الطبّ النبوي

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الطبّ النبوي

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : الطّب
المطبعة: دار إحياء الكتب العربية ـ قاهرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٤

وهو أصل في حفظ الصحة. بل علم الطب كله يستفاد من هذا. وفي استعمال ذلك وأمثاله

في الأغذية والأدوية ، إصلاح لها وتعديل ، ودفع لما فيها : من الكيفيات المضرة ، لما يقابلها وفى ذلك عون على صحة البدن وقوته وخصبه.

قالت عائشة رضي الله عنها : « سمنوني بكل شئ ، فلم أسمن. فسمنوني بالقثاء والرطب ، فسمنت ».

وبالجملة : فدفع ضرر البارد بالحار ، والحار بالبارد ، والرطب باليابس ، واليابس بالرطب ، وتعديل أحدهما بالآخر ـ : من أبلغ أنواع العلاجات وحفظ الصحة.

ونظير هذا ما تقدم : من أمره بالسنا والسنوت ، وهو : العسل الذي فيه شئ من السمن يصلح به السنا ويعدله. فصلوات الله وسلامه على من بعث بعمارة القلوب والابدان ، وبمصالح الدنيا والآخرة.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحمية

الدواء كله شيئان : حمية ، وحفظ صحة. فإذا وقع التخليط : احتيج إلى الاستفراغ الموافق. وكذلك مدار الطب كله على هذه القواعد الثلاث.

والحمية حميتان : حمية عما يجلب المرض ، وحمية عما يزيده ، فيقف على حاله. فالأولى : حمية الأصحاء. والثانية : حمية المرضى. فإن المريض إذا احتمى : وقف مرضه عن التزايد ، وأخذت القوى في دفعه.

والأصل في الحمية قوله تعالى : (وإن كنتم مرضى ، أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء ، فتيمموا صعيدا طيبا) ، فحمى المريض من استعمال الماء : لأنه يضره.

وفى سنن ابن ماجة وغيره ، عن أم المنذر بنت قيس الأنصارية ، قالت : « دخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعه علي ، وعلي ناقة من مرض ، ولنا دوال معلقة. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(٦ ـ الطب النبوي)

٨١

يأكل منها ، وقام علي يأكل منها. فطفق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لعلي : إنك ناقة ، حتى كف. قالت : وصنعت شعيرا وسلقا ، فجئت به. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : من هذ أصب ، فإنه أنفع لك » ، وفى لفظ : « فقال : من هذا فأصب ، فإنه أوفق لك » (١).

وفى سنن ابن ماجة أيضا ، عن صهيب ، قال : « قدمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبين يديه خبز وتمر ـ فقال : ادن فكل. فأخذت تمرا فأكلت. فقال : أتأكل تمرا وبك رمد؟! فقلت : يا رسول الله ، أمضغ من الناحية الأخرى فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم » (٢).

وفى حديث محفوظ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إن الله إذا أحب عبدا : حماه من الدنيا ، كما يحمى أحدكم مريضه عن الطعام والشراب » ، وفى لفظ : « إن الله يحمى عبده المؤمن من الدنيا ».

وأما الحديث الدائر على ألسنة كثير من الناس : « الحمية رأس الدواء ، والمعدة بيت الداء ، وعودوا كل جسم ما اعتاد » ، فهذا الحديث إنما هو من كلام الحرث بن كلدة طبيب العرب ، ولا يصح رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قاله غير واحد من أئمة الحديث.

ويذكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أن المعدة حوض البدن ، والعروق إليها واردة. فإذا صحت المعدة : صدرت العروق بالصحة ، وإذا سقمت المعدة : صدرت العروق بالسقم ».

وقال الحرث : « رأس الطب الحمية ». والحمية عندهم للصحيح في المضرة ، بمنزلة التخليط للمريض والناقة. وأنفع ما تكون الحمية للناقة من المرض : فإن طبيعته لم ترجع بعد إلى قوتها ، والقوة الهاضمة ضعيفة. والطبيعة قابلة ، والأعضاء مستعدة ، فتخليطه يوجب انتكاسها. وهو أصعب من ابتداء مرضه.

واعلم أن في منع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي من الاكل من الدوالي وهو ناقة ، أحسن التدبير (٣) : فإن الدوالي أفناء من الرطب تعلق في البيت للاكل ، بمنزلة عناقيد العنب. والفاكهة

__________________

(١) وأخرجه أيضا أبو داود وأحمد ، والحاكم في صحيحه. اه‍ ق.

(٢) وأخرجه أيضا الترمذي والحاكم اه‍ ق.

(٣) كذا بالزاد (ص ٩٧). وفى الأصل : « أحسن من التدبير » ، والزيادة من الناسخ أو الطابع

٨٢

تضر بالناقة من المرض : لسرعة استحالتها ، وضعف الطبيعة عن دفعها ، فإنها بعد لم تتمكن قوتها : وهى مشغولة بدفع آثار العلة وإزالتها من البدن. وفى الرطب خاصة نوع ثقل على المعدة ، فتشتغل بمعالجته وإصلاحه ، عما هي بصدده : من إزالة بقية المرض ، وآثاره ، فإما أن تقف تلك البقية ، وإما أن تتزايد. فلما وضع بين يديه السلق والشعير ، أمره : أن يصيب منه. فإنه من أنفع الأغذية للناقه : فإن في ماء الشعير ـ من التبريد والتغذية ، والتلطيف والتليين ، وتقوية الطبيعة ـ ما هو أصلح للناقه ، ولا سيما إذا طبخ بأصول السلق. فهذا من أوفق الغذاء لمن في معدته ضعف ، ولا يتولد عنه من الاخلاط ، ما يخاف منه.

وقال زيد بن أسلم : « حمى عمر رضي الله عنه مريضا له ، حتى إنه من شدة ما حماه ، كان يمص النوى ». وبالجملة : فالحمية من أكبر الأدوية قبل الداء (١) ، فتمنع حصوله. وإذا حصل : فتمنع تزايده وانتشاره.

