الطبّ النبوي

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الطبّ النبوي

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : الطّب
المطبعة: دار إحياء الكتب العربية ـ قاهرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٤

والتفل ـ : قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة ، فأزالته. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج لدغة العقرب بالرقية

روى ابن أبي شيبة في مسنده ، من حديث عبد الله بن مسعود ، قال : « بينا رسول ( الله ) (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى ، إذ سجد : فلدغته عقرب في إصبعه ، فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : لعن الله العقرب : ما تدع نبيا ولا غيره. ( قال ) : ثم دعا بإناء فيه ماء وملح ، فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح ، ويقرأ قل هو الله أحد ، والمعوذتين. حتى سكنت » (٢).

ففي هذا الحديث ، العلاج بالدواء المركب من الامرين : الطبيعي والإلهي.

فإن في سورة الاخلاص ـ : من كمال التوحيد العلمي الاعتقادي ، وإثبات الأحدية لله المستلزمة نفى كل شركة عنه ، وإثبات الصمدية المستلزمة لاثبات كل كمال له ، مع كون الخلائق تصمد إليه في حوائجها ، أي : تقصده الخليقة وتتوجه إليه علويها وسفليها ، ونفى الوالد والولد والكفء عنه ، المتضمن لنفى الأصل والفرع والنظير والمماثل. ـ ما (٤) اختصت به ، وصارت تعدل ثلث القرآن. ففي اسمه « الصمد » : إثبات كل الكمال ، وفى نفى الكفء : التنزيه عن الشبيه والمثال ، وفى « الاحد » : نفى كل شريك لذي الجلال. وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد.

وفى المعوذتين الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا : فإن الاستعاذة من شر ما خلق تعم كل شر يستعاذ منه ، سواء كان في الأجسام أو الأرواح. والاستعاذة من شر الغاسق ، وهو الليل ، وآيته ـ وهو القمر إذا غاب ـ تتضمن (٤) الاستعاذة من شر ما ينتشر

__________________

(١) الزيادة عن الزاد.

(٢) وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط ، والبيهقي في الشعب ، وأبو نعيم في الطب ، وابن مردويه عن علي والمستنفري اه‍ ق.

(٣) هذا هو الظاهر. وبالأصل والزاد : مما.

(٤) كذا بالزاد ١٢٣. وهو المناسب. وفى الأصل : يتضمن.

١٤١

فيه : من الأرواح الخبيثة التي كان نور النهار يحول بينها وبين الانتشار ، فلما أظلم الليل عليها وغاب القمر : انتشرت وعاثت. والاستعاذة من شر النفاثات في العقد تتضمن الاستعاذة من شر السواحر وسحرهن. والاستعاذة من شر الحاسد تتضمن الاستعاذة من النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها. والسورة الثانية تتضمن الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن. فقد جمعت السورتان الاستعاذة من كل شر ، ولهما شأن عظيم في الاحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها. ولهذا أوصى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقبة بن عامر ، بقراءتهما عقب كل صلاة. ذكره الترمذي في جامعه. وفى هذا سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة. وقال : « ما تعوذ المتعوذون بمثلهما ». وقد ذكر : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحر في إحدى عشرة عقدة ، وأن جبريل نزل عليه بهما ، فجعل كلما يقرأ آية منهما : انحلت عقدة ، حتى انحلت العقد كلها وكأنما نشط من عقال ».

وأما العلاج الطبيعي فيه : فإن في الملح نفعا لكثير من السموم ، ولا سيما لدغة العقرب. قال صاحب القانون : « يضمد به مع بزر (١) الكتان للسع العقرب ». وذكره غيره أيضا. وفى الملح : من القوة الجاذبة المحللة ، ما يجذب السموم ويحللها. ولما كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج ـ : جمع بين الماء المبرد لنار اللسعة ، والملح الذي فيه جذب وإخراج. وهذا أتم ما يكون من العلاج وأيسره وأسهله ، وفيه تنبيه على أن علاج هذا الداء : بالتبريد والجذب والاخراج. والله أعلم.

وقد روى مسلم في صحيحه ، عن أبي هريرة ، قال : « جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة! فقال : أما لو قلت حين أمسيت : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضرك » (٢).

واعلم أن الأدوية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله ، وتمنع من وقوعه ، وإن وقع : لم يقع وقوعا مضرا وإن كان مؤذيا. والأدوية الطبيعية إنما تنفع بعد حصول الداء. فالتعوذات والاذكار : إما أن تمنع وقوع هذه الأسباب ، وإما أن تحول بينها وبين كمال

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : بذر. وما أثبت أولى أو الصحيح. انظر المصباح : (بذر).

(٢) وأخرجه أيضا أحمد اه‍ ق

١٤٢

تأثيرها ، بحسب كمال المتعوذ (١) وقوته وضعفه. فالرقى والعوذ تستعمل : لحفظ الصحة ، ولإزالة المرض.

أما الأول ، فكما في الصحيحين ، من حديث عائشة ، قالت (٢) : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا أوى إلى فراشه : نفث في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين ، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يده من جسده ».

وكما في حديث عوذة أبى الدرداء المرفوع : « اللهم أنت ربى ، لا إله إلا أنت ، عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم » ، وقد تقدم. وفيه : « من قالها أول نهاره : لم تصبه مصيبة حتى يمسى ، ومن قالها آخر نهاره : لم تصبه مصيبة حتى يصبح ».

وكما في الصحيحين : « من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة ، في ليلة ، كفتاه ».

وكما في صحيح مسلم ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « من نزل منزلا ، فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شئ حتى يرتحل من منزله ذلك ».

وكما في سنن أبي داود : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في السفر ، يقول بالليل : يا أرض ، ربى وربك الله ، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك ، وشر ما يدب عليك ، أعوذ بالله من أسد وأسود ، ومن الحية والعقرب ، ومن ساكن البلد ، ومن والد وما ولد ».

وأما (٣) الثاني ، فكما تقدم : من الرقية بالفاتحة ، والرقية للعقرب وغيرها مما يأتي.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رقية النملة

قد تقدم من حديث أنس ـ الذي في صحيح مسلم ـ : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة ».

وفى سنن أبي داود ، عن الشفاء بنت عبد الله ، قالت : « دخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) بالزاد ١٢٣ : التعوذ ولعله تحريف.

(٢) هذا لم يرد في الزاد.

(٣) بالزاد ١٢٤ : فصل وأما. ولعله تحريف.

١٤٣

ـ وأنا عند حفصة ـ فقال : ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة ».

( النملة ) : قروح تخرج في الجنبين ، وهو داء معروف. وسمى نملة : لان صاحبه يحس في مكانه (١) كأن نملة تدب عليه وتعضه. وأصنافها ثلاثة.

قال ابن قتيبة وغيره : كان المجوس يزعمون : أن ولد الرجل من أخته ، إذا حط على النملة : شفى صاحبها. ومنه قول الشاعر :

ولا عيب فينا غير حط لمعشر (١)

كرام ، وأنا لا نحط على النمل

وروى الخلال : « أن الشفاء بنت عبد الله كانت ترقى في الجاهلية من النملة ، فلما هاجرت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكانت قد بايعته بمكة ـ قالت : يا رسول الله ، إني كنت أرقى في الجاهلية من النملة ، وإني أريد أن أعرضها عليك. فعرضتها فقالت : باسم الله صلت حتى يعود من أفواهها ولا تضر أحدا (٢) ، اللهم : اكشف الباس ، رب (٢) الناس. قال : ترقى بها على عود سبع مرات ، وتقصد مكانا نظيفا ، وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق ، وتطليه على النملة ». وفى الحديث : دليل على جواز تعليم النساء الكتابة.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رقية الحية

قد تقدم قوله : « لا رقية إلا في عين أو حمة » ( الحمة ) : بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها.

وفى سنن ابن ماجة ـ من حديث عائشة ـ : « رخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرقية من الحية والعقرب ». ويذكر عن ابن شهاب الزهري ، قال : « لدغ بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل من راق؟ فقالوا : يا رسول الله ، إن آل حزم كانوا يرقون رقية الحية ، فلما نهيت عن الرقي : تركوها. فقال : ادعوا عمارة بن حزم. فدعوه فعرض عليه رقاه ، فقال : لا بأس بها. فأذن له فيها ، فرقاه (٣) ».

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : « كلامه .. حط لمشعر ». وهو تصحيف.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « أحد .. ورب ». وهو تحريف.

(٣) وأخرجه أيضا البخاري ومسلم والنسائي وأحمد اه‍ ق.

١٤٤

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رقية القرحة والجرح

أخرجا في الصحيحين عن عائشة ، قالت : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا اشتكى الانسان أو كانت به قرحة أو جرح ، قال (١) بإصبعه هكذا ( ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها ) ، وقال : باسم الله تربة أرضنا ، بريقة بعضنا ، ليشفى سقيمنا ، بإذن ربنا (٢) ».

هذا من العلاج السهل الميسر النافع المركب ، وهى معالجة لطيفة يعالج بها القروح والجراحات الطرية ، لا سيما عند عدم غيرها من الأدوية. إذ كانت موجودة بكل أرض. وقد علم : أن طبيعة التراب الخالص باردة يابسة ، مجففة لرطوبات القروح والجراحات ، التي تمنع الطبيعة من جودة فعلها ، وسرعة اندمالها ، لا سيما في البلاد الحارة ، وأصحاب الأمزجة الحارة. فإن القروح والجراحات يتبعها ـ في أكثر الامر ـ سوء مزاج حار ، فيجتمع حرارة البلد والمزاج والجراح. وطبيعة التراب الخالص باردة يابسة أشد من برودة جميع الأدوية المفردة الباردة ، فتقابل. برودة التراب حرارة المرض ، لا سيما إن كان التراب قد غسل وجفف. ويتبعها أيضا كثرة الرطوبات الرديئة والسيلان ، والتراب مجفف لها ، مزيل : لشدة يبسه وتجفيفه. للرطوبة الرديئة المانعة من برئها. ويحصل به ـ مع ذلك ـ تعديل مزاج العضو العليل. ومتى اعتدل مزاج العضو : قويت قواه المدبرة ، ودفعت عنه الألم بإذن الله.

ومعنى الحديث : أنه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ، ثم يضعها على التراب ، فيعلق بها منه شئ ، فيمسح به على الجرح ويقول هذا الكلام ، لما فيه : من بركة (ذكر) (٣) اسم الله ، وتفويض الامر إليه ، والتوكل عليه. فينضم أحد العلاجين إلى الآخر ، فيقوى التأثير.

وهل المراد بقوله : « تربة أرضنا » ، جميع الأرض؟ أو أرض المدينة خاصة؟ فيه قولان. ولا ريب أن من التربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواء كثيرة ، ويشفى بها أسقاما رديئة. قال جالينوس : « رأيت بالإسكندرية مطحولين ومستسقين كثيرا ، يستعملون طين

__________________

(١) إن العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال ، كما في نهاية : ٣ / ٢٨٥.

(٢) وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد اه‍ ق.

(٣) الزيادة عن الزاد ١٢٥.

( ١٠ ـ الطب النبوي )

١٤٥

مصر ، ويطلون به على سوقهم وأفخاذهم وسواعدهم وظهورهم وأضلاعهم ، فينتفعون به منفعة بينة. قال : وعلى هذا النحو ، فقد يقع هذا الطلاء للأورام العفنة والمترهلة الرخوة. قال : وإني لأعرف قوما ـ ترهلت أبدانهم كلها من كثرة استفراغ الدم من أسفل ـ انتفعوا بهذا الطين نفعا بينا ، وقوما آخرين شفوا به أوجاعا مزمنة ، كانت متمكنة في بعض الأعضاء تمكنا شديدا ، فبرأت وذهبت أصلا ». وقال صاحب الكتاب المسيحي : « قوة الطين المجلوب من كنوس ـ وهى جزيرة المصطكي ـ قوة تجلو أو تغسل ، وتنبت اللحم في القروح ، وتختم القروح » انتهى.

وإذا كان هذا في هذه التربات ، فما الظن بأطيب تربة على وجه الأرض وأبركها : وقد خالطت ريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقارنت رقيته باسم ربه وتفويض الامر إليه؟! وقد تقدم أن قوى الرقية وتأثيرها : بحسب الراقي وانفعال المرقى عن رقيته. وهذا أمر لا ينكره طبيب فاضل عاقل مسلم ، فإن انتفى أحد الأوصاف ، فليقل ما شاء.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الوجع بالرقية

روى مسلم في صحيحه ، عن عثمان بن أبي العاص : « أنه شكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ضع يدك على الذي تألم من جسدك ، وقل : باسم الله ثلاثا ، وقل سبع مرات : أعوذ بعزة الله وقدرته ، من شر ما أجد وأحاذر (١) ».

ففي هذا العلاج ـ : من ذكر اسم الله والتفويض إليه ، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم. ـ ما يذهب به. وتكراره ليكون أنجع وأبلغ ، كتكرار الدواء لاخراج المادة. وفى السبع خاصية لا توجد في غيرها.

وفى الصحيحين : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعود بعض أهله ، يمسح عليه بيده اليمنى ، ويقول : اللهم رب الناس ، أذهب الباس : واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما ».

__________________

(١) وأخرجه ابن ماجة وأحمد والطبراني اه‍ ق.

١٤٦

ففي هذه الرقية ، توسل إلى الله : بكمال ربوبيته ، وكمال رحمته بالشفاء ، وأنه وحدهالشافي ، وأنه لا شفاء إلا شفاؤه. فتضمنت التوسل إليه : بتوحيده وإحسانه وربوبيته.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج مر المصيبة وحزنها

قال تعالى : ( وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، وأولئك هم المهتدون ).

وفى المسند عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم : أجرني في مصيبتي ، وأخلف لي خيرا منها ـ إلا آجره (١) الله في مصيبته ، وأخلف له خيرا منها (٢) ».

وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب ، وأنفعه له في عاجلته وآجلته. فإنها تتضمن أصلين عظيمين ـ إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته ـ ( أحدهما ) : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة ، وقد جعله عند العبد عارية. فإذا أخذه منه ، فهو كالمعير : يأخذ متاعه من المستعير. وأيضا : فإنه محفوف بعدمين : عدم قبله ، وعدم بعده. وملك العبد له متعة (٣) معارة في زمن يسير. وأيضا : فإنه ليس هو (٤) الذي أوجده عن عدمه ، حتى يكون ملكه حقيقة ، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ، ولا يبقى عليه وجوده. فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي. وأيضا : فإنه متصرف فيه بالامر ، تصرف العبد المأمور المنهى ، لا تصرف الملاك. ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه ، إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.

( والثاني ) : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ، ولا بد أن يخلف الدنيا (٥)

__________________

(١) بالزاد ١٢٥ : أجاره وهو صحيح إن ثبتت رواية « أجرني » بكسر الجيم. وانظر : مسند أحمد ٦ / ٣١٧ ، والنهاية ١ / ١٧ ، واللسان ٥ / ٦٥ والمختار : ( أجر ).

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : معها. وهو تصحيف.

(٣) بالأصل والزاد : منعه. وهو تصحيف.

(٤) هذا لم يرد بالزاد.

(٥) كذا بالزاد. وفى الأصل : الدينار. وهو تحريف.

١٤٧

وراء ظهره ، ويجئ ربه فردا ـ كما خلقه أول مرة ـ بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ، ولكن بالحسنات والسيئات. فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته ، فكيف يفرح بموجود ، أو يأسى على مفقود! ففكرة العبد (١) في مبدئه ومعاده ، من أعظم علاج هذا الداء.

ومن علاجه : أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قال تعالى : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ، إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور ).

ومن علاجه : أن ينظر إلى ما أصيب به ، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه ، وادخر له ـ إن صبر ورضى ـ ما هو أعظم من فوات تلك (٢) المصيبة بأضعاف مضاعفة ، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.

ومن علاجه : أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب ، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد (٣) ، ولينظر يمنة ، فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة ، فهل يرى إلا حسرة؟ (٤) وأنه لو فتش العالم : لم ير فيهم إلا مبتلى إما بفوات محبوب ، أو حصول مكروه ، وأن سرور الدنيا أحلام نوم ، أو كظل زائل : إن أضحكت قليلا ، أبكت كثيرا ، وإن سرت يوما ، ساءت دهرا ، وإن متعت قليلا ، منعت طويلا ، وما ملأت دارا خيرة ، إلا ملأتها عبرة (٥) ، ولا سرته بيوم سرور ، إلا خبأت له يوم شرور.

قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه : « لكل فرحة ترحة ، وما ملئ بيت فرحا ، إلا ملئ ترحا ».

وقال ابن سيرين : « ما كان ضحك قط ، إلا كان من بعده بكاء ».

__________________

(١) بالزاد ١٢٦ : ففكره في مبدئه. وكل صحيح.

(٢) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : ذلك.

(٣) مأخوذ من مثل الأضبط بن قريع : « في كل أرض سعد بن زيد » اه‍ ق بتصرف.

(٤) هذا اقتباس من رسالة بديع الزمان الهمذاني ، إلى أبى عامر الضبي ، يعزيه ببعض أقاربه. انظر الرسائل (ص ٩٣) : ط الجوائب).

(٥) بالزاد هنا وفيما سيأتي : عبرة وهو تصحيف.

١٤٨

وقالت هند بنت النعمان : « لقد رأيتنا : ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكا ، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا : ونحن أقل الناس. وإنه حق على الله : أن لا يملا دارا خيرة ، إلا ملاها عبرة ».

وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها ، فقالت : « أصبحنا ذات صباح : وما في العرب أحد إلا يرجونا ، ثم أمسينا : وما في العرب أحد إلا يرحمنا ».

وبكت أختها حرقة بنت النعمان يوما ـ وهى في عزها ـ فقيل لها : ما يبكيك؟ لعل أحدا آذاك؟ قالت : لا ، ولكن رأيت غضارة في أهلي ، وقلما امتلأت دار سرورا ، إلا امتلأت حزنا ».

قال إسحق بن طلحة : « دخلت عليها يوما ، فقلت لها : كيف رأيت عبرات الملوك؟ فقالت : ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه بالأمس (١) ، إنا نجد في الكتب : أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة ، إلا سيعقبون بعدها عبرة ، وإن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه ، إلا بطن لهم بيوم يكرهونه. ثم قالت :

فبينا نسوس الناس : والامر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة نتنصف

فأف لدنيا لا يدوم نعيمها :

تقلب تارات بنا ، وتصرف ».

ومن علاجها : أن يعلم أن الجزع لا يردها ، بل يضاعفها. وهو في الحقيقة من تزايد المرض.

ومن علاجها : أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم ـ وهو من (٢) الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع ـ أعظم من المصيبة في الحقيقة.

ومن علاجها : أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه ، ويسئ صديقه ، ويغضب ربه ، ويسر شيطانه ، ويحبط أجره ، ويضعف نفسه. وإذا صبر واحتسب : أقصى شيطانه ، ورده خاسئا ، وأرضى ربه ، وسر صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه ، وعزاهم هو

__________________

(١) بالزاد ١٢٦ : الأمس.

(٢) هذا لم يرد بالزاد.

١٤٩

قبل أن يعزوه. فهذا هو الثبات والكمال الأعظم ، لا لطم الخدود ، وشق الجيوب والدعاء بالويل والثبور ، والسخط على المقدور.

ومن علاجها : أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب ـ من اللذة والمسرة ـ أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به ، لو بقى عليه. ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى (١) له في الجنة ، على حمده لربه واسترجاعه. فلينظر أي المصيبتين أعظم : مصيبة العاجلة؟ أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد؟.

وفى الترمذي مرفوعا : « يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا ، لما يرون : من ثواب أهل البلاء ».

وقال بعض السلف : « لولا مصائب الدنيا ، لوردنا القيامة مفاليس ».

ومن علاجها : أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله. فإنه من كل شئ عوض ، إلا الله فما منه عوض. كما قيل :

من كل ـ شئ إذا ضيعته ـ عوض ،

وما من الله ـ إن ضيعته ـ عوض

ومن علاجها : أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه (٢) له ، فمن رضى فله الرضا ، ومن سخط فله السخط. فحظك منها ما أحدثته لك. فاختر إما خير الحظوظ ، أو شرها. فإن أحدثت له سخطا وكفرا : كتب في ديوان الهالكين. وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب ، أو في (٣) فعل محرم ـ : كتب في ديوان المفرطين. وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر : كتب في ديوان المغبونين. وإن أحدثت له اعتراضا على الله ، وقدحا في حكمته ـ : فقد قرع باب الزندقة أو ولجه. وإن أحدثت له صبرا وثباتا لله : كتب في (ديوان الصابرين. وإن أحدثت له الرضا : كتب في) (٤) ديوان الراضين. وإن أحدثت له الحمد والشكر : كتب في ديوان الشاكرين ، وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين. وإن أحدثت له

__________________

(١) بالزاد : بنى.

(٢) كذا بالزاد ١٢٧. وفى الأصل : يحدثه. ولعله تصحيف.

(٣) بالزاد : أو فعل. وكل صحيح.

(٤) الزيادة عن الزاد.

١٥٠

محبة واشتياقا إلى لقاء ربه : كتب في ديوان المحبين المخلصين.

وفى مسند الإمام أحمد والترمذي ـ من حديث محمود بن لبيد يرفعه ـ : « إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضى فله الرضا ، ومن سخط فله السخط » ، زاد أحمد : « ومن جزع فله الجزع ».

ومن (١) علاجها : أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته ، فآخر أمره إلى صبر الاضطرار. وهو غير محمود ولا مثاب.

قال بعض الحكماء : « العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ، ما يفعله الجاهل بعد أيام. ومن لم يصبر صبر الكرام ، سلا سلو البهائم ». وفى الصحيح مرفوعا : « الصبر عند الصدمة الأولى ». وقال الأشعث بن قيس : « إنك إن صبرت إيمانا واحتسابا ، وإلا سلوت سلو البهائم ».

ومن علاجها : أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له ، وأن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب. فمن ادعى محبة محبوب ، ثم سخط ما يحبه وأحب ما يسخطه (٢) ـ : فقد شهد على نفسه بكذبه ، وتمقت إلى محبوبه.

وقال أبو الدرداء : « إن الله إذا قضى قضاء ، أحب أن يرضى به ». وكان عمران ابن الحصين ، يقول في علته : « أحبه إلي : أحبه إليه ». وكذلك قال أبو العالية.

وهذا دواء وعلاج لا يعمل إلا مع المحبين ، ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به.

ومن علاجها : أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين وأدومهما : لذة تمتعه بما أصيب به ، ولذة تمتعه بثواب الله له. فإن ظهر له الرجحان ، فآثر الراجح : فليحمد الله على توفيقه. وإن آثر المرجوح من كل وجه : فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه ، أعظم من مصيبته التي أصيب ما؟؟ في دنياه.

ومن علاجها : أن يعلم أن الذي ابتلاه بها : أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، وأنه

__________________

(١) بالزاد : من. والنقص من الناسخ أو الطابع.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : يسخط. وهو مع صحته تحريف.

١٥١

سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه ، ولا ليعذبه به ، ولا ليجتاحه ، وإنما افتقده به : ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه ، وليسمع تضرعه وابتهاله ، وليراه طريحا ببابه ، لائذا بجنابه ، مكسور القلب بين يديه ، رافعا قصص الشكوى إليه.

قال الشيخ عبد القادر : « يا بنى : إن المصيبة ما جاءت لتهلكك ، وانما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك ، يا بنى : القدر سبع ، والسبع لا يأكل الميتة ».

والمقصود : أن المصيبة كير العبد الذي يسبك به حاصله ، فإما أن يخرج ذهبا أحمر ، وإما أن يخرج خبثا كله. كما قيل :

سبكناه : ونحسبه لجينا ،

فأبدى الكير عن خبث الحديد

فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا : فبين يديه الكير الأعظم. فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك ، وأنه لا بد من أحد الكيرين ـ فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل.

ومن علاجها : أن يعلم أنه لولا محن الدنيا ومصائبها ، لأصاب العبد ـ : من أدواء الكبر والعجب ، والقرعنة وقسوة القلب. ـ ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا. فمن رحمة أرحم الراحمين : أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب ، تكون حمية له من هذه الأدواء ، وحفظا لصحة عبوديته ، واستفراغا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه. فسبحان من يرحم ببلائه ، ويبتلى بنعمائه! كما قيل :

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت

ويبتلى الله بعض القوم ، بالنعم

فلولا أنه سبحانه يداوى عباده بأدوية المحن والابتلاء ، لطغوا وبغوا وعتوا. والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرا : سقاه دواء ـ من الابتلاء والامتحان ـ على قدر حاله ، يستفرغ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه : أهله لاشرف مراتب الدنيا ـ وهى عبوديتة وأرفع ثواب الآخرة ، وهو رؤيته وقربه.

ومن علاجها : أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة ، يقلبها الله سبحانه

١٥٢

كذلك ، وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة. ولان ينتقل من مرارة منقطعة ، إلى حلاوة دائمة ـ خير له من عكس ذلك.

فإن خفى عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق : « حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات ».

وفى هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق ، وظهرت حقائق الرجال. فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة ، على الحلاوة الدائمة التي لا تزول ، ولم يحتمل مرارة ساعة بحلاوة الأبد ، ولا ذل ساعة لعز الأبد ، ولا محنة ساعة لعافية الأبد. فإن الحاضر عنده شهادة ، والمنتظر غيب ، والايمان ضعيف ، وسلطان الشهوة حاكم. فتولد من ذلك إيثار العاجلة ، ورفض الآخرة.

وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور وأوائلها ومبادئها. وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجلة ، ويجاوزه إلى العواقب والغايات ـ : فله شأن آخر.

فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته : من النعيم المقيم ، والسعادة الأبدية ، والفوز الأكبر ، وما أعد لأهل البطالة والإضاعة : من الخزي والعقاب ، والحسرات الدائمة. ثم اختر أي القسمين أليق بك. و ( كل يعمل على شاكلته ) ، وكل أحد يصبو إلى ما يناسبه وما هو الأولى به. ولا تستطل هذا العلاج : فشدة الحاجة إليه ـ من الطبيب والعليل ـ دعت إلى بسطه. وبالله التوفيق.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الكرب والهم والغم والحزن

أخرجا في الصحيحين ـ من حديث ابن عباس ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يقول عند الكرب : « لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ( السبع ) (١) ، ورب الأرض ، رب العرش الكريم ».

وفى جامع الترمذي عن أنس : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا حزبه أمر ، قال :

__________________

(١) زيادة عن الزاد ١٢٨.

١٥٣

« يا حي يا قيوم ، برحمتك أستغيث ». وفيه عن أبي هريرة : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا أهمه الامر : رفع طرفه إلى السماء ، فقال : سبحان الله العظيم. وإذا اجتهد في الدعاء ، قال : يا حي يا قