الطبّ النبوي

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الطبّ النبوي

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : الطّب
المطبعة: دار إحياء الكتب العربية ـ قاهرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٤

وفى المسند أيضا ، عن ابن عباس ، قال : « جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، هلكت. فقال : وما الذي أهلكك؟ قال : حولت رحلي البارحة. ( قال ) : فلم يرد عليه شيئا ، فأوحى الله إلى رسوله : ( نساؤكم حرث لكم ، فأتوا حرثكم أنى شئتم ) ، أقبل وأدبر ، واتق الحيضة؟؟ والدبر ».

وفى الترمذي ـ عن ابن عباس مرفوعا ـ : « لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر ».

وروينا ـ من حديث أبي على الحسن بن الحسين بن دوما ، عن البراء بن عازب يرفعه ـ : « كفر بالله العظيم عشرة من هذه الأمة : القاتل ، والساحر ، والديوث ، وناكح المرأة في دبرها ، ومانع الزكاة ، ومن وجد سعة : فمات ولم يحج ، وشارب الخمر ، والساعي في الفتن ، وبائع السلاح من أهل الحرب ، ومن نكح ذات محرم منه ».

وقال عبد الله بن وهب : حدثنا عبد الله ( بن ) (١) لهيعة ، عن مشرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : « ملعون من يأتي النساء في محاشهن » ، يعنى : أدبارهن.

وفى مسند الحرث بن ( أبى ) (١) أسامة ـ من حديث أبي هريرة ، وابن عباس ـ قالا : « خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل وفاته ، وهى آخر خطبة خطبها بالمدينة حتى لحق بالله عز وجل ، وعظنا فيها وقال : ـ من نكح امرته في دبرها ، أو رجلا أو صبيا : حشر يوم القيامة : وريحه أنتن من الجيفة ، يتأذى به الناس حتى يدخل النار ، وأحبط الله أجره ، ولا يقبل منه صرفا ولا عدلا ، ويدخل في تابوت من نار ، ويسد (٢) عليه بمسامير من نار ». قال أبو هريرة : هذا لمن لم يتب.

__________________

(١) زيادة متعينة عن الزاد ، وانظر الرسالة المستطرفة للكتاني : ( ص ٥٠ ).

(٢) بالزاد : ويشد عليه مسامير. والظاهر ما في الأصل.

٢٠١

وذكر أبو نعيم الأصبهاني ـ من حديث خزيمة بن ثابت يرفعه ـ : « إن الله لا يستحى من الحق ، لا تأتوا النساء في أعجازهن ».

وقال الشافعي (١) : « أخبرني عمى محمد بن علي بن شافع ، قال : أخبرني عبد الله بن علي ابن السائب ، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح ، عن خزيمة بن ثابت ـ : « أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن ، فقال : حلال. فلما ولى دعاه ، فقال : كيف قلت؟ في أي الخربتين (٢)؟ أو في أي الخرزتين؟ أو في أي الخصفتين؟ أمن دبرها في قبلها : فنعم ، أما (٣) من دبرها في دبرها : فلا. فإن (٤) الله لا يستحى من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن ».

قال الربيع : « فقيل للشافعي : فما تقول؟ فقال : عمى ثقة ، وعبد الله بن علي ثقة ، وقد أثنى على الأنصاري (٥) خيرا (يعنى : عمرو بن الجلاح) ، وخزيمة ممن لا يشك في ثقته ، فلست أرخص فيه ، بل أنهى عنه ».

قلت : ومن ههنا ، نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة : من السلف والأئمة فإنهم أباحوا : أن يكون الدبر طريقا إلى الوطئ في الفرج ، فيطأ من الدبر ، لا في الدبر. فاشتبه على السامع : من نفى ، أو لم يظن بينهما فرقا. فهذا الذي أباحه السلف والأئمة ، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه (٦).

وقد قال تعالى : ( فأتوهن من حيث أمركم الله ) ، قال مجاهد : « سألت ابن عباس عن قوله تعالى : ( فأتوهن من حيث أمركم الله ) ، فقال : تأتيها من حيث

__________________

(١) كما في الام ٥ / ٨٤ و ١٥٦ ، والسنن الكبرى للبيهقي ٧ / ١٩٦ : ببعض اختلاف.

(٢) بالزاد : الحرثتين. ولعله تصحيف. وانظر : النهاية. والمراد من الألفاظ الثلاثة : الثقبان.

(٣) كذا بالسنن الكبرى. وهو الظاهر. وفى الأصل والزاد والام وبعض نسخ السنن : أم.

(٤) كذا بالأصل والام ١٥٦. وفى الزاد والسنن والام ٨٤ : إن.

(٥) كذا بالزاد. وفى الأصل : الأنصار. وهو تحريف. وعبارة الام والسنن هي : « وقد أخبرني محمد عن الأنصاري المحدث بها ، أنه (يعنى عبد الله) أثنى عليه (على الأنصاري) خيرا ».

(٦) انظر : آداب الشافعي وهامشه ٢١٦ ـ ٢١٧ و ٢٩٣ ، وتحفة العروس ١٦٦ ـ ١٦٩.

٢٠٢

أمرت أن تعتزلها. يعنى : في الحيض ». وقال علي بن طلحة عنه : « يقول : في الفرج ، ولا تعده إلى غيره ».

وقد دلت الآية على تحريم الوطئ في دبرها ، من وجهين :

( أحدهما ) : أنه إنما أباح إتيانها في الحرث ـ وهو موضع الولد ـ لا في الحش الذي هو موضع الأذى. وموضع الحرث هو المراد من قوله : ( من حيث أمركم الله ) الآية. قال تعالى (١) : ( فأتوا حرثكم أنى شئتم ). وإتيانها في قبلها من دبرها ، مستفاد من الآية أيضا. لأنه قال : ( أنى شئتم ) ، أي من حيث شئتم ، من أمام ، أو من خلف. قال ابن عباس : « ( فأتوا حرثكم ) يعنى : الفرج ».

