كتاب من لا يحضره الفقيه - ج ٣

أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي [ الشيخ الصدوق ]

كتاب من لا يحضره الفقيه - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي [ الشيخ الصدوق ]


المحقق: علي اكبر الغفّاري
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦١٢

١

بسم الله الرحمن الرحيم

أبواب القضايا والأحكام

باب

* ( من يجوز التحاكم إليه ومن لا يجوز ) *

قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي الفقيه مصنف هذا الكتاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ :

٣٢١٦ ـ روى أحمد بن عائذ (١) عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال : قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : « إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل

__________________

(١) طريق المؤلف إليه صحيح وهو ثقة كما في « جش » ، وأما سالم بن مكرم أبو خديجة وقد يكنى أبا سلمة فهو ثقة عند النجاشي أيضا ، وقال العلامة في الخلاصة : « قال الشيخ انه ضعيف وقال في موضع آخر : انه ثقة ، والوجه عندي التوقف فيما يرويه لتعارض الأقوال » أقول : تضعيف الشيخ إياه مبنى على زعمه اتحاد الرجل مع سالم بن أبي سلمة الكندي السجستاني الذي ضعفه النجاشي وابن الغضائري والعلامة ، والدليل على ذلك أن الشيخ ـ رضوان الله عليه ـ ذكر الرجلين في عنوان وقال : « سالم بن مكرم يكنى أبا خديجة ومكرم يكنى أبا سلمة » مع أن أبا سلمة نفس سالم دون أبيه كما في فهرست النجاشي ورجال البرقي ويؤيد ذلك ما رواه الكليني في الكافي ج ٥ ص ٢١٨ في شراء العبدين المأذونين كل واحد منهما الاخر باسناده عن أحمد ابن عائذ عن أبي سلمة عن أبي عبد الله (ع) كما سيجئ عن المؤلف ، تحت رقم ٣٢٤٧ وفى التهذيب ج ٢ ص ١٣٨ باسناده عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة وعليه فلا وجه لتوقف العلامة قدس‌سره فيه ( راجع لمزيد التحقيق قاموس الرجال ج ٤ ص ٢٩٧ ).

٢

الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فاني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه (١) ».

٣٢١٧ ـ وروى معلى بن خنيس عن الصادق عليه‌السلام قال : « قلت له : قول الله عز وجل » إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل « قال : على الامام (٢) أن يدفع ما عنده إلى الامام الذي بعده ، وأمرت الأئمة أن يحكموا بالعدل ، وأمر الناس أن يتبعوهم ».

٣٢١٨ ـ وروى عطاء بن السائب (٣) عن علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : « إذا كنتم في أئمة جور فاقضوا في أحكامهم (٤) ولا تشهروا أنفسكم فتقتلوا ، وإن تعاملتم بأحكامنا كان خيرا لكم ».

__________________

(١) يستفاد منه أولا حرمة الترافع إلى أهل الجور ، والظاهر دخول الفساق في أهل الجور ، وثانيا وجوب الترافع إلى العالم من الشيعة وقبول قوله ، والمشهور الاستدلال بهذا الحديث على جواز التجزي في الاجتهاد حيث اكتفى عليه‌السلام بالعلم بشئ من الأحكام ، وقال سلطان العلماء : ولى فيه تأمل إذ ربما كان المراد بالعلم بشئ من الأحكام ما هو الحاصل بعد إحاطة جميع الأدلة والمآخذ لحصول الظن القوى بعدم المعارض في هذا الحكم كما هو مذهب من قال بعدم جواز التجزي فإنه لا يدعى وجوب العلم بجميع الأحكام حتى ينافيه اكتفاؤه عليه ـ السلام بالعلم شئ منها بل يدعى وجوب الإحاطة على جميع الأدلة والمآخذ حتى يعتبر حكمه وظنه وإن كان في مسألة خاصة.

(٢) كذا في بعض النسخ والتهذيب ج ٢ ص ٧٠ أيضا ، وفى الكافي ج ١ ص ٢٧٧ « قال : أمر الله الامام أن يدفع ». وفى بعض نسخ الفقيه « عدل الامام » والظاهر تصحيفه ، ويؤيد صحة ما في الكافي قوله « أمرت الأئمة » و « أمر الناس ».

(٣) في الطريق أبان بن عثمان الأحمر وهو وإن كان ناووسيا ولم يوثق صريحا لكن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، وأما عطاء فلم يذكر في كتب رجالنا ومعنون في كتب العامة ووثقه بعضهم وقال صاحب منهج المقال ، « ربما يشهد له بعض الروايات بالاستقامة » أقول : وهذا الحديث يدل في الجملة على كونه اماميا مأمورا بالتقية ومثله كثير في أصحابنا.

(٤) لعل المراد الصيرورة قاضيا بأمرهم وجبرهم.

٣

٣٢١٩ ـ وروى الحسن بن محبوب (١) ، عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « أيما مؤمن قدم مؤمنا في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم الله عزوجل فقد شركه في الاثم (٢) ».

٣٢٢٠ ـ وروى حريز ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل من إخوانكم ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عزوجل : « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به الآية (٣) ».

باب

* ( أصناف القضاة ووجوه الحكم ) *

٣٢٢١ ـ قال الصادق عليه‌السلام : (٤) : « القضاة أربعة : ثلاثة في النار وواحد في الجنة رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، و رجل قضى بحق وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة ، وقال عليه‌السلام : الحكم حكمان حكم الله عزوجل ، وحكم أهل الجاهلية ، فمن أخطأ حكم الله عزوجل حكم بحكم أهل الجاهلية (٥) ، ومن حكم بدرهمين بغير ما أنزل

__________________

(١) الطريق إليه صحيح وهو ثقة كما في الخلاصة.

(٢) يدل على حرمة التحاكم إليهم مع وجود حاكم العدل وامكان أخذ الحق به ، وأما في صورة التعذر أو عدم وجود العدل فإن كان الحق ثابتا بينه وبين الله فغير معلوم حرمته.

