الطبّ النبوي

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الطبّ النبوي

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : الطّب
المطبعة: دار إحياء الكتب العربية ـ قاهرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٤

وللتسمية في أول الطعام والشراب ، وحمد الله في آخره ـ تأثير عجيب : في نفعه واستمرائه ، ودفع مضرته. قال الإمام أحمد : « إذا جمع الطعام أربعا فقد كمل : إذا ذكر اسم الله في أوله ، وحمد الله في آخره ، وكثرت عليه الأيدي ، وكان من حل ».

( فصل ) وقد روى مسلم في صحيحه ـ من حديث جابر بن عبد الله ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : « غطوا الاناء ، وأوكوا السقاء ، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء : لا يمر بإناء ليس عليه غطاء ، وسقاء ليس عليه وكاء ـ إلا وقع فيه من ذلك الداء ».

وهذا مما لا تناله علوم الأطباء ومعارفهم. وقد عرفه من عرفه ـ : من عقلاء الناس. ـ بالتجربة. قال الليث بن سعد ـ أحد رواة الحديث ـ : « الأعاجم عندنا يتقون تلك الليلة في السنة ، في كانون الأول منها ».

وصح عنه : أنه أمر بتخمير الاناء ولو أن يعرض عليه عودا. وفى عرض العود عليه ـ من الحكمة ـ : أنه لا ينسى تخميره ، بل يعتاده حتى بالعود. وفيه : أنه ربما أراد الدبيب أن يسقط فيه ، فيمر على العود ، فيكون العود جسرا له يمنعه من السقوط فيه.

وصح عنه : أنه أمر عند إبكاء الاناء ، بذكر اسم الله. فإن ذكر اسم الله ـ عند تخمير الاناء ـ يطرد عنه الشيطان ، وإيكاؤه يطرد عنه الهوام. ولذلك أمر بذكر اسم الله في هذين الموضعين ، لهذين المعنيين.

وروى البخاري في صحيحه ـ من حديث ابن عباس ـ : « أن رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نهى عن الشرب من في السقاء ».

وفى هذا آداب عديدة ، ( منها ) : أن تردد أنفاس الشارب فيه يكسبه زهومة ورائحة كريهة ، يعاف لأجلها ( ومنها ) : أنه ربما غلب الداخل إلى جوفه ـ من الماء ـ فتضرر ( به ) (١). ( ومنها ) : أنه ربما كان فيه حيوان لا يشعر به ، فيؤذيه. ( ومنها ) : أن الماء

__________________

(١) الزيادة عن الزاد ١٥٨.

١٨١

ربما كان فيه قذاة أو غيرها ، لا يراها عند الشرب ، فتلج جوفه. ( ومنها ) : أن الشرب كذلك يملا البطن من الهواء ، فيضيق عن أخذ حظه من الماء ، أو يزاحمه ، أو يؤذيه. ولغير ذلك من الحكم.

فإن قيل : فما تصنعون بما في جامع الترمذي : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دعا بإداوة يوم أحد ، فقال : اختنث فم الإداوة. ثم شرب منها من فمها ».؟

قلنا : نكتفي فيه بقول الترمذي : « هذا حديث ليس إسناده بصحيح ، وعبد الله ابن عمر العمرى يضعف من قبل حفظه. ولا أدري : سمع من عيسى ، أولا؟ ». انتهى. يريد : عيسى بن عبد الله ، الذي رواه عنه عن رجل من الأنصار.

( فصل ) وفى سنن أبي داود ـ من حديث أبي سعيد الخدري ـ قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن الشرب في ثلمة القدح ، وأن ينفخ في الشراب ».

وهذا من الآداب التي يتم بها مصلحة الشارب. فإن الشرب من ثلمة القدح فيه عدة مفاسد : ( أحدها ) (١) : أن ما يكون على وجه الماء ـ من قذى أو غيره ـ يجتمع إلى الثلمة ، بخلاف الجانب الصحيح.

( الثاني ) : أنه ربما شوش على الشارب ، ولم يتمكن من حسن الشرب من الثلمة.

( الثالث ) : أن الوسخ والزهومة تجتمع في الثلمة ، ولا يصل إليها الغسل ، كما يصل إلى الجانب الصحيح.

( الرابع ) : أن الثلمة محل العيب في القدح ، وهى أردأ مكان فيه. فينبغي تجنبه وقصد الجانب الصحيح : فإن الردئ من كل شئ لاخير فيه. ورأى بعض السلف رجلا يشترى حاجة رديئة ، فقال : « لا تفعل ، أما علمت أن الله نزع البركة من كل ردئ؟! ».

( الخامس ) : أنه ربما كان في الثلمة شق أو تحديد يخرج فم الشارب. ولغير هذه من المفاسد.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٤١. وفى الأصل : أحدهما. وهو تحريف.

١٨٢

وأما النفخ في الشراب : فإنه يكسبه من فم النافخ رائحة كريهة ، يعاف لأجلها ، ولا سيما إن كان متغير الفم. وبالجملة : فأنفاس النافخ تخالطه.

ولهذا ، جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بين النهى عن التنفس في الاناء ، والنفخ فيه ـ في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (١) ، قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن يتنفس في الاناء ، أو ينفخ فيه ».

فإن قيل : فما تصنعون بما في الصحيحين ـ من حديث أنس ـ : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتنفس في الاناء ثلاثا »؟.

قيل : نقابله بالقبول والتسليم ، ولا معارضة بينه وبين الأول. فإن معناه : أنه كان يتنفس في شربه ثلاثا ، وذكر الاناء : لأنه آلة الشرب. وهذا كما جاء في الحديث الصحيح : « أن إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مات في الثدي » ، أي : في مدة الرضاع.

( فصل ) وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشرب اللبن : خالصا تارة ، ومشوبا بالماء أخرى.

وفى شرب اللبن الحلو في تلك البلاد الحارة ـ خالصا ومشوبا ـ نفع عظيم : في حفظ الصحة ، وترطيب البدن ، ورى الكبد ، ولا سيما اللبن الذي ترعى دوابه الشيح والقيصوم والخزامى ، وما أشبهها. فإن لبنها : غذاء مع الأغذية ، وشراب مع الأشربة ، ودواء مع الأدوية.