وإذا كان الله حرم الوطئ في الفرج ، لأجل الأذى العارض ـ : فما الظن بالحش الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل ، والذريعة القريبة جدا من أدبار النساء ، إلى أدبار الصبيان.

( وأيضا ) : للمرأة (٢) حق على الزوج في الوطئ ، وطؤها في دبرها يفوت حقها ، ولا يقضى وطرها ، ولا يحصل مقصودها.

( وأيضا ) : فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ولم يخلق له ، وإنما لذي هيئ له الفرج. فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعا.

( وأيضا ) : فإن ذلك مضر بالرجل ، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء : من الفلاسفة وغيرهم. لان للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن ، وراحة الرجل منه. والوطئ في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء ، ولا يخرج كل المحتقن : لمخالفته للامر الطبيعي.

( وأيضا ) : يضر من وجه آخر ، وهو : إحواجه إلى حركات متعبة جدا ، لمخالفته للطبيعة.

( وأيضا ) : فإنه محل القذر والنجو ، فيستقبله الرجل بوجهه ، ويلابسه.

__________________

(١) هذا لم يرد بالزاد.

(٢) بالزاد : فللمرأة.

٢٠٣

( وأيضا ) : فإنه يضر بالمرأة جدا ، لأنه وارد غريب ، بعيد عن الطباع ، منافر لها غاية المنافرة.

( وأيضا ) : فإنه يحدث الهم والغم ، والنفرة عن الفاعل والمفعول.

( وأيضا ) : فإنه يسود الوجه ، ويظلم الصدر ، ويطمس نور القلب ، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء : يعرفها من له أدنى فراسة.

( وأيضا ) : فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد ، والتقاطع بين الفاعل والمفعول ولا بد.

( وأيضا ) : فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فسادا لا يكاد يرجى بعده صلاح ، إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح.

( وأيضا ) : فإنه يذهب بالمحاسن منهما ، ويكسوهما ضدها. كما يذهب بالمودة بينهما ، ويبدلهما بها تباغضا وتلاعنا.

( وأيضا ) : فإنه من أكبر أسباب زوال النعم ، وحلول النقم. فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله ، وإعراضه عن فاعله ، وعدم نظره إليه. فأي خير يرجوه بعد هذا؟ وأي شر يأمنه؟ وكيف حياة عبد قد حلت عليه لعنة الله ومقته ، وأعرض عنه بوجهه ، ولم ينظر إليه!.

( وأيضا ) : فإنه يذهب بالحياء جملة ، والحياء هو حياة القلوب ، فإذا فقدها القلب : استحسن القبيح ، واستقبح الحسن. وحينئذ : فقد استحكم فساده.

( وأيضا ) : فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله عليه (١) ، ويخرج الانسان عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئا من الحيوان ، بل هو طبع منكوس. وإذا نكس الطبع : انتكس القلب والعمل والهدى ، فيستطيب ـ حينئذ ـ الخبيث من الأعمال والهيئات ، ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره.

( وأيضا ) : فإنه يورث ـ من الوقاحة والجرأة ـ مالا يورثه سواه.

( وأيضا ) : فإنه يورث ـ من المهانة والسفال والحقارة ـ مالا يورثه غيره.

( وأيضا ) : فإنه يكسو العبد ـ من حلة المقت والبغضاء وازدراء (٢) الناس له

__________________

(١) هذا ليس بالزاد ١٥٠.

(٢) بالأصل : واذدراء. وهو تصحيف.

٢٠٤

واحتقارهم إياه ، واستصغارهم له ـ ما هو مشاهد بالحس. فصلاة الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة : في هديه واتباع ما جاء به ، وهلاك الدنيا والآخرة : في مخالفة هديه وما جاء به.

( فصل ) والجماع الضار نوعان : ضار شرعا ، وضار طبعا.

فالضار شرعا : المحرم. وهو مراتب بعضها أشد من بعض. والتحريم العارض منه أخف من اللازم : كتحريم الاحرام والصيام والاعتكاف ، وتحريم المظاهر منها قبل التكفير ، وتحريم وطئ الحائض ، ونحو ذلك. ولهذا لاحد في هذا الجماع.

وأما اللازم ، فنوعان : ( نوع ) لا سبيل إلى حلة البتة ، كذوات المحارم. فهذا من أضر الجماع ، وهو يوجب القتل حدا عند طائفة من العلماء : كأحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ وغيره. وفيه حديث مرفوع ثابت. ( والثاني ) : ما يمكن أن يكون حالا ، كالأجنبية. فإن كانت ذات زوج ، ففي وطئها حقان : حق لله ، وحق للزوج. فإن كانت مكرهة : ففيه ثلاثة حقوق. وإن كان لها أهل وأقارب ـ يلحقهم العار بذلك ـ : صار فيه أربعة حقوق. فإن كانت ذات محرم منه : صار فيه خمسون حقوق. فمضرة هذا النوع بحسب درجاته في التحريم.

وأما الضار طبعا ، فنوعان أيضا : نوع ضار بكيفته كما تقدم ، ونوع ضار بكميته ، كالاكثار منه : فإنه يسقط القوة ، ويضر بالعصب ، ويحدث الرعشة والفالج والتشنج ، ويضعف البصر وسائر القوى ، ويطفئ الحرارة الغريزية ، ويوسع المجارى ويجعلها مستعدة للفضلات المؤذية.

وأنفع أوقاته : ما كان بعد انهضام الغذاء في المعدة ، وفى زمان معتدل ، لا على جوع : فإنه يضعف الحار الغريزي ، ولا على شبع : فإنه يوجب أمراضا سددية ، ولا على تعب ، ولا إثر حمام ، ولا استفراغ ، ولا انفعال نفساني : كالغم والهم والحزن ، وشدة الفرح.

وأجود أوقاته : بعد هزيع من الليل ، إذا صادف انهضام الطعام. ثم يغتسل أو يتوضأ

٢٠٥

وينام عقبه : فيرجع (١) إليه قواه. وليحذر الحركة والرياضة عقبه : فإنها مضرة جدا.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج العشق

هذا مرض من أمراض القلب ، مخالف لسائر الأمراض : في ذاته وأسبابه وعلاجه. وإذا تمكن واستحكم : عز على الأطباء دواؤه ، وأعيا العليل داؤه.

