الطبّ النبوي

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الطبّ النبوي

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : الطّب
المطبعة: دار إحياء الكتب العربية ـ قاهرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٤

واللبن المطلق أنفع المشروبات للبدن الإنساني : لما اجتمع فيه من التغذية والدموية ، ولاعتياده حال الطفولية ، وموافقته للفطرة الأصلية. وفى الصحيحين : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنى ليلة أسرى به ، بقدح من خمر ، وقدح من لبن. فنظر إليهما ، ثم أخذ اللبن. فقال جبرائيل عليه‌السلام : الحمد لله الذي هداك للفطرة ، لو أخذت الخمر : غوت أمتك ».

والحامض منه بطئ الاستمراء ، خام الخلط. والمعدة الحارة تهضمه ، وتنتفع به.

( لبن البقر ) : يغذو البدن ويخصبه ، ويطلق البطن باعتدال. وهو من أعدل الألبان وأفضلها ، بين لبن الضأن ، ولبن المعز : في الرقة والغلظ والدسم.

وفى السنن ـ من حديث عبد الله بن مسعود ، يرفعه ـ : « عليكم بألبان البقر ، فإنها ترتم (١) من كل الشجر ».

( لبن الإبل ). تقدم ذكره في أول الفصل (٢) ، وذكر منافعه. فلا حاجة لإعادته.

( لبان ) هو : الكندر (٣). قد ورد فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « بخروا بيوتكم باللبان والصعتر ». ولا يصح عنه.

ولكن : يروى عن علي ، أنه قال لرجل شكا إليه النسيان : « عليك باللبان ، فإنه يشجع القلب ، ويذهب بالنسيان ». ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما : « أن شربه مع السكر على الريق ، جيد للبول والنسيان ». ويذكر عن أنس رضي الله عنه : « أنه شكا إليه رجل النسيان ، فقال : عليك بالكندر ، وانقعه (٤) من الليل ، فإذا أصبحت

__________________

(١) كذا بالنهاية ٢ / ١٠٦. وفى رواية بها وبالاحكام ١٠١ ، والفتح الكبير ٢ / ٢٣٦ : ترم. وكلاهما بمعنى تأكل. ولفظ الأصل والزاد ١٩٠ : تقم. وهو مصحف عما أثبتناه. وقد ظنه ق صحيحا فقال : أي تجمع في غذائها من كل الشجر ، على تشبيه ذلك بالقم ـ وهو الكنس ـ واستعارته له. اه‍ وهو تكلف لا ضرورة له. وانظر : اللسان ١٥ / ١٤٥.

(٢) يعنى : عند كلامه على لبن الانعام (ص ٢٩٩) الذي يحمل عند الاطلاق على الإبل خاصة ، كما يؤخذ من المختار. وراجع الاحكام ٢ / ١٠١ ـ ١٠٢.

(٣) يعنى بالفارسية ، كما في الاحكام ٨٣ و ١٠٢.

(٤) بالأحكام ٨٤ : فانقعه. وانظر : آداب الشافعي ٣٥ و ٣٢٣.

٣٠١

فخذ منه شربة على الريق : فإنه جيد للنسيان ».

ولهذا سبب طبيعي ظاهر : فإن النسيان إذا كان لسوء مزاج بارد رطب ـ يغلب على الدماغ ، فلا يحفظ ما ينطبع فيه ـ : نفع منه اللبان. وأما إذا كان النسيان لغلبة (١) شئ عارض : أمكن زواله سريعا بالمرطبات. والفرق بينهما : أن اليبوسي يتبعه سهر وحفظ للأمور الماضية دون الحالية ، والرطوبي بالعكس.

وقد يحدث النسيان أشياء بالخاصية : كحجامة نقرة القفا ، وإدمان أكل الكسبرة (٢) الرطبة والتفاح الحامض ، وكثرة الهم والغم ، والنظر في الماء الواقف والبول فيه ، والنظر إلى المصلوب : والاكثار من قراءة ألواح القبور ، والمشي بين جملين مقطورين ، وإلقاء القمل في الحياض (٣) ، وأكل سؤر الفأر. وأكثر هذا معروف بالتجربة.

والمقصود : أن اللبان مسخن في الدرجة الثانية ، ومجفف في الأولى. وفيه قبض يسير. وهو كثير المنافع ، قليل المضار. فمن منافعه : أنه ينفع من قذف الدم ونزفه ، ووجع المعدة واستطلاق البطن ، ويهضم الطعام ، ويطرد الرياح ، ويجلو قروح العين ، وينبت اللحم في سائر القروح ، ويقوى المعدة الضعيفة ويسخنها ، ويجفف البلغم ، وينشف رطوبات (٤) الصدر ، ويجلو ظلمة البصر ، ويمنع القروح الخبيثة من الانتشار.

وإذا مضغ وحده أو مع الصعتر الفارسي : جلب البلغم ، ونفع من اعتقال اللسان ، ويزيد في الذهن ويذكيه. وإن بخر به : نفع من الوباء ، وطيب رائحة الهواء.

حرف الميم

١ ـ ( ماء ) : مادة الحياة ، وسيد الشراب ، وأحد أركان العالم ، بل ركنه

__________________

(١) بالأحكام : لغلبة اليبس عليه.

(٢) بالأصل والزاد ١٩٠ : الكسفرة. وانظر هامش ما تقدم : (ص ٢٩٨).

(٣) بالأصل والزاد : الحياة. وهو مصحف عنه كما جوزه ق.

(٤) بالزاد : رطوبة.

٣٠٢

الأصلي : فإن السماوات خلقت من بخاره ، والأرض من زبده. وقد جعل الله منه كل شئ حي (١).

وقد احتلف فيه : هل يغذو؟ أو ينفذ الغذاء فقط؟ على قولين. وقد تقدما (٢) ، وذكرنا القول الراجح ودليله. وهو بارد رطب : يقمع الحرارة ، ويحفظ على البدن رطوباته ويرد عليه بدل ما تحلل منه ، ويرقق الغذاء وينفذه في العروق.

وتعتبر جودة الماء من عشرة طرق : ( أحدها ) من لونه : بأن يكون صافيا. ( الثاني ) من رائحته : بأن لا يكون له رائحة البتة. ( الثالث ) من طعمه : بأن يكون عذب الطعم حلوه ، كماء النيل والفرات. ( الرابع ) من وزنه : بأن يكون خفيفا رقيق القوام. ( الخامس ) من مجراه : بأن يكون طيب المجرى والمسلك. ( السادس ) : من منبعه : بأن يكون بعيد المنبع. ( السابع ) : من بروزه للشمس والريح : بأن لا يكون مختفيا تحت الأرض ، فلا تتمكن الشمس والريح من قصارته (٣). ( الثامن ) : من حركته : بأن يكون سريع الجري والحركة. ( التاسع ) : من كثرته : بأن يكون له كثرة تدفع (٤) الفضلات المخالطة له. (العاشر) : من مصبه : بأن يكون آخذا من الشمال إلى الجنوب ، أو من المغرب إلى المشرق.