(٣) المراد بالطاغوت هنا كل من لم يحكم بما أنزل الله ، أو من حكم بغير ما أنزل الله.

(٤) رواه الكليني ج ٧ ص ٤٠٧ بأسناده عن البرقي ، عن أبيه مرفوعا إليه عليه‌السلام إلى قوله « بحكم أهل الجاهلية ».

(٥) أي إذا أخطأ بلا دليل معتبر شرعا لتقصيره أو مع علمه ببطلانه ، فلا ينافي كون المجتهد المخطئ الغير المقصر مصيبا ، ولا يبعد أن يكون الغرض بيان أن كون الحكم مطابقا للواقع لا ينفع في كونه حقا بل لابد من أخذه من مأخذ شرعي فمن لم يأخذ منه فقد حكم بحكم الجاهلية وإن كان مطابقا للواقع. ( المرآة )

٤

الله عزوجل فقد كفر بالله تعالى (١) ».

باب

* ( اتقاء الحكومة ) *

٣٢٢٢ ـ روى سليمان بن خالد (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للامام العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين كنبي أو وصي نبي ».

٣٢٢٣ ـ وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لشريح : « يا شريح قد جلست مجلسا ما جلسه إلا نبي ، أو وصي نبي ، أو شقي (٣) ».

باب

* ( كراهة مجالسة القضاة في مجالسهم ) *

٣٢٢٤ ـ روى محمد بن مسلم قال : « مربي أبو جعفر عليه‌السلام وأنا جالس عند

__________________

(١) في بعض النسخ « ومن حكم في درهمين ـ الخ ».

(٢) ثقة والطريق إليه حسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم.

(٣) رواه الكليني في الكافي بسند ضعيف عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام رفعه إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وفيه « جلست مجلسا لا يجلسه الا نبي ـ الخ » ولا يخفى اختلاف المفهومين فما في المتن ربما يفهم منه أن من زمان النبي (ص) إلى هذا الزمان ما جلس فيه الا هذه الثلاثة الأصناف ، وما في الكافي يفهم منه صعوبة القضاء وانه يستلزم لغير المعصوم الشقاء والهلاك. وقال العلامة المجلسي : ان هذه الأخبار تدل بظواهرها على عدم جواز القضاء لغير المعصوم ، ولا ريب أنهم عليهم‌السلام كانوا يبعثون القضاة إلى البلاد فلابد من حملها على أن القضاء بالأصالة لهم ولم يجوز لغيرهم تصدى ذلك الا باذنهم وكذا في قوله « لا يجلسه » أي بالأصالة ، والحاصل أن الحصر إضافي بالنسبة إلى من جلس فيها بغير اذنهم و نصبهم عليهم‌السلام.

٥

القاضي بالمدينة ، فدخلت عليه من الغد فقال لي : ما مجلس رأيتك فيه أمس؟ قال قلت له : جعلت فداك إن هذا القاضي بي مكرم ، فربما جلست إليه ، فقال لي : وما يؤمنك أن تنزل اللعنة فتعمك معه ». وفي خبر آخر « فتعم من في المجلس ».

٣٢٢٥ ـ وروي في خبر آخر : « إن شر البقاع دور الامراء الذين لا يقضون بالحق ».

٣٢٢٦ ـ وقال الصادق عليه‌السلام : « إن النواويس (١) شكت إلى الله عزوجل شدة حرها فقال لها عزوجل : اسكتي فإن مواضع القضاة أشد حرا منك ».

باب

* ( كراهة أخذ الرزق على القضاء ) *

٣٢٢٧ ـ روى الحسن بن محبوب ، عن عبد الله بن سنان قال : « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق ، فقال : ذاك سحت » (٢).

باب

* ( الحيف في الحكم ) *

٣٢٢٨ ـ روى السكوني باسناده (٣) قال : « قال علي عليه‌السلام : يد الله فوق رأس

__________________

(١) النواويس جمع ناووس مقبرة النصارى وموضع بجهنم.

(٢) السحت : الحرام ، وحمل على الأجرة ، والمشهور جواز الارتزاق من بيت المال قال في المسالك : ان تعين عليه بتعيين الامام أو بعدم قيام أحد غيره حرم عليه أخذ الأجرة وان لم يتعين عليه فإن كان له غنى عنه لم يجز أيضا والا جاز ، وقيل يجوز مع عدم التعين مطلقا ، وقيل : يجوز مع الحاجة مطلقا ، ومن الأصحاب من جوز اخذ الأجرة عليه مطلقا ، والأصح المنع مطلقا الا من بيت المال على جهة الارتزاق فيقيد بنظر الحاكم ( المرآة ) أقول : في الكافي والتهذيب « ذلك السحت ».

(٣) رواه الكليني ج ٧ ص ٤١٠ والشيخ في التهذيب ج ٢ ص ٦٩ عن علي بن إبراهيم عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني عن أبي عبد الله عن آبائه عليهم‌السلام عنه صلوات الله عليه.

٦

الحاكم ترفرف بالرحمة ، فإذا حاف في الحكم وكله الله عزوجل إلى نفسه » (١).

باب

* ( الخطأ في الحكم ) *

٣٢٢٩ ـ روي عن أبي بصير قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « من حكم في درهمين فأخطأ كفر » (٢).

٣٢٣٠ ـ وروى معاوية بن وهب (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « أي قاض قضى بين اثنين فأخطأ سقط أبعد من السماء » (٤).

باب

* ( أرش خطأ القضاة ) *

٣٢٣١ ـ روي عن الأصبغ بن نباتة (٥) أنه قال : « قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام أن ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين ».

__________________

(١) ترفرف الطائر بجناحه إذا بسطها عند السقوط على شئ يطوف عليه ، والحيف : الجور والظلم.

(٢) تقدم الكلام فيه في باب أصناف القضاة.

(٣) طريق المصنف إليه صحيح وهو ثقة.