وإنما حكاه الله سبحانه ـ في كتابه ـ عن طائفتين من الناس : من النساء ، وعشاق الصبيان المردان. فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسف. وحكاه عن قوم لوط فقال تعالى ـ إخبارا عنهم لما جاءت الملائكة لوطا ـ : ( وجاء أهل المدينة يستبشرون قال : إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ، واتقوا الله ولا تخزون. قالوا : أو لم ننهك عن العالمين؟! قال : هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين. لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون ).

وأما ما زعمه بعض من لم يقدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق قدره : « أنه ابتلى به في شأن زينب بنت جحش ، وأنه رآها فقال : سبحان مقلب القلوب! وأخذت بقلبه ، وجعل يقول لزيد بن حارثة : أمسكها. حتى أنزل الله عليه : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه : أمسك عليك زوجك واتق الله ، وتخفى في نفسك ما الله مبديه ، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) » ـ فظن هذا الزاعم : أن ذلك في شأن العشق ، وصنف بعضهم كتابا في العشق ، وذكر فيه عشق الأنبياء ، وذكر هذه الواقعة. وهذا من جهل هذا القائل بالقرآن وبالرسل وتحميله كلام الله مالا يحتمله ، ونسبته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما برأه الله منه. فإن زينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تبناه ، وكان يدعى : ابن محمد ـ وكانت زينب فيها شمم وترفع عليه ـ فشاور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلاقها ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أمسك عليك زوجك واتق الله ». وأخفى

__________________

(١) بالزاد ١٥٠ : فيراجع. ولعله تحريف.

٢٠٦

في نفسه أن يتزوجها إن طلقها زيد ، وكان يخشى من قالة الناس : إنه تزوج امرأة ابنه. لان زيدا كان يدعى ابنه. فهذا هو الذي أخفاه في نفسه ، وهذه هي الخشية من الناس التي وقعت له. ولهذا ذكر سبحانه هذه الآية : يعدد فيها نعمه عليه لا يعاتبه فيها ، وأعلمه أنه لا ينبغي له أن يخشى الناس فيما أحل الله له ، وأن الله أحق أن يخشاه. فلا يتحرج ما أحله له ، لأجل قول الناس. ثم أخبره : أنه سبحانه زوجه إياها بعد قضاء زيد وطره منها ، لتقتدى أمته ( به ) (١) في ذلك ، ويتزوج الرجل بامرأة ابنه من التبني ، لا امرأة ابنه لصلبه. ولهذا قال في آية التحريم : ( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) ، وقال في هذه السورة (٢) : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) ، وقال في أولها : ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ، ذلكم قولكم بأفواهكم). فتأمل هذا الذب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودفع (٣) طعن الطاعنين عنه. وبالله التوفيق.

نعم : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب نساءه ، وكان أحبهن إليه عائشة رضي الله عنها. ولم تكن تبلغ محبته لها ولا لاحد ـ سوى ربه ـ نهاية الحب ، بل صح عنه أنه قال : « لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا ، لاتخذت أبا بكر خليلا » ، وفى لفظ : « وإن صاحبكم خليل الرحمن ».

( فصل ) وعشق الصور إنما يبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى ، المعرضة عنه ، المتعوضة بغيره عنه. فإذا امتلا القلب من محبة الله والشوق إلى لقائه : دفع ذلك عنه مرض عشق الصور. ولهذا قال تعالى في حق يوسف : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين ). فدل على أن الاخلاص سبب لدفع العشق ، وما يترتب عليه : من السوء والفحشاء التي هي ثمرته ونتيجته. فصرف المسبب صرف لسببه.

__________________

(١) الزيادة عن الزاد ١٥١.

(٢) يعنى : سورة الأحزاب (٤٠) التي تعرضت لقصة زينب. لا سورة النساء التي اشتملت على آية التحريم : (٢٣).

(٣) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : وادفع. ولعله تحريف.

٢٠٧

ولهذا قال بعض السلف : « العشق : حركة قلب فارغ ». يعنى : ( فارغا ) (١) مما سوى معشوقه. قال تعالى : ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ، ان كادت لتبدى به ) ، أي : فارغا من كل شئ إلا من موسى ، لفرط محبتها له ، وتعلق قلبها به ، والعشق مركب من أمرين : استحسان للمعشوق ، وطمع في الوصول إليه. فمتى انتفى أحدهما : انتفى العشق.

وقد أعيت علة العشق على كثير من العقلاء ، وتكلم فيها بعضهم بكلام يرغب عن ذكره إلى الصواب. فنقول : قد استقرت حكمة الله عز وجل ـ في خلقه وأمره ـ على وقوع التناسب والتآلف بين الأشباه ، وانجذاب الشئ إلى موافقه ومجانسه بالطبع ، وهروبه من مخالفه ونفرته عنه بالطبع. فسر التمازج والاتصال في العالم العلوي والسفلى ، إنما هو : التناسب والتشاكل والتوافق. وسر التباين والانفصال إنما هو. بعدم التشاكل والتناسب. وعلى ذلك تمام الخلق والامر. فالمثل (٢) إلى مثله مائل وإليه صائر ، والضد عن ضده هارب وعنه نافر.

وقد قال تعالى : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها ). فجعل سبحانه علة سكون الرجل إلى امرأته ، كونها من جنسه وجوهره. فعلة السكون المذكور ـ وهو الحب ـ : كونها منه. فدل على أن العلة ليست بحسن الصورة ، ولا الموافقة في القصد والإرادة ، ولا في الخلق والهدى. وإن كانت هذه أيضا من أسباب السكون والمحبة.

وقد ثبت في الصحيح ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ». وفى مسند الإمام أحمد ، وغيره ـ في سبب هذا الحديث ـ : « أن امرأة بمكة (كانت) (٣) تضحك الناس ، فجاءت إلى المدينة ، فنزلت على امرأة تضحك الناس. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأرواح جنود مجندة » الحديث.

