الطبّ النبوي

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الطبّ النبوي

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : الطّب
المطبعة: دار إحياء الكتب العربية ـ قاهرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٤

( والثاني ) : أنه سبحانه عدل في هذه الأحكام غير ظالم لعبده ، بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والاحسان. فإن الظلم سببه : حاجة الظالم أو جهله أو سفهه ، فيستحيل صدوره ممن هو بكل شئ عليم ، ومن هو غنى عن كل شئ ، وكل شئ فقير إليه ، ومن هو أحكم الحاكمين. فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته وحمده ، كما لم يخرج عن قدرته ومشيئته. فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته. ولهذا (١) قال نبي الله هود صلى الله على نبينا وعليه وسلم ـ وقد خوفه قومه بآلهتهم ـ : (٢) ( [ إني ] أشهد الله واشهدوا : أنى برئ مما تشركون من دونه ، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ، إني توكلت على الله ربى وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، إن ربى على صراط مستقيم ) أي : مع كونه سبحانه آخذا بنواصي خلقه وتصريفهم كما يشاء ، فهو على صراط مستقيم : لا يتصرف فيهم إلا بالعدل والحكمة ، والاحسان والرحمة. فقوله : « ماض في حكمك » ، مطابق لقوله : ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) ، وقوله : « عدل في قضاؤك » ، مطابق لقوله : ( إن ربى على صراط مستقيم ).

ثم توسل إلى ربه بأسمائه التي سمى بها نفسه : ما علم العباد منها ، وما لم يعلموا ، ومنها : ما استأثره في علم الغيب عنده : فلم يطلع عليه ملكا مقربا ، ولا نبيا مرسلا. وهذه الوسيلة أعظم الوسائل ، وأحبها إلى الله ، وأقربها تحصيلا للمطلوب.

ثم سأله : أن يجعل القرآن لقلبه كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان ـ وكذلك القرآن : ربيع القلوب. ـ وأن يجعله شفاء همه وغمه ، فيكون له بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء ، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله. وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع والأصدية وغيرها. فأحرى (٣) بهذا العلاج ـ إذا صدق العليل في استعماله ـ أن يزيل عنه داءه ، ويعقبه

__________________

(١) بالزاد ١٣١ : فلهذا.

(٢) على ما حكاه الله عنه : في سورة هود (٥٤ ـ ٥٦). والزيادة واردة في الزاد.

(٣) كذا بالزاد ١٣٢. وفى الأصل : « فأحر ».

(١١ ـ الطب النبوي)

١٦١

شفاء تاما وصحة وعافية. والله الموفق.

وأما دعوة ذي النون ، فإن فيها ـ : من كمال التوحيد والتنزيه للرب تعالى ، واعتراف العبد بظلمه وذنبه. ـ ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهم والغم. وأبلغ الوسائل إلى الله سبحانه في قضاء الحوائج. فإن التوحيد والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال لله ، وسلب كل نقص وعيب وتمثيل عنه. والاعتراف بالظلم بتضمن إيمان العبد بالشرع والثواب والعقاب ، ويوجب انكساره ورجوعه إلى الله ، واستقالة عثرته ، والاعتراف بعبوديته وافتقاره إلى ربه. فههنا أربعة أمور قد وقع التوسل بها : التوحيد ، والتنزيه ، والعبودية ، والاعتراف.

وأما حديث أبي أمامة : « اللهم ، إني أعوذ بك من الهم والحزن » ، فقد تضمن الاستعاذة من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان مزدوجان : فالهم والحزن أخوان ، والعجز والكسل أخوان ، والجبن والبخل أخوان ، وضلع الدين (١) وغلبة الرجال أخوان. فإن المكروه المؤلم إذا ورد على القلب : فإما أن يكون سببه أمرا ماضيا ، فيوجب له الحزن. وإن كان أمرا متوقعا في المستقبل : أوجب الهم. وتخلف العبد عن مصالحه وتفويتها عليه : إما أن يكون من عدم القدرة وهو العجز ، أو من عدم الإرادة وهو الكسل. وحبس خيره ونفعه عن نفسه وعن بنى (٢) جنسه : إما أن يكون منع نفعه ببدنه : فهو الجبن ، أو بماله : فهو البخل. وقهر الناس له إما بحق : فهو ضلع الدين ، أو بباطل : فهو غلبة الرجال. فقد تضمن الحديث الاستعاذة من كل شر.

وأما تأثير الاستغفار في دفع الهم والغم والضيق. فلما (٣) اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل أمة : أن المعاصي والفساد توجب الهم والغم ، والخوف والحزن ، وضيق الصدر ، وأمراض القلب. حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم ، وسئمتها نفوسهم ـ : ارتكبوها

__________________

(١) أي شدته ( وثقله ) والرواية السابقة : « غلبة الدين » ، وهما رويتان اه‍ ق. ووردت الثانية : في سنن الترمذي ١٣ / ٢٥ ، والنهاية ٣ / ٢٣ ، والمختار ٣٨٣. وليس مراد ابن القيم ذكر الرواية الثانية أو الإشارة إليها ، إنما مراده تفسير لفظ الرواية الأولى.

(٢) بالزاد : وبنى.

(٣) كذا بالأصل والزاد. وهو بيان لعلة تأثير الاستغفار. وقد ضرب عليه ق وأبدله بقوله : فمما. وهو خطأ وخروج عن المعنى المراد.

١٦٢

دفعا لما يجدونه في صدورهم : من الضيق والهم والغم. كما قال شيخ الفسوق (١) :

وكأس شربت على لذة

وأخرى تداويت منها بها

وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب : فلا دواء لها الا التوبة والاستغفار.

وأما الصلاة فشأنها في تفريح القلب وتقويته ، وشرحه وابتهاجه ولذته ، أكبر شأن. وفيها ـ : من اتصال القلب والروح بالله وقربه ، والتنعم بذكره ، والابتهاج بمناجاته ، والوقوف بين يديه ، واستعمال جميع البدن وقواه وآلاته في عبوديته ، وإعطاء كل عضو حظه منها ، واشتغاله عن التعلق بالمخلوق (٢) وملابستهم ومحاورتهم ، وانجذاب قوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره ، وراحته من عدوه حالة الصلاة. ـ ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرحات ، والأغذية التي لا تلائم إلا القلوب الصحيحة. وأما القلوب العليلة ، فهي كالابدان العليلة : لا تناسبها الأغذية الفاضلة.