وإذا اعتبرت هذه الأوصاف ، لم تجدها بكمالها إلا في الأنهار الأربعة : النيل ، والفرات ، وسيحون ، وجيحون. وفى الصحيحين ـ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « سيحان وجيحان والنيل والفرات ، كلها من أنهار الجنة (٥) ».

وتعتبر خفة الماء من ثلاثة أوجه : ( أحدها ) : سرعة القبول (٦) للحر والبرد. قال أبقراط :

__________________

(١) كذا بالزاد وهو الصحيح الموافق لما تقدم : (ص ١٧٦). وبالأصل : حيا. وهو خطأ وتحريف.

(٢) ص ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٣) كذا بالأصل والزاد. أي : من أرضه. كما في القاموس ٢ / ١١٨. يعنى من الوصول إليه فيها. فلا معنى لقول ق : « لا معنى لها ».

(٤) بالزاد : يدفع. يعنى بسببها.

(٥) أي : مستمدة من أنهار الجنة الموجودة بالفعل. لا أنها من جنسها كما زعم ق. والحديث في الاحكام ٣ / ١٠٣ ، والفتح الكبير ٢ / ١٦٢ ببعض اختلاف.

(٦) بالزاد والاحكام : قبوله.

٣٠٣

« الماء الذي يسخن سريعا ويبرد سريعا ، أخف المياه ».

( الثاني ) : بالميزان (١). ( الثالث ) : أن تبل قطنتان متساويتا الوزن بماءين مختلفين ، ثم يجففا بالغا ، ثم توزنا. فأيهما كانت أخف ، فماؤها كذلك.

والماء ـ وإن كان في الأصل باردا رطبا ـ فإن قوته تنتقل وتتغير لأسباب عارضة توجب انفعالها. فإن الماء المكشوف للشمال ، المستور عن الجهات الأخر ـ : يكون باردا ، وفيه يبس مكتسب من ريح الشمال. وكذلك الحكم على سائر الجهات الأخر. والماء الذي ينبع من المعادن : يكون على طبيعة ذلك المعدن ، ويؤثر في البدن تأثيره.

والماء العذب نافع للمرضى والأصحاء ، والبارد منه أنفع وألذ. ولا ينبغي شربه على الريق ، ولا عقيب الجماع ولا الانتباه من النوم ، ولا عقيب الحمام ، ولا عقيب أكل الفاكهة. وقد تقدم (٢). وأما على الطعام ، فلا بأس ( به ) (٣) إذا اضطر إليه ، بل يتعين. ولا يكثر منه ، بل يتمصصه مصا. فإنه لا يضره البتة ، بل يقوى المعدة ، وينهض الشهوة ، ويزيل العطش.

والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضد ما ذكرناه. وبائته أجود من طريه (٤). وقد تقدم. والبارد ينفع من داخل ، أكثر من نفعه من خارج. والحار بالعكس. وينفع البارد من عفونة الدم ، وصعود الأبخرة إلى الرأس. ويدفع العفونات ، ويوافق الأمزجة والأسنان ، والأزمان والأماكن الحارة. ويضر على كل حالة تحتاج إلى نضج وتحليل : كالزكام والأورام. والشديد البرودة منه يؤذى الأسنان. والادمان عليه يحدث انفجار الدم والنزلات ، وأوجاع الصدر.

والبارد والحار بإفراط ضاران (٥) للعصب ولاكثر الأعضاء : لان أحدهما محلل ، والآخر مكثف (٦). والماء الحار يسكن لذع الاخلاط الحارة ، ويحلل وينضج ، ويخرج الفضول ،

__________________

(١) بالأحكام : بالمكيال.

(٢) ص ١٧٤.

(٣) زيادة عن الزاد ١٩١. وانظر : الاحكام ٢ / ١٠٤.

(٤) كذا بالأصل والزاد. أي : فطيره ، على ما في المختار (فطر). وانظر ما تقدم : (ص ١٧٧).

(٥) كذا بالزاد والاحكام ١٠٥. وبالأصل : ضار. ولعله مع صحته محرف.

(٦) كذا بالأصل والزاد. أي : محدث غلظا. وبالاحكام : منشف. ولعل المراد منه ما ذكرنا.

٣٠٤

ويرطب ويسخن ، ويفسد الهضم شربه ، ويطفو بالطعام إلى أعلى المعدة ويرخيها ، ولا يسرع في تسكين العطش ، ويذبل البدن ، ويؤدى إلى أمراض رديئة ، ويضر في أكثر الأمراض. على أنه صالح للشيوخ وأصحاب الصرع والصداع البارد والرمد. وأنفع ما استعمل من خارج (١).

ولا يصح في الماء المسخن بالشمس حديث ولا أثر ، ولا كرهه أحد من قدماء الأطباء ولا عابه (٢). والشديد السخونة يذيب شحم الكلى.

وقد تقدم الكلام على ماء الأمطار ، في حرف الغين (٣).

( ماء الثلج والبرد ). ثبت في الصحيحين ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان يدعو في الاستفتاح وغيره : « اللهم ، اغسلنى من خطاياي بماء الثلج والبرد ».

الثلج له في نفسه كيفية حادة دخانية ، فماؤه كذلك. وقد تقدم (٤) وجه الحكمة في طلب الغسل من الخطايا بمائه ، لما يحتاج إليه القلب : من التبريد والتصليب (٥) والتقوية. ويستفاد من هذا أصل طب الأبدان والقلوب ، ومعالجة أدوائها بضدها.

وماء البرد ألطف وألذ من ماء الثلج. وأما ماء الجمد ـ وهو : الجليد ـ فبحسب أصله.

والثلج يكتسب كيفية الجبال والأرض ـ التي يسقط عليها ـ : في الجودة والرداءة.

وينبغي تجنب شرب الماء المثلوج ، عقيب الحمام والجماع والرياضة والطعام الحار ، ولأصحاب السعال ووجع الصدر وضعف الكبد ، وأصحاب الأمزجة الباردة.

( ماء الآبار والقنى ) (٦). مياه الآبار قليلة اللطافة. وماء القنى (٦) المدفونة تحت الأرض

__________________

(١) زاد في الاحكام بعد ذلك : « فإن سخن بالشمس خيف منه البرص ». ثم ذكر حديثين في ذلك ، وعدم تصحيح بعض العلماء لهما ، وأنه مع ذلك لا بد أن يتوقى.

(٢) بالزاد : عابوه. وكل صحيح.

(٣) ص ٢٦٧. وانظر : الاحكام ١٠٦.

(٤) ص ٢٦٢.

(٥) كذا بالزاد. وهو الصحيح الملائم. وبالأصل : التصلب. وهو تحريف على ما في القاموس ١ / ٦٣.

(٦) كذا بالأصل والاحكام ٢ / ١٠٧. وبالزاد : القناة. وهو واحد القنى. انظر : القاموس ٤ / ٣٨٠ ، والمختار والمصباح.

(٢٠ ـ الطب النبوي)

٣٠٥

ثقيل : لان أحدهما محتقن لا يخلو عن تعفن ، والآخر محجوب عن الهواء. وينبغي أن لا يشرب على الفور : حتى يصمد للهواء وتأتى عليه ليلة. وأردؤه : ما كانت مجاريه من رصاص ، أو كانت بئره معطلة ، ولا سيما إذا كانت تربتها رديئة ، فهذا الماء وبئ وخيم.

( ماء زمزم ) : سيد المياه وأشرفها وأجلها قدرا ، وأحبها إلى النفوس وأغلاها ثمنا ، وأنفسها عند الناس. وهو هزمة جبرائيل ، وسقيا (١) إسماعيل.

وثبت في الصحيحين ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال لأبي ذر ـ وقد أقام بين الكعبة وأستارها أربعين ما بين يوم وليلة : وليس له طعام غيره. ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إنها طعام طعم ». وزاد غير مسلم بإسناده : « وشفاء سقم ».

وفى سنن ابن ماجة ـ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « ماء زمزم لما شرب له ».

وقد ضعف هذا الحديث طائفة ، بعبد الله بن المؤمل (٢) : رواية عن محمد بن مسلم (٣) (المكي).

وقد روينا عن عبد الله بن المبارك ، « أنه لما حج : أتى زمزم ، فقال : اللهم ، إن ابن أبي الموالى (٤) حدثنا عن محمد بن المنكدر ، عن جابر رضي الله عنه ، عن نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : ماء زمزم لما شرب له. فإني أشرب لظمأ يوم القيامة ». وابن أبي الموالى ثقة. فالحديث إذا حسن. وقد صححه بعضهم ، وجعله بعضهم موضوعا. وكلا القولين فيه مجازفة.

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد ، والفتح الكبير ٣ / ٧٥. وبالاحكام : وسعى. والجملتان اقتباس من حديث مشهور.

(٢) كذا بالزاد وسنن ابن ماجة ٢ / ١٣٠. وبالأصل : ابن أبي الموالى. وهو تحريف.

(٣) أبى الزبير ، كما في سنن ابن ماجة. والزيادة للايضاح. وبالأصل والزاد : المنكدر. وهو تحريف خطير نشأ عن التأثر بالرواية الأخرى. وراجع الحديث في الفتح الكبير : ٣ / ٧٥.

(٤) كذا بالأصل والزاد هنا وفيما سيأتي. وهو عبد الرحمن بن زيد. كما في التهذيب ٦ / ٢٨٢. وراجع الكلام عن ابن المبارك وابن المؤمل وابن المنكدر وأبى الزبير : في التهذيب ٥ / ٣٨٢ و ٦ / ٤٦ و ٩ / ٣٧٣ و ٤٤٠.

٣٠٦

وقد جربت أنا وغيري ـ من الاستسقاء بماء زمزم ـ أمورا عجيبة ، واستشفيت به من عدة أمراض (١) : فبرأت بإذن الله. وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد ـ قريبا من نصف الشهر أو أكثر ـ ولا يجد جوعا ، ويطوف مع الناس كأحدهم ، وأخبرني : أنه ربما بقى عليه أربعين يوما ، وكان له قوة : يجامع بها أهله ، ويصوم ، ويطوف مرارا.

( ماء النيل ) : أحد أنهار الجنة ، أصله من وراء جبال القمر ـ في أقصى بلاد الحبشة ـ من أمطار تجتمع هنا لك ، وسيول يمد (٢) بعضها بعضا ، فيسوقه الله تعالى إلى الأرض الجرز التي لا نبات لها ، فيخرج به زرعا تأكل منه الانعام والأنام.

ولما كانت الأرض التي يسوقه إليها إبليزا صلبة ـ إن أمطرت مطر العادة : لم ترو ، ولم تتهيأ للنبات. وإن أمطرت فوق العادة : ضرت المساكن والساكن ، وعطلت المعايش والمصالح ـ : فأمطر البلاد البعيدة ، ثم ساق تلك الأمطار إلى هذه الأرض في نهر عظيم ، وجعل سبحانه زيادته في أوقات معلومة ، على قدر رى البلاد وكفايتها. فإذا روى (٣) البلاد وعمها : أذن سبحانه بتناقصه وهبوطه. لتتم المصلحة بالتمكن من الزرع. واجتمع في هذا الماء الأمور العشرة التي تقدم ذكرها (٤) ، وكان من ألطف المياه وأخفها ، وأعذبها وأحلاها.

(ماء البحر). ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال في البحر : «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».

وقد جعله ( الله ) سبحانه ملحا أجاجا ، مرا زعاقا ، لتمام مصالح من هو على وجه الأرض : من الآدميين والبهائم. فإنه دائم راكد ، كثير الحيوان. وهو يموت فيه كثيرا ولا يقبر. فلو كان حلوا : لأنتن من إقامته وموت حيوانه فيه وأجاف ، وكان الهواء المحيط بالعالم يكتسب منه ذلك وينتن ويجيف ، فيفسد العالم. فاقتضت حكمة الرب سبحانه وتعالى أن جعله كالملاحة التي لو ألقى فيه جيف العالم كلها وأنتانه وأمواته : لم تغيره شيئا ، ولا يتغير على مكثه من حين خلق وإلى أن يطوى الله العالم. فهذا هو السبب الغائي الموجب لملوحته. وأما الفاعلي فكون (٥) أرضه سبخة مالحة.

__________________

(١) انظر ما تقدم : (ص ٢٢).

(٢) كذا بالزاد ١٩٢. وبالأصل : تمد. ولعله تصحيف.

(٣) كذا بالأصل. وبالزاد : أروى. وكل صحيح على ما في المصباح : ( روى ). وراجع كلام ابن سينا عنه : في الاحكام ٢ / ١٠٣.

(٤) ص ٣٠٣

(٥) كذا بالزاد. والزيادة السابقة عنه. وبالأصل : فيكون. وهو تحريف.