وقد استقرت شريعته سبحانه : أن حكم الشئ حكم مثله ، فلا تفرق شريعته بين متماثلين أبدا ، ولا تجمع بين مضادين. ومن ظن خلاف ذلك : فإما لقلة علمه بالشريعة ،

__________________

(١) زيادة حسنة عن الزاد.

(٢) كذا بالزاد ١٥٢. وفى الأصل : والمثل. والمثبت أحسن.

(٣) زيادة جيدة عن الزاد.

٢٠٨

وإما لتقصيره في معرفة التماثل والاختلاف ، وإما لنسبته (١) إلى شريعته ما لم ينزل به سلطانا ، بل يكون من آراء الرجال. فبحكمته وعدله ظهر خلقه وشرعه ، وبالعدل والميزان قام الخلق والشرع ، وهو : التسوية بين المتماثلين ، والتفريق بين المختلفين. وهذا كما أنه ثابت في الدنيا ، فهو كذلك يوم القيامة. قال تعالى : ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا (٢) يعبدون ، من دون الله ، فاهدوهم إلى صراط الجحيم ). قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ وبعده الإمام أحمد رحمه الله ـ : « أزواجهم : أشباههم ونظراؤهم ». وقال تعالى : ( وإذا النفوس زوجت ) ، أي : قرن كل صاحب عمل بشكله ونظيره ، فقرن بين المتحابين في الله : في الجنة ، وقرن بين المتحابين في طاعة الشيطان : في الجحيم. فالمرء مع من أحب شاء أو أبى. وفى صحيح الحاكم وغيره ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « لا يحب المرء قوما إلا حشر معهم ».

والمحبة أنواع متعددة. فأفضلها وأجلها : المحبة في الله ولله ، وهى تستلزم محبة ما أحب الله ، وتستلزم محبة الله ورسوله ( ومنها ) : محبة الاتفاق في طريقة أو دين ، أو مذهب أو نحلة ، أو قرابة أو صناعة ، أو مراد ما. ( ومنها ) : محبة لنيل غرض من المحبوب إما من جاهه ، أو من ماله ، أو من تعليمه وإرشاده ، أو قضاء وطر منه. وهذه هي المحبة العرضية : التي تزول بزوال موجبها ، فإنه من ودك لأمر ولى عند انقضائه.

وأما محبة المشاكلة والمناسبة التي بين المحب والمحبوب ، فمحبة (٣) لازمة : لا تزول إلا لعارض يزيلها. ومحبة العشق من هذا النوع : فإنها استحسان روحاني ، وامتزاج نفساني ولا يعرض في شئ من أنواع المحبة ـ : من الوسواس والنحول ، وشغل البال والتلف. ـ ما يعرض من العشق.

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : النسبة. وهو تصحيف.

(٢) كذا بالزاد وسورة الصافات : (٢٢). وفى الأصل : كان. وهو تحريف.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : فمحبته. وهو تحريف.

(١٤ ـ الطب ـ النبوي)

٢٠٩

فإن قيل : فإذا كان سبب العشق ما ذكرتم ـ : من الاتصال والتناسب الروحاني ـ فما باله لا يكون دائما من الطرفين ، بل تجده كثيرا من طرف العاشق وحده؟ فلو كان سببه الاتصال النفسي ، والامتزاج الروحاني ـ : لكانت المحبة مشتركة بينهما.

فالجواب : أن السبب قد يتخلف عنه مسببه لفوات شرط ، أو لوجود مانع. وتخلف المحبة من الجانب الآخر ، لا بد أن يكون لاحد ثلاثة أسباب : ( الأول ) : علة في المحبة ، وأنها محبة عرضية (١) ، لا ذاتية. ولا يجب الاشتراك في المحبة العرضية (١) ، بل قد يلزمها نفرة من المحبوب. ( الثاني ) : مانع يقوم بالمحب ـ يمنع محبة محبوبه له ـ إما في خلقه ، أو خلقه ، أو هديه ، أو فعله ، أو هيأنه ، أو غير ذلك. ( الثالث ) : مانع يقوم بالمحبوب ، يمنع مشاركته للمحب في محبته. ولولا ذلك المانع : لقام به من المحبة ( لمحبه ) (٢) مثل ما قام بالآخر.

فإذا انتفت هذه الموانع ، وكانت المحبة ذاتية ـ : فلا يكون قط إلا من الجانبين.

ولولا مانع الكبر والحسد والرياسة والمعاداة في الكفار ، لكانت الرسل أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم. ولما زال هذا المانع من قلوب أتباعهم : كانت محبتهم لهم فوق محبة الأنفس والاهل والمال.

( فصل ) والمقصود : أن العشق لما كان مرضا من الأمراض ، كان قابلا للعلاج. وله أنواع من العلاج. فإن كان مما للعاشق سبيل إلى وصل محبوبه شرعا وقدرا ، فهو علاجه. كما ثبت في الصحيحين ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة : فليتزوج ، ومن لم يستطع : فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء ». فدل المحب على علاجين : أصلى وبدلي ، وأمره بالأصلي ـ وهو العلاج الذي وضع لهذا الداء ـ فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وجد إليه سبيلا.

وروى ابن ماجة في سننه ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « لم نر للمتحابين مثل النكاح ». وهذا هو (٣) المعنى الذي أشار إليه سبحانه ـ عقيب إحلال

__________________

(١) بالزاد : « غرضية .. الغرضية ». ولعله تصحيف مع صحته.

(٢) الزيادة عن الزاد.

(٣) هذا ليس بالزاد ١٥٣.

٢١٠

النساء حرائرهن وإمائهن عند الحاجة ـ بقوله : ( يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الانسان ضعيفا ). فذكر تخفيفه سبحانه (١) في هذا الموضع ، وإخباره عن ضعف الانسان ـ يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة ، وأنه سبحانه خفف عنه أمرها بما أباحه له : من أطايب النساء مثنى وثلاث ورباع ، وأباح له ما شاء : مما ملكت يمينه ، ثم أباح له أن يتزوج بالإماء ـ إن احتاج إلى ذلك ـ : علاجا لهذه الشهوة ، وتخفيفا عن هذا الخلق الضعيف. ورحمة به.