( فصل ) ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا مما يحمى عنه العليل والناقة والصحيح ، إذا اشتدت الشهوة إليه ، ومالت إليه الطبيعة ، فتناول منه الشئ اليسير الذي لا تعجز الطبيعة عن هضمه ـ : لم يضره تناوله ، بل ربما انتفع به. فإن الطبيعة والمعدة تتلقيانه بالقبول والمحبة ، فيصلحان ما يخشى من ضرره. وقد يكون أنفع من تناول ما تكرهه الطبيعة وتدفعه : من الدواء.

ولهذا أقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صهيبا ـ وهو أرمد ـ على تناول التمرات اليسيرة ، وعلم أنها لا تضره.

ومن هذا ما يروى عن علي : « أنه دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أرمد ـ وبين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تمر يأكله ـ فقال : يا علي ، تشتهيه؟ ورمى إليه بتمرة ، ثم بأخرى ، حتى رمى إليه سبعا. ثم قال : حسبك يا علي » (٢).

ومن هذا ما رواه ابن ماجة في سننه ـ من حديث عكرمة ، عن ابن عباس ـ :

__________________

(١) في الزاد : « الدواء » ، وهو تحريف فتأمل.

(٢) رواه أبو نعيم في الطب بإسناد حسن. اه‍ ق.

٨٣

« أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاد رجلا ، فقال له : ما تشتهى؟ فقال : أشتهي خبز بر. وفى لفظ : أشتهي كعكا. فقال النبي (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من كان عنده خبز بر ، فليبعث إلى أخيه. ثم قال : إذا اشتهى مريض أحدكم شيئا ، فليطعمه » (٢).

ففي هذا الحديث سر طبي لطيف : فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق طبيعي ، وكان فيه ضرر ما ـ : كان أنفع وأقل ضررا مما لا يشتهيه. وإن كان نافعا في نفسه : فإن صدق شهوته ، ومحبة الطبيعة له ـ تدفع (٣) ضرره. وبغض الطبيعة وكراهتها للنافع ، قد يجلب لها منه ضررا. وبالجملة : فاللذيذ المشتهى تقبل الطبيعة عليه بعناية. فتهضمه على أحمد الوجوه ، سيما عند انبعاث ( النفس ) (٤) إليه بصدق الشهوة ، وصحة القوة. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الرمد بالسكون والرعة

وترك الحركة ، والحمية مما يهيج الرمد

وقد تقدم : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمى صهيبا من التمر ، وأنكر عليه أكله : وهو أرمد. وحمى عليا من الرطب لما أصابه الرمد

وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا رمدت عين امرأة من نسائه : لم يأتها حتى تبرأ عينها ».

( الرمد ) : ورم حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين ، وهو بياضها الظاهر. وسببه : انصباب أحد الاخلاط الأربعة ، أو ريح حارة تكثر كميتها في الرأس والبدن ، فينبعث منها قسط إلى جوهر العين ، أو ضربة تصيب العين ، فترسل الطبيعة إليها من الدم والروح مقدارا كثيرا ، تروم بذلك شفاءها مما عرض لها. ولأجل ذلك يورم العضو المضروب. والقياس يوجب ضده.

__________________

(١) كذا بالزاد (ص ٩٧). وفى الأصل : « فقال له النبي ». والزيادة من الطابع أو الناسخ.

(٢) وأخرجه أيضا عن أنس. اه‍ ق.

(٣) بالزاد ٩٨ : « يدفع ». وكلاهما صحيح.

(٤) الزيادة عن الزاد.

٨٤

واعلم أنه كما يرتفع من الأرض إلى الجو بخاران : أحدهما حار يابس ، والآخر حار رطب ، فينعقدان سحابا متراكما ، ويمنعان (١) أبصارنا من إدراك السماء ـ : فكذلك يرتفع من قعر المعدة إلى منتهاها مثل ذلك ، فيمنعان النظر ، ويتولد عنهما علل شتى. فإن قويت الطبيعة على ذلك ، ودفعته إلى الخياشيم : أحدث الزكام ، وإن دفعته إلى اللهاة والمنخرين : أحدث الخناق ، وإن دفعته إلى الجنب : أحدث الشوصة ، وإن دفعته إلى الصدر : أحدث النزلة ، وإن انحدر إلى القلب : أحدث الخبطة ، وإن دفعته إلى العين : أحدث رمدا ، وإن انحدر إلى الجوف : أحدث السيلان ، وإن دفعته إلى منازل الدماغ : أحدث النسيان ، وإن ترطبت أوعية الدماغ منه ، وامتلأت به عروقه. أحدث النوم الشديد. ولذلك كان النوم رطبا ، والسهر يابسا. وإن طلب البخار النفوذ من الرأس ، فلم يقدر عليه : أعقبه الصداع والسهر. وإن مال البخار إلى أحد شقى الرأس : أعقبه الشقيقة. وإن ملك قمة الرأس ووسط الهامة : أعقبه داء البيضة. وإن برد منه حجاب الدماغ أو سخن أو ترطب ، وهاجت منه أرياح : أحدث العطاس. وإن أهاج الرطوبة البلغمية فيه ، حتى غلب الحار الغريزي : أحدث الاغماء والسكتات (٢). وإن أهاج المرة السوداء ، حتى أظلم هواء الدماغ : أحدث الوسواس. وإن فاض ذلك إلى مجارى العصب : أحدث الصرع الطبيعي. وإن ترطبت مجامع عصب الرأس ، وفاض ذلك في مجاريه : أعقبه الفالج. وإن كان البخار من مرة صفراء ملتهبة محمية للدماغ : أحدث البرسام ، فإن شركه الصدر في ذلك : كان سرساما. فافهم هذا الفصل.

والمقصود : أن أخلاط البدن والرأس تكون متحركة هابحة في حال الرمد ، والجماع مما يزيد حركتها وثورانها : فإنه حركة كلية للبدن والروح والطبيعة. فأما البدن فيسخن بالحركة لا محالة ، والنفس تشتد حركتها : طلبا للذة واستكمالها ، والروح تتحرك تبعا لحركة النفس والبدن. فإن (٣) أول تعلق الروح من البدن بالقلب ، ومنه ينشأ الروح

__________________

(١) كذا بالزاد (ص ٩٨). وفى الأصل : « يمنعان ».

(٢) كذا بالأصل والزاد. ولعله محرف عن « السكات ».

(٣) بالزاد ٩٨ : « فإنه » وهو تحريف.

٨٥

وينبث في الأعضاء. وأما حركة الطبيعة : فلان ترسل ما يجب إرساله من المنى ، على المقدار الذي يجب إرساله. وبالجملة : فالجماع : حركة كلية عامة ، يتحرك فيها البدن وقواه وطبيعته وأخلاطه ، والروح والنفس. فكل حركة فهي مثيرة للاخلاط مرققة لها ، توجب دفعها وسيلانها إلى الأعضاء الضعيفة. والعين في حال رمدها أضعف ما يكون ، فأضر ما عليها حركة الجماع. قال أبقراط (١) في كتاب الفصول : « وقد يدل ركوب السفن أن الحركة تثور الأبدان ». هذا مع أن في الرمد منافع كثيرة ، منها : ما يستدعيه من الحمية والاستفراغ ، وتنقية الرأس والبدن من فضلاتهما وعفوناتهما (٢) ، والكف عما يؤذى النفس والبدن : من الغضب والهم والحزن ، والحركات العنيفة ، والأعمال الشاقة. وفى أثر سلفى : « لا تكرهوا الرمد ، فإنه يقطع عروق العمى ».

ومن أسباب علاجه : ملازمة السكون والراحة ، وترك مس العين والاشتغال بها. فإن أضداد (٣) ذلك يوجب انصباب المواد إليها. وقد قال بعض السلف : « مثل أصحاب محمد : مثل العين ، ودواء العين ترك مسها ».

وقد روى في حديث مرفوع ـ الله أعلم به ـ : « علاج الرمد : تقطير الماء البارد في العين ». وهو من أكبر الأدوية للرمد الحار : فإن الماء دواء بارد يستعان به على طفء حرارة الرمد ، إذا كان حارا. ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، لامرأته زينب ـ وقد اشتكت عينها ـ : « لو فعلت كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان خيرا لك وأجدر أن تشفى : تنضحين في عينك الماء ، ثم تقولين : أذهب الباس رب الناس ، واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما » (٤).

وهذا مما تقدم مرارا : أنه خاص ببعض البلاد ، وبعض أوجاع العين. فلا تجعل (٥)

__________________

(١) بالزاد : « بقراط ». ولعله تحريف. انظر : طبقات الأطباء ١ / ٢٤.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « فضلاتها وعفونتها » ، وهو تحريف.

(٣) كذا بالأصل. ولعل « يوجب » مصحف عن » توجب ». وفى الزاد / ٩٩ : « إصدار ».

(٤) أخرجه أبو داود وابن ماجة ، والحاكم في صحيحه. اه‍ ق.

(٥) بالزاد ٩٩ : « يجعل ». وهو صحيح أيضا.

٨٦

كلام النبوة الجزئي الخاص كليا عاما ، ولا الكلى العام جزئيا خاصا ، فيقع من الخطأ وخلاف الصواب ، ما يقع. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الخدران الكلى

الذي يجمد معه البدن.

ذكر أبو عبيد في « غريب الحديث » ـ من حديث أبي عثمان النهدي : « أن قوما مروا بشجرة فأكلوا منها ، فكأنما مرت بهم ريح فأجمدتهم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قرسوا (١) الماء في الشنان ، وصبوا عليهم فيما بين الأذانين » ، ثم قال أبو عبيد : « قرسوا يعنى : بردوا. وقول الناس : قد قرس البرد ، إنما هو من هذا بالسين ، ليس بالصاد. والشنان : الأسقية والقرب الخلقان. يقال للسقاء : شن ، وللقربة : شنة. وإنما ذكر الشنان دون الجرة (٢) : لأنها أشد تبريدا للماء. وقوله : بين الأذانين ، يعنى : أذان الفجر والإقامة. فسمى الإقامة أذانا » انتهى كلامه.

قال بعض الأطباء : وهذا العلاج من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من أفضل علاج هذا الداء ، إذا كان وقوعه بالحجاز. وهى بلاد حارة يابسة ، والحار الغريزي ضعيف في بواطن سكانها ، وصب الماء البارد عليهم في الوقت المذكور ـ وهو أبرد أوقات اليوم ـ يوجب جمع الحار الغريزي المنتشر في البدن الحامل لجميع قواه ، فيقوى (٣) القوة الدافعة ، ويجتمع من أقطار البدن إلى باطنه الذي هو محل ذلك الداء ، ويستظهر بباقي القوى على دفع المرض المذكور ، فيدفعه بإذن الله عز وجل. ولو أن أبقراط (٤) أو جالينوس أو غيرهما وصف هذا الدواء لهذا الداء : لخضعت له الأطباء ، وعجبوا من كمال معرفته.

__________________

(١) بالزاد : « فرسوا ... فرسوا ... فرس » وهو تصحيف.

(٢) بالزاد : « الجدد ». وهو تصحيف.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : « فتقوى ». وهو تصحيف.

(٤) بالزاد : « بقراط ».

٨٧

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذباب

وإرشاده إلى دفع مضرات السموم بأضدادها

في الصحيحين ـ من حديث أبي هريرة ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « إذا وقع الذباب في إناء أحدكم : فامقلوه ، فإن في أحد جناحيه داء ، وفى الآخر شفاء » (١).

وفى سنن ابن ماجة ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « أحد جناحي الذباب سم ، والآخر شفاء. فإذا وقع في الطعام : فامقلوه ، فإنه يقدم السم ، ويؤخر الشفاء » (٢).

هذا الحديث فيه أمران : أمر فقهي ، وأمر طبي. فأما الفقهي : فهو دليل ـ ظاهر الدلالة جدا ـ على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع ، فإنه لا ينجسه. وهذا قول جمهور العلماء. ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك.