وفى جامع الترمذي ـ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « إذا أكل أحدكم طعاما ، فليقل : اللهم ، بارك لنا فيه ، وأطعمنا خيرا منه. وإذا سقى لبنا ، فليقل : اللهم ، بارك لنا فيه ، وزدنا منه. فإنه ليس شئ يجزى (٢) من الطعام والشراب ، إلا اللبن ». قال الترمذي : هذا حديث حسن.

__________________

(١) بالزاد : عنه.

(٢) كذا بالأصل والزاد ١٤١ ، والنهاية ١ / ١٦٠. أي : يكفي. وفى الفتح الكبير (١ / ٨٦ و

٣ / ١٦٤) : يجزى. وفى سنن الترمذي (١٣ / ١١) : يجزى مكان. مع اختلاف آخر. والكل صحيح راجع المصباح : ( جزى ).

١٨٣

( فصل ) وثبت في صحيح مسلم : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينتبذ له (١) أول الليل ، ويشربه ـ إذا أصبح ـ يومه ذلك ، والليلة التي تجئ ، والغد والليلة الأخرى ، والغد إلى العصر. فإن بقى منه شئ : سقاه الخادم ، أو أمر به فصب ».

وهذا النبيذ هو : ماء (٢) يطرح فيه تمر يحليه ، وهو يدخل في الغذاء والشراب ، وله نفع عظيم : في زيادة القوة ، وحفظ الصحة. ولم يكن يشربه بعد ثلاث : خوفا من تغيره إلى الاسكار.

فصل في تدبيره لأمر الملبس

وكان من أتم الهدى ، وأنفعه للبدن ، وأخفه عليه ، وأيسره لبسا وخلعا.

وكان أكثر لبسه (٣) والازر. وهى أخف على البدن من غيرها. وكان يلبس القميص ، بل كان أحب الثياب إليه.

وكان هديه في لبسه لما يلبسه ، أنفع شئ للبدن. فإنه لم يكن يطيل أكمامه ويوسعها ، بل كانت كم قميصه إلى الرسغ : لاتجاوز (٤) اليد ، فتشق على لابسها ، وتمنعه خفة الحركة والبطش. ولا تقصر عن هذه ، فتبرز للحر والبرد.

وكان ذيل قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين : لم يتجاوز الكعبين ، فيؤذى الماشي ويؤوده ، ويجعله كالمقيد. ولم يقصر عن عضلة ساقه ، فتنكشف (٥) : فيتأذى بالحر والبرد.

ولم تكن عمامته بالكبيرة التي يؤذى الرأس حملها ويضعفه ، ويجعله عرضة للضعف والآفات ، كما يشاهد من حال أصحابها ، ولا بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد ، بل وسطا بين ذلك. وكان يدخلها تحت حنكه. وفى ذلك فوائد عديدة : فإنها

__________________

(١) بالزاد : ينبذ. وكل صحيح على ما في النهاية : ٤ / ١٢١.

(٢) بالزاد : ما. وكلاهما صحيح.

(٣) بالزاد للأردية. وكل صحيح.

(٤) بالزاد : « يجاوز .. فيشق. ويمنعه. يقصر ». وما في الأصل أنسب.

(٥) بالزاد : فتكشف ويتأذى.

١٨٤

تقى العنق الحر والبرد ، وهو أثبت لها ولا سيما عند ركوب الخيل والإبل ، والكر والفر. وكثير من الناس اتخذ الكلاليب عوضا عن التحنك (١) ويا بعد ما بينهما في النفع والزينة! وأنت إذا تأملت هذه اللبسة : وجدتها من أنفع اللبسات وأبلغها في حفظ صحة البدن وقوته ، وأبعدها من التكلف والمشقة على البدن.

وكان يلبس الخفاف في السفر دائما أو أغلب أحواله ـ : لحاجة الرجلين إلى ما يقيهما من الحر والبرد. ـ وفى الحضر أحيانا.

وكان أحب ألوان الثياب إليه البياض والحبرة ، وهى : البرود المحبرة.

ولم يكن من هديه لبس الأحمر ، ولا الأسود ، ولا المصبغ ، ولا المصقول.

وأما الحلة الحمراء التي لبسها ، فهي : الرداء اليماني الذي فيه سواد وحمرة وبياض ، كالحلة الخضراء. فقد لبس هذه وهذه. وقد تقدم تقرير ذلك ، وتغليظ من زعم أنه لبس الأحمر ألقاني ـ بما فيه كفاية.

فصل في تدبيره لأمر المسكر

لما علم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه على ظهر سير ، وأن الدنيا مرحلة مسافر ـ ينزل فيها مدة عمره ، ثم ينتقل عنها إلى الآخرة ـ : لم يكن من هديه وهدى أصحابه ومن تبعه ، الاعتناء بالمساكن وتشييدها ، وتعليتها وزخرفتها (٢) وتوسيعها. بل كانت من أحسن منازل المسافر : تقى الحر والبرد ، وتستر عن العيون ، وتمنع من ولوج الدواب ، ولا يخاف سقوطها لفرط ثقلها ، ولا تعشعش فيها الهوام لسعتها ، ولا تعتور عليها الأهوية والرياح المؤذية لارتفاعها. وليست تحت الأرض. فتؤذى ساكنها ، ولافى غاية الارتفاع عليها ، بل وسط. وتلك أعدل المساكن وأنفعها ، وأقلها حرا وبردا ، ولا تضيق عن ساكنها فينحصر ، ولا

__________________

(١) بالزاد ١٤٢ : الحنك. وهو أحسن.

(٢) كذا بالزاد. وهو المناسب. وفى الأصل : زخرفها. ولعله تحريف. وانظر : اللسان ١١ / ٣٢.