فالصلاة : من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة ، وهى منهاة عن الاثم ، ودافعة لادواء القلوب ، ومطردة للداء عن الجسد ، ومنورة للقلب ، ومبيضة للوجه ، ومنشطة للجوارح والنفس ، وجالبة للرزق ، ودافعة للظلم ، وناصرة للمظلوم ، وقامعة لاخلاط الشهوات ، وحافظة للنعمة ، ودافعة للنقمة ، ومنزلة للرحمة ، وكاشفة للغمة ، ونافعة من كثير من أوجاع البطن.

وقد روى ابن ماجة في سننه ـ من حديث مجاهد ، عن أبي هريرة ـ قال : « رآني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنا نائم أشكو من وجع بطني ، فقال لي : « يا أبا هريرة ، إشكم درد؟ ( قال ) قلت : نعم يا رسول الله. قال : قم فصل ، فإن في الصلاة شفاء.

وقد روى هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة ، وأنه (٣) هو الذي قال ذلك لمجاهد. وهو

__________________

(١) هو الأعشى. وقد اقتدى به أبو نواس في قوله :

دع عنك لومي ، فإن اللوم إغراء ،

وداوني بالتي كانت هي الداء

(٢) كذا بالأصل والزاد ١٣٢. وهو صحيح لا ينافيه ما بعده ، لأنه جمع من حيث تعدد أفراده. وقد ضرب عليه ق ، وأبدله بلفظ : بالمخلوقين. ولا ضرورة له.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : أنه. وهو تحريف.

١٦٣

أشبه (١). ومعنى هذه اللفظة بالفارسية : أيوجعك بطنك؟.

فإن لم ينشرح صدر زنديق الأطباء بهذا العلاج : فيخاطب بصناعة الطب ، ويقال له : الصلاة رياضة النفس والبدن جميعا ، إذ كانت تشتمل على حركات وأوضاع مختلفة : من الانتصاب ، والركوع ، والسجود ، والتورك ، والانتقالات ، وغيرها من الأوضاع : التي يتحرك معها أكثر المفاصل ، وينغمز معها أكثر الأعضاء الباطنة : كالمعدة والأمعاء ، وسائر آلات النفس والغذاء. فما ينكر أن (٢) في هذه الحركات تقوية وتحليلا للمواد ـ ولا سيما بواسطة قوة النفس وانشراحها في الصلاة ـ فتقوى الطبيعة ، فيندفع الألم.

ولكن داء الزندقة والاعراض عما جاءت به الرسل ، والتعوض عنه بالالحاد ـ داء : ليس له دواء إلا نار ( تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى ، الذي كذب وتولى ) (٣).

وأما تأثير الجهاد في دفع الهم والغم ، فأمر معلوم بالوجدان : فإن النفس متى تركت صائل الباطل وصولته واستيلاءه ، اشتد همها وغمها ، وكربها وخوفها. فإذا جاهدته لله تعالى : أبدل الله ذلك الهم والحزن ، فرحا ونشاطا وقوة. كما قال تعالى : ( قاتلوهم : يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم ، وينصركم عليهم ، ويشف صدور قوم مؤمنين ، ويذهب غيظ قلوبهم ). فلا شئ أذهب لجوى القلب وغمه وهمه وحزنه ، من الجهاد والله المستعان.

وأما تأثير « لا حول ولا قوة إلا بالله » في دفع هذا الداء فلما فيها : من كمال التفويض ، والتبرئ من الحول والقوة إلا به ، وتسليم الامر كله له ، وعدم منازعته في شئ منه ، وعموم ذلك لكل تحول من حال إلى حال في العالم العلوي والسفلى ، والقوة على ذلك التحول ، وأن ذلك كله بالله وحده. فلا يقوم لهذه الكلمة شئ.

وفى بعض الآثار : « أنه ما ينزل ملك من السماء ولا يصعد إليها ، إلا بلا حول ولا قوة إلا بالله ». ولها تأثير عجيب في طرد الشيطان. والله المستعان.

__________________

(١) وقال الفيروز بادي في سفر السعادة : وباب تكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفارسية ، لم يصح فيه شئ ، ولم يثبت. اه‍ ق.

(٢) في الزاد : « أن يكون .. وتحليل ». وكلاهما صحيح.

(٣) اقتباس من سورة الليل : (١٤ ـ ١٦).

١٦٤

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الفزع والأرق المانع من النوم

روى الترمذي في جامعه ، عن بريدة ، قال : شكا خالد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ما أنام الليل من الارق. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إذا أويت إلى فراشك ، فقل : اللهم رب السماوات السبع وما أظلت ، ورب الأرضين وما أقلت ، ورب الشياطين وما أضلت ، كن لي جارا من شر خلقك كلهم جميعا : أن يفرط على أحد منهم ، أو يبغي علي ، عز جارك ، وجل ثناؤك ، ولا إله غيرك ».

وفيه أيضا ـ عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ـ : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يعلمهم من الفزع : أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ، ومن همزات الشياطين ، وأعوذ بك رب أن يحضرون. قال : وكان عبد الله بن عمر (١) يعلمهن من عقل من بنيه ، ومن لم يعقل كتبه وعلقه (٢) عليه ».

ولا يخفى مناسبة هذه العوذة ، لعلاج هذا الداء.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج داء الحريق وإطفائه

يذكر عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إذا رأيتم الحريق : فكبروا ، فإن التكبير يطفئه » (٣).

لما كان الحريق سببه النار ، وهى مادة الشيطان التي خلق منها ، وكان فيه من الفساد

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد وسنن الترمذي ١٣ / ٥٢. وهو صحيح إذا كان المخبر بهذا جد شعيب وهو عبد الله بن عمرو. أما إن كان المخبر محمدا والد شعيب فلا يبعد أن يكون مصحفا عن « عمرو ».

(٢) كذا بالأصل والسنن. أي علقه عبد الله نفسه. وفى الزاد : فأعلقه. أي فيعلقه هذا القائل. فتأمل.