ووجه الاستدلال به : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمر بمقله ، وهو غمسه في الطعام. ومعلوم أنه يموت من ذلك ، ولا سيما : إذا كان الطعام حارا. فلو كان ينجسه : لكان أمرا بإفساد الطعام ، وهو ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنما أمر بإصلاحه. ثم عدا (٣) هذا الحكم إلى كل مالا نفس له سائلة : كالنحلة والزنبور والعنكبوت ، وأشباه ذلك. إذ الحكم يعم بعموم علته ، وينتفى لانتفاء سببه. فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته ، وكان ذلك مفقودا فيما لا دم له سائل ـ : انتفى الحكم بالتنجيس (٤) ، لانتفاء علته.

ثم قال من لم يحكم بنجاسة عظم الميتة : إذا كان هذا ثابتا في الحيوان الكامل ـ مع ما فيه من الرطوبات والفضلات ، وعدم الصلابة ـ : فثبوته في العظم ، الذي هو أبعد عن

__________________

(١) أخرجه البخاري. ولم يخرجه مسلم كما جزم به الحافظ في الفتح. وأخرجه أبو داود وابن ماجة وأحمد وابن حبان والبيهقي. اه‍ ق.

(٢) وأخرجه أيضا النسائي وأحمد والحاكم والبيهقي. اه‍ ق.

(٣) أي : جاوز. وبالزاد ٩٩ : « عدى » بالضم. وهو أحسن.

(٤) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : « في التنجيس ».

٨٨

الرطوبات والفضلات واحتقان الدم ، أولى. وهذا في غاية القوة ، فالمصير إليه أولى.

وأول من حفظ عنه في الاسلام أنه تكلم بهذه اللفظة ـ فقال : مالا نفس له سائلة. ـ إبراهيم النخعي رضي الله عنه ، وعنه تلقاها الفقهاء. والنفس في اللغة يعبر بها : عن الدم. ومنه « نفست المرأة » بفتح النون : إذا حاضت ، و « نفست » بضمها : إذا ولدت.

وأما المعنى الطبي ، فقال أبو عبيد : « معنى » امقلوه « : اغمسوه ليخرج الشفاء منه ، كما خرج الداء. يقال للرجلين : هما يتماقلان ، إذا تغاطا في الماء ».

واعلم أن في الذباب عندهم قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه ، وهى بمنزلة السلاح. فإذا سقط فيما يؤذيه : اتقاه بسلاحه. فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء ، فيغمس كله في الماء والطعام ، فيقابل المادة السمية المادة النافعة ، فيزول ضررها. وهذا طب لا يهتدى إليه كبار الأطباء وأئمتهم ، بل هو خارج من مشكاة النبوة. ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق ، يخضع لهذا العلاج ، ويقر لمن جاء به : بأنه أكمل الخلق على الاطلاق ، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية.

وقد ذكر غير واحد من الأطباء : أن لسع الزنبور والعقرب إذا دلك موضعه بالذباب : نفع منه نفعا بينا وسكنه. وما ذاك إلا للمادة التي فيه من الشفاء. وإذا دلك به الورم الذي يخرج في شعر العين ، المسمى شعرة ـ بعد قطع رؤوس الذباب ـ : أبرأه.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج البثرة

ذكر ابن السنى في كتابه ، عن بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : « دخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد خرج في إصبعي بثرة ـ فقال : عندك ذريرة؟ قلت : نعم. قال : ضعيها عليها. وقال : قولي : اللهم مصغر الكبير ، ومكبر الصغير ، صغر مابى » (١).

__________________

(١) وأخرجه أيضا الحاكم ، وقال : « صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. اه‍ ق

٨٩

( الذريرة ) : دواء هندي يتخذ من قصب الذريرة. وهى حارة يابسة ، تنفع من أورام المعدة والكبد والاستسقاء ، وتقوى القلب لطيبها.

وفى الصحيحين عن عائشة ، أنها قالت : « طيبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي ، بذريرة ، في حجة الوداع ، للحل والاحرام ».

و ( البثرة ) : خراج صغير يكون عن مادة حارة تدفعها الطبيعة ، فتسترق مكانا من الجسد تخرج منه ، فهي محتاجة إلى ما ينضجها ويخرجها. والذريرة أحد ما يفعل بها ذلك : فإن فيها إنضاجا وإخراجا مع طيب رائحتها ، مع أن فيها تبريدا للنارية التي في تلك المادة. ولذلك (١) قال صاحب القانون : ـ « إنه لا أفضل لحرق النار من الذريرة بدهن الورد والخل ».

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الأورام والخراجات

التي تبرأ بالبط والبزل

يذكر عن علي أنه قال : « دخلت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على رجل يعوده بظهره ورم ، فقالوا : يا رسول الله ، بهذه مدة. قال : بطوا عنه. قال علي : فما برحت حتى بطت ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهد ».

ويذكر عن أبي هريرة : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر طبيبا : أن ببط بطن رجل أجوى البطن ، فقيل : يا رسول الله ، هل ينفع الطب؟ قال : الذي أنزل الداء ، أنزل الشفاء فيما شاء ».

( الورم ) : مادة في حجم العضو ، لفضل مادة غير طبيعية ، تنصب إليه وتوجد (٢) في أجناس الأمراض كلها. والمواد التي يكون عنها من الاخلاط الأربعة والمائية والريح. وإذا اجتمع الورم سمى : خراجا. وكل ورم حار يؤول أمره إلى أحد ثلاثة أشياء : إما تحلل ، وإما جمع مدة ، وإما استحالة إلى الصلابة. فإن كانت القوة قوية : استولت على مادة

__________________

(١) هذا هو الظاهر. وفى الزاد ١٠٠ : « وكذلك ».

(٢) بالزاد ١٠٠ : « ويوجد ». وكل صحيح.