(٤) أي سقط من درجة قربه وكماله أو درجاته في الجنة ، أو يلحقه الضرر الأخروي مثل ما يلحق الضرر الدنيوي من سقط من السماء. ( المرآة )

(٥) طريق المصنف إلى الأصبغ ضعيف كما في الخلاصة لان فيه الحسين بن علوان الكلبي وعمرو بن ثابت فالأول عامي وإن كان له ميل ومحبة شديدة حتى قيل بايمانه والثاني لم يثبت مدحه ولا توثيقه مع قول فيه بالضعف ورواه الشيخ في التهذيب ج ٢ ص ٩٦ عن الأصبغ وطريقه مثل طريق المؤلف

٧

باب

* ( الاتفاق على عدلين في الحكومة ) *

٢٣٢ ـ روي عن داود بن الحصين (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين ، فاختلف العدلان بينهما ، على قول أيهما يمضي الحكم (٢)؟ قال : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ، ولا يلتفت إلى الاخر » (٣).

٣٢٣٣ ـ وروى داود بن الحصين ، عن عمر بن حنظلة (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) طريق المؤلف إليه فيه الحكم بن مسكين ولم يوثق صريحا ، ورواه الشيخ باسناده الصحيح عن محمد بن علي بن محبوب الثقة عن الحسن بن موسى الخشاب الذي هو من وجوه أصحابنا عن ابن أبي نصير البزنطي ، عن داود بن الحصين الواقفي الموثق راجع التهذيب ج ٢ ص ٩١.

(٢) قوله « بالعدلين » حمل على المجتهدين. ( سلطان )

(٣) إذا تعارض الأعلم والأورع فالمشهور تقديم الأعلم ، والتخيير أظهر ( م ت ) وفى الجواب اشعار بأنه لابد من كونهما عالمين فقيهين ورعين لكن مع خلافهما ينظر إلى أعلمهما وأفقههما وأورعهما. ( سلطان )

(٤) عمر بن حنظلة وثقه الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في درايته. والرواية معروفة بمقبولة عمر بن حنظلة ومعنى المقبولة قبول مضمونها في الجملة لا أنها محكومة بالصحة في جميع جزئياتها ، ولها صدر أورده الكليني ج ١ ص ٦٧ وهو « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان والى القضاة أيحل ذلك؟ قال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا ، وإن كان حقا ثابتا لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى » يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به « قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف من أحكامنا فليرضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد ، و الراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله ، قلت : فإن كان كل رجل اختار رجلا فرضيا أن يكونا الناظرين ـ الخ ـ » بأدنى اختلاف في اللفظ.

٨

« قال : قلت : في رجلين اختار كل واحد منهما رجلا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما ، فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثنا ، قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الاخر. (١)

__________________

(١) قال استاذنا الشعراني ـ مد ظله العالي ـ في هامش الوافي : شرح هذه العبارة وما بعدها لا يخلو عن صعوبة لان القاضي في واقعة واحدة لا يكون اثنين ، أما إن كان منصوبا فواضح ، وأما إن كان قاضى التحكيم فيعتبر فيه تراضى المتداعيين فان اختار كل رجل قاضيا لنفسه لم يتحقق التراضي وعلي هذا فالفقيه إن كان بمنزلة القاضي المنصوب كان النافذ حكم من يختاره المدعى ويجبر المدعى عليه على الحضور عنده وقبول حكمه وليس له أن يختار قاضيا آخر ، قال العلامة ـ قدس‌سره ـ في القواعد : يجوز تعدد القضاة في بلد واحد وإذا استقل كل منهما في جميع البلد تخير المدعى في المرافعة إلى أيهما شاء ـ انتهى ، ولا يمكن في القضاء غير ذلك ولولاه لسهل على المدعى عليه طريق الفرار ، وإن كان المراد في الحديث الاستفتاء فقط وأطلق عليه التحاكم والقضاء جاز تعدد المفتى بأن يختار كل واحد منهما فقيها يقلده ولكن لا تحصل منه فائدة القضاء ولا ينحل به الاختلاف ، والغرض من القضاء قطع الخصومة.

وأيضا فان المتداعيين ان كانا مجتهدين لم يجز لهما تقليد غيرهما وان كانا مقلدين لم يتمكنا من ملاحظة الترجيحات المذكورة في الحديث ، وحل الاشكال أن مفاد الرواية أمر الشيعة ارشادا بكل وسيلة ممكنة إلى حصول التراضي وقطع الخصومة من غير الترافع إلى قضاة الجور اما بأن تراضيا بحكم فقيه واحد ويقبلا قوله فيعد قوله بالنسبة إليهما قضاء ان كانا مجتهدين وفتوى ان كانا مقلدين وان لم يتراضيا بحكم فقيه واحد واختار كل واحد فقيها لم يكن قولاهما بالنسبة إليهما حكما وقضاء ولا فتوى بل نظير قوله تعالى « فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها » فيتوسلان بهما إلى قطع الخصومة بوجه وهو الترجيح ، فإن كان المتداعيان مجتهدين واتفقا على أرجحية أحدهما قبلاه والا تراضيا بقول من يرجح بينهما فاختيار رجلين خارج عن حكم القضاء وغير مناسب له ، قال العلامة ـ ره ـ في نهاية الأصول : التعادل إذا وقع للانسان في عمل نفسه تخير ، أو للمفتي تخير المستفتى في العمل بأيهما شاء كما يلزمه في حق نفسه ، أو للحاكم يعين لأنه نصب لقطع التنازع ، وتخيير الخصمين يفتح باب المخاصمة لان كلا منهما يختار الأوفق له بخلاف المفتى ـ انتهى.