٣٠٧

وبعد : فالاغتسال به نافع من آفات عديدة في ظاهر الجلد ، وشربه مضر بداخله وخارجه : فإنه يطلق البطن ويهزل ، ويحدث حكة وجربا ، ونفخا وعطشا.

ومن اضطر إلى شربه ، فله طرق من العلاج يدفع به مضرته. (منها) : أن يجعل في قدر ، ويجعل فوق القدر قصبات وعليها صوف جديد منفوش ، ويوقد تحت القدر حتى يرتفع بخارها إلى الصوف. فإذا كثر : عصره ، ولا يزال يفعل ذلك حتى يجتمع له ما يريد (١) فيحصل في الصوف من البخار ما عذب ، ويبقى في القدر الزعاق.

( ومنها ) : أن يحفر على شاطئه حفرة واسعة يرشح ماؤه إليها ، ثم إلى جانبها قريبا منها أخرى ترشح هي إليها ، ثم ثالثة إلى أن يعذب الماء.

وإذا ألجأته الضرورة إلى شرب الماء الكدر ، فعلاجه : أن يلقى فيه نوى المشمش ، أو قطعة من خشب الساج ، أو جمرا ملتهبا يطفأ فيه ، أو طينا أرمنيا ، أو سويق حنطة. فإن كدرته ترسب إلى أسفل.

٢ ـ ( مسك ). ثبت في صحيح مسلم ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « أطيب الطيب : المسك ».

وفى الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : « كنت أطيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قبل أن يحرم ، ويوم النحر ، وقبل (٢) أن يطوف بالبيت ـ بطيب فيه مسك ».

المسك : ملك أنواع الطيب وأشرفها وأطيبها ، وهو الذي يضرب به الأمثال ، ويشبه به غيره ، ولا يشبه بغيره. وهو كثبان الجنة.

وهو حار يابس في الثانية : يسر النفس ويقويها ، ويقوى الأعضاء الباطنة جميعها : شربا وشما ، والظاهرة : إذا وضع عليها. نافع للمشايخ والمبرودين (المرطوبين) لا سيما زمن الشتاء ، جيد للغشى والخفقان وضعف القوة : بإنعاشه للحرارة الغريزية. ويجلوا بياض العين

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : تريد. وهو تصحيف.

(٢) كذا بالأصل والزاد : وبالاحكام ٢ / ٧٦ : قبل.

٣٠٨

وينشف رطوبتها ، ويفش (١) الرياح منها ومن جميع الأعضاء ، ويبطل عمل السموم ، وينفع من نهش الأفاعي. ومنافعه كثيرة جدا. وهو أقوى المفرحات.

٣ ـ ( مرزنجوش ) (٢). ورد فيه حديث ـ لا نعلم صحته ـ : « عليكم بالمرزنجوش ، فإنه جيد للخشام ». و ( الخشام ) : الزكام.

وهو حار ( في الثالثة ) ، يابس في الثانية : ينفع شمه من الصداع البارد والكائن عن البلغم والسوداء والزكام والرياح الغليظة ، ويفتح السدد الحادثة في الرأس والمنخرين ، ويحلل أكثر الأورام الباردة. فينفع من أكثر الأورام والأوجاع الباردة الرطبة.

وإذا احتمل : أدر الطمث ، وأعان على الحبل. وإذا دق ورقه اليابس وكمد به : أذهب آثار الدم العارضة (٣) تحت العين. وإذا ضمد به مع الخل : نفع لسعة العقرب.

ودهنه نافع لوجع الظهر والركبتين ، ويذهب بالاعياء. ومن أدمن شمه : لم ينزل في عينيه الماء. وإذا استعط (٤) بمائه مع دهن اللوز المر : فتح سدد المنخرين ، ونفع من الريح العارضة فيها وفى الرأس.

٤ ـ ( ملح ). روى ابن ماجة في سننه ـ من حديث أنس ، يرفعه ـ : « سيد إدامكم : الملح ». وسيد الشئ هو : الذي يصلحه ويقوم عليه. وغالب الادام إنما يصلح بالملح.

وفى مسند البزار مرفوعا : « سيوشك أن تكونوا في الناس كالملح (٥) في الطعام ، ولا يصلح الطعام إلا بالملح ».

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد. أي : يخرج. كما في القاموس ٢ / ٢٨٣. وبالاحكام ـ والزيادة السابقة عنها ـ : ويغشى. وهو تصحيف.

(٢) كذا بالأصل والزاد ١٩٣ ، والاحكام ٢ / ١٠٨. والزيادة الآتية عنها. وراجع القاموس ٢ / ٢٨٧ للأهمية.

(٣) كذا بالأحكام ١٠٩ وبالأصل والزاد : الدم العارض. ولا يبعد تصحيفه عن « الدمع » ، فتأمل. على ما يظهر.

(٤) كذا بالأصل والاحكام. وبالزاد : سعط. وكل صحيح على ما في القاموس ٢ / ٣٦٤.

(٥) كذا بالأصل والاحكام. وفى الزاد : مثل الملح.

٣٠٩

وذكر البغوي في تفسيره ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، مرفوعا (١) ـ : « إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد ، والنار ، والماء والملح ». والموقوف أشبه.

الملح يصلح أجسام الناس وأطعمتهم ، ويصلح كل شئ يخالطه حتى الذهب والفضة. وذلك : أن فيه قوة تزيد الذهب صفرة ، والفضة بياضا. وفيه جلاء وتحليل ، وإذهاب للرطوبات الغليظة وتنشيف لها ، وتقوية للأبدان ومنع من عفونتها وفسادها ، ونفع من الجرب المتقرح.

وإذا اكتحل به : قلع اللحم الزائد من العين ، ومحق الصفرة. والاندراني أبلغ في ذلك ، ويمنع القروح الخبيثة من الانتشار ، ويحدر البراز. وإذا دلك به بطون أصحاب الاستسقاء : نفعهم. وينقى الأسنان ، ويدفع عنها العفونة ، ويشد اللثة ويقويها. ومنافعه كثيرة ( جدا ) (٢).

حرف النون

١ ـ ( نخل ). مذكور في القرآن في غير موضع. وفى الصحيحين ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : « بينا نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ( جلوس ) : إذ أتى بجمار نخلة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن من الشجر (٣) شجرة مثلها مثل الرجل المسلم : لا يسقط ورقها ، أخبروني : ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي. فوقع في نفسي : أنها النخلة ، فأردت أن أقول : هي النخلة ، ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم سنا : فسكت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هي النخلة. فذكرت ذلك لعمر ، فقال : لان تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا ».