١٨٥

تفضل (١) عنه بغير منفعة ولا فائدة فتأوى الهوام في خلوها. ولم يكن فيها كنف تؤذى ساكنها برائحتها ، بل رائحتها من أطيب الروائح : لأنه كان يحب الطيب ولا يزال عنده ، وريحه هو من أطيب الرائحة ، وعرفه (٢) من أطيب الطيب ولم يكن في الدار كنيف تظهر رائحته. ولا ريب أن هذه من أعدل المساكن وأنفعها ، وأوفقها للبدن وحفظ صحته.

فصل في تدبيره لأمر النوم واليقظة

ومن (٣) تدبر نومه ويقظته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وجده أعدل نوم وأنفعه للبدن والأعضاء والقوى ، فإنه كان ينام أول الليل ، ويستيقظ أول النصف الثاني ، فيقوم ويستاك ويتوضأ ويصلى ما كتب الله له. فيأخذ البدن والأعضاء والقوى حظها من النوم والراحة ، وحظها من الرياضة ، مع وفور الاجر. وهذا غاية صلاح القلب والبدن والدنيا والآخرة.

ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه ، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه. وكان يفعله على أكمل الوجوه ، فينام ـ إذا دعته الحاجة إلى النوم ـ على شقة الأيمن : ذاكرا الله حتى تغلبه عيناه ، غير ممتلئ البدن من الطعام والشراب ، ولا مباشر بجنبه الأرض ، ولا متخذ للفرش المرتفعة ، بل له ضجاع (٤) من أدم حشوه ليف. وكان يضطجع على الوسادة ، ويضع يده تحت خده أحيانا.

ونحن نذكر فصلا في النوم ، والنافع (٥) منه والضار. فنقول :

( النوم ) : حالة للبدن يتبعها غور الحرارة الغريزية والقوى إلى باطن البدن ، لطلب

__________________

(١) بالزاد : تفصل. وهو تصحيف.

(٢) بالزاد : وعرقه. ولعله تصحيف.

(٣) بالزاد : من.

(٤) كذا بالأصل والزاد. يعنى. : ما يضطجع عليه. وفى النهاية ٣ / ١٢ ، واللسان ١٠ / ٨٨ : ضجعة ( بالكسر ). المراد ما ذكرنا. فليس ما بالأصل محرفا كما جوزه ق.

(٥) بالزاد. النافع. ولعله تحريف فتأمل.

١٨٦

الراحة. وهو نوعان : طبيعي ، وغير طبيعي. فالطبيعي : إمساك القوى النفسانية على أفعالها ، وهى قوى الحس والحركة الإرادية. ومتى أمسكت هذه القوى عن تحريك البدن : استرخى ، واجتمعت الرطوبات والأبخرة التي كانت تتحلل وتتفرق بالحركات واليقظة في الدماغ الذي هو مبدأ هذه القوى ، فيتخدر ويسترخى. وذلك النوم الطبيعي. وأما النوم غير الطبيعي ، فيكون لعرض أو مرض. وذلك : بأن تستولى الرطوبات على الدماغ استيلاء لا تقدر اليقظة على تفريقها ، أو تصعد أبخرة رطبة كثيرة ـ كما يكون عقيب الامتلاء من الطعام والشراب ـ فتثقل الدماغ وترخيه ، فيتخدر ويقع إمساك القوى النفسانية عن أفعالها ، فيكون النوم.

وللنوم فائدتان جليلتان : ( إحداهما ) (١) : سكون الجوارح وراحتها مما يعرض لها من التعب ، فيريح (٢) الحواس من نصب اليقظة ، ويزيل الاعياء والكلال. ( والثانية ) : هضم الغذاء ، ونضج الاخلاط. لان الحرارة الغريزية ـ في وقت النوم ـ تفور إلى باطن البدن ، فتعين على ذلك. ولهذا يبرد ظاهره ، ويحتاج النائم إلى فضل دثار.

وأنفع النوم : أن ينام على الشق الأيمن ـ : ليستقر الطعام بهذه الهيئة في المعدة ، استقرارا حسنا. فإن المعدة أميل إلى الجانب الأيسر قليلا. ـ ثم يتحول إلى الشق الأيسر قليلا : ليسرع الهضم بذلك لاستمالة (٣) المعدة على الكبد ، ثم يستقر نومه على الجانب الأيمن : ليكون الغذاء أسرع انحدارا عن (٤) المعدة. فيكون النوم على الجانب الأيمن بداءة نومه ونهايته. وكثرة النوم على الجانب الأيسر مضر بالقلب ، بسبب ميل الأعضاء إليه : فتنصب إليه المواد.

وأردأ النوم : النوم على الظهر. ولا يضر الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم.

__________________

(١) هذا هو المناسب. وبالأصل : والزاد ١٤٣ : أحدهما.

(٢) كذا بالزاد. وهو الملائم. وفى الأصل : فتستريح.

(٣) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : لاشتمال. ولعله تحريف.

(٤) بالزاد : من.

١٨٧

وأردأ منه : أن ينام منبطحا على وجهه. وفى المسند وسنن ابن ماجة ، عن أبي أمامة ، قال : « مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رجل نائم في المسجد ، منبطح على وجهه ، فضربه برجله ، وقال : قم ـ أو اقعد ـ فإنها نومة جهنمية ».

قال : أبقراط في كتاب التقدمة : « وأما نوم المريض على بطنه ، من غير أن يكون عادته في صحته جرت بذلك ، فذلك يدل على اختلاط عقل ، وعلى ألم في نواحي البطن ». قال الشراح لكتابه : لأنه خالف العادة الجيدة ، إلى هيئة رديئة ، من غير سبب ظاهر ولا باطن.

والنوم المعتدل ممكن للقوى الطبيعة من أفعالها ، مريخ للقوة النفسانية ، مكثر من جوهر حاملها ، حتى إنه ربما عاد بإرخائه مانعا من تحلل الأرواح.