(٣) أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، صحيفة : في صحة أحاديثها اختلاف اه‍ ق. بل هي من أصح الأحاديث ، وكانت تسمى الصادقة. وقد احتج بها الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة. وإنما طعن فيها من لم يتحمل أعباء الفقه والفتوى : كأبى حاتم البستي ، وابن حزم الأندلسي. انظر : زاد المعاد (٤ / ٣٥٢ ـ ٣٥٣ بهامش شرح المواهب) ، وإعلام الموقعين (١ / ١١٦ و ٣١٧ : ط الكرى) ، وهامش مقدمة صحيح البخاري (ص ٤٠ : ط الفجالة).

١٦٥

العام ، ما يناسب الشيطان بمادته وفعله ـ : كان للشيطان (١) إعانة عليه ، وتنفيذا له ، وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد. ( و ) (٢) هذان الأمران ـ وهما : العلو في الأرض ، والفساد. ـ هما هدى الشيطان ، وإليهما يدعو ، وبهما يهلك بني آدم. فالنار والشيطان كل منهما يربد العلو في الأرض والفساد. وكبرياء الرب عز وجل تقمع الشيطان وفعله.

ولهذا كان تكبير الله عز وجل ، له أثر في إطفاء الحريق. فإن كبرياء الله عز وجل لا يقوم لها شئ ، فإذا (٣) كبر المسلم ربه : أثر تكبيره في خمود النار وخمود الشيطان التي هي مادته ، فيطفئ الحريق. وقد جربنا نحن وغيرنا هذا ، فوجدناه كذلك. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حفظ الصحة

لما كان اعتدال البدن وصحته وبقاؤه ، إنما هو بواسطة الرطوبة المقاومة للحرارة ـ : فالرطوبة مادته ، والحرارة تنضجها وتدفع فضلاتها ، وتصلحها وتلطفها. وإلا : أفسدت البدن ولم يمكن قيامه. وكذلك الرطوبة : هي غذاء الحرارة ، فلولا الرطوبة : لأحرقت البدن وأيبسته وأفسدته. فقوام كل واحدة منهما بصاحبتها ، وقوام البدن بهما جميعا. وكل منهما مادة للأخرى ، فالحرارة مادة للرطوبة : تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة ، والرطوبة مادة للحرارة : تغذوها وتحملها. ومتى مالت إحداهما إلى الزيادة على الأخرى : حصل لمزاج البدن الانحراف ، بحسب ذلك. فالحرارة دائما تحلل الرطوبة ، فيحتاج البدن إلى ما به يخلف عليه ما حللته الحرارة ـ ضرورة بقائه ـ وهو : الطعام والشراب. ومتى زاد على مقدار التحلل : ضعفت الحرارة عن تحليل فضلاته ، فاستحالت مواد رديئة : فعاثت في البدن وأفسدت ، فحصلت الأمراض المتنوعة بحسب تنوع موادها ، وقبول الأعضاء واستعدادها.

__________________

(١) كذا بالزاد. أي كان الحريق إعانة للشيطان على الفساد. وفى الأصل : الشيطان. وهو تحريف.

(٢) زيادة عن الزاد.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : إذا. وهو تحريف.

١٦٦

وهذا كله مستفاد من قوله تعالى : ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ). فأرشد عباده إلى إدخال ما يقيم البدن : من الطعام والشراب ، عوض ما تحلل منه ، وأن يكون بقدر ما ينتفع به البدن : في الكمية والكيفية. فمتى جاوز ذلك : كان إسرافا. وكلاهما مانع من الصحة ، جالب للمرض. أعنى : عدم الأكل والشرب ، أو الاسراف فيه.

فحفظ الصحة كله في هاتين الكلمتين الإلهيتين. ولا ريب أن البدن دائما : في التحلل والاستخلاف ، وكلما كثر التحلل : ضعفت الحرارة لفناء مادتها ، فإن كثرة التحلل تفنى الرطوبة ، وهى مادة الحرارة ، وإذا ضعفت الحرارة : ضعف الهضم ، ولا يزال كذلك حتى تفنى الرطوبة ، وتنطفئ الحرارة جملة ، فيستكمل العبد الاجل الذي كتب الله له أن يصل إليه.

فغاية علاج الانسان لنفسه ولغيره : حراسة البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة ، لا أنه (١) يستلزم بقاء الحرارة والرطوبة اللتين بقاء الشباب والصحة والقوة بهما ، فإن هذا مما لم يحصل لبشر في هذه الدار. وإنما غاية الطبيب : أن يحمى الرطوبة عن مفسداتها من العفونة وغيرها ، ويحمى الحرارة عن مضعفاتها ، ويعدل بينهما بالعدل في التدبير الذي به قام بدن الانسان ، كما أن به قامت السماوات والأرض. وسائر المخلوقات إنما قوامها بالعدل.

ومن تأمل هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجده أفضل هدى يمكن حفظ الصحة به. فإن حفظها موقوف على حسن تدبير المطعم والمشرب والملبس ( والمسكن ) (٢) والهواء ، والنوم واليقظة ، والحركة والسكون ، والمنكح ، والاستفراغ والاحتباس. فإذا حصلت هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد والسن والعادة ـ : كان أقرب إلى دوام الصحة والعافية أو غلبتها إلى انقضاء الأجل.

ولما كانت الصحة من أجل نعم الله على عبده ، وأجزل عطاياه ، وأوفر منحه ـ بل

__________________

(١) كذا بالزاد ١٣٤. وفى الأصل : لأنه. وهو تحريف.

(٢) الزيادة عن الزاد ١٣٤.

١٦٧

العافية المطلقة أجل النعم على الاطلاق ـ : فحقيق لمن رزق حظا من التوفيق ، مراعاتها (١) وحفظها ، وحمايتها عما يضادها.

وقد روى البخاري في صحيحه ـ من حديث ابن عباس ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ».

وفى الترمذي وغيره ـ من حديث عبد الله بن محصن الأنصاري ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من أصبح معافى في جسده ، آمنا في سربه ، عنده قوت يومه ـ : فكأنما حيزت له الدنيا ». وفى الترمذي أيضا ـ من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة : من النعيم ، أن يقال له : ألم نصح لك جسمك ، ونروك من الماء البارد؟! ». ومن ههنا ، قال من قال من السلف ـ في قوله تعالى : ( ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم ). ـ قال : عن الصحة.

وفى مسند الإمام أحمد : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال للعباس : « يا عباس يا عم رسول الله ، سل الله العافية في الدنيا والآخرة ». وفيه عن أبي بكر الصديق ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : « سلوا الله اليقين والمعافاة ، فما أوتى أحد ـ بعد اليقين ـ خيرا من العافية ». فجمع بين عافيتي الدين والدنيا. ولا يتم صلاح العبد في الدارين ، إلا باليقين والعافية. فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة ، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا ، في قلبه وبدنه.