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد. وهو صحيح على ما في الاحكام ٢ / ١١٠ ، والفتح الكبير ١ / ٣٢٦. وإن كان يعكر عليه قوله الآتي : والموقوف. فتأمل. ولعله قد سقط شئ من الأصل.

(٢) زيادة عن الزاد.

(٣) كذا بالزاد ، والاحكام ٢ / ١١٢ ، والفتح الكبير ١ / ٤٠٨. وبالأصل : الشجرة. ولعله تحريف والزيادة. السابقة عن الاحكام.

٣١٠

( ففي هذا الحديث ) : إلقاء العالم المسائل على أصحابه وتمرينهم ، واختبار ما عندهم. ( وفيه ) : ضرب الأمثال والتشبيه. ( وفيه ) ما كان عليه الصحابة : من الحياء من أكابرهم وأجلائهم ، وإمساكهم عن الكلام بين أيديهم. ( وفيه ) : فرح الرجل بإصابة ولده وتوفيقه للصواب. ( وفيه ) : أنه لا يكره للولد أن يجيب بما عرف بحضرة أبيه ، وإن لم يعرفه (١) الأب. وليس في ذلك إساءة أدب عليه. ( وفيه ) ما تضمنه تشبيه المسلم بالنخلة : من (٢) كثرة خيرها ، ودوام ظلها ، وطيب ثمرها ، ووجوده على الدوام.

وثمرها يؤكل رطبا ويابسا وبلحا ويانعا. وهو غذاء ودواء ، وقوت وحلوى ، وشراب وفاكهة. وجذوعها للبناء والآلات والأواني. ويتخذ من خوصها : الحصر والمكاتل والأواني والمراوح ، وغير ذلك. ومن ليفها : الحبال والحشايا ، وغيرها. ثم آخر شئ (٣) : نواها علف للإبل ، ويدخل في الأدوية والاكحال. ثم جمال ثمرتها ونباتها ، وحسن هيأتها ، وبهجة منظرها ، وحسن نضد ثمرها وصنعته وبهجته ، ومسرة النفوس عند رؤيته. فرؤيتها مذكرة لفاطرها وخالقها وبديع صنعته ، وكمال قدرته ، وتمام حكمته. ولا شئ أشبه بها من الرجل المؤمن : إذ هو خير كله ، ونفع ظاهر وباطن.

وهى الشجرة التي حن جذعها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما فارقه : شوقا إلى قربه وسماع كلامه (٤). وهى التي نزلت تحتها مريم لما ولدت عيسى.

وقد ورد في حديث ـ في إسناده نظر ـ : « أكرموا عمتكم النخلة : فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم » (٥).

__________________

(١) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وبالأصل : يعرف.

(٢) كذا بالأصل. وبالزاد : وكثرة. والظاهر أنه تحريف.

(٣) بالأحكام : « شئ منها نواها ، يستعمل في الأدوية والاكحال ... وينتفع به علفا ».

(٤) راجع في هذا المقام : آداب الشافعي (ص ٨٣ و ٣٣٠).

(٥) راجع : الاحكام ٢ / ١١١ ، والفتح الكبير ١ / ٢٢٧.

٣١١

وقد اختلف الناس في تفضيلها على الحبلة أو بالعكس ، على قولين. وقد قرن الله بينهما في كتابه ، في غير موضع. وما أقرب أحدهما من صاحبه! وإن كان كل واحد منهما ـ في محل سلطانه ومنبته ، والأرض التي توافقه ـ أفضل وأنفع.

٢ ـ ( نرجس ). فيه حديث (١) لا يصح : « عليكم شم النرجس. فإن في القلب حبة الجنون والجذام والبرص ، لا يقطعها إلا شم النرجس ».

وهو حار يابس في الثانية. وأصله يدمل القروح الغائرة إلى العصب. وله قوة غسالة جالبة (٢) جابذة. وإذا طبخ وشرب ماؤه ، أو أكل مسلوقا : ـ هيج القئ ، وجذب الرطوبة من قعر المعدة ، وإذا طبخ مع الكرسنة والعسل : نقى أوساخ القروح ، وفجر الدبيلات العسرة النضج.

وزهره معتدل الحرارة لطيف : ينفع الزكام البارد. وفيه تحليل قوى ، ويفتح سدد الدماغ والمنخرين ، وينفع من الصداع الرطب والسوداوي ، ويصدع الرؤوس الحارة. والمحرق منه إذا شق بصله صليبا وغرس : صار مضاعفا. ومن أدمن (٣) شمه في الشتاء : أمن من البرسام في الصيف. وينفع من أوجاع الرأس الكائنة من البلغم والمرة السوداء. وفيه من العطرية (٤) : ما يقوى القلب والدماغ ، وينفع من كثير من أمراضها. وقال صاحب التيسير (٥) : « شمه يذهب بصرع الصبيان ».

٣ ـ ( نورة ). روى ابن ماجة ـ من حديث أم سلمة رضي الله عنها : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا طلى : بدأ بعورته فطلاها بالنورة ، وسائر جسده ». وقد ورد فيها عدة أحاديث هذا أمثلها.

__________________

(١) ذكره صاحب الوسيلة على ما في الاحكام ٢ / ١١٣.

(٢) بالأصل والزاد ١٩٤ : جالية. أي مذهبة على ما في المختار. ولعله مصحف عما أثبتناه. وبالاحكام : جالبة جاذبة. و « جابذة » مقلوبة جاذبة كما في المختار.

(٣) بالأحكام زيادة : على. ولعلها من الناسخ. انظر : المختار والمصباح (دمن).

(٤) كذا بالزاد والاحكام. وبالأصل العطر. وهو تحريف.

(٥) هو : ابن زهر. على ما في الاحكام. وذكر النص فيه بزيادة مفيدة.

٣١٢

وقد قيل (١) : إن أول من دخل الحمام ، وصنعت له النورة ـ : سليمان بن داود.

وأصلها : كلس جزآن ، وزرنيخ جزء ، يخلطان بالماء ، ويتركان في الشمس أو الحمام بقدر ما ينضج (٢) وتشتد زرقته. ثم يطلى به ، ويجلس ساعة ريثما يعمل ، ولا يمس بماء. ثم يغسل ، ويطلى مكانها بالحناء : لاذهاب ناريتها.

٤ ـ ( نبق ). ذكر أبو نعيم ـ في كتابه الطب النبوي ، مرفوعا ـ : « أن آدم لما هبط إلى الأرض ، كان أول شئ أكل من ثمارها النبق ».

وقد ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبق ـ في الحديث المتفق على صحته ـ : « أنه رأى سدرة المنتهى ليلة أسرى به : وإذا نبقها مثل قلال هجر ».