٩٠

الورم وحللته ، وهى أصلح الحالات التي يؤول حال الورم إليها. وإن كانت دون ذلك : أنضجت المادة وأحالتها مدة بيضاء ، وفتحت لها مكانا أسالتها منه. وإن نقصت عن ذلك : أحالت المادة مدة غير مستحكمة النضج ، وعجزت عن فتح مكان في العضو تدفعها منه ، فيخاف على العضو الفساد : بطول لبثها فيه ، فيحتاج حينئذ إلى إعانة الطبيب ، بالبط أو غيره ، لاخراج تلك المادة الرديئة المفسدة للعضو.

وفى البط فائدتان : ( إحداهما ) : إخراج المادة الرديئة المفسدة. ( والثانية ) : منع اجتماع مادة أخرى إليها تقويها (١).

وأما قوله في الحديث الثاني : « إنه أمر طبيبا أن يبط بطن رجل أجوى البطن » ، فالجوى يقال على معان منها : الماء المنتن الذي يكون في البطن ، يحدث عنه الاستسقاء.

وقد اختلف الأطباء في بزله لخروج هذه المادة : فمنعه طائفة منهم : لخطره ، وبعد السلامة معه. وجوزته طائفة أخرى ، وقالت : لا علاج له سواه. وهذا عندهم إنما هو في الاستسقاء الزقى. فإنه ـ كما تقدم ـ ثلاثة أنواع : طبلي ، وهو : الذي ينتفخ معه البطن بمادة ريحية ، إذا ضربت عليه سمع له صوت كصوت الطبل. ولحمى ، وهو : الذي يربو معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية ، تفشو مع الدم في الأعضاء. وهو أصعب من الأول. وزقى ، وهو : الذي يجتمع معه في البطن الأسفل مادة رديئة ( يسمع ) (٢) لها عند الحركة خضخضة كخضخضة الماء في الزق. وهو أردأ (٣) أنواعه عند الأكثرين من الأطباء. وقالت طائفة : أردأ (٣) أنواعه اللحمي ، لعموم الآفة به.

ومن جملة علاج الزقى : إخراج ذلك الماء بالبزل ، ويكون ذلك بمنزلة فصد العروق

__________________

(١) هذا وصف دقيق للخراج واحتمالات طرق تخلص الجسم منه. والخراج هو : التهاب أي جزء من أجزاء الجسم مع تكون مادة صديدية بداخله. وأهم علاج له هو : فتحه بعملية جراحية لاخراج المادة الصديدية. اه‍ د.

(٢) زيادة جيدة عن الزاد (١٠١).

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : « أردى ». وهو لغة ضعيفة. انظر المختار والمصباح

٩١

لاخراج الدم الفاسد. لكنه خطر كما تقدم. وإن ثبت هذا الحديث : فهو دليل على جواز بزله. والله أعلم (١).

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج المرضى

بتطييب نفوسهم ، وتقوية قلوبهم

روى ابن ماجة في سننه ـ من حديث أبي سعيد الخدري ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إذا دخلتم على المريض : فنفسوا له في الاجل ، فإن ذلك لا يرد شيئا ، وهو يطيب (٢) نفس المريض (٣) ».

في هذا الحديث نوع شريف جدا من أشرف أنواع العلاج ، وهو : الارشاد إلى ما يطيب نفس العليل : من الكلام الذي تقوى به الطبيعة ، وتنتعش به القوة ، وينبعث به الحار الغريزي ، فيتساعد على دفع العلة أو تخفيفها ، الذي هو غاية تأثير الطبيب.

وتفريح (٤) نفس المريض ، وتطييب قلبه ، وإدخال ما يسره عليه ـ له تأثير عجيب : في شفاء علته ، وخفتها. فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك ، فتساعد الطبيعة على دفع المؤذى. وقد شاهد الناس كثيرا من المرضى : تنتعش قواه بعيادة من يحبونه ويعظمونه ، ورؤيتهم لهم ( ولطفهم بهم ) (٥) ، ومكالمتهم إياهم. وهذا أحد فوائد عيادة المرضى التي تتعلق بهم. فإن فيها أربعة أنواع من الفوائد : نوع يرجع إلى المريض ، ونوع يعود على العائد ، ونوع يعود على أهل المريض ، ونوع يعود على العامة.

وقد تقدم في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان يسأل المريض عن شكواه ، وكيف يجده؟ ويسأله عما يشتهيه ، ويضع يده على جبهته ، وربما وضعها بين ثدييه ، ويدعو له ، ويصف له

__________________

(١) الاستسقاء هو : تكون سائل مصلى داخل التجويف البريتوني بالبطن. وأسبابه متعددة ، أهمها : تليف الكبد ، وهبوط القلب. وفى حالة اشتداد ضغط السائل ، يتبع علاج البذل إلى الآن ، بواسطة إبرة بذل بطن معقمة تدخل التجويف البريتوني لاخراج السائل. اه‍ د.

(٢) كذا بالأصل والفتح الكبير (١ / ١٠٩). وفى الزاد : « تطييب ».

(٣) وأخرجه أيضا الترمذي. وفى إسناده لين. اه‍ ق.

(٤) كذا بالزاد. وفى الأصل : « وتفريج » ، ولعله تصحيف. (٥) زيادة حسنة عن الزاد

٩٢

ما ينفع في علته. وربما توضأ وصب على المريض من وضوئه. وربما كان يقول للمريض : « لا بأس عليك ، طهور إن شاء الله تعالى ». وهذا من كمال اللطف ، وحسن العلاج والتدبير.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الأبدان بما اعتادته

من الأدوية والأغذية ، دون ما لم تعتده

هذا أصل عظيم من أصول العلاج ، وأنفع شئ فيه. وإذا أخطأه الطبيب : ضر المريض من حيث يظن أنه ينفعه. ولا يعدل عنه إلى ما يجده من الأدوية في كتب الطب ، إلا طبيب جاهل. فإن ملاءمة الأدوية والأغذية للأبدان : بحسب استعدادها وقبولها. وهؤلاء أهل البوادي والا كارون وغيرهم : لا ينجع فيهم شراب اللينوفر والورد الطري ولا المغلى (١) ، ولا يؤثر في طباعهم شيئا. بل عامة أدوية أهل الحضر وأهل الرفاهية ، لا تجدى عليهم. والتجربة شاهدة بذلك.