فمفاد الحديث أمر الشيعة بقطع الخصومة بينهم ، إن كان بالتصالح والعفو فهو ، وإن كان بالقضاء من فقيه بالتراضي فهو ، وإن كان باختيار حكمين والترجيح في مورد ، اختلافهما

٩

قال : قلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا ليس يتفاضل واحد منهما على صاحبه (١) ، قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإن المجمع عليه حكمنا لا ريب فيه (٢) ، وإنما الأمور ثلاثة ، أمر بين رشده فمتبع ، وأمر بين غيه فمجتنب ، وأمر مشكل يرد حكمه إلى الله عزوجل قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم ».

__________________

فهو ، والغرض عدم الترافع إلى قضاة الجور.

وقوله « اختلفا فيما حكما » قال المولى رفيعا أي اختلافهما في الحكم استند إلى اختلافهما في الحديث وقوله عليه‌السلام « أصدقهما في الحديث » أي من يكون حديثه أصح من حديث الاخر بأن يكون ينقله من أعدل أو أكثر من العدول والثقاة وظاهر هذه العبارة الحكم بترجيح حكم الراجح في هذه الصفات الأربع جميعها ، ويحتمل الترجيح بحسب الرجحان في واحدة من الأربع أيها كانت ، وعلى الأول يكون حكم الرجحان بحسب بعضها دون بعض مسكوتا عنه ، وعلى الثاني يكون حكم تعارض الرجحان في بعض منها على الرجحان في بعض آخر مسكوتا عنه ، والاستدلال بالأولوية والرجحان بالترتيب الذكرى ضعيف والمراد أن الحكم الذي يجب قبوله من الحكمين المذكورين حكم الموصوف بما ذكر من الصفات الأربع ، ويفهم منه وجوب اختياره لان يتحاكم إليه ابتداء وان ترجيح الأفضل لازم في الصور المسكوت عنها ، ومن هنا ابتدأ في الوجوه المعتبرة للترجيح في القول والفتيا.

(١) أي فان الراويين لحديثكم العارفين بأحكامكم عدلان مرضيان لا يفضل أحدهما على صاحبه.

(٢) أجاب عليه‌السلام وبين له وجها آخر في الترجيح بقوله « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك » أي المشهور روايته بين أصحابك فيؤخذ بأشهرهما رواية ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فان المجمع عليه أي المشهور في الرواية لا ريب فيه لان المناط غلبة الظن بصحة الخبر واستناد الحكم بالخبر الصحيح.

١٠

قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة أخذ به.

قلت : جعلت فداك وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والاخر مخالفا لها بأي الخبرين يؤخذ؟ قال : بما يخالف العامة فإن فيه الرشاد.

قلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟ قال ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر.

قلت : فإن وافق حكامهم وقضاتهم الخبران جميعا؟ قال : إذا كان كذلك فارجه (١) حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ».

باب

* ( آداب القضاء ) *

٣٢٣٤ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ابتلي بالقضاء فلا يقضين وهو غضبان » (٢).

٣٢٣٥ ـ وقال الصادق عليه‌السلام : « إذا كان الحاكم يقول لمن عن يمينه ولمن عن يساره : ما تقول؟ ما ترى؟ فعلى ذلك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ألا يقوم (٣) من مجلسه ويجلسهما مكانه » (٤).

__________________

(١) أي قف ولا تحكم.

(٢) رواه الكليني ج ٧ ص ٤١٣ عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال في الشرايع : « ويكره أن يقضى وهو غضبان وكذا يكره مع كل وصف يساوى الغضب في شغل النفس كالجوع والعطش والغم والفرح والوجع ومدافعة الأخبثين وغلبة النعاس ولو قضى والحال هذه نفذ إذا وقع حقا ».

(٣) يعنى لم لا يقوم ، وفى الكافي ج ٤ ص ٤١٤ أيضا هكذا وكلمة « ألا » بالفتح للتحضيض وفى بعض النسخ والتهذيب « الا أن يقوم ».

(٤) الخبر مروى في الكافي بسند فيه ارسال ، وقوله « ما تقول؟ ما ترى؟ » أي بطريق استعلام الحكم حيث لا يعلم هو يسأل من عن يمينه أو عن يساره ، والخبر كما قال استاذنا

١١

٣٢٣٦ ـ وإن رجلا نزل بعلي بن أبي طالب عليه‌السلام فمكث عنده أياما ثم تقدم

__________________

الشعراني يدل على وجوب كون القاضي مجتهدا ، إذ كان مقلدا لاحتاج إلى غيره في السؤال ولا يخفى على المتأمل أن التنصيص على جميع الفروع غير ممكن ، وعلم المقلد بجميعها محال ويتفق للقاضي أمور لم يسمع النص عليه من عالم ويجب عليه دائما اعمال النظر في تطبيق الفروع على الأصول والتفحص عن الأدلة ، واكتفى صاحب القوانين وتبعه صاحب الجواهر ـ رحمهما‌الله ـ بقضاء المقلد وزعم أن من تصدى القضاء في زمن الأئمة عليهم‌السلام والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكونوا مجتهدين بل كانوا يأخذون الحكم منهم سماعا ويقضون به ، ولا نسلم تصدى غير المجتهد في عصرهم قضاء أصلا ، وكان صاحب القوانين حمل المجتهد على من يحفظ الاصطلاحات الأصولية المتجددة والمجادلات الصناعية وليس ذلك معنى الاجتهاد إذ قد رأى كل أحد جماعة من المهرة في تلك الأمور لا يعتمد عليه في مسألة شرعية من أوضح المسائل أصلا ومن ليس له قدرة على الجدل والمماراة قد يوثق بقوله في الشرع تبحره وانسه بأقوال الفقهاء وأخبار أهل بيت العصمة وتفسير القرآن وسيرة الرسول والمتواتر من عمل المسلمين ودقة نظره وتمييزه بين قرائن الصدق والكذب ومهارته في العربية وفهم مقاصد الكلام العربي والمجتهد هو القادر على استنباط الأحكام من الأدلة وكان هذه القدرة حاصلة لهم ، ولذلك إذا أنصف رجل وقايس بين الشيخ الصدوق أو الكليني ـ رحمهما‌الله ـ وبين الأصوليين المتأخرين وجد أن النسبة بينهما كالنسبة بين امرء القيس والسكاكي في الشعر والفصاحة ، وقد يتفق لأهل الجدل والمهرة في المغالبة والمماراة وابداء الشبهات أن يذهب بهم دقتهم في بعض الأمور إلى أن يخرجوا من مقتضى الأفكار السليمة ويؤديهم إلى الوسوسة والترديد وعدم الجزم بشئ ، وحصول الشبهات في القرائن الواضحة الموجبة للعلم للذهن السالم ، وهذا أيضا ضار بالاجتهاد ولا يجوز تقليد صاحبه ولا يقبل حكمه ولا ينفذ قضاؤه.