والنبق : ثمر شجر السدر ، يعقل الطبيعة ، وينفع من الاسهال ، ويدبغ المعدة ، ويسكن الصفراء ، ويغذو البدن ، ويشهى الطعام ، ويولد بلغما ، وينفع الذرب الصفراوي. وهو بطئ الهضم. وسويقه يقوى الحشا. وهو يصلح الأمزجة الصفراوية. وتدفع مضرته بالشهد.

واختلف فيه : هل هو رطب؟ أو يابس؟ على قولين. والصحيح : أن رطبه بارد رطب ، ويابسه بارد يابس (٣)

حرف الهاء

١ ـ ( هندبا ). ورد فيه ثلاثة أحاديث ـ لا تصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل هي مرفوعة ـ :

( أحدها ) : « كلوا الهندباء ، ولا تنفضوه (٤). فإنه ليس يوم من الأيام إلا وقطرات من الجنة تقطر عليه ».

__________________

(١) عن أبي موسى الأشعري مرفوعا ، كما في الاحكام ٢ / ٢٥ و ١١٤ والفتح الكبير ١ / ٤٧٠

(٢) بالأصل والزاد : تنضج. وبالاحكام : ينطبخ.

(٣) راجع : الاحكام ٢ / ١١١.

(٤) كذا بالأحكام ٢ / ٦٤. وبالأصل والزاد : تنقضوه (بالقاف). وهو تصحيف.

٣١٣

( الثاني ) : « من أكل الهندبا ، ثم نام عليه : لم يحل فيه سم ولا سحر ».

( الثالث ) : « ما من ورقة ـ من ورق الهندبا ـ إلا وعليها قطرة من الجنة ».

وبعد : فهي مستحيلة المزاج ، منقلبة بانقلاب فصول السنة : فهي في الشتاء باردة رطبة ، وفى الصيف حارة يابسة ، وفى الربيع والخريف معتدلة ، وفى غالب أحوالها تميل إلى البرودة واليبس. وهى قابضة مبردة ، جيدة للمعدة. وإذا طبخت وأكلت بخل : عقلت البطن وخاصة البرى منها. فهي أجود للمعدة وأشد قبضا ، وتنفع من ضعفها.

وإذا ضمد بها : سكنت الالتهاب العارض في المعدة ، وتنفع من النقرس ، ومن أورام العين الحارة. وإذا تضمد بورقها وأصولها : نفعت من لسع العقرب.

وهى تقوى المعدة ، وتفتح السدد العارضة في الكبد ، وتنفع من أوجاعها حارها وباردها ، وتفتح سدد الطحال والعروق والاحشاء ، وتنقى مجارى الكلى.

وأنفعها للكبد أمرها. وماؤها المعتصر ينفع من اليرقان السددي ، ولا سيما إذا خلط به ماء الرازيانج الرطب. وإذا دق ورقها ، ووضع على الأورام الحارة ـ : بردها وحللها ، ويجلو ما في الصدر ، ويطفئ حرارة الدم والصفراء.

وأصلح ما أكلت غير مغسولة ولا منفوضة (١) : لأنها متى غسلت أو نفضت (١) ، فارقتها قوتها. وفيها ـ مع ذلك ـ قوة ترياقية تنفع من جميع السموم.

وإذا اكتحل بمائها : نفع من الغشاء (٢). ويدخل ورقها في الترياق ، وينفع من لدغ العقرب ، ويقاوم أكثر السموم. وإذا اعتصر ماؤها ، وصب عليه الزيت ـ ، خلص من الأدوية القتالة كلها. وإذا اعتصر أصلها وشرب ماؤه : نفع من لسع الأفاعي ، ولسع العقرب ، ولسع الزنبور. ولبن أصلها يجلو بياض العين.

__________________

(١) كذا بالأحكام. وصحف في الأصل والزاد بالقاف.

(٢) بالأصل : الغشا. وبالزاد ١٩٥ : العشا. وأصله ما أثبتناه. وبالاحكام ٦٣ : الغشاوة. ومعناهما : الغطاء. كما في المصباح.

٣١٤

حرف الواو

١ ـ ( ورس ). ذكر الترمذي في جامعه ـ من حديث زيد بن أرقم ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « أنه كان ينعت الزيت والورس ، من ذات الجنب » ، قال قتادة : « يلد به ، ويلد من الجانب الذي يشتكيه ». وروى ابن ماجة في سننه ـ من حديث زيد بن أرقم أيضا ـ قال : « نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من ذات الجنب ، ورسا وقسطا وزيتا : يلد به ».

وصح عن أم سلمة رضي الله عنها ، قالت : « كانت النفساء تقعد بعد نفاسها أربعين يوما ، وكانت إحدانا تطلى الورس على وجهها من الكلف ».

قال أبو حنيفة اللغوي : « الورس يزرع زرعا ، وليس ببرى (١). ولست أعرفه بغير أرض العرب ، ولا من أرض بغير بلاد اليمن ».

وقوته في الحرارة واليبوسة : في أول الدرجة الثانية. وأجودها : الأحمر اللين في اليد (٢) ، القليل النخالة. ينفع من الكلف والحكة والبثور الكائنة في سطح البدن : إذا طلى به. وله قوة قابضة صابغة. وإذا شرب : نفع من الوضح. ومقدار الشربة منه : وزن درهم.

وهو ـ في مزاجه ومنافعه ـ قريب من منافع القسط البحري. وإذا لطخ به على البهق والحكة والبثور والسعفة : نفع منها. والثوب المصبوغ بالورس يقوى على الباه.

٢ ـ ( وسمة ). هي : ورق النيل. وهى تسود الشعر.

وقد تقدم قريبا (٣) ذكر الخلاف : في جواز الصبغ بالسواد ، ومن فعله.

حرف الياء

١ ـ ( يقطين ) وهو الدباء والقرع ، وإن كان اليقطين أعم. فإنه في اللغة : كل

__________________

(١) كذا بالزاد والاحكام ٢ / ٦٤. وبالأصل : يبرى. وهو تصحيف.

(٢) كذا بالأصل والاحكام ٦٥. وبالزاد : اللين القليل.

(٣) ص ٢٨٥ ـ ٢٨٦ وراجع في المقام كله : الاحكام ٢ / ٦٥ ـ ٦٧.

٣١٥

شجرة (١) لا تقوم على ساق ، كالبطيخ والقثاء والخيار. قال الله تعالى : ( وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ).

فإن قيل : مالا يقوم على ساق يسمى نجما ، لا شجرا. والشجر : ماله ساق. قاله أهل اللغة. فكيف قال : (شجرة من يقطين)؟.