ومن تأمل ما ذكرناه ـ من العلاج النبوي ـ رآه كله موافقا لعادة العليل وأرضه ، وما نشأ عليه. فهذا أصل عظم من أصول العلاج : يجب الاعتناء به. وقد صرح به أفاضل أهل الطب ، حتى قال طبيب العرب ، بل أطبهم الحارث بن كلدة ـ وكان فيهم كأبقراط في قومه ـ : « الحمية رأس الدواء ، والمعدة بيت الداء ، وعودوا كل بدن ما اعتاد » ، وفى لفظ عنه : « الأزم دواء ». والأزم : الامساك عن الاكل ، يعنى به : الجوع. وهو من أكبر الأدوية في شفاء الأمراض الامتلائية كلها : بحيث إنه أفضل في علاجها من المستفرغات ، إذا لم يخف من كثرة الامتلاء ، وهيجان الاخلاط وحدتها وغليانها.

وقوله : « المعدة بيت الداء » ، ( المعدة ) : عضو عصبي مجوف كالقرعة في شكله ، مركب من ثلاث طبقات مؤلفة من شظايا دقيقة عصبية ، تسمى الليف ، ويحيط بها لحم ،

__________________

(١) بالأصل والزاد ١٠١ : « المغالى ». والظاهر أنه محرف عما أثبتناه. انظر المصباح : ( غلا )

٩٣

وليف إحدى الطبقات بالطول ، والاخرى بالعرض ، والثالثة بالورب (١). وفم المعدة أكثر عصبا ، وقعرها أكثر لحما. وفى باطنها خمل. وهى محصورة في وسط البطن ، وأميل إلى الجانب الأيمن قليلا. خلقت على هذه الصفة : لحكمة لطيفة من الخالق الحكيم سبحانه. وهى بيت الداء وكانت محلا لهضم الأول. وفيها ينضج الغذاء ، وينحدر منها بعد ذلك إلى الكبد والأمعاء. ويتخلف منه فيها فضلات عجزت القوة الهاضمة عن تمام هضمها : إما لكثرة الغذاء ، أو لرداءته ، أو لسوء ترتيب في استعماله له ، أو لمجموع ذلك. وهذه الأشياء بعضها مما لا يتخلص الانسان منه غالبا ، فتكون المعدة بيت الداء لذلك. وكأنه يشير بذلك : إلى الحث على تقليل الغذاء ، ومنع النفس من اتباع الشهوات ، والتحرز عن الفضلات. وأما العادة : فلانها كالطبيعة للانسان ، ولذلك يقال : العادة طبع ثان. وهى قوة عظيمة في البدن ، حتى إن أمرا واحدا إذا قيس إلى أبدان مختلفة العادات : كان مختلف النسبة إليها ، وإن كانت تلك الأبدان متفقة في الوجوه الأخرى. مثال ذلك : أبدان ثلاثة حارة المزاج في سن الشباب ، أحدها : عود تناول الأشياء الحارة. والثاني : عود تناول (الأشياء الباردة. والثالث : عود تناول) (٢) الأشياء المتوسطة. فإن الأول متى تناول عسلا : لم يضربه. والثاني (٣) متى تناوله : أضربه. والثالث : يضربه قليلا. فالعادة ركن عظيم في حفظ الصحة ، ومعالجة الأمراض. ولذلك جاء العلاج النبوي بإجراء كل بدن على عادته : في استعمال الأغذية والأدوية ، وغير ذلك.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تغذية المريض

بألطف ما اعتاده من الأغذية

في الصحيحين (٤) من حديث عروة ، عن عائشة : « أنها كانت إذا مات الميت من

__________________

(١) بالأصل والزاد : « بالوراب ». وهو تحريف. وقد علق ق ، فقال : سبق تفسيره ، والذي رأيناه فيما بين أيدينا من كتب اللغة ، هو « الورب » بدون الألف.

(٢) زيادة متعينة عن الزاد ١٠٢.

(٣) كذا بالزاد وفى الأصل : « الثاني » وهو تحريف.

(٤) بالأصل : « صحيح مسلم ». والنص الآتي موافق في جملته لما في صحيح البخاري ٧ / ٧٥ (بولاق) ، وصحيح مسلم ٧ / ٢٦ (تركيا). وعبارة الزاد : « في الصحيحين ... اجتمع ... إلى أهلهن ، أمرت ببرمه تلبينة ، فطبخت وصنت ثريدا ، ثم صبت التلبينة عليه ، ثم قالت : كلوا .. ».

وانظر صحيح البخاري ٧ / ١٢٤

٩٤

أهلها ، فاجتمع لدلك النساء ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها ، أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت ، ثم صنع ثريد ، فصبت التلبينة عليها ، ثم قالت : كلن منها ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : التلبينة مجمة لفؤاد المريض ، تذهب ببعض الحزن » (١).

وفى السنن ، من حديث عائشة أيضا ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « عليكم بالبغيض النافع ، التلبين » (٢) ، قالت : « وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اشتكى أحد من أهله : لم تزل البرمة على النار ، حتى ينتهى أحد طرفيه » يعنى : يبرأ أو يموت. وعنها : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قيل له : إن فلانا وجع لا يطعم الطعام ، قال : عليكم بالتلبينة فحسوه إياها. ويقول : الذي نفسي بيده ، إنها تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكن وجهها من الوسخ » (٣).

( التلبين ) هو : الحساء الرقيق الذي هو في قوام اللبن ، ومنه اشتق اسمه. قال الهروي : « سميت تلبينة : لشهها باللبن ، لبياضها ورقتها ». وهذا الغذاء هو النافع للعليل ، وهو الرقيق النضيج ، لا الغليظ النيئ. وإذا شئت أن تعرف فضل التلبينة : فاعرف فضل ماء الشعير ، بل هي (٤) أفضل من ماء الشعير لهم : فإنها حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته. والفرق بينها وبين ماء الشعير : أنه يطبخ صحاحا ، والتلبينة تطبخ منه مطحونا. وهى أنفع منه لخروج خاصية الشعير بالطحن.