وعندي أوراق مجموعة في أحكام القضاء لم يصرح باسم مؤلفه والظاهر أنه من أفاضل أهل التحقيق قد يستنبط بالتكلف من دقائق الألفاظ معاني لا يمكن أن يعتمد عليها العوام فضلا عن العلماء ، ومما حققه فيها « أن أدلة مشروعية القضاء وما استدلوا عليه من الكتاب والسنة والأخبار الخاصة الواردة في نصب نائب الغيبة لا تدل على جواز اعمال البينات والتحليف والأقارير ونحو ذلك من معينات الموضوعات بل مفادها بيان الحكم الإلهي في الموارد الجزئية. واستنبط ذلك من دخول حرف الباء على الحق والعدل وتقريبه أن القائل « إذا قال : حكمت بالحق أو أحكم بالحق فمعناه أن الحق حق قبل أن يحكم به ، وإذا قضى بالبينة والتحليف فليس

١٢

إليه في حكومة (١) لم يذكرها لعلي عليه‌السلام فقال له علي عليه‌السلام : أخصم أنت؟ قال : نعم قال : تحول عنا فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أن يضاف الخصم إلا ومعه خصمه » (٢).

٣٢٣٧ ـ وقال الصادق عليه‌السلام أنه قال : « من أنصف الناس من نفسه رضي به حكما لغيره » (٣).

٣٢٣٨ ـ وروي عن علي عليه‌السلام أنه قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع من الاخر ، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء (٤) ، قال علي عليه‌السلام : فما زلت بعدها قاضيا ، وقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم

__________________

ما حكم به حقا قبل الحكم بل صار حقا بسبب الحكم فلا يصدق عليه أنه حكم حكما حقا ، وبالجملة في موارد الحكم بالبينة ومثلها نفس الحكم حق لا متعلق الحكم » ونحن نقول : مفهوم القضاء والحكم يشمل الحكم بالبينة والتحليف والأدلة الظاهرية قطعا وشموله لها أوضح من شموله لما اشتبه نفس الحكم وذلك لانس ذهن جميع الناس بأن القضاء لا يمكن بغير بينات وشهود وان المدعى عليه لا يتسلم للمدعى فلا بد من اقامته البينة عليه ، وإذا ورد حديث أو دل آية على جواز تصدى القضاء والحكم بين الناس دل على جواز الاعتماد على البينات والتحليف والأدلة الشرعية سواء قال أحكم بالحق أو أحكم حكما حقا ، ولا اعتبار بهذا التدقيق في حرف الباء مع هذه القرينة القوية الدالة على أن القضاء لا يمكن بغير البينة وإقامة الأدلة والاذن في أحدهما اذن في الاخر ـ انتهى.

(١) رواه الكليني في الكافي ج ٧ ص ٤١٣ عن علي ، عن أبيه ، عن النوفلي. عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام وفيه « تقدم إليه في خصومة ».

(٢) « يضاف » من الضيافة وقال في الشرايع : يكره أن يضيف أحدا الخصمين دون صاحبه.

(٣) قوله عليه‌السلام « رضى » يمكن أن يقرأ بصيغة المجهول فالمعنى أن يكون مع الناس في مقام الانصاف من نفسه فهو أهل لان يكون حكما وقاضيا بين الناس ، ويمكن أن يقرأ بالمعلوم أي من أنصف الناس فقد جعل نفسه حكما لنفسه ولا يحتاج إلى غيره في الحكومة والقضاء ، وعلى الأول فيه اشعار بان من لم ينصف الناس من نفسه ولم يفوض الحكم إلى من هو أعلم منه لا يصلح حكما لغيره ، والخبر رواه الكليني ج ٢ ص ١٤٦ بسند فيه ارسال.

(٤) إلى هنا رواه الشيخ في التهذيب ج ٢ ص ٧١ باسناد عن محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن الحسين عن ذبيان بن حكيمة الأودي عن موسى بن أكيل النميري عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٣

فهمه القضاء (١) ».

٣٢٣٩ ـ وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لشريح : « يا شريح لاتسار أحدا في مجلسك وإذا غضبت فقم ولا تقضين وأنت غضبان » (٢).

٣٢٤٠ ـ وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقدم صاحب اليمين في المجلس بالكلام » (٣).

٣٢٤١ ـ وروى الحسن بن محبوب ، عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا تقدمت مع خصم إلى وال أو إلى قاض فكن عن يمينه ـ يعني عن يمين الخصم ـ ».

٣٢٤٢ ـ وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ابتلي بالقضاء فليسا وبينهم في الإشارة و النظر في المجلس » (٤).

__________________

(١) أراد بقوله « فما زلت بعدها قاضيا » أن هذه الكلمة سهلت لي أمر القضاء فما تعسر على بعد ما سمعتها شئ منه. ( الوافي )

(٢) رواه الكليني ج ٧ ص ٤١٣ عن عدة من أصحابنا عن البرقي رفعه إليه عليه‌السلام وكذا في التهذيب.

(٣) أي حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر أن يقدم بسماع دعوى من على يمين خصمه إذا شرعا في الدعوى ، فلو شرع واحد منهما فهو المقدم كذا فهمه الأصحاب وفهمه ابن سنان أو ابن محبوب من كلام الصادق عليه‌السلام على ما سيجيئ ، ويمكن أن يكون المراد تقديم من على يمين الحاكم ، وقيل : المراد بصاحب اليمين صاحب الحلف وهو بعيد.