ونوم النهار ردئ يورث الأمراض الرطوبية والنوازل ، ويفسد اللون ، ويورث الطحال ، ويرخى العصب ، ويكسل ويضعف الشهوة ، إلا في الصيف وقت الهاجرة. وأردؤه : نوم أول النهار. وأردأ منه : النوم آخره بعد العصر. ورأى عبد الله بن عباس ابنا له نائما نومة الصبحة ، فقال : « قم ، أتنام. في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق؟! »

وقيل : نوم النهار ثلاثة : خلق ، وخرق (١) وحمق. فالخلق : نومة الهاجرة ، وهى خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والخرق (١) : نومة الضحى يشغل عن أمر الدنيا والآخرة. والحمق : نومة العصر. قال بعض السلف : « من نام بعد العصر ، فاختلص عقله ـ فلا يلومن إلا نفسه ». وقال الشاعر :

ألا إن نومات الضحى تورث الفتى

خبالا ، ونومات العصير جنون

ونوم الصبحة (٢) يمنع الرزق : لان ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها ، وهو وقت

__________________

(١) بالزاد : « وحرق ... والحرق ». وهو تصحيف.

(٢) أي : حين يصبح المرء ، كما في المختار. وبالزاد : الصبيحة.

١٨٨

قسمة الأرزاق. فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة. وهو مضر جدا بالبدن : لارخائه البدن ، وإفساده للفضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة ، فيحدث تكسرا وعيا وضعفا. وإن كان قبل التبرز (١) والحركة والرياضة وإشغال المعدة بشئ ، فذلك الداء العضال المولد لأنواع من الأدواء.

والنوم في الشمس : يثير الداء الدفين. ونوم الانسان ـ بعضه في الشمس ، وبعضه في الظل ـ ردئ. وقد روى أبو داود في سننه ـ من حديث أبي هريرة ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا كان أحدكم في الشمس ، فقلص عنه الظل ـ فصار بعضه في الشمس ، وبعضه في الظل ـ فليقم (٢) ».

وفى سنن ابن ماجة وغيره ـ من حديث بريدة بن الحصيب (٣) : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى أن يقعد الرجل بين الظل والشمس (٤) ». وهذا تنبيه على منع النوم بينهما.

وفى الصحيحين ، عن البراء بن عازب ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « إذا أتيت مضجعك : فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ، ثم قل : اللهم ، إني أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمرى إليك ، وألجأت ظهري إليك : رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا (٥) منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت. واجعلهن آخر كلامك. فإن مت من ليلتك : مت على الفطرة ».

وفى صحيح البخاري عن عائشة : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا صلى ركعتي الفجر ـ يعنى : سنتها : ـ اضطجع على شقه الأيمن ».

وقد قيل : إن الحكمة في النوم على الجانب الأيمن : أن لا يستغرق النائم في نومه. لان القلب فيه ميل إلى جهة اليسار ، فإذا نام على جنبه الأيمن : طلب القلب مسقره من الجانب الأيسر ، وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله في نومه. بخلاف قراره في النوم على الجانب

__________________

(١) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل. التبرد. ولعله تصحيف.

(٢) وأخرجه الحاكم في صحيحه اه‍ ق.

(٣) كذا بالزاد ، والخلاصة ٤٠ ، والتهذيب ١ / ٤٣٣. وفى الأصل : الخصيب (بالمعجمة). وهو تصحيف.

(٤) وأخرجه أيضا أبو داود ، وإسناده صحيح اه‍ ق.

(٥) كذا بالزاد ، والفتح الكبير ١ / ٦٦. وفى الأصل : منجأ. وهو خطأ وتصحيف.

١٨٩

اليسار : فإنه مستقره ، فيحصل بذلك الدعة التامة ، فيستغرق الانسان في نومه ويستثقل : فيفوته مصالح دينه ودنياه.

ولما كان النائم بمنزلة الميت ، والنوم أخو الموت ـ ولهذا يستحيل على الحي الذي لا يموت ( سبحانه ) (١) وأهل الجنة لا ينامون فيها ـ ( و ) كان النائم محتاجا إلى من يحرس نفسه ويحفظها مما يعرض لها من الآفات ، ويحرس بدنه أيضا من طوارق الآفات ، وكان ربه وفاطره تعالى هو المتولى لذلك وحده ـ : علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النائم ، أن يقول كلمات التفويض والالتجاء والرغبة والرهبة : ليستدعى بها كمال حفظ الله له وحراسته لنفسه وبدنه ، وأرشده (٢) مع ذلك إلى أن يستذكر الايمان وينام عليه ، ويجعل التكلم به آخر كلامه. فإنه ربما توفاه الله في منامه ، فإذا كان الايمان آخر كلامه : دخل الجنة.

فتضمن هذا الهدى في المنام ، مصالح القلب والبدن والروح : في النوم واليقظة ، والدنيا والآخرة. فصلوات الله وسلامه على من نالت به أمته كل خير.

وقوله : « أسلمت نفسي إليك » ، أي : جعلتها مسلمة لك تسليم العبد المملوك نفسه إلى سيده ومالكه.

وتوجيه وجهه إليه : يتضمن إقباله بالكلية على ربه ، وإخلاص القصد والإرادة له ، وإقراره بالخضوع والذل والانقياد. قال تعالى : ( فإن حاجوك فقل : أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ). وذكر الوجه : إذ هو أشرف ما في الانسان ، ومجمع الحواس. وأيضا : ففيه معنى التوجه والقصد ، من قوله :

* رب العباد إليه الوجه والعمل *

وتفويض الامر إليه : رده إلى الله سبحانه. وذلك يوجب سكون القلب وطمأنينته ، والرضا بما يقضيه ويختاره له : مما يحبه ويرضاه. والتفويض من أشرف مقامات العبودية ، ولا علة فيه ، وهو من مقامات الخاصة. خلافا لزاعمي خلاف ذلك.

وإلجاء الظهر إليه سبحانه ، يتضمن قوة الاعتماد عليه ، والثقة ( به ) (٣) ، والسكون

__________________

(١) هذه الزيادة جيدة ، والآتية متعينة. ولم تردا في الزاد أيضا. وجواب « لما » قوله : علم. فتنبه.

(٢) بالزاد ١٤٤ : فأرشده. وما بالأصل أحسن.