وقد تقدم : أن للعادات تأثيرا في الانتفاع بالأدوية والأغذية. وكانت عادة القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحونا ، لا صحاحا. وهو أكثر تغذية ، وأقوى فعلا ، وأعظم جلاء. وإنما أطباء المدن منه صحاحا : ليكون أرق وألطف ، فلا يثقل على طبيعة المريض. وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها ، وثقل ماء الشعير المطحون عليها.

__________________

(١) وأخرجه أيضا البخاري والترمذي والنسائي وأحمد. اه‍ ق.

(٢) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد والحاكم. اه‍ ق.

(٣) أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم. اه‍ ق.

(٤) في الزاد ١٠٢ : « هي ماء الشعير ». والنقص من الناسخ أو الطابع

٩٥

والمقصود : أن ماء الشعير مطبوخا صحاحا ، ينفذ سريعا ، ويجلو جلاء ظاهرا ، ويغذى غذاء لطيفا. وإذا شرب حارا : كان إجلاؤه أقوى ، ونفوذه أسرع ، وإنماؤه للحرارة الغريزية أكثر ، وتلميسه لسطوح المعدة أوفق.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « فيها مجمة لفؤاد المريض » ، يروى بوجهين : بفتح الميم والجيم ، وبضم الميم وكسر الجيم. والأول أشهر. ومعناه : أنها مريحة له ، أي تريحه وتسكنه. من « الاجمام » وهو : الراحة.

وقوله : « ويذهب ببعض الحزن » ، هذا ـ والله أعلم ـ : لان الغم والحزن يبردان المزاج ، ويضعفان الحرارة الغريزية : لميل الروح الحامل لها إلى جهة القلب ، الذي هو منشؤها. وهذا الحساء يقوى (١) الحرارة الغريزية : بزيادته في مادتها ، فتزيل أكثر ما عرض له : من الغم والحزن.

وقد يقال ـ وهو أقرب : إنها تذهب ببعض الحزن ، بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة. فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية. والله أعلم.

وقد يقال : إن قوى الحزين تضعف باستيلاء اليبس على أعضائه ، وعلى معدته خاصة ، لتقليل الغذاء. وهذا الحساء يرطبها ويقويها ويغذيها ، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض. لكن المريض كثيرا ما يجتمع في معدته خلط مراري أو بلغمي أو صديدي ، وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة ويسروه ، ويحدره (٢) ويميعه ، ويعدل كيفيته ، ويكسر سورته ـ فيريحها ، ولا سيما لمن عادته الاغتذاء بخبز الشعير. وهى عادة أهل المدينة إذ ذاك. وكان هو غالب قوتهم ، وكانت الحنطة عزيزة عندهم. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج السم

الذي أصابه بخيبر من اليهود

ذكر عبد الرزاق ـ عن معمر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ـ :

__________________

(١) بالزاد ١٠٣ : « مقوى ». ولعله تصحيف.

(٢) بالزاد : « ويخدره ويمنعه ». وهو تصحيف

٩٦

« أن امرأة يهودية أهدت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاة مصلية بخيبر ، فقال : ما هذا (١)؟ قالت : هدية. وحذرت أن تقول : من الصدقة ، فلا يأكل منها. فأكل منها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأكل الصحابة. ثم قال : أمسكوا. ثم قال للمرأة : هل سمعت هذه الشاة؟ قالت : من أخبرك بهذا؟ قال : هذا العظم ـ لساقها وهو في يده ـ قالت : نعم قال : لم؟ قالت : أردت إن كنت كاذبا : أن يستريح منك الناس ، وإن كنت نبيا : لم يضرك. قال : فاحتجم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة على الكاهل ، وأمر أصحابه أن يحتجموا ، فاحتجموا. فمات بعضهم ».

وفى طريق أخرى : « واحتجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كاهله ، من أجل الذي أكل : من الشاة. حجمه أبو هند بالقرن والشفرة ـ وهو مولى لبنى بياضة من الأنصار ـ وبقى بعد ذلك ثلاث سنين ، حتى كان وجعه الذي توفى فيه ، فقال : ما زلت أجد من (٢) الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر ، حتى كان (٣) هذا أوان انقطاع الأبهر منى. فتوفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيدا ».

قال موسى بن عقبة : معالجة السم تكون بالاستفراغات ، وبالأدوية التي تعارض فعل السم وتبطله : إما بكيفاتها ، وإما بخواصها. فمن عدم الدواء : فيبادر إلى الاستفراغ الكلى (٤). وأنفعه الحجامة لا سيما : إذا كان البلد حارا ، والزمان حارا. فإن القوة السمية تسرى إلى الدم ، فتنبعث في العروق والمجارى حتى تصل إلى القلب ، فيكون الهلاك. فالدم هو المنفذ الموصل للسم إلى القلب والأعضاء. فإذا بادر المسموم وأخرج

__________________

(١) بالزاد : « هذه .. فأكل النبي ».

(٢) كذا بالزاد ١٠٣. وفى الأصل : « في » ولعله تصحيف.

(٣) بالزاد والأصل : « كأن ». والظاهر أنه تصحيف. انظر الفتح الكبير ٣ / ٩٣.

(٤) التسمم الغذائي أو بالسموم ، أهم أعراضه القئ المتكرر. وأهم طرق علاجه هو : غسيل المعدة من المادة السمية. ومن السهل القيام بذلك ، بتناول كميات كبيرة من الماء الدافئ المذاب به بعض ملح الطعام ، واستفراغه ثانيا. وهذه العملية تتكرر عدة مرات حتى يعود الماء كما هو. وبذلك تكون المعدة أصبحت خالية من المادة السمية. ويعطى بعد ذلك مسهل لاخراج ما تسرب من المادة السمية ، من الشرج. اه‍ د.

(٧ ـ الطب النبوي)

٩٧

الدم : خرجت معه تلك الكيفية السمية التي خالطته. فإن كان استفراغا تاما : لم يضره السم ، بل : إما أن يذهب ، وإما أن يضعف فتقوى عليه الطبيعة ، فتبطل فعله أو تضعفه.