(٤) رواه الكليني ج ٧ ص ٤١٣ عن علي ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وقال : في المسالك : من وظيفة الحاكم أن يسوى بين الخصمين والسلام عليهما وجوابه واجلاسهما والقيام لهما والنظر والاستماع والكلام وطلاقة الوجه وسائر أنواع الاكرام ولا يخصص أحدهما بشئ من ذلك. هذا إذا كانا مسلمين أو كافرين أما لو كان أحدهما مسلما والاخر كافرا جاز أن يرفع المسلم في المجلس ثم التسوية بينهما في العدل في الحكم واجبة بغير خلاف. وأما في تلك الأمور هل هي واجبة أم مستحبة؟ الأكثرون على الوجوب ، وقيل إن ذلك مستحب واختاره العلامة في المختلف لضعف المستند ، وإنما عليه أن يسوى بينهما في الافعال الظاهرة ، فاما التسوية بينهما بقلبه بحيث لا يميل إلى أحد فغير مؤاخذ به.

١٤

٣٢٤٣ ـ وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لشريح (١) : « يا شريح انظر إلى أهل المعك والمطل والاضطهاد (٢) ، ومن يدفع حقوق الناس من أهل المقدرة واليسار ، ومن يدلي بأموال المسلمين إلى الحكام (٣) فخذ للناس بحقوقهم منهم ، وبع العقار والديار فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم ، ومن لم يكن له مال ولا عقار ولا دار فلا سبيل عليه ، واعلم أنه لا يحمل الناس على الحق إلا من وزعهم عن الباطل (٤) ، ثم واس المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك (٥) ولا ييأس عدوك من عدلك ، ورد اليمين على المدعي مع بينة فإن ذلك أجلى للعمى وأثبت في القضاء (٦) ، واعلم أن المسلمين عدول بعضهم على بعض إلا

__________________

(١) رواه الكليني ج ٧ ص ٤١٢ عن علي ، عن أبيه ، عن أبن محبوب ، عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبيه ، عن سلمة بن كهيل وسلمة بن كهيل ضعيف.

(٢) في بعض النسخ « أهل الشح والمطل والاضطهاد » وفى الوافي « أهل المعك والمطل بالاضطهاد » ، وفى اللغة : ما عكه بدينه : ماطله ، والمطل : التسويف بالدين ، والشح : البخل والحرص ، والاضطهاد : القهر والغلبة والجور.

(٣) أدلى بمال : دفعه ، وبقرابة : توسل.

(٤) « وزعهم » بالزاي ، وفى بعض النسخ بالراء المهملة وفى النهاية « وزعه : كفه ومنعه ».

(٥) الحيف : الجور والظلم.

(٦) قوله عليه‌السلام « رد اليمين على المدعى » قال العلامة المجلسي ـ رحمه‌الله ـ : ربما يحمل هذا على التقية لموافقته لمذاهب بعض العامة ، أو على اختصاص الحكم بشريح لعدم استئهاله للقضاء ، أو على ما إذا كان الدعوى على الميت ، أو مع الشاهد الواحد ، أو مع دعوى الرد قال في المسالك : الأصل في المدعى أن لا يكلف اليمين خصوصا إذا قام البينة بحقه ولكن تخلف عنه الحكم بدليل خارج في صورة رده عليه اجماعا ومع نكول المنكر عن اليمين على خلاف ، وبقى الكلام فيما إذا أقام بينة بحقه ، فان كانت دعواه على مكلف حاضر فلا يمين عليه اجماعا ولكن ورد في الرواية المتضمنة لوصية علي عليه‌السلام لشريح قوله عليه‌السلام « ورد اليمين على المدعى مع بينته فان ذلك أجلى للعمى وأثبت للقضاء » وهي ضعيفة ، وربما حملت على ما إذا ادعى المشهود عليه الوفاء والابراء والتمس احلافه على بقاء الاستحقاق فإنه يجاب إليه لانقلاب المنكر مدعيا ، وهذا الحكم لا اشكال فيه ، الا أن اطلاق الوصية بعيد عنه فان ظاهرها كون ذلك على وجه الاستظهار ، وكيف كان فالاتفاق على ترك العمل بها على الاطلاق ـ انتهى ، وقال في الوافي : لعل رد اليمين على المدعى مختص بما إذا اشتبه عليه صدق البينة كما يدل قوله « فإنه أجلى للعمى وأثبت للقضاء » وما بعده ، وفى بعض النسخ « مع بينة ».

١٥

مجلودا في حد لم يتب منه ، أو معروفا بشهادة الزور ، أو ظنينا ، وإياك والضجر (١) والتأذي في مجلس القضاء الذي أوجب الله تعالى فيه الاجر وأحسن فيه الذخر لمن قضى بالحق ، واجعل لمن ادعى شهودا غيبا أمدا بينهم فإن أحضرهم أخذت له بحقه وإن لم يحضرهم أوجبت عليه القضية (٢) ، وإياك أن تنفذ حكما في قصاص أو حد من حدود الناس أو حق من حقوق الله عزوجل حتى تعرض ذلك علي ، وإياك أن تجلس في مجلس القضاء حتى تطعم شيئا إن شاء الله تعالى ».

روى ذلك الحسن بن محبوب ، عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبيه ، عن سلمة ابن كهيل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

باب

* ( ما يجب الاخذ فيه بظاهر الحكم ) *

٣٢٤٤ ـ في رواية يونس بن عبد الرحمن ، عن بعض رجاله (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق أيحل للقاضي أن يقضي بقول البينة؟ فقال : خمسة أشياء يجب على الناس الاخذ فيها بظاهر الحكم : الولايات ، والمناكح

__________________

(١) الظنين : المتهم ، والضجر : الملال.