(٣) زيادة عن الزاد.

١٩٠

إليه ، والتوكل عليه. فإن من أسند ظهره إلى ركن وثيق : لم يخف السقوط.

ولما كان للقلب قونان؟ : قوة الطلب وهى الرغبة ، وقوة الهرب وهى الرهبة ، وكان العبد طالبا لمصالحه ، هاربا من مضاره ـ : جمع الامرين في هذا التفويض والتوجه ، فقال : « رغبة ورهبة إليك ».

ثم أثنى على ربه : بأنه لا ملجأ للعبد سواه ، ولا منجاله منه غيره ، فهو الذي يلجأ إليه العبد : لينجيه من نفسه. كما في الحديث الآخر : « أعوذ برضاك من سخطك ، وبعوفك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ». فهو سبحانه الذي يعيذ عبده ، وينجيه من بأسه الذي بمشيئته وقدرته ، فمنه البلاء ومنه الإعانة ، ومنه ما يطلب النجاة منه ، وإليه الالتجاء في النجاة. فهو الذي يلجأ إليه في أن ينجى مما منه ، ويستعاذ به مما منه. فهو رب كل شئ ، ولا يكون شئ إلا بمشيئته. ( وإن يمسسك الله بضر : فلا كاشف له إلا هو ) ، ( قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا ، أو أراد بكم رحمة ).

ثم ختم الدعاء بالاقرار بالايمان بكتابه ورسوله ، الذي هو ملاك النجاة والفوز في الدنيا والآخرة. فهذا هديه في نومه :

لو لم يقل : إني رسول ، لكا

ن شاهد ـ في هديه ـ ينطق

( فصل ) وأما هديه في يقظته : فكان يستيقظ إذا صاح الصارخ ـ وهو الديك ـ فيحمد الله تعالى ويكبره ، ويهلله ويدعوه ، ثم يستاك ، ثم يقوم إلى وضوئه ، ثم يقف للصلاة بين يدي ربه : مناجيا له بكلامه ، مثنيا عليه ، راجيا له ، راغبا راهبا. فأي حفظ لصحة القلب والبدن والروح والقوى ، ولنعيم الدنيا والآخرة ـ فوق هذا؟!.

( فصل ) وأما تدبير الحركة والسكون ـ وهو الرياضة ـ فنذكر منها فصلا يعلم منه مطابقة هديه في ذلك ، لأكمل أنواعه وأحمدها وأصوبها. فنقول :

من المعلوم افتقار البدن ـ في بقائه ـ إلى الغذاء والشراب. ولا يصير الغذاء بجملته جزءا من البدن ، بل لا بد أن يبقى منه عند كل هضم بقية ما : إذا كثرت على ممر الزمان اجتمع منها شئ له كمية وكيفية ، فيضر بكميته : بأن يسد ويثقل البدن ، ويوجب أمراض

١٩١

الاحتباس. وإن استفرغ تأذى البدن بالأدوية : لان أكثرها سمية ، ولا تخلو من إخراج الصالح المنتفع به. ويضر بكيفيته : بأن يسخن بنفسه ، أو بالعفن ، أو يبرد بنفسه ، أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه.

وسدد الفضلات ـ لا محالة ـ ضارة : تركت أو استفرغت. والحركة أقوى الأسباب في منع تولدها : فإنها تسخن الأعضاء ، وتسيل فضلاتها ، فلا تجتمع على طول الزمان ، ويعود البدن الخفة والنشاط ، ويجعله قابلا للغذاء ، ويصلب المفاصل ، ويقوى الأوتار والرباطات. ويؤمن جميع الأمراض المادية ، وأكثر الأمراض المزاجية ـ إذا استعمل القدر المعتدل منه (١) في وقته ، وكان باقي التدبير صوابا.

ووقت الرياضة : بعد انحدار الغذاء وكمال الهضم. والرياضة المعتدلة هي : التي تحمر فيها البشرة وتربو ، ويتندى (٢) فيها البدن ، وأما التي يلزمها سيلان العرق ، فمفرطة. وأي عضو كثرت رياضته قوى ، وخصوصا على نوع تلك الرياضة. بل كل قوة فهذا شأنها : فإن من استكثر من الحفظ قويت حافظته ، ومن استكثر من الفكر قويت قوته المفكرة. ولكل عضو رياضة تخصه : فللصدر القراءة : فليبتدئ فيها من الخفية إلى الجهر بتدريج. ورياضة السمع : بسمع الأصوات والكلام بالتدريج ، فينتقل من الأخف إلى الأثقل. وكذلك رياضة اللسان في الكلام. وكذلك رياضة البصر. وكذلك رياضة المشي بالتدريج شيئا فشيئا.

وأما ركوب الخيل ، ورمى النشاب ، والصراع والمسابقة على الاقدام ـ فرياضة للبدن كله ، وهى قالعة لامراض مزمنة : كالجذام والاستسقاء والقولنج.

ورياضة النفوس : بالتعلم والتأدب ، والفرح والسرور ، والصبر والثبات والاقدام ، والسماح وفعل الخير ، ونحو ذلك : مما ترتاض به النفوس. ومن أعظم رياضتها : الصبر

__________________

(١) بالزاد ١٤٥ : منها. وكل صحيح.

(٢) كذا بالأصل. وهو الظاهر. وفى الزاد : ويبتدئ بها. ولعله تصحيف.

١٩٢

والحب والشجاعة والاحسان ، فلا تزال ترتاض بذلك شيئا فشيئا ، حتى تصير لها هذه الصفات هيآت راسخة ، وملكات ثابتة.

وأنت إذا تأملت هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، وجدته أكمل هدى حافظ للصحة والقوى ، ونافع في المعاش والمعاد.

ولا ريب أن الصلاة نفسها فيها ـ : من حفظ صحة البدن ، وإذابة أخلاطه وفضلاته. ـ ما هو من أنفع شئ له ، سوى ما فيها : من حفظ صحة الايمان ، وسعادة الدنيا والآخرة.