( فصل ) وإن كان لا سبيل للعاشق إلى وصال معشوقه قدرا أو شرعا ، أو هو ممتنع عليه من الجهتين ـ وهو الداء العضال ـ فمن علاجه : إشعار نفسه اليأس منه. فإن النفس متى يئست من الشئ : استراحت منه ، ولم نلتفت إليه.

فإن لم يزل مرض العشق مع اليأس ، فقد انحرف الطبع انحرافا شديدا : فينتقل إلى علاج آخر ، وهو علاج عقله : بأن يعلم بأن تعلق القلب بمالا مطمع في حصوله نوع من الجنون ، وصاحبه بمنزلة من يعشق الشمس : وروحه متعلقة بالصعود إليها ، والدوران معها في فلكها. وهذا معدود ـ عند جميع العقلاء ـ في زمرة المجانين.

وإن كان الوصال متعذرا شرعا لا قدرا ، فعلاجه : بأن ينزله منزلة المتعذر قدرا. إذ ما لم يأذن الله فيه ، فعلاج العبد ونجاته موقوف على اجتنابه. فليشعر نفسه : أنه معدوم ممتنع لا سبيل له إليه ، وأنه بمنزلة سائر المحالات.

فإن لم تجبه النفس الامارة ، فليتركه لاحد أمرين : إما خشية ، وإما فوات محبوب هو أحب إليه ، وأنفع له ، وخير له منه ، وأدوم لذة وسرورا. فإن العاقل متى وازن بين نيل محبوب سريع الزوال ، بفوات محبوب أعظم منه وأدوم وأنفع وألذ ، أو بالعكس ـ : ظهر له التفاوت. فلا تبع لذة الأبد ـ التي هي لا خطر لها ـ بلذة ساعة تنقلب آلاما ، وحقيقتها : أنها أحلام نائم ، أو خيال لا ثبات له. فتذهب اللذة ، وتبقى التبعة ، وتزول الشهوة ، وتبقى الشقوة.

__________________

(١) هذا ليس بالزاد.

٢١١

الثاني : حصول مكروه أشق عليه من فوات هذا المحبوب ، بل يجتمع له الأمران. أعنى : فوات ما هو أحب إليه من هذا المحبوب ، وحصول ما هو أكره إليه من فوات هذا المحبوب. فإذا تيقن أن في إعطاء النفس حظها من هذا المحبوب ، هذين الامرين ـ : هان عليه تركه ، ورأى أن صبره على فوته أسهل من صبره عليهما بكثير. فعقله ودينه ومروءته وإنسانيته : تأمره باحتمال الضرر اليسير ، الذي ينقلب سريعا لذة وسرورا وفرحا ، لدفع هذين الضررين العظيمين. وجهله وهواه وظلمه وطيشه وخفته : تأمره (١) بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه ، جالبا عليه ما جلب. والمعصوم من عصمه الله.

فإن لم تقبل نفسه هذا الدواء ، ولم تطاوعه لهذه المعالجة ـ : فلينظر ما تجلب عليه هذه الشهوة من مفاسد عاجلته (٢) ، وما تمنعه من مصالحها. فإنها أجلب شئ لمفاسد الدنيا ، وأعظم شئ تعطيلا لمصالحها. فإنها تحول بين العبد وبين رشده الذي هو ملاك أمره ، وقوام مصالحه.

فإن لم تقبل نفسه هذا الدواء : فليتذكر قبائح المحبوب ، وما يدعوه إلى النفرة عنه. فإنه إن طلبها وتأملها : وجدها أضعاف محاسنه التي تدعو إلى حبه. وليسأل جيرانه عما خفى عليه منها : فإن المحاسن كما هي داعية الحب والإرادة ، فالمساوى داعية البغض والنفرة. فليوازن بين الداعيين ، وليحب أسبقهما وأقربهما منه بابا. ولا يكن ممن غره لون جمال على جسم أبرص مجذوم ، وليجاوز بصره حسن (٣) الصورة إلى قبح الفعل ، وليعبر من حسن المنظر والجسم ، إلى قبح المخبر والقلب.

فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها : لم يبق له إلا صدق اللجأ (٤) إلى من يجيب المضطر إذا دعاه ، وليطرح نفسه بين يديه على بابه : مستغيثا به ، متضرعا متذللا مستكينا.

فمتى وفق لذلك : فقد قرع باب التوفيق. فليعف وليكتم ، ولا يشبب بذكر المحبوب ،

__________________

(١) بالزاد : يأمره. وكل صحيح كما لا يخفى.

(٢) كذا بالأصل والزاد. أي دنياه : فلا تتوهم أنه محرف عن « عاجلة ».

(٣) كذا بالزاد ١٥٤. وفى الأصل : من حسن. ولعل الزيادة من الناسخ أو الطابع. انظر المختار والمصباح : ( جوز ).

(٤) كذا بالزاد. وفى الأصل : اللجاء. وهو خطأ وتحريف على ما في المختار : ( لجأ ).

٢١٢

ولا يفضحه بين الناس ويعرضه للأذى ، فإنه يكون ظالما متعديا.

ولا يغتر بالحديث الموضوع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي رواه سويد بن سعيد ، عن علي بن مسهر ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورواه عن (١) ابن مسهر أيضا ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وراه الزبير بن بكار ، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون (٢) ، عن عبد العزيز بن حازم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « من عشق فعف فمات ، فهو شهيد » ، وفى رواية : « من عشق وكتم وعف وصبر ، غفر له الله وأدخله الجنة ».

فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يجوز أن يكون من كلامه. فإن الشهادة درجة عالية عند الله ، مقرونة بدرجة الصديقية ، ولها أعمال وأحوال هي (٣) شرط في حصولها. وهى نوعان : عامة وخاصة ، فالخاصة : الشهادة في سبيل الله. والعامة خمس مذكورة في الصحيح ليس العشق واحدا منها. وكيف يكون العشق ـ الذي هو شرك في المحبة ، وفراغ عن الله ، وتمليك القلب والروح والحب لغيره ـ تنال به درجة الشهادة؟! هذا من المحال : فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد ، بل هو خمر الروح : الذي يسكرها ، ويصدها عن ذكر الله وحبه ، والتلذذ بمناجاته ، والانس به ، ويوجب عبودية القلب لغيره. فإن قلب العاشق متعبد لمعشوقه ، بل العشق لب العبودية : فإنها كمال الذل والحب والخضوع والتعظيم. فكيف يكون تعبد القلب لغير الله ، مما تنال به درجة أفاضل الموحدين وساداتهم وخواص الأولياء؟! فلو كان إسناد هذا الحديث كالشمس : كان غلطا ووهما. ولا يحفظ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفظ العشق ، في حديث صحيح البتة.

ثم : إن العشق منه حلال ، ومنه حرام. فكيف يظن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه يحكم على كل

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : على. وهو تصحيف.

(٢) راجع الكلام عن هذا اللقب : في هامش آداب الشافعي ١١١ ـ ١١٢.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : وهى. ولعله تحريف.

٢١٣

عاشق يكتم ويعف بأنه شهيد؟! فترى من يعشق امرأة غيره ، أو يعشق المردان والبغايا ـ ينال بعشقه درجة الشهداء. وهل هذا إلا خلاف المعلوم من دينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كيف : والعشق مرض من الأمراض التي جعل الله سبحانه لها الأدوية شرعا وقدرا ، والتداوي منه إما واجب : إن كان عشقا حراما ، وإما مستحب؟! وأنت إذا تأملت الأمراض والآفات ـ التي حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابها بالشهادة ـ : وجدتها من الأمراض التي لا علاج لها ، كالمطعون والمبطون والمجبوب (١) والحريق والغريق ، وموت المرأة يقتلها ولدها في بطنها. فإن هذه بلايا من الله لا صنع للعبد فيها ، ولا علاج لها ، وليست أسبابها محرمة ، ولا يترتب عليها ـ : من فساد القلب ، وتعبده لغير الله. ـ ما يترتب على العشق.

فإن لم يكف هذا في إبطال نسبة هذا الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلد أئمة الحديث العالمين به وبعلله : فإنه لا يحفظ عن إمام واحد منهم قط ، أنه شهد له بصحة بل ولا بحسن (٢). كيف : وقد أنكروا على سويد هذا الحديث ، ورموه لأجله بالعظائم ، واستحل بعضهم غزوه لأجله.؟! قال أبو أحمد بن عدي في كامله : « هذا الحديث أحد ما أنكر على سويد » ، وكذلك قال البيهقي : « إنه مما أنكر عليه ». وكذلك قال ابن طاهر في الذخيرة وذكره الحاكم في تاريخ نيسابور ، وقال : « أنا أنعجب من هذا الحديث. فإنه لم يحدث به عن غير سويد ، وهو ثقة ». وذكره أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات. وكان أبوبكر الأزرق يرفعه أولا عن سويد ، فعوتب فيه : فأسقط ذكر (٣) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان لا يجاوز به ابن عباس رضي الله عنهما.

ومن المصائب التي لا تحتمل : جعل هذا الحديث من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن له أدنى إلمام بالحديث وعلله : لا يحتمل هذا البتة. ولا يحتمل أن يكون من حديث ابن الماجشون ، عن ابن أبي حازم ، عن ابن أبي نجيح ، عن

__________________

(١) بالزاد : والمجنون. وهو خطأ وتصحيف.

(٢) بالزاد : يحسن. وهو خطأ وتصحيف.

(٣) هذا ليس بالزاد ١٥٥. وإثباته أولى.

٢١٤

مجاهد ، عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) (١) مرفوعا. وفى صحته موقوفا على (٢) ابن عباس نظر.

وقد رمى الناس سويد بن سعيد ـ راوي هذا الحديث ـ بالعظائم ، وأنكره عليه يحيى بن معين ، وقال : « هو ساقط كذاب ، لو كان لي فرس ورمح : كنت أغزوه » وقال الإمام أحمد : متروك الحديث. وقال النسائي : ليس بثقة. وقال البخاري : « كان قد عمى ، فيلقن (٣) ما ليس من حديثه ». وقال ابن حبان : « يأتي بالمعضلات عن الثقات ، يجب مجانبة ما روى » انتهى. وأحسن ما قيل فيه قول أبى حاتم الرازي : « إنه صدوق كثير التدليس (٤) » ، ثم قول الدارقطني : « هو ثقة. غير أنه لما كبر كان ربما قرئ عليه حديث فيه بعض النكارة ، فيجيزه » انتهى. وعيب على مسلم إخراج حديثه : وهذه حاله. ولكن مسلم روى من حديثه : ما تابعه عليه غيره ولم ينفرد به ، ولم يكن منكرا ولا شاذا. بخلاف هذا الحديث. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حفظ الصحة بالطيب

لما كانت الرائحة الطيبة غذاء الروح ، والروح مطية القوى ، والقوى تزداد بالطيب ـ وهو ينفع الدماغ والقلب وسائر الأعضاء الباطنة ، ويفرح القلب ويسر النفس ، ويبسط (٥) الروح. وهو أصدق شئ للروح ، وأشده ملاءمة لها ، وبينه وبين الروح الطيبة نسبة قريبة ـ : كان أحد المحبوبين (٦) من الدنيا ، إلى أطيب الطيبين صلوات الله عليه وسلامه.

__________________

(١) الزيادة عن الزاد.

(٢) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : مرفوعا عن. وهو تصحيف ، فتأمل.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : فتلقن. ولعله تصحيف.

(٤) التدليس : إسقاط بعض رواة الحديث ترويجا له!. اه‍ ق. وانظر : مقدمة صحيح البخاري (ص ١١٢ ـ ١١٣ ط الفجالة).

(٥) كذا بالزاد. أي يسر. وفى الأصل : ينشط. ولعله تصحيف.

(٦) كذا بالأصل والزاد. أي الطيب والنساء. وظنه ق جمعا ، فقال : « المناسب : أحد المحبوبات ، التي هي الطيب والنساء والصلاة. كما في وزد في الحديث بلفظ : وقرة عيني في الصلاة » اه‍. وهو خطأ : فالصلاة ليست من الأمور الدنيوية المقصودة لذاتها ، والمتهافت عليها.

٢١٥

وفى صحيح البخاري : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يرد الطيب ». وفى صحيح مسلم ـ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « من عرض عليه ريحان فلا يرده : فإنه طيب الريح ، خفيف المحمل ». وفى سنن أبي داود والنسائي ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « من عرض عليه طيب فلا يرده : فإنه خفيف المحمل ، طيب الرائحة ».

وفى مسند البزار ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « إن الله طيب يحب الطيب ، نظيف يحب النظافة ، كريم يحب الكرم ، جواد يحب الجود. فنظفوا أفناءكم وساحاتكم ، ولا تشبهوا باليهود : يجمعون الاكباء (١) في دورهم ». ( الاكباء ) (١) : الزبالة.

وذكر ابن أبي شيبة : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان له سكة (٢) يتطيب منها ». وصح عنه أنه قال : « إن لله حقا على كل مسلم : أن يغتسل في كل سبعة أيام ، وإن كان له طيب : أن يمس منه ».

وفى الطيب من الخاصية : أن الملائكة تحبه ، والشياطين تنفر عنه. وأحب شئ إلى الشياطين : الرائحة المنتنة الكريهة ، فالارواح الطيبة تحب الرائحة الطيبة ، والأرواح الخبيثة تحب الرائحة الخبيثة. وكل روح تميل إلى ما يناسبها : فالخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات ، والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وهذا ـ وإن كان في النساء والرجال ـ فإنه يتناول الأعمال والأقوال ، والمطاعم والمشارب ، والملابس والروائح (٣) ـ : إما بعموم لفظه ، أو بعموم معناه.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حفظ صحة العين

روى أبو داود في سننه ـ عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة الأنصاري ،

__________________

(١) كذا بالأصل والنهاية ٤ / ٦. وهو جمع « كبا » بالكسر والقصر. وفى الزاد : الأكب. وهو تحريف. وانظر : القاموس ٤ / ٣٨١.

(٢) كذا بالأصل والزاد. ولعله إن لم يكن محرفا عن « سك » بالضم ـ وهو طيب معروف ـ يكون المراد منه الآنية التي يوضع فيها السك ، أو القدر اليسير منه : نظير قطر وقطرة. انظر : النهاية ٢ / ١٧٢ ، والقاموس ٣ / ٣٠٦ ، والمختار.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : والأرائح. ولعله مصحف عن « الأراييح ». انظر القاموس (١ / ٢٢٤) بتأمل.

٢١٦

عن أبيه ، عن جده رضي الله عنه ـ : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالإثمد المروح عند النوم ، وقال (١) : ليتقه الصائم ». قال أبو عبيد : « المروح : المطيب بالمسك ».

وفى سنن ابن ماجة وغيره ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : « كانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكحلة يكتحل منها ثلاثا في كل عين ». وفى الترمذي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اكتحل : يجعل في اليمنى ثلاثا ، يبتدئ بها ويختم بها ، وفى اليسرى ثنتين ».

وقد روى أبو داود عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من اكتحل فليوتر ». فهل الوتر بالنسبة إلى العينين كلتيهما ـ : فيكون في هذه ثلاث وفى هذه اثنتان ، واليمنى أولى بالابتداء والتفضيل. ـ أو هو بالنسبة إلى كل عين : فيكون في هذه ثلاث ، وفى هذه ثلاث؟ وهما قولان في مذهب أحمد وغيره.

وفى الكحل : حفظ لصحة العين ، وتقوية للنور الباصر ، وجلاء لها ، وتلطيف للمادة الرديئة ، واستخراج لها مع الزينة في بعض أنواعه. وله عند النوم مزيد فضل : لاشتمالها على الكحل ، وسكونها عقيبه عن الحركة المضرة بها ، وخدمة الطبيعة لها. وللأثمد في ذلك خاصية.

وفى سنن ابن ماجة ـ عن سالم ، عن أبيه يرفعه ـ : « عليكم بالإثمد. فإنه يجلو البصر وينبت الشعر » (٢). وفى كتاب أبى نعيم : « فإنه منبتة للشعر ، مذهبة للقذى ، مصفاة للبصر ». وفى سنن ابن ماجة أيضا ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، يرفعه ـ : « خير أكحالكم الأثمد : يجلو البصر ، وينبت الشعر » (٤).

__________________

(١) بالزاد : قال. وهو تحريف.

(٢) وأخرجه أيضا الترمذي في الشمائل ، والحاكم وصححه ، وأقره الذهبي اه‍ ق.

(٣) وأخرجه أيضا الطبراني وابن أبي عاصم عن علي ، وسنده حسن اه‍ ق.

(٤) وأخرجه أيضا الترمذي وحسنه ، وابن ماجة ، وابن حبان والحاكم في صحيحيهما ، والطبراني وأبو نعيم في الحلية اه‍ ق.

٢١٧

فصل

في ذكر شئ من الأدوية والأغذية المفردة ، التي جاءت على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

مرتبة على حروف المعجم

حرف الهمزة

١ ـ ( إثمد ) (١). هو : حجر الكحل الأسود ، يؤتى به من أصفهان (٢) ـ وهو

أفضله ـ ويؤتى به من جهة الغرب (٣) أيضا. وأجوده : السريع التفتيت الذي لفتاته بصيص وداخله أملس ليس فيه شئ من الأوساخ.

ومزاجه بارد يابس : ينفع العين ويقويها ، ويشد أعصابها ، ويحفظ صحتها ، ويذهب اللحم الزائد في القروح ويدملها ، وينقى أوساخها ويجلوها ، ويذهب الصداع : إذا اكتحل به مع العسل المائي الرقيق. وإذا دق وخلط ببعض الشحوم الطرية ، ولطخ على حرق النار ـ : لم تعرض فيه خشكريشة ، ونفع من التنفط الحادث بسببه. وهو أجود أكحال العين ـ لا سيما للمشايخ والذين قد ضعفت أبصارهم ـ : إذا جعل معه شئ من المسك.

٢ ـ ( أترج ) (٤). ثبت في الصحيح (٥) ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ، كمثل الأترجة : طعمها طيب ، وريحها طيب ».

وفى (٦) الأترج منافع كثيرة. وهو مركب من أربعة أشياء : قشر ، ولحم ، وحمض ،

__________________

(١) هو : الكحل الأسود. وليس له قيمة علاجية ، ويستعمل الآن للزينة فقط اه‍ د.

(٢) بالزاد ١٥٦ : أصبهان. وكلاهما اسم لمدينة عظيمة مشهورة بالعجم.

(٣) بالزاد : المغرب.

(٤) ويسمى أيضا : تفاح العجم أو ليمون اليهود. قشره يحتوى على زيت طيار. وهو لذلك طارد للأرياح هاضم اه‍ د.

(٥) انظر : هامش التوضيح والبيان لشجرة الايمان للسعدي ( ص ٥٥ ).

(٦) بالزاد : في.

٢١٨

وبزر. ولكل واحد منها مزاج يخصه : فقشره حار يابس ، ولحمه حار رطب ، وحمضه بارد يابس ، وبزره حار يابس.

ومن منافع قشره : أنه إذا جعل في الثياب منع السوس. ورائحته تصلح فساد الهواء والوباء. ويطيب النكهة إذا أمسكها في الفم ، ويحلل الرياح. وإذا جعل في الطعام كالأبازير : أعان على الهضم. قال صاحب القانون : « وعصارة قشره تنفع من نهش الأفاعي شربا ، وقشره ضمادا ، وحراقة قشره طلاء جيد للبرص » انتهى.

وأما لحمه : فملطف لحرارة المعدة ، نافع لأصحاب المرة الصفراء ، قامع للبخارات الحارة.

وقال الغافقي : « أكل لحمه ينفع البواسير » انتهى.

وأما حماضه : فقابض كاسر للصفراء ، ومسكن للخفقان الحار ، نافع من اليرقان شربا واكتحالا ، قاطع للقئ الصفراوي ، مشه للطعام ، عاقل للطبيعة ، نافع من الاسهال الصفراوي. وعصارة حماضه يسكن غلمة النساء ، وينفع طلاء من الكلف ، ويذهب بالقوبا. ويستدل على ذلك من فعله في الحبر : إذا وقع على الثياب قلعه. وله قوة تلطف وتقطع وتبرد ، وتطفئ حرارة الكبد ، وتقوى المعدة ، وتمنع حدة المرة الصفراء ، وتزيل الغم العارض منها ، وتسكن العطش.

وأما بزره : فله قوة محللة مجففة. وقال ابن ماسويه : « خاصية حبه : النفع من السموم القاتلة ، إذا شرب منه وزن مثقالين مقشرا بماء فاتر ، وطلاء مطبوخ. وإن دق ووضع على موضع اللسعة : نفع. وهو ملين للطبيعة ، مطيب للنكهة. وأكثر هذا الفعل موجود في قشره ».

وقال غيره : « خاصية حبه : النفع من لسع (١) العقارب ، إذا شرب منه وزن مثقالين مقشرا بماء فاتر. وكذلك : إذا دق ووضع على موضع اللدغة ».

وقال غيره : « حبه يصلح للسموم كلها ، وهو نافع من لدغ الهوام كلها ».

__________________

(١) بالزاد : لسعات.

٢١٩

وذكر : « أن بعض الأكاسرة غضب على قوم من الأطباء ، فأمر بحبسهم ، وخيرهم أدما لا يزيد لهم عليه. فاختاروا الأترج. فقيل لهم : لم اخترتموه على غيره؟ فقالوا : لأنه في العاجل ريحان ، ومنظره مفرح ، وقشره طيب الرائحة ، ولحمه فاكهة ، وحمضه أدم ، وحبه ترياق ، وفيه دهن ».

وحقيق بشئ هذه منافعه : أن يشبه به خلاصة الوجود ، وهو المؤمن الذي يقرأ القرآن. وكان بعض السلف يحب النظر إليه ، لما في منظره : من التفريح.

٣ ـ ( أرز ). فيه حديثان باطلان موضوعان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ( أحدهما ) : « أنه لو كان رجلا لكان حليما ». ( الثاني ) : « كل شئ أخرجته الأرض ففيه داء وشفاء ، إلا الأرز : فإنه شفاء لا داء فيه ». ذكرناهما : تنبيها وتحذيرا من نسبتهما إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبعد : فهو حار يابس. وهو أغذي الحبوب بعد الحنطة ، وأحمدها خلطا : يشد البطن شدا يسيرا ، ويقوى المعدة ويدبغها ، ويمكث فيها. وأطباء الهند تزعم : أنه أحمد الأغذية وأنفعها إذا طبخ بألبان البقر. وله تأثير : في خصب البدن ، وزيادة المني ، وكثرة التغذية ، وتصفية اللون.

٤ ـ ( أرز ) : بفتح الهمزة وسكون الراء ، وهو : الصنوبر. ذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : « مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيؤها الرياح : تقيمها مرة ، وتميلها أخرى. ومثل المنافق مثل الإرزة : لا تزال قائمة على أصلها ، حتى يكون انجعافها (١) مرة واحدة ».

وحبه حار رطب ، وفيه إنضاج وتليين وتحليل ، ولذع يذهب بنقعه في الماء. وهو عسر الهضم ، وفيه تغذية كثيرة. وهو جيد للسعال ولتنقية رطوبات الرئة ، ويزيد في المني ، ويولد مغصا. وترياقه : حب الرمان المز.

__________________

(١) كذا بالنهاية ١ / ١٦٦ ، واللسان ١٠ / ٣٧١. أي : انقلاعها. وفى الأصل والزاد والفتح الكبير (٣ / ١٣١) : انجفافها. وفسره ق بالجفاف واليبس. والظاهر أنه تصحيف ، وأن المعنى الأول هو المراد. وراجع اللسان وغيره : ( جف ).

٢٢٠