(٢) قال المولى المجلسي : الظاهر أن هذا فيما إذا أثبت المدعى بالشهود ثم ادعى المدعى عليه الأداء والابراء والا فالمدعى بالخيار في الدعوى الا أن يقال بأنه إذا طلب المنكر مكررا ولم يثبت يجعل الحاكم أمدا بينهما لئلا يؤذى المنكر بالطلب دائما.

(٣) رواه الكليني ج ٧ ص ٤٣١ عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى ، عن يونس عن بعض رجاله عنه عليه‌السلام بتقديم وتأخير واختلاف في اللفظ.

١٦

والذبايح ، والشهادات ، والأنساب ، فإذا كان ظاهر الرجل طاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه » (١).

باب

* ( الحيل في الحكم ) *

٣٢٤٥ ـ في رواية النضر بن سويد يرفعه « أن رجلا حلف أن يزن فيلا؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يدخل الفيل سفينة ثم ينظر إلى موضع مبلغ الماء من السفينة فيعلم عليه ثم يخرج الفيل ويلقي في السفينة حديدا أو صفرا أو ما شاء ، فإذا بلغ الموضع الذي علم عليه أخرجه ووزنه ».

٣٢٤٦ ـ وفي رواية عمرو بن شمر ، عن جعفر بن غالب الأسدي رفع الحديث قال « بينما رجلان جالسان في زمن عمر بن الخطاب إذ مر بهما رجل مقيد ، فقال أحد الرجلين : إن لم يكن في قيده كذا وكذا فامرأته طالق ثلاثا ، فقال الآخر : إن كان فيه كما قلت فامرأته طالق ثلاثا ، فذهبا إلى مولى العبد وهو المقيد فقالا له : إنا حلفنا على كذا وكذا فحل قيد غلامك حتى نزنه ، فقال مولى العبد : امرأته طالق إن حللت قيد غلامي ، فارتفعوا إلى عمر فقصوا عليه القصة فقال عمر : مولاه أحق به اذهبوا به إلى علي بن أبي طالب لعله يكون عنده في هذا شئ. فأتوا عليا عليه‌السلام فقصوا عليه القصة ، فقال : ما أهون هذا ، فدعا بجفنة (٢) وأمر بقيده فشد فيه خيط وأدخل رجليه والقيد في الجفنة ، ثم صب عليه الماء حتى امتلأت ، ثم قال عليه‌السلام : ارفعوا القيد فرفعوا القيد حتى اخرج من الماء فلما اخرج نقص الماء ، ثم

__________________

(١) ظاهره أن بناء هذه الأمور على ظاهر الحال والاسلام ولا يسأل عن بواطن من يتصدى لها فالولايات يولى الامام الامارة والقضاء من كان ظاهره مأمونا ، وكذا ولى الطفل والوصي ، وكذا يزوج من كان على ظاهر الاسلام ، وكذا يورث ، وكذا يعتمد على ذبحه ، وتقبل شهادته من غير مسألة عن باطنه.

(٢) الجفنة : البئر الصغيرة والقصعة والمراد الثاني.

١٧

دعا بزبر الحديد فأرسله في الماء حتى تراجع الماء إلى موضعه والقيد في الماء ثم قال : زنوا هذا الزبر فهو وزنه ».

قال مصنف هذا الكتاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ إنما هدى أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى معرفة ذلك ليخلص به الناس من أحكام من يجيز الطلاق باليمين. (١)

٣٢٤٧ ـ وروى أحمد بن عائذ ، عن أبي سلمة (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجلين مملوكين مفوض إليها يشتريان ويبيعان بأموال مواليهما فكان بينهما كلام فاقتتلا فخرج هذا يعدو إلى مولى هذا ، وهذا إلى مولى هذا وهما في القوة سواء فاشترى هذا من مولى هذا العبد ، وذهب هذا فاشترى هذا من مولاه وجاء هذا وأخذ بتلبيب هذا ، وأخذ هذا بتلبيب هذا (٣) وقال كل واحد منهما لصاحبه : أنت عبدي قد اشتريتك قال : يحكم بينهما من حيث افترقا فيذرع الطريق فأيهما كان أقرب فالذي أخذ فيه هو الذي سبق الذي هو أبعد (٤) ، وإن كانا سواء فهما رد على مواليهما (٥) ».

__________________

(١) قال المولى المجلسي ـ رحمه‌الله ـ : لا خلاف عندنا في أن الطلاق باليمين باطل و الطلاق ثلاثا في مجلس واحد أيضا باطل فالظاهر حمله على التقية لبيان جهلهم ، على أنه عليه السلام لم يقل ان الطلاق صحيح بل ذكر امكان معرفة ذلك فتوجيه المصنف لا وجه له. أقول : وأما الحمل على التقية فقول المصنف مبنى عليه وأما معرفة الامكان فهو بعض ما ذكره المصنف.

(٢) هو سالم بن مكرم وقد يكنى أبا خديجة وتقدم الكلام فيه تحت رقم ٣٢١٦.

(٣) لببه تلبيبا : جمع ثيابه عند نحره في الخصومة وجره.

(٤) المملوكان المأذون لهما إذا ابتاع كل واحد منهما صاحبه من مولاه حكم بعقد السابق بخلاف المتأخر لبطلان اذنه بانتقاله عن ملك مالكه ، ثم إن كان شراء كل واحد منهما لنفسه وقلنا بملكه فبطلان الثاني واضح لأنه لا يملك العبد سيد. وان أحلنا الملك وكان شراؤه لسيده صح السابق وكان الثاني فضوليا فيقف على إجازة من اشترى له ، ولو كان وكيلا وقلنا بأن وكالة العبد لا تبطل بالبيع فصح الثاني أيضا والا فكالمأذون ، والفرق بينهما ان الاذن ما جعلت تابعة للملك والوكالة ما أباحت التصرف في العين مطلقا ، ولو اقترنا لم يمضيا بل يوقفان على الإجازة ، وقيل بالقرعة والقائل الشيخ وفرضها في صورة التساوي في المسافة واشتباه الحال وقيل بذرع الطريق لرواية أبى خديجة. ( المسالك )

(٥) زاد في الكافي ج ٥ ص ٢١٨ « جاءا سواء وافترقا سواء الا أن يكون أحدهما سبق صاحبه فالسابق هو له ان شاء باع وان شاء أمسك وليس له أن يضربه » وقال في رواية أخرى « إذا كانت المسافة سواء يقرع بينهما فأيما وقعت القرعة به كان عبده » والضمير راجع إلى الاخر المعلوم بقرينة المقام ، وفى التهذيب « عبد الاخر ».