وفى سنن النسائي ـ من حديث أبي هريرة يرفعه ـ : « سلوا الله العفو والعافية والمعافاة ، فما أوتى أحد ـ بعد يقين ـ خيرا من معافاة ». وهذه الثلاثة تتضمن إزالة الشرور الماضية : بالعفو ، والحاضرة : بالعافية ، والمستقبلة : بالمعافاة. فإنها تتضمن المداومة والاستمرار على العافية.

وفى الترمذي مرفوعا : « ما سئل الله شيئا أحب إليه من العافية ».

وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : عن أبي الدرداء (٢) : « قلت : يا رسول الله ، لان أعافى

__________________

(١) بالزاد : بمراعاتها. وهو تحريف.

(٢) كذا بالزاد ١٣٥. وفى الأصل أبى داود. وهو تحريف.

١٦٨

فأشكر ، أحب إلي من أن أبتلى فأصبر. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ورسول الله يحب معك العافية ».

ويذكر عن ابن عباس : « أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : ما أسأل الله بعد الصلوات الخمس؟ فقال : سل الله العافية. فأعاد عليه ، فقال له في الثالثة : سل الله العافية في الدنيا والآخرة ».

وإذا كان هذا شأن العافية والصحة : فنذكر من هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في مراعاة هذه الأمور ، ما يتبين لمن نظر فيه أنه أكمل الهدى على الاطلاق : ينال به حفظ صحة البدن والقلب ، وحياة الدنيا والآخرة. والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فصل

فأما المطعم والمشرب ، فلم يكن من عادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حبس النفس على نوع واحد من الأغذية ، لا يتعداه إلى ما سواه. فإن ذلك يضر بالطبيعة جدا ، وقد يتعذر عليها أحيانا : فإن لم يتناول غيره ضعف أو هلك ، وإن تناول غيره لم تقبله الطبيعة : فاستضر به. فقصرها على نوع واحد دائما ـ ولو أنه أفضل الأغذية ـ خطر (مضر) (١).

بل كان يأكل ما جرت عادة أهل بلده بأكله : من اللحم والفاكهة والخبز والتمر ، وغيره مما ذكرناه في هديه في المأكول. فعليك بمراجعته ههنا.

وإذا كان في أحد الطعامين كيفية تحتاج إلى كسر وتعديل : كسرها وعدلها بضدها إن أمكن ، كتعديله (٢) حرارة الرطب بالبطيخ. وإن لم يجد ذلك : تناوله على حاجة وداعية من النفس من غير إسراف ، فلا تتضرر به الطبيعة.

وكان إذا عافت نفسه الطعام : لم يأكله ، ولم يحملها إياه على كره. وهذا أصل عظيم

__________________

(١) الزيادة عن الزاد.

(٢) بالزاد : كتعديل. وما بالأصل أحسن.

١٦٩

في حفظ الصحة. فمتى أكل الانسان ما تعافه نفسه ولا تشتهيه (١) : كان تضرره به أكثر من انتفاعه.

قال أنس : « ما عاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طعاما قط ، إن اشتهاه : أكله ، وإلا : تركه ولم يأكل منه ». ولما قدم إليه الضب المشوى : لم يأكل منه ، فقيل له : أهو حرام؟ قال : « لا ، ولكن : لم يكن بأرض قومي ، فاجدنى أعافه ». فراعى عادته وشهوته ، فلما لم يكن يعتاد أكله بأرضه ، وكانت نفسه لا تشتهيه ـ : أمسك عنه ، ولم يمنع من أكله من يشتهيه ، ومن عادته أكله.

وكان يحب اللحم ، وأحبه إليه : الذراع ومقدم الشاة. ولذلك سم فيه.

وفى الصحيحين : « أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلحم ، فرفع إليه الذراع ، وكانت تعجبه ». وذكر أبو عبيد وغيره ، عن ضباعة بنت الزبير ـ : « أنها ذبحت في بيتها شاة ، فأرسل إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن أطعمينا من شاتكم. فقالت للرسول : ما بقى عندنا إلا الرقبة (٢) ، وإني لاستحى أن أرسل بها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فرجع الرسول فأخبره ، فقال : ارجع إليها ، فقل لها : أرسلي بها ، فإنها هادية الشاة وأقرب إلى الخير ، وأبعدها من الأذى ».

ولا ريب أن أخف لحم الشاة : لحم الرقبة ، ولحم الذراع والعضد. وهو أخف على المعدة ، وأسرع انهضاما. وفى هذا مراعاة الأغذية التي تجمع ثلاثة أوصاف : ( الأول ) (٣) : كثرة نفعها وتأثيرها في القوى. ( الثاني ) : خفتها على المعدة ، وعدم ثقلها عليها. ( الثالث ) : سرعة هضمها. وهذا أفضل ما يكون من الغذاء. والتغذي باليسير من هذا ، أنفع من الكثير من غيره.

__________________

(١) بالزاد : يشتهيه. وكل صحيح.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل. الرقية. وهو تصحيف.

(٣) زيادة حسنة لم ترد بالزاد أيضا.

١٧٠

وكان يحب الحلواء والعسل. وهذه الثلاثة ـ أعنى : اللحم ، والعسل ، والحلواء. ـ من أفضل الأغذية ، وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء. وللاغتذاء بها نفع عظيم في حفظ الصحة والقوة ، ولا ينضر (١) منها إلا من به علة وآفة.

وكان يأكل الخبز مأدوما ما وجد له إداما ، فتارة يأدمه باللحم ، ويقول : « هو سيد طعام أهل الدنيا والآخرة ». رواه ابن ماجة وغيره. وتارة بالبطيخ ، وتارة بالتمر. فإنه وضع تمرة على كسرة ، وقال : « هذا إدام هذه ». وفى هذا ـ من تدبير الغذاء ـ أن خبز الشعير بارد يابس ، والتمر حار رطب على أصح القولين ، فأدم خبز الشعير به من أحسن التدبير ، لا سيما لمن تلك عادتهم : كأهل المدينة. وتارة بالخل ، ويقول : « نعم الادام الخل ». وهذا ثناء عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر ، لا تفضيل له على غيره : كما يظن الجهال. وسبب الحديث : « أنه دخل على أهله يوما ، فقدموا له خبزا ، فقال : هل عندكم من إدام؟ قالوا : ما عندنا إلا خل. فقال : نعم الادام الخل ».