ولما احتجم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : احتجم في الكاهل ـ وهو أقرب المواضع التي تمكن (١) فيها الحجامة ، إلى القلب ـ فخرجت المادة السمية مع الدم : لا خروجا كليا ، بل بقى أثرها مع ضعفه. لما يريد الله سبحانه : من تكميل مراتب الفضل كلها له.

فلما أراد الله إكرامه بالشهادة : ظهر تأثير ذلك الأثر الكامن من السم ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا ، وظهر سر قوله تعالى لأعدائه من اليهود : (أفكلما (٢) جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم : ففريقا كذبتم ، وفريقا تقتلون؟) ، فجاء بلفظ « كذبتم » بالماضي الذي قد وقع منه وتحقق ، وجاء بلفظ « تقتلون » بالمستقبل الذي يتوقعونه وينتظرونه. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج السحر الذي سحرته اليهودية

قد أنكر هذا طائفة من الناس ، وقالوا : لا يجوز هذا عليه ، وظنوه نقصا وعيبا. وليس الامر كما زعموا ، بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من الأسقام والأوجاع وهو من الأمراض ، وإصابته به كإصابته بالسم : لافرق بينهما.

وقد ثبت في الصحيحين ، عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : « سحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه ، ولم يأتهن » (٣). وذلك أشد ما يكون من السحر.

قال القاضي عياض : « والسحر مرض من الأمراض ، وعارض من العلل ، يجوز

__________________

(١) بالزاد : « يمكن ». وكلاهما صحيح.

(٢) بالأصل والزاد : « أو كلما ». وهو تصحيف. والآية من سورة البقرة : (٨٧). وانظر سورة المائدة : (٧٠).

(٣) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد. اه‍ ق

٩٨

عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنواع الأمراض ، مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته. وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يفعله ، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شئ من صدقه ، لقيام الدليل والاجماع على عصمته من هذا. وإنما هذا فيما يجوز طروه (١) عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها ، ولافضل من أجلها ، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر. فغير بعيد : أنه يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له ، ثم ينجلى عنه كما كان ».

والمقصود ذكر هديه في علاج هذا المرض. وقد روى عنه نوعان : ( أحدهما ) ـ وهو أبلغهما ـ : استخراجه وتبطيله : كما صح عند صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أنه سأل ربه سبحانه في ذلك ، فدل عليه. فاستخرجه من بئر. فكان في مشط ومشاطة ، وجف طلعة ذكر. فلما استخرجه : ذهب ما به حتى كأنما نشط من عقال ». فهذا من أبلغ ما يعالج به المطبوب. وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ.

( والنوع الثاني ) : الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر. فإن للسحر تأثيرا في الطبيعة وهيجان أخلاطها ، وتشويش مزاجها ، فإذا ظهر أثره في عضو ، وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو ـ : نفع جدا.

وقد ذكر أبو عبيد في كتاب « غريب الحديث » له ـ بإسناده عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى ـ : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم احتجم على رأسه بقرن حين طب » ، قال أبو عبيد : « معنى (طب) أي : سحر ».

وقد أشكل هذا على من قل علمه ، وقال : ما للحجامة والسحر؟ وما الرابطة بين هذا الداء وهذا الدواء؟ ولو وجد هذا القائل أبقراط وابن سينا أو غيرهما ، قد نص على هذا العلاج ـ : لتلقاه بالقبول والتسليم ، وقال : قد نص عليه من لا نشك في معرفته وفضله.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٠٤. وفى الأصل : « طرده ». وهو تصحيف

٩٩

فاعلم أن مادة السحر الذي أصيب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهت إلى رأسه : إلى إحدى قواه التي فيه ، بحيث كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ ولم يفعله. وهذا تصرف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية : بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدم منه ، فغيرت مزاجه عن طبيعته الأصلية.

والسحر (١) مركب من تأثيرات الأرواح الخبيثة ، وانفعال القوى الطبيعية عنها. وهو سحر التمريجات (٢). وهو أشد ما يكون من السحر ، ولا سيما في الموضع الذي انتهى (٣) إليه السحر. واستعمال الحجامة على ذلك المكان ـ الذي تضررت أفعاله بالسحر ـ من أنفع المعالجة : إذا استعملت على القانون الذي ينبغي. قال أبقراط : « الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من (٤) المواضع التي هي إليها أميل ، بالأشياء التي تصلح لاستفراغها ».

وقالت طائفة من الناس : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أصيب بهذا الداء ، وكان يخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يفعله ـ : ظن أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها ، مالت إلى جهة الدماغ ، وغلبت على البطن المقدم منه ، فأزالت مزاجه عن الحالة الطبيعية له. وكان استعمال الحجامة ـ إذ ذاك ـ من أبلغ الأدوية ، وأنفع المعالجة ، فاحتجم. وكان ذلك قبل أن يوحى إليه : أن ذلك من السحر. فلما جاءه الوحي من الله تعالى ، وأخبره أنه قد سحر ـ : عدل إلى العلاج الحقيقي ، وهو استخراج السحر وإبطاله ، فسأل الله سبحانه : فدله على مكانه ، فاستخرجه. فقام كأنما نشط من عقال. وكان غاية هذا السحر فيه إنما هو في جسده وظاهر جوارحه ، لاعلى عقله وقلبه. ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يخيل إليه : من إتيان النساء ، بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له. ومثل هذا قد يحدث من بعض الأمراض. والله أعلم.

( فصل ) ومن أنفع علاجات السحر : الأدوية الإلهية : بل هي أدويته النافعة بالذات. فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية. ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها :

__________________

(١) بالزاد ١٠٤ زيادة : « هو ».

(٢) بالزاد : « التمريجات ». وهو تصحيف.

(٣) بالزاد : « انتهى السحر إليه ».

(٤) كذا بالزاد. وفى الأصل : « في ». ولعله تصحيف.

١٠٠