فالجواب : أن الشجر إذا أطلق : كان ماله ساق يقوم عليه ، وإذا قيد بشئ : تقيد به. فالفرق بين المطلق والمقيد في الأسماء باب مهم عظيم النفع في الفهم ومراتب اللغة. واليقطين المذكور في القرآن هو : نبات الدباء ، وثمره يسمى : الدباء والقرع وشجرة اليقطين.

وقد ثبت في الصحيحين ـ من حديث أنس بن مالك رضى (٢) الله عنه : « أن خياطا دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لطعام صنعه. (قال أنس) : فذهبت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرب إليه خبزا من شعير ، ومرقا فيه دباء وقديد (٣). (قال أنس) : فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتتبع الدباء من حوالي الصحفة ، فلم أزل أحب الدباء من ذلك اليوم ».

وقال أبو طالوت : « دخلت على أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ : وهو يأكل القرع ، ويقول : يا لك من شجرة ما أحبك إلي! لحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياك ».

وفى الغيلانيات ـ من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ـ قالت : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « يا عائشة ، إذا طبختم قدرا : فأكثروا فيها من الدباء ، فإنها تشد قلب الحزين ».

اليقطين بارد رطب ، يغذو غذاء يسيرا. وهو سريع الانحدار. وإن لم يفسد قبل الهضم : تولد منه خلط محمود. ومن خاصيته : أنه يتولد منه خلط محمود مجانس لما يصحبه. فإن أكل بالخردل : تولد منه خلط حريف ، وبالملح خلط مالح ، ومع القابض قابض. وإن طبخ بالسفرجل : غذا البدن غذاء جيدا.

__________________

(١) كذا بالأصل والاحكام ٧٩. وبالزاد : شجر. ولعله تحريف.

(٢) جملة الدعاء لم ترد بالزاد هنا ، ووردت فيه بعد قوله الآتي : أنس.

(٣) كذا بالزاد. وبالأصل : وقديدا. ولعله محرف.

٣١٦

وهو لطيف مائي : يغذو غذاء رطبا بلغميا ، وينفع المحرورين ، ولا يلائم المبرودين ومن الغالب عليهم البلغم. وماؤه يقطع العطش ، ويذهب الصداع الحار : إذا شرب أو غسل به الرأس. وهو ملين للبطن كيف استعمل. ولا يتداوى المحرورون بمثله ولا أعجل منه نفعا.

ومن منافعه : أنه إذا لطخ بعجين ، وشوى في الفرن أو التنور ، واستخرج ماؤه ، وشرب ببعض الأشربة اللطيفة ـ : سكن حرارة الحمى الملتهبة ، وقطع العطش ، وغذا غذاء حسنا. وإذا شرب بترنجبين وسفرجل (١) مربى : أسهل صفراء محضة.

وإذا طبخ القرع ، وشرب ماؤه بشئ من عسل وشئ من نطرون ـ : أحدر بلغما ومرة معا. وإذا دق وعمل منه ضماد على اليافوخ : نفع من الأورام الحارة في الدماغ.

وإذا عصرت جرادته ، وخلط ماؤها بدهن الورد ، وقطر منها في الاذن ـ : نفعت من الأورام الحارة. وجرادته نافعة من أورام العين الحارة ، ومن النقرس الحار (٢).

وهو شديد النفع لأصحاب الأمزجة الحارة والمحمومين. ومتى صادف في المعدة خلطا رديئا : استحال إلى طبيعته وفسد ، وولد في البدن خلطا رديئا. ودفع مضرته : بالخل والمري.

وبالجملة : فهو من ألطف الأغذية وأسرعها انفعالا. ويذكر عن أنس رضي الله عنه : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكثر من أكله ».

( فصل ) وقد رأيت أن أختم الكلام في هذا الباب ، بفصل مختصر عظيم النفع في المحاذير (٣) والوصايا الكلية النافعة. لتتم منفعة الكتاب.

ورأيت لابن ماسويه فصلا في كتاب « المحاذير » نقلته بلفظه. قال (٤) : « من أكل البصل أربعين يوما ، وكلف ( وجهه ) ، فلا يلومن إلا نفسه. ومن افتصد فأكل

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد : ١٩٦. وبالاحكام ٢ / ٨٠ : وبنفسج.

(٢) كذا بالزاد والاحكام. وبالأصل : الحارة. وهو تحريف.

(٣) بالزاد : « المحاذر ... ليتم » وهو تحريف.

(٤) كما في الاحكام ٢ / ١٤ ـ ١٥ : باختلاف ، أو نقص ، أو زيادة أثبتنا بعضها.

٣١٧

مالحا ، فأصابه بهق أو جرب ، فلا يلومن إلا نفسه. ومن جمع في معدته البيض والسمك ، فأصابه فالج أو لقوة ، فلا يلومن إلا نفسه. ومن دخل الحمام وهو ممتلئ فأصابه فالج ، فلا يلومن إلا نفسه. ومن جمع في معدته اللبن والسمك ، فأصابه جذام أو برص أو نقرس ، فلا يلومن إلا نفسه. ومن جمع في معدته اللبن والنبيذ ، فأصابه برص أو نقرس ، فلا يلومن إلا نفسه. ومن احتلم ، فلم يغتسل حتى وطئ أهله ـ فولدت مجنونا أو مخبلا ـ فلا يلومن إلا نفسه. ومن أكل بيضا مسلوقا (١) باردا ، وامتلا منه ـ فأصابه ربو ـ فلا يلومن إلا نفسه. ومن جامع ، فلم يصبر حتى يفرغ ـ فأصابه حصاة ـ فلا يلومن إلا نفسه. ومن نظر في المرآة ليلا ـ فأصابه لقوة ، أو أصابه داء ـ فلا يلومن إلا نفسه ».

( فصل ) وقال ابن بختيشوع (٢) : « احذر أن تجمع بين البيض والسمك : فإنهما يورثان القولنج و ( أرياح ) البواسير ، ووجع الأضراس. وإدامة أكل البيض تولد (٣) الكلف في الوجه. وأكل (٤) الملوحة والسمك المالح والافتصاد بعد الحمام ، يولد البهق والجرب. وإدامة أكل كلي الغنم يعقر المثانة. الاغتسال بالماء البارد ، بعد أكل السمك الطري ، يولد الفالج. وطئ (٥) المرأة الحائض ، يولد الجذام. الجماع من غير أن يهريق الماء عقيبه ، يولد الحصاة. طول المكث في المخرج ، يولد الداء الدوى ».

وقال (٦) أبقراط : « الاقلال من الضار ، خير من الاكثار من النافع ». وقال : « استديموا (٧) الصحة بترك التكاسل عن التعب ، وبترك الامتلاء من الطعام والشراب ».