وكذلك قيام الليل : من أنفع أسباب حفظ الصحة ، ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة ، ومن أنشط شئ للبدن والروح والقلب. كما في الصحيحين ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ـ إذا هو نام ـ ثلاث عقد ، يضرب على كل عقدة : عليك ليل طويل فارقد. فإن هو استيقظ ، فذكر : الله انحلت عقدة. فإن توضأ : انحلت عقدة ثانية. فإن صلى : انحلت عقده كلها ، فأصبح نشيطا طيب النفس. وإلا : أصبح خبيث النفس كسلان ».

وفى الصوم الشرعي ـ : من أسباب حفظ الصحة ، ورياضة البدن والنفس. ـ مالا يدفعه صحيح الفطرة.

وأما الجهاد وما فيه من الحركات الكلية ـ التي هي من أعظم أسباب القوة ، وحفظ الصحة ، وصلابة القلب والبدن ودفع فضلاتهما ، وزوال الهم والغم والحزن ـ : فأمر إنما يعرفه من له منه نصيب. وكذلك الحج وفعل المناسك. وكذلك المسابقة على الخيل بالنصال ، والمشي في الحوائج وإلى الاخوان ، وقضاء حقوقهم ، وعيادة مرضاهم ، وتشييع جنائزهم ، والمشي إلى المساجد للجمعات والجماعات ، وحركة الوضوء والاغتسال وغير ذلك.

وهذا أقل ما فيه : الرياضة المعينة على حفظ الصحة ، ودفع الفضلات. وأماما شرع له ـ : من التوصل به إلى خيرات الدنيا والآخرة ، ودفع شرورهما. ـ فأمر وراء ذلك.

فعلمت أن هديه فوق كل هدى : في طب الأبدان والقلوب ، وحفظ صحتهما ، ودفع

(١٣ ـ الطب النبوي)

١٩٣

أسقامهما. ولا مزيد على ذلك لمن قد أحضر رشده. وبالله التوفيق.

فصل

وأما الجماع والباه ، فكان هديه فيه أكمل هدى : تحفظ (١) به الصحة ، ويتم به اللذة وسرور النفس ، ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها. فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية ، ( أحدها ) : حفظ النسل ، ودوام النوع الإنساني إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم.

( الثاني ) : إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن.

( الثالث ) : قضاء الوطر ، ونيل اللذة ، والتمتع بالنعمة. وهذه ـ وحدها ـ هي الفائدة التي في الجنة : إذ لا تناسل هناك ، ولا احتقان يستفرغه الانزال.

وفضلاء الأطباء يرون : أن الجماع من أحمد أسباب حفظ الصحة. قال جالينوس : « الغالب على جوهر المني : النار والهواء. ومزاجه حار رطب ، لان كونه : من الدم الصافي الذي تغتذى به الأعضاء الأصلية ».

وإذا ثبت فضل المني ، فاعلم : أنه لا ينبغي إخراجه إلا في طلب النسل ، أو إخراج المحتقن منه. فإنه إذا دام احتقانه : أحدث أمراضا رديئة ، منها : الوسواس والجنون والصرع ، وغير ذلك وقد يبرئ استعماله من هذه الأمراض كثيرا. فإنه إذا طال احتباسه : فسد واستحال إلى كيفية سمية ، توجب أمرضا رديئة كما ذكرنا. ولذلك تدفعه الطبيعة ـ إذا كثر عندها ـ من غير جماع.

وقال بعض السلف : « ينبغي للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلاثا : ينبغي أن لا يدع المشي ، فإن احتاج إليه يوما ، قدر عليه. وينبغي أن لا يدع الاكل : فإن أمعاءه تضيق. وينبغي أن لا يدع الجماع : فإن البئر إذا لم تنزح (٢) ذهب ماؤها ».

__________________

(١) بالزاد ١٤٦ : يحفظ. وكلاهما صحيح.

(٢) بالزاد ينزح. وكل صحيح.

١٩٤

وقال محمد بن زكريا : « من ترك الجماع مدة طويلة : ضعفت قوى أعصابه واستد مجاريها ، وتقلص ذكره. (قال) : ورأيت جماعة تركوه لنوع من التقشف (١) : فبردت أبدانهم ، وعسرت حركاتهم ، ووقعت عليهم كآبة بلا سبب ، وقلت شهواتهم وهضمهم » انتهى (٢).

ومن منافعه : غض البصر ، وكف النفس ، والقدرة على العفة عن الحرام ، وتحصيل ذلك للمرأة. فهو ينفع نفسه في دنياه وأخراه ، وينفع المرأة.

ولذلك كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعاهده ويحبه ، ويقول : « حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ». وفى كتاب الزهد للإمام أحمد ـ في هذا الحديث ـ زيادة لطيفة ، وهى : « أصبر عن الطعام والشراب ، ولا أصبر عنهن » (٣).

وحث على التزويج أمته ، فقال : « تزوجوا ، فإني مكاثر بكم الأمم ». وقال ابن عباس : « خير هذه الأمة أكثرها نساء ». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) : « إني أتزوج النساء ، وآكل اللحم ، وأنام وأقوم وأصوم وأفطر. فمن رغب عن سنتي : فليس منى » وقال : « يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة : فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحفظ للفرج. ومن لم يستطع : فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء ». ولما تزوج جابر ثيبا ، قال له : « هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ».

ورى ابن ماجة في سننه ـ من حديث أنس بن مالك ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا : فليتزوج الحرائر ». وفى سننه أيضا ـ من حديث ابن عباس ، يرفعه ـ قال : « لم نر للمتحابين مثل النكاح ».

__________________

(١) بالزاد : التنشيف. وهو تصحيف.

(٢) الامتناع عن الجماع عادة غير طبيعية : تؤذى الجسم ، وتسبب الفتور والضعف ، وتسبب معظم الأمراض النفسية اه‍ د.

(٣) لم نعثر على هذه الزيادة ولا على أصل الحديث في كتاب الزهد المطبوع بمكة. ولعله استقراءنا ناقص. وانظر صفحة ٣٦٩ منه.