١٨

٣٢٤٨ ـ وفي رواية إبراهيم بن محمد الثقفي قال : « استودع رجلان امرأة وديعة وقالا لها : لا تدفعي إلى واحد منا حتى نجتمع عندك ، ثم انطلقا فغابا فجاء أحدهما إليها وقال : أعطيني وديعتي فإن صاحبي قد مات ، فأبت حتى كثر اختلافه إليها ثم أعطته ، ثم جاء الاخر فقال : هاتي وديعتي ، قالت : اخذها صاحبك وذكر أنك قد مت فارتفعا إلى عمر فقال لها عمر : ما أراك إلا وقد ضمنت؟ فقالت المرأة : اجعل عليا عليه‌السلام بيني وبينه ، فقال له : اقض بينهما ، فقال علي عليه‌السلام : هذه الوديعة عندها (١) وقد أمرتماها ألا تدفعها إلى واحد منكما حتى تجتمعا عندها فائتني بصاحبك ولم يضمنها ، وقال علي عليه‌السلام : إنما أرادا أن يذهبا بمال المرأة ».

٣٢٤٩ ـ وروى عاصم بن حميد ، عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « كان لرجل على عهد علي عليه‌السلام جاريتان فولدتا جميعا في ليلة واحدة إحداهما ابنا والأخرى بنتا فعمدت (٢) صاحبة الابنة فوضعت ابنتها في المهد الذي كان فيه الابن وأخذت ابنها ، فقالت صاحبة الابنة : الابن ابني ، وقالت صاحبة الابن : الابن ابني ، فتحاكما (٣) إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فأمر أن يوزن لبنهما ، وقال : أيتهما كانت أثقل لبنا فالابن لها ».

٣٢٥٠ ـ وقال أبو جعفر عليه‌السلام (٤) : « ضرب رجل رجلا في هامته على عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام فادعى المضروب أنه لا يبصر بعينيه شيئا ، وأنه لا يشم رائحة ،

__________________

(١) رواه الكليني ج ٧ ص ٤٢٨ وفيه « هذه الوديعة عندي » ولعل المعنى افرض أنها عندي أو عندها فلا يجوز دفعها الا مع حضوركما.

(٢) في بعض النسخ « فغدت ».

(٣) الصواب « فتحاكمتا ».

(٤) رواه الكليني ج ٧ ص ٣٢٣ مع اختلاف في اللفظ عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن الوليد ، عن محمد بن فرات ، عن الأصبغ بن نباتة قال : سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام.

١٩

وأنه قد خرس فلا ينطق ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن كان صادقا فقد وجبت له ثلاث ديات النفس ، فقيل له : وكيف يستبين ذلك منه يا أمير المؤمنين حتى نعلم أنه صادق؟ فقال : أما ما ادعاه في عينيه وأنه لا يبصر بهما فإنه يستبين ذلك بأن يقال له : ارفع عينيك إلى عين الشمس فإن كان صحيحا لم يتمالك إلا أن يغمض عينيه (١) وإن كان صادقا لم يبصر بهما وبقيت عيناه مفتوحتين ، وأما ما ادعاه في خياشيمه (٢) وأنه لا يشم رائحة فإنه يستبين ذلك بحراق يدني من أنفه (٣) فإن كان صحيحا وصلت رائحة الحراق إلى دماغه ودمعت عيناه ونحى برأسه (٤) وأما ما ادعاه في لسانه من الخرس وأنه لا ينطق فإنه يستبين (٥) ذلك بإبرة تضرب على لسانه فإن كان ينطق خرج الدم أحمر ، وإن كان لا ينطق خرج الدم أسود ». (٦)

٣٢٥١ ـ وروى سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباته قال : « اتي عمر بن الخطاب بجارية فشهد عليها شهود أنها بغت ، وكان من قصتها أنها كانت يتيمة عند رجل وكان للرجل امرأة وكان الرجل كثيرا ما يغيب عن أهله فشبت اليتيمة ، وكانت جميلة فتخوفت

__________________

(١) مفعول « لم يتمالك » محذوف يدل عليه ما سبقه أي لم يتمالك رفع عينيه إلى عين الشمس لأنه حينئذ يغمض عينيه فيكون « أن » مخففة من المثقلة محذوفا عنها حرف الجر ، لا ناصبة ، ويمكن أن يكون « يغمض عينيه » بيانا لقوله عليه‌السلام : « لم يتمالك ». ( مراد )

(٢) الخيشوم أقصى الانف.

(٣) الحراق ـ بضم الحاء المهملة ـ والحراقة : ما تقع فيه النار عند القدح ، والعامة تقوله بالتشديد. ( الصحاح ).

(٤) نحى : مال على أحد شقيه ، نحى بصره إليه : أماله.

(٥) في بعض النسخ « يستبرأ » هنا وكذا في المواضع الثلاثة المتقدمة.

(٦) عمل بهذا الخبر بعض الأصحاب ، والأكثر عملوا بالقسامة وحملوه على اللوث. وقال الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في ابطال الشم من المنخرين معا الدية ومن أحدهما خاصة نصفها ، ولو ادعى ذهابه وكذبه الجاني عقيب جناية يمكن زواله بها اعتبر بالروائح الطيبة والخبيثة والروائح الحادة فان تبين حاله وحكم به. ثم احلف القسامة ان لم يظهر بالامتحان وقضى له.

٢٠