والمقصود : أن أكل الخبز مأدوما من أسباب حفظ الصحة ، بخلاف الاقتصار على أحدهما وحده. وسمى الأدم أدما : لاصلاحه الخبز وجعله ملائما لحفظ الصحة. ومنه قوله في إباحته للخاطب النظر : « إنه أحرى أن يؤدم بينهما » ، أي : أقرب إلى الالتئام والموافقة ، فإن الزوج يدخل على بصيرة ، فلا يندم.

وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها ، ولا يحتمى عنها. وهذا أيضا من أكبر أسباب حفظ الصحة : فإن الله سبحانه ـ بحكمته ـ جعل في كل بلد (٢) من الفاكهة ، ما ينتفع به أهلها في وقته ، فيكون تناوله من أسباب صحتهم وعافيتهم ، ويغنى عن كثير من الأدوية. وقل من احتمى عن فاكهة بلده : خشية السقم ، إلا وهو من أسقم الناس جسما ، وأبعدهم من الصحة والقوة.

وما في تلك الفاكهة ـ : من الرطوبات. ـ فحرارة الفصل والأرض. وحرارة المعدة

__________________

(١) بالزاد. ينفر.

(٢) بالزاد ١٣٦ : بلدة.

١٧١

تنضجها ، وتدفع شرها : إذا لم يسرف في تناولها ، ولم يحمل منها الطبيعة فوق ما تحتمله ، ولم يفسد بها الغذاء قبل هضمه ، ولا أفسدها بشرب الماء عليها ، وتناول الغذاء بعد التحلي منها. فإن القولنج كثيرا ما يحدث عند ذلك. فمن أكل منها ما ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي ـ : كانت له دواء نافعا.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هيئة الجلوس للاكل

صح عنه أن قال : « لا آكل متكئا » وقال : « إنما أجلس كما يجلس العبد ، وآكل كما يأكل العبد ». وروى ابن ماجة في سننه : « أنه نهى أن يأكل الرجل وهو منبطح على وجهه ».

وقد فسر الاتكاء : بالتربع (١). وفسر : بالاتكاء على الشئ ، وهو الاعتماد عليه. وفسر بالاتكاء على الجنب. والأنواع الثلاثة من الاتكاء ، فنوع منها يضر بالاكل ، وهو : الاتكاء على الجنب. فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعي عن هيئته ، ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة ، ويضغط المعدة : فلا يستحكم فتحها للغذاء. وأيضا : فإنها تميل ولا تبقى منتصبة ، فلا يصل الغذاء إليها بسهولة.

وأما النوعان الآخران ، فمن جلوس الجبابرة المنافى للعبودية. ولهذا قال : « آكل كما يأكل العبد » ، وكان يأكل وهو مقع. ويذكر عنه : « أنه كان يجلس للاكل متوركا على ركبتيه ، ويضع بطن قدمه اليسرى ، على ظهر قدمه اليمنى » ، تواضعا لربه عز وجل ، وأدبا بين يديه ، واحتراما للطعام وللمؤاكل. فهذه الهيئة أنفع هيئات الاكل وأفضلها : لان الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي ، الذي خلقها الله سبحانه عليه ، مع ما فيها من الهيئة الأدبية. وأجود ما اغتذى الانسان : إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعي ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الانسان منتصبا الانتصاب الطبيعي. وأردأ (٢) الجلسات للاكل الاتكاء على الجنب ، لما تقدم : من أن المرئ وأعضاء الازدراد تضيق عند هذه الهيئة ، والمعدة لا تبقى

__________________

(١) بالزاد : بالتربيع.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : أردى.

١٧٢

على وضعها الطبيعي. لأنها تنعصر مما يلي البطن بالأرض ، ومما يلي الظهر بالحجاب الفاصل بين آلات الغذاء وآلات النفس.

وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء الذي تحت الجالس ، فيكون المعنى : أنى إذا أكلت لم أقعد متكئا على الأوطية والوسائد ، كفعل الجبابرة ومن يزيد؟ الاكثار من الطعام ، لكني آكل بلغة كما يأكل العبد.

( فصل ) وكان يأكل بأصابعه الثلاث. وهذا أنفع ما يكون من الاكلات : فإن الاكل بإصبع أو إصبعين لا يستلذ به الآكل ولا يمريه ، ولا يشبعه إلا بعد طول ، ولا تفرح آلات الطعام والمعدة بما ينالها في كل أكلة ، فتأخذها على إغماض ، كما يأخذ الرجل حقه (١) حبة أو حبتين أو نحو ذلك ، فلا يلتذ بأخذه ، ولا يسر به. والاكل (٢) بالخمسة والراحة يوجب ازدحام الطعام على آلاته وعلى المعدة ـ وربما استدت الآلات فمات ـ وتغصب (٣) الآلات على دفعه ، والمعدة على احتماله ، ولا يجد له لذة ولا استمراء. فأنفع الاكل : أكله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأكل من اقتدى به بالأصابع الثلاث.

( فصل ) ومن تدبر (٤) أغذيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما كان يأكله ـ : وجده (٤) لم يجمع قط بين لبن وسمك ، ولا بين لبن وحامض ، ولا بين غذائين حارين ، ولا باردين ، ولا لزجين ، ولا قابضين ولا مسهلين ، ولا غليظين ، ولا مرخيين ، ولا مستحيلين إلى خلط واحد ، ولا بين مختلفين : كقابض ومسهل ، وسريع الهضم وبطيئه ، ولا بين شوى وطبيخ ، ولا بين طري وقديد ، ولا بين لبن وبيض ، ولا بين لحم ولبن. ولم يكن يأكل طعاما في وقت شدة حرارته ، ولا طبيخا بائتا يسخن له بالغد ، ولا شيئا من الأطعمة العفنة والمالحة : كالكوامخ والمخللات والملوحات. وكل هذه الأنواع ضار مولد لأنواع من الخروج عن الصحة والاعتدال.

وكان يصلح ضرر بعض الأغذية ببعض : إذا وجد إليه سبيلا ، فيكسر حرارة هذا

__________________

(١) كذا بالزاد ١٣٧. وفى الأصل : حبة. وهو تصحيف.

(٢) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : والآكل. ولعله تصحيف ، فتأمل.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : وانصبت. وهو تصحيف.

(٤) بالزاد : « تدبر ... وحده » ، وبالأصل : « تدبير ... وحده ». وفى كل تصحيف. فتأمل.

١٧٣

ببرودة هذا ، ويبوسة هذا برطوبة هذا. كما فعل في القثاء والرطب ، وكما كان يأكل التمر بالسمن ـ وهو : الحبس. ـ ويشرب نقيع التمر يلطف به كيموسات الأغذية الشديدة.

وكان يأمر بالعشاء ولو بكف من تمر ، ويقول : « ترك العشاء مهرمة » ذكره الترمذي في جامعه ، وابن ماجة في سننه (١).

وذكر أبو نعيم عنه : « أنه كان ينهى عن النوم على الاكل ، ويذكر : أنه يقسى القلب ». ولهذا ، في وصايا الأطباء لمن أراد حفظ الصحة : أن يمشى بعد العشاء خطوات ولو مائة خطوة ، ولا ينام عقبة ، فإنه مضر جدا. وقال مسلموهم : أو يصلى عقيبه ، ليستقر الغذاء بقعر المعدة ، فيسهل هضمه ويجود بذلك.

ولم يكن من هديه : أن يشرب على طعامه فيفسده ، ولا سيما إن كان الماء حارا أو باردا ، فإنه ردئ جدا. قال الشاعر :

لا تكن عند أكل سخن وبرد ،

ودخول الحمام ـ تشرب ماء

فإذا ما اجتنبت ذلك حقا :

لم تخف ما حييت ، في الجوف داء

ويكره شرب الماء عقيب الرياضة والتعب ، وعقيب الجماع ، وعقيب الطعام وقبله ، وعقيب أكل الفاكهة ـ وإن كان الشرب عقيب بعضها ، أسهل من بعض ـ وعقب الحمام ، وعند الانتباه من النوم. فهذا كله مناف لحفظ الصحة. ولا اعتبار بالعوائد : فإنها طبائع ثوان.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشراب (٢)

وأما هديه في الشراب ، فمن أكمل هدى يحفظ به الصحة : فإنه كان يشرب العسل الممزوج بالماء البارد : وفى هذا من حفظ الصحة ، مالا لا يهتدى إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء

__________________

(١) حديث ضعيف! اه‍ ق. وانظر : المقاصد الحسنة (ص ١٥٧ ـ ١٥٨ : ط القاهرة).

(٢) هذا العنوان كله لم يرد في الزاد ١٣٧.

١٧٤

فإن شربه ولعقه على الريق : يذيب البلغم ، ويغسل خمل المعدة ، ويجلوا لزوجتها ، ويدفع عنها الفضلات ، ويسخنها باعتدال ، ويدفع سددها ، ويفعل مثل ذلك بالكبد والكلى والمثانة. وهو أنفع للمعدة من كل حلو دخلها. وإنما يضر بالعرض لصاحب الصفراء : لحدته وحدة الصفراء ، فربما هيجها. ودفع مضرته لهم بالخل ، فيعود حينئذ لهم نافعا جدا. وشربه أنفع من كثير من الأشربة ، المتخذة من السكر ( أو أكثرها ) (١) ، ولا سيما لمن لم يعتد هذه الأشربة ، ولا ألفها طبعه. فإنه إذا شربها : لا يلائمه ملائمة العسل ، ولا قريبا منه. والمحكم في ذلك العادة : فإنها تهدم أصولا ، وتبنى أصولا.

وأما الشراب إذا جمع وصفى الحلاوة والبرودة : فمن أنفع شئ للبدن ، ومن أكبر (٢) أسباب حفظ الصحة ، وللأرواح والقوى والكبد والقلب ، عشق شديد له ، واستمداد منه. وإذا كان فيه الوصفان : حصلت به التغذية ، وتنفيذ الطعام إلى الأعضاء وإيصاله إليها ، أتم تنفيذ.

والماء البارد رطب : يقمع الحرارة ، ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية ، ويرد عليه بدل ما تحلل منها ، ويرقق (٣) الغذاء ، وينفذه (٣) في العروق.

واختلف الأطباء : هل يغذى البدن؟ ـ على قولين :

فأثبت طائفة التغذية به ، بناء على ما يشاهدونه : من النمو والزيادة والقوة في البدن به ، ولا سيما عند ( شدة ) (٤) الحاجة إليه.

قالوا : وبين الحيوان والنبات قدر مشترك من وجوه عديدة ، منها : النمو والاغتذاء والاعتدال. وفى النبات قوة حس وحركة تناسبه. ولهذا كان غذاء النبات بالماء. فما ينكر أن يكون للحيوان (به) (٤) نوع غذاء ، وأن يكون جزءا من غذائه التام.

__________________

(١) زيادة عن الزاد.

(٢) بالزاد ١٣٨ : آكد.

(٣) بالأصل : « ويرقق .. وينفذ » ، وبالزاد : « ويرفق .. وينفذه ». وأصل كل ما أثبتناه « وإن ورد » يرفق « بمعنى ينفع كما في المختار.

(٤) زيادة عن الزاد.

١٧٥

قالوا : ونحن لا ننكر أن قوة الغذاء ومعظمه في الطعام ، وإنما أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية البتة. قالوا : وأيضا الطعام إنما يغذى بما فيه : من المائية ، ولولاها لما حصلت به التغذية.

قالوا : ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات ، ولا ريب أن ما كان أقرب إلى مادة الشئ حصلت به التغذية ، فكيف إذا كانت مادته الأصلية؟! قال الله تعالى : ( وجعلنا من الماء كل شئ حي (١) ). فكيف ينكر (٢) حصول التغذية بما هو مادة الحياة على الاطلاق؟!.

قالوا : وقد رأينا العطشان إذا حصل له الري بالماء البارد : تراجعت إليه قواه ونشاطه وحركته ، وصبر عن الطعام ، وانتفع بالقدر اليسير منه. ورأينا العطشان لا ينتفع بالقدر الكثير من الطعام ، ولا يجد به (٣) القوة والاغتذاء. ونحن لا ننكر أن الماء ينفذ الغذاء إلى أجزاء البدن ، وإلى جميع الأعضاء ، وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به. وإنما ننكر على من سلبه قوة التغذية عنه البتة ، ويكاد قوله عندنا يدخل في إنكار الأمور الوجدانية.

وأنكرت طائفة أخرى حصول التغذية به. واحتجت بأمور : يرجع حاصلها إلى عدم الاكتفاء به ، وأنه لا يقوم مقام الطعام ، وأنه لا يزيد في نمو الأعضاء ، ولا يخلف عليها بدل ما حللته الحرارة ، ونحو ذلك مما لا ينكره أصحاب التغذية ، فإنهم يجعلون تغذيته بحسب جوهره ولطافته ورقته ، وتغذية كل شئ بحسبه. وقد شوهد الهواء الرطب البارد اللين اللذيذ : يغذى بحسبه. والرائحة الطيبة : تغذى نوعا من الغذاء. فتغذية الماء أظهر وأظهر.

والمقصود : أنه إذا كان باردا ، وخالط ما يحليه ـ : كالعسل أو الزبيب أو التمر أو السكر. ـ كان من أنفع ما يدخل البدن ، وحفظ عليه صحته. فلهذا كان أحب الشراب

__________________

(١) كذا بالزاد وسورة الأنبياء : (٣٠). وفى الأصل : حيا. وهو تصحيف ناشئ عن فهم أن

جعل بمعنى صير ، مع أنها بمعنى خلق.

(٢) بالزاد : ننكر.

(٣) بالزاد : يحدثه. ولعل أصله : يحدث به.

١٧٦

إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، البارد الحلو. والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضد هذه الأشياء.

ولما كان الماء البائت أنفع من الذي يشرب وقت استقائه ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد دخل إلى حائط أبى الهيثم بن التيهان ـ : « هل من ماء بات في شنه؟ » فأتاه به ، فشرب منه (١). رواه البخاري. ولفظه : « إن كان عندكم ماء بات في شنه (٢) ، وإلا كرعنا ».

والماء البائت بمنزلة العجين الخمير ، والذي شرب لوقته بمنزلة الفطير. وأيضا : فإن الاجزاء الترابية والأرضية تفارقه إذا بات ، وقد ذكر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستعذب له الماء ، ويختار البائت منه. وقالت عائشة : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يستقى له الماء العذب من بئر السقيا ».

والماء الذي في القرب والشنان ، ألذ من الذي يكون في آنية الفخار والأحجار وغيرهما ، ولا سيما أسقية الأدم. ولهذا التمس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماء بات في شنه ، دون غيرها من الأواني. وفى الماء ـ إذا وضع في الشنان وقرب الأدم ـ خاصة لطيفة ، لما فيها : من المسام المنفتحة يرشح منها الماء. ولهذا : الماء الذي (٣) في الفخار الذي يرشح ، ألذ منه وأبرد في الذي لا يرشح فصلوات الله وسلامه على أكمل الخلق ، وأشرفهم نفسا ، وأفضلهم هديا في كل شئ لقد دل أمته على أفضل الأمور وأنفعها لهم : في القلوب والابدان ، في الدنيا والآخرة.

قالت عائشة رضي الله عنها (٤) : « كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الحلو البارد ». وهذا يحتمل : أن يريد به الماء العذب : كمياه العيون والآبار الحلوة. فإنه ( كان ) (٥) يستعذب له الماء. ويحتمل : أن يريد به الماء الممزوج بالعسل ، أو الذي نقع فيه التمر أو الزبيب. وقد يقال ـ وهو الاظهر ـ : يعمهما جميعا.

وقوله في الحديث الصحيح : « إن كان عندك ماء بات في شن ، وإلا كرعنا » ، فيه

__________________

(١) وأخرجه أيضا أبو داود وابن ماجة وأحمد عن جابر. اه‍ ق.

(٢) بالزاد والفتح الكبير (١ / ٢٦٨) : شن. وفى الفتح زيادة : فاسقنا.

(٣) هذه الكلمة لم ترد بالزاد.

(٤) جملة الدعاء لم ترد بالزاد.

(٥) زيادة عن الزاد.

(١٢ ـ الطب النبوي)

١٧٧

دليل على جواز الكرع ، وهو : الشرب بالفم من الحوض والمقراة ونحوها. وهذه ـ والله أعلم ـ واقعة عين دعت الحاجة فيها إلى الكرع بالفم ، أو قاله مبينا لجوازه. فإن من الناس من يكرهه ، والأطباء تكاد تحرمه ، ويقولون : إنه يضر بالمعدة. وقد روى في حديث ـ لا أدري ما حاله؟ ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهانا أن نشرب على بطوننا ـ وهو : الكرع. ـ ونهانا أن نعترف باليد الواحدة ، وقال : لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ، ولا يشرب بالليل من إناء حتى يختبره ، إلا أن يكون مخمرا ».

وحديث البخاري أصح من هذا. وإن صح فلا تعارض بينهما : إذ لعل الشرب باليد لم يكن يمكن حينئذ ، فقال : وإلا كرعنا. والشرب بالفم إنما يضر : إذا انكب الشارب على وجهه وبطنه ، كالذي يشرب من النهر والغدير. فأما إذا شرب منتصبا بفمه ، من حوض مرتفع ونحوه ـ : فلا فرق بين أن يشرب بيده أو بفمه.

( فصل ) وكان من هديه الشرب قاعدا ، هذا كان هديه المعتاد.

وصح عنه : أنه نهى عن الشرب قائما. وصح عنه : أنه أمر الذي شرب قائما أن يستقئ. وصح عنه : أنه شرب قائما (١).

فقالت (٢) طائفة : هذا ناسخ للنهي.

وقالت طائفة : بل مبين أن النهى ليس التحريم ، بل للارشاد وترك الأولى.

وقالت طائفة : لا تعارض بينهما أصلا ، فإنه إنما شرب قائما للحاجة : فإنه جاء إلى زمزم ـ وهم يستقون (٣) منها ـ فاستقى ، فناولوه الدلو ، فشرب وهو قائم. وهذا كان موضع حاجة.

وللشرب قائما آفات عديدة ، منها : أنه لا يحصل به الري التام ، ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء ، وينزل بسرعة وحدة إلى المعدة ، فيخشى منه أن يبرد حرارتها ويشوشها ، ويسرع النفوذ إلى أسافل البدن بغير تدريج. وكل هذا يضر بالشارب.

__________________

(١) انظر : آداب الشافعي وهامشه (ص ٧٩ و ٣٣٠).

(٢) بالزاد ١٣٩ : قالت. ولعله تحريف.

(٣) بالزاد : يسقون. وما في الأصل أحسن وأنسب.

١٧٨

وأما إذا فعله نادرا أو لحاجة : لم يضره.

ولا يعترض بالعوائد على هذا : فإن العوائد طبائع ثوان ، ولها أحكام أخرى ، وهى بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء.

( فصل ) وفى صحيح مسلم ـ من حديث أنس بن مالك ـ قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتنفس في الشراب ثلاثا ، ويقول : إنه أروى وأمرأ وأبرأ ». (١)

( الشراب ) في لسان الشارع وحملة الشرع ـ هو : الماء. ومعنى تنفسه في الشراب : إبانة القدح عن فيه وتنفسه خارجه ، ثم يعود إلى الشراب. كما جاء مصرحا به في الحديث الاخر : « إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في القدح ، ولكن : ليبن الاناء عن فيه ».

وفى هذا الشرب حكم جمة ، وفوائد مهمة ، وقد نبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مجامعها ، بقوله : « إنه أروى وأمرأ وأبرأ ». فأروى : أشد ريا وأبلغه وأنفعه. وأبرأ : أفعل من البرء ـ وهو الشفاء ـ أي : يبرئ من شدة العطش ودائه ، لتردده على المعدة المتلهبة دفعات ، فتسكن الدفعة الثانية ما عجزت الأولى عن تسكينه ، والثالثة ما عجزت الثانية عنه. وأيضا : فإنه أسلم لحرارة المعدة ، وأبقى عليها من أن يهجم عليها البارد وهلة واحدة ، ونهلة واحدة.

وأيضا : فإنه لا يروى لمصادفته لحرارة العطش لحظة ، ثم يقلع عنها ولما تكسر سورتها وحدتها. وإن انكسرت لم تبطل بالكلية ، بخلاف كسرها على التمهل والتدريج.

وأيضا : فإنه أسلم عاقبة وآمن غائلة من تناول جميع ما يروى دفعة واحدة. فإنه يخاف منه أن يطفئ الحرارة الغريزية ـ بشدة برده ، وكثرة كميته ـ أو يضعفها : فيؤدى ذلك إلى فساد مزاج المعدة والكبد ، وإلى أمراض رديئة خصوصا في سكان البلاد الحارة : كالحجاز واليمن ونحوهما : أو في الأزمنة الحارة : كشدة الصيف. فإن الشرب وهلة واحدة مخوف عليهم جدا : فإن الحار الغريزي ضعيف في بواطن أهلها ، وفى تلك الأزمنة الحارة.

وقوله : « وأمرأ » هو أفعل من « مرئ الطعام والشراب في بدنه » : إذا دخله وخالطه

__________________

(١) وأخرجه البخاري بدون زيادة : « ويقول » : إنه أروى « إلخ. وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد بها. اه‍ ق.

١٧٩

بسهولة ولذة ونفع. ومنه : ( فكلوه هنيئا مريئا ) هنيئا في عاقبته ، مريئا في مذاقه. وقيل : معناه أنه أسرع انحدارا عن المرئ (١) ، لسهولته وخفته عليه ، بخلاف الكثير : فإنه لا يسهل على المرئ (١) انحداره.

ومن آفات الشرب نهلة واحدة : أنه يخاف منه الشرق ، بأن ينسد مجرى الشراب ـ لكثرة الوارد عليه ـ فيغص به. فإذا تنفس رويدا ثم شرب (٢) : أمن من ذلك ، ومن فوائده : أن الشارب إذا شرب أول مرة ، تصاعد البخار الدخاني الحار ـ الذي كان على القلب والكبد ـ لورود الماء البارد عليه ، فأخرجته الطبيعة عنها ، فإذا شرب مرة واحدة : اتفق نزول الماء البارد وصعود البخار ، فيتدافعان ويتعالجان. ومن ذلك يحدث الشرق والغصة ، ولا يتهنأ (٣) الشارب بالماء ، ولا يمرئه ، ولا يتم ريه.

وقد روى عبد الله بن المبارك ، والبيهقي ، وغيرهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « إذا شرب أحدكم : فليمص الماء مصا ، ولا يعب عبا ، فإن (٤) الكباد من العب ».

و ( الكباد ) ـ بضم الكاف وتخفيف الباء ـ هو : وجع الكبد. وقد علم بالتجربة : أن ورود الماء جملة واحدة على الكبد يؤلمها ، ويضعف حرارتها. وسبب ذلك : المضادة التي بين حرارتها ، وبين ما ورد عليها : من كيفية المبرود وكميته. ولو ورد بالتدريج شيئا فشيئا : لم يضاد حرارتها ، ولم يضعفها. وهذا مثاله : صب الماء البارد على القدر وهى تفور ، لا يضرها صبه قليلا قليلا.

وقد روى الترمذي في جامعه ـ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « لا تشربوا نفسا واحدا : كشرب البعير ، ولكن (٥) : اشربوا مثنى وثلاث ، وسموا إذا أنتم شربتم ، واحمدوا إذا (٦) أنتم فرغتم (٧) ».

__________________

(١) بالأصل والزاد ١٤٠ : « المري » بدون همزة. وهو خطأ. وراجع المختار والمصباح ، والنهاية ٤ / ٨٧ بتأمل. (٢) بالزاد : يشرب.

(٣) بالأصل : يتهنى. وإبدال الهمزة ياء هنا عامي ، كما صرح به في المصباح. وعبارة الزاد : يهنأ.

(٤) هذا إلخ لفظ رواية سعيد بن منصور ، وابن السنى ، وأبى نعيم في الطب. كما في الفتح الكبير : ١ / ١٢٣. وانظر : النهاية ٤ / ٣. وعبارة الأصل والزاد : « فإنه من الكباد ». وهى إما محرفة عما أثبتناه ، أو عن « فإن منه الكباد « أو عن » فإنه من العب الكباد ». (٥) بالزاد : لكن.

(٦) كذا بالفتح الكبير : ٣ / ٣٢٧. وبالأصل هنا والزاد في الموضعين : إذ. وهو تحريف.

(٧) رواية الفتح : رفعتم. وقد علق ق بقوله : هذا الحديث ضعيف!!.

١٨٠