(٤) جملة الدعاء كلها لم ترد بالزاد.

١٩٥

وفى صحيح مسلم ـ من حديث عبد الله بن عمر ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا : المرأة الصالحة ».

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرض أمته على نكاح الابكار الحسان ، وذوات الدين. وفى سنن النسائي ، عن أبي هريرة ، قال : « سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي النساء خير؟ قال : التي تسره إذا نظر (١) ، وتطيعه إذا أمر ، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله ». وفى الصحيحين ، عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : « تنكح المرأة : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها. فاظفر بذات الدين ، تربت يداك ».

وكان يحث على نكاح الولود ، ويكره المرأة التي لا تلد. كما في سنن أبي داود ـ عن معقل بن يسار ـ : « أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال ، وإنها لا تلد ، أفأتزوجها؟ قال : لا. ثم أتاه الثانية ، فنهاه ثم أتاه الثالثة ، فقال : تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم الأمم ».

وفى الترمذي عنه مرفوعا : « أربع من سنن المرسلين : النكاح ، والسواك ، والتعطر ، والحناء ». روى في الجامع : بالنون ، والياء (٢). وسمعت أبا الحجاج الحافظ ، يقول : « الصواب : أنه الختان ، وسفطت النون من الحاشية. وكذلك رواه المحاملي عن شيخ أبى عيسى الترمذي ».

ومما ينبغي تقديمه على الجماع : ملاعبته (٣) المرأة وتقبيلها ، ومص لسانها.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يلاعب أهله ويقبلها. وروى أبو داود في سننه : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقبل عائشة ويمص لسانها ». ويذكر عن جابر بن عبد الله ، قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المواقعة قبل الملاعبة ».

وكان رسول (٤) الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ربما جامع نساءه كلهن بغسل واحد ، وربما اغتسل عند كل

__________________

(١) كذا بالزاد ، والفتح الكبير ٢ / ٩٩. وهو الملائم. وفى الأصل زيادة : « إليها ». ولعلها من الناسخ أو الطابع. (٢) يعنى بلفظ : والحياء. وإلا كان مصحفا عن « والحاء ».

(٣) بالزاد ١٤٧ : ملاعبة. وكلاهما صحيح. (٤) قوله : رسول الله ، لم يرد في الزاد.

١٩٦

واحدة منهن. فروى مسلم في صحيحه ، عن أنس : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد ». وروى أبو داود في سننه ـ عن أبي رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف على نسائه في ليلة ، فاغتسل عند كل امرأة منهن غسلا. فقلت : يا رسول الله ، لو اغتسلت غسلا واحدا! فقال : هذا أطهر وأطيب ».

وشرع للمجامع ـ إذا أراد العود قبل الغسل ـ الوضوء بين الجماعين ، كما روى مسلم في صحيحه ـ من حديث أبي سعيد الخدري ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إذا أتى أحدكم أهله ، ثم أراد أن يعود : فليتوضأ ».

وفى الغسل والوضوء بعد الوطئ ـ : من النشاط وطيب النفس ، وإخلاف بعض ما تحلل بالجماع ، وكمال الطهر والنظافة ، واجتماع الحار الغريزي إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجماع ، وحصول النظافة التي يحبها الله ويبغض خلافها. ـ ما هو من أحسن التدبير من الجماع ، وحفظ الصحة والقوى فيه.

( فصل ) وأنفع الجماع : ما حصل بعد الهضم ، وعند اعتدال البدن : في حره وبرده ، ويبوسته ورطوبته ، وخلائه وامتلائه. وضرره عند امتلاء البدن : أسهل وأقل من ضرره عند خلوه. وكذلك ضرره عند كثرة الرطوبة : أقل منه عند اليبوسة ، وعند حرارته : أقل منه عند برودته. وإنما ينبغي أن يجامع : إذا اشتدت الشهوة ، وحصل الانتشار التام الذي ليس عن تكلف ، ولا فكر في صورة ، ولا نظر متتابع.

ولا ينبغي أن يستدعى شهوة الجماع ويتكلفها ، ويحمل نفسه عليها. وليبادر إليه : إذا هاجت به كثرة المنى ، واشتد شبقه. وليحذر جماع العجوز ، والصغيرة ـ التي لا يوطأ مثلها ، والتي لا شهوة لها ـ والمريضة ، والقبيحة المنظر ، والبغيضة. فوطئ هؤلاء يوهن القوى ويضعف الجماع بالخاصية.

وغلط من قال من الأطباء : إن جماع الثيب أنفع من جماع البكر ، وأحفظ للصحة. وهذا من القياس الفاسد ، حتى ربما حذر منه بعضهم. وهو مخالف لما عليه عقلاء الناس ، ولما اتفقت عليه الطبيعة والشريعة. وفى جماع البكر ـ : من الخاصية ، وكمال التعلق بينها وبين

١٩٧

مجامعها ، وامتلاء قلبها من محبته ، وعدم تقسيم هواها بينه وبين غيره. ـ ما ليس للثيب.

وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجابر ـ : « هلا تزوجت بكرا! ».

وقد جعل الله سبحانه ـ من كمال نساء أهل الجنة من الحور العين ـ : أنهن لم يطمثهن أحد قبل من جعلن له : من أهل الجنة. وقالت عائشة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أرأيت لو مررت بشجرة قد أرتع فيها ، وشجرة لم يرتع فيها ، ففي أيهما كنت ترتع بعيرك؟ » ، قال : « في التي لم يرتع فيها ». تريد : أنه لم يأخذ بكرا غيرها.

وجماع المرأة المحبوبة في النفس يقل إضعافه للبدن مع كثرة استفراغه للمني.

وجماع البغيضة يحل البدن ، ويوهن القوى مع قلة استفراغه.

وجماع الحائض حرام طبعا وشرعا : فإنه مضر جدا ، والأطباء قاطبة تحذر منه.

