يترك فيخرج عن الحيرة والتذبذب.

وأما ما يستقبل الفعل أو الترك من الحوادث فربما كان فيه خير وربما كان فيه شر على حد ما لو فعله أو تركه عن فكر أو استشارة ، فهو كالتفكر والاستشارة طريق لقطع الحيرة والتردد في مقام العمل ، ويترتب على الفعل الموافق له ما كان يترتب عليه لو فعله عن فكر أو مشورة.

نعم ربما أمكن لمتوهم أن يتوهم التعرض لدعوى علم الغيب فيما ورد من التفؤل بالقرآن ونحوه فربما كانت النفس تتحدث معه بيمن أو شامة ، وتتوقع خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا ، لكن قد ورد في الصحيح من طرق الفريقين : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتفاءل بالخير ويأمر به ، وينهى عن التطير ويأمر بالمضي معه والتوكل على الله تعالى.

فلا مانع من التفؤل بالكتاب ونحوه فإن كان معه ما يتفأل به من الخير وإلا مضى في الأمر متوكلا على الله تعالى ، وليس في ذلك أزيد مما يطيب به الإنسان نفسه في الأمور والأعمال التي يتفرس فيها السعادة والنفع ، وسنستوفي البحث المتعلق بهذا المقام في كلام موضوع لهذا الغرض بعينه.

١١٩

فتبين أن ما وقع في بعض التفاسير من حمل الأزلام على سهم التفؤل واستنتاج حرمة الاستخارة بذلك مما لا ينبغي المصير إليه.

وأما قوله : « رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » فالرجس الشيء القذر على ما ذكره الراغب في مفرداته فالرجاسة بالفتح كالنجاسة والقذارة هو الوصف الذي يبتعد ويتنزه عن الشيء بسببه لتنفر الطبع عنه.

وكون هذه المعدودات من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسا هو اشتمالها على وصف لا تستبيح الفطرة الإنسانية الاقتراب منها لأجله ، وليس إلا أنها بحيث لا تشتمل على شيء مما فيه سعادة إنسانية أصلا سعادة يمكن أن تصفو وتتخلص في حين من الأحيان كما ربما أومأ إليه قوله تعالى : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما » : البقرة : ٢١٩ ، حيث غلب الإثم على النفع ولم يستثن.

ولعله لذلك نسب هذه الأرجاس إلى عمل الشيطان ولم يشرك له أحدا ، ثم قال في الآية التالية : « إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ».

وذلك أن الله سبحانه عرف الشيطان في كلامه بأنه عدو للإنسان لا يريد به خيرا البتة قال تعالى : « إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ » : يوسف : ٥ ، وقال : « كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ » : الحج : ٤ ، وقال : « وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً ، لَعَنَهُ اللهُ » : النساء : ١١٨ ، فأثبت عليه لعنته وطرده عن كل خير.

وذكر أن مساسه بالإنسان وعمله فيه إنما هو بالتسويل والوسوسة والإغواء من جهة الإلقاء في القلب كما قال تعالى حكاية عنه : « قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ » : الحجر : ٤٢ ، فهددهم إبليس بالإغواء فقط ، ونفى الله سبحانه سلطانه إلا عن متبعيه الغاوين ، وحكى عنه فيما يخاطب بني آدم يوم القيامة قوله : « وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي » : إبراهيم : ٢٢ ، وقال في نعت دعوته : « (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ

١٢٠