__________________

(١) كذا بالأحكام. وبالأصل والزاد : مصلوقا. وانظر ما تقدم : (ص ٢٨٠).

(٢) كما في الاحكام ١٥ : باختلاف. والزيادة الآتية عنها.

(٣) بالزاد والاحكام : يولد. وكل صحيح.

(٤) بالزاد : أكل. وبالاحكام : أكل الملوخية. وبه تصحيف.

(٥) بالأحكام : لبن!.

(٦) بالزاد : قال. وهذا النص وما يليه : في طبقات الأطباء ١ / ٣٠ ، والاحكام ٢ / ١١ ـ ١٢.

(٧) كذا بالزاد. وبالأصل : استدعوا. وهو تصحيف. وعبارة الطبقات والاحكام : استدامة الصحة تكون.

٣١٨

وقال بعض الحكماء : « من أراد الصحة : فليجود الغذاء ، وليأكل على نقاء ، وليشرب على ظمإ (١) وليقلل من شرب الماء ، ويتمدد بعد الغداء ، ويتمش (٢) بعد العشاء ، ولا ينم (٣) حتى يعرض نفسه على الخلاء ، وليحذر دخول الحمام عقيب الامتلاء. ومرة في الصيف خير من عشر (٤) في الشتاء ، وأكل القديد اليابس بالليل معين على الفناء ، ومجامعة العجائز تهرم أعمار الاحياء ، وتسقم أبدان الأصحاء ». ويروى هذا عن علي كرم الله وجهه. ولا يصح عنه ، وإنما بعضه من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب ، وكلام غيره (٥).

وقال الحرث : « من سره البقاء ـ : ولا بقاء ـ فليباكر الغداء (٦) ، وليعجل (٧) العشاء ، وليخفف الرداء ، وليقل (٨) غشيان النساء ».

وقال الحرث : « أربعة أشياء تهدم البدن : الجماع (٩) على البطنة ، ودخول الحمام على الامتلاء ، وأكل القديد ، وجماع العجوز ».

ولما احتضر الحرث : اجتمع إليه الناس ، فقالوا : مرنا بأمر ننتهي إليه من بعدك. فقال : « لا تتزوجوا من النساء إلا شابة ، ولا تأكلوا من الفاكهة إلا في أوان نضجها ، ولا يتعالجن أحدكم ما احتمل بدنه الداء. وعليكم بتنظيف المعدة في كل شهر : فإنها مذيبة للبلغم ، مهلكة للمرة ، منبتة للحم. وإذا تغدى (١٠) أحدكم : فلينم على إثر غدائه (١٠) ساعة. وإذا تعشى : فليمش أربعين خطوة ».

__________________

(١) كذا بالزاد وطبقات الأطباء ١ / ١١٢. وبالأصل : ظماء. وهو محرف عنه أو عن « إظماء ». انظر : المصباح.

(٢) كذا بالزاد وهو الصواب. وبالأصل : « الغذاء ويتمشى ». وبالطبقات : « الغداء ويتمشى ».

(٣) بالطبقات : يبيت. وبالأصل والزاد : ينام. والملائم ما أثبتنا.

(٤) كذا بالزاد والطبقات. وبالأصل : عشرة : وهو تحريف.

(٥) راجع الطبقات.

(٦) كذا بالطبقات. وصحف في الأصل والزاد بالذال.

(٧) في رواية أخرى بالطبقات : « فليكر » ، أي فليؤخر. وما هنا أصح.

(٨) بالأصل زيادة « من ». وحذفها أولى على ما في القاموس : ٤ / ٤٠.

(٩) بالطبقات : الغشيان. والمعنى واحد.

(١٠) كذا بالزاد ١٩٧. وصحف في الأصل بالذال.

٣١٩

وقال بعض الملوك لطبيبه : لعلك لا تبقى لي ، فصف لي صفة آخذها عنك. فقال : « لا تنكح إلا شابة ، ولا تأكل من اللحم إلا فتيا ، ولا تشرب الدواء إلا من علة ، ولا تأكل الفاكهة إلا في نضجها. وأجد مضغ الطعام. وإذا أكلت نهارا : فلا بأس أن تنام. وإذا أكلت ليلا : فلا تنم حتى تمشى ولو خمسين خطوة. ولا تأكلن حتى تجوع ، ولا تتكارهن على الجماع ، ولا تحبس البول. وخذ من الحمام قبل أن يأخذ (١) منك. ولا تأكلن طعاما : وفى معدتك طعام. وإياك أن تأكل ما تعجز (٢) أسنانك عن مضغه ، فتعجز معدتك عن هضمه. وعليك في كل أسبوع بقيئة تنقى جسمك. ونعم الكنز الدم في جسدك ، فلا تخرجه إلا عند الحاجة إليه. وعليك بدخول الحمام : فإنه يخرج من الاطباق ما لا تصل الأدوية إلى إخراجه ».

وقال الشافعي رحمه الله تعالى (٣) : أربعة تقوى البدن : أكل اللحم ، وشم الطيب ، وكثر الغسل من غير جماع ، ولبس الكتان. وأربعة توهن البدن : كثرة الجماع ، وكثرة الهم ، وكثرة شرب الماء على الريق ، وكثرة أكل الحامض. وأربعة تقوى البصر : الجلوس تجاه الكعبة ، والكحل عند النوم ، والنظر إلى الخضرة ، وتنظيف المجلس. وأربعة توهن البصر : النظر إلى القذر ، وإلى المصلوب ، وإلى فرج المرأة ، والقعود مستدبر القبلة. وأربعة تزيد في الجماع : أكل العصافير ، والإطريفل (٤) ( الأكبر ) ، والفستق ، والخروب. وأربعة تزيد في العقل : ترك الفضول من الكلام ، والسواك ، ومجالسة الصالحين ، ومجالسة العلماء ».

وقال أفلاطون : « خمس يذبن البدن ـ وربما قتلن ـ : قصر ذات اليد ، وفراق الأحبة ، وتجرع المغايظ ، ورد النصح ، وضحك ذوي الجهل بالعقلاء ».

__________________

(١) كذا بالزاد. وبالأصل : تأخذ. وهو تصحيف.

(٢) بالأصل والزاد : يعجز!.

(٣) كما في حياة الحيوان ( ٢ / ١٤٥ : بولاق ) باختلاف وزيادة ذكرنا بعضها. وانظر : آداب الشافعنى ٣٢٣ ، والآداب الشرعية ٢ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

(٤) كذا بالأصل والزاد وحياة الحيوان ، وتاج العروس ٧ / ٤١٦. وهو الوارد بلفظ « طرفل » ( بفتح الطاء والفاء ، وسكون الراء ) : في اللسان ١٣ / ٤٢٥.

٣٢٠