وأحسن أشكال الجماع : أن يعلو الرجل المرأة مستفرشا لها ، بعد الملاعبة والقبلة. وبهذا سميت المرأة فراشا ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « الولد للفراش ». وهذا من تمام قوامية الرجل على المرأة ، كما قال تعالى : ( الرجال قوامون على النساء ). وكما قيل :

إذا رمتها : كانت فراشا يقلني

وعند فراغي : خادم يتملق

وقد قال تعالى : « هن لباس لكم ، وأنتم لباس لهن ». وأكمل اللباس وأسبغه :

على هذه الحال ، فإن فراش الرجل لباس له ، وكذلك لحاف المرأة لباس لها. فهذا الشكل الفاضل مأخوذ من هذه الآية ، وبه يحسن موقع استعارة اللباس : من كل من الزوجين للآخر.

وفيه وجه آخر ، وهو : أنها تنعطف عليه أحيانا ، فتكون عليه كاللباس. قال الشاعر :

إذا ما الضجيع ثنى عطفه :

تثنت ، فكانت عليه لباسا

وأردأ أشكاله : أن تعلوه المرأة ، ويجامعها على ظهره. وهو خلاف الشكل الطبيعي الذي طبع الله عليه الرجل والمرأة ، بل نوع الذكر والأنثى. وفيه من المفاسد : أن المني يتعسر خروجه كله ، فربما بقى في العضو منه بقية : فيتعفن ويفسد ، فيضر.

وأيضا : فربما سال إلى الذكر رطوبات من الفرج. وأيضا : فإن الرحم لا يتمكن من الاشتمال على الماء ، واجتماعه فيه ، وانضمامه عليه ـ لتخليق الولد.

١٩٨

وأيضا : فإن المرأة مفعول بها طبعا وشرعا ، وإذا كانت فاعلة : خالفت مقتضى الطبع والشرع. وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جنوبهن ـ على حرف ـ ويقولون : هو أيسر للمرأة.

وكانت قريش والأنصار تشرح (١) النساء على أقفائهن ، فعابت اليهود عليهم ذلك. فأنزل الله عز وجل : ( نساؤكم حرث لكم : فأتوا حرثكم أنى شئتم ).

وفى الصحيحين عن جابر ، قال : « كانت اليهود تقول : إذا أتى الرجل امرأته ، من دبرها ، في قبلها ـ : كان الولد أحول. فأنزل الله عز وجل : ( نساؤكم حرث لكم ، فأتوا حرثكم أنى شئتم ) » ، وفى لفظ لمسلم : « إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية ، غير أن ذلك في صمام واحد ». و ( المجبية ) : المنكبة على وجهها. و ( الصمام الواحد ) : الفرج ، وهو موضع الحرث والولد.

وأما الدبر : فم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء. ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطئ الزوجة في دبرها ، فقد غلط عليه.

وفى سنن أبي داود ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ملعون من أتى المرأة في دبرها ». وفى لفظ لأحمد وابن ماجة : « لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها ».

وفى لفظ الترمذي وأحمد : « من أتى حائضا ، أو امرأته في دبرها ، أو كاهنا فصدقه ـ : فقد كفر بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ». وفى لفظ للبيهقي : « من أتى شيئا ـ من الرجال والنساء ـ في الادبار : فقد كفر ».

وفى مصنف وكيع : حدثني زمعة بن صالح ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن يزيد ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إن الله لا يستحى (٢) من الحق ، لا تأتوا النساء في أعجازهن » ، وقال مرة : « في أدبارهن ». وفى

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد. أي : يطؤونهن نائمات. انظر : النهاية ٢ / ٢١١. وقال ق : « الظاهر أنها محرفة عن تطرح ». وهو خطأنا شئ عن التسرع وعدم البحث والتثبت.

(٢) بالزاد ١٤٨ ـ ١٤٩ ( هنا وفيما سيأتي ) ، وكثير من المصادر الأخرى : يستحيى. وهى لغة أهل الحجاز على الأصل. وما في الأصل لغة تميم. انظر المختار.

١٩٩

الترمذي ، عن طلق بن علي ، قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لا تأتوا النساء في أعجازهن ، فإن الله لا يستحى من الحق ». وفى الكامل لابن عدى ـ من حديثه عن المحاملي ، عن سعيد بن يحيى الأموي ـ قال : حدثنا محمد بن حمزة ، عن زيد بن رفيع ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود يرفعه : « لا تأتوا النساء في أعجازهن ».

وروينا ـ من حديث الحسن بن علي الجوهري ، عن أبي ذر ، مرفوعا ـ : « من أتى الرجال والنساء في أدبارهن ، فقد كفر ».

وروى إسماعيل بن عياش ، عن شريك بن أبي صالح ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر يرفعه : « استحيوا من الله ـ فإن الله لا يستحى من الحق ـ لا تأتوا النساء في حشوشهن ». ورواه الدارقطني من هذه الطريق ، ولفظه : « إن الله لا يستحى من الحق ، ولا يحل إتيان (١) النساء في حشوشهن ».

وقال البغوي : حدثنا هدبة (٢) ، حدثنا همام ، قال : سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها ، فقال : حدثني عمرو بن شعيب ـ عن أبيه ، عن جده ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « تلك اللوطية الصغرى ». وقال الامام (٣) أحمد رحمه الله ـ في مسنده ـ : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا همام ، أخبرنا عن قتادة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده. فذكره.

وفى المسند أيضا ، عن ابن عباس قال (٣) : « أنزلت هذه الآية : ( نساءكم حرث لكم ) ، في أناس من الأنصار : أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألوه. فقال : ائتها على كل حال إذا (٤) كان في الفرج ».

__________________

(١) بالزاد : مأتاك.

(٢) كذا بالزاد. وهو : ابن خالد القيسي ، شيخ البغوي ، وتلميذ همام بن يحيى. انظر : التهذيب ١١ / ٢٤ ـ ٢٥ ، والخلاصة ٣٥٥. وفى الأصل : هدية (بالياء). وهو تصحيف.

(٣) لم يرد هذا بالزاد.

(٤) كذا بالزاد ١٤٩. وفى الأصل : إذ. وهو تحريف.

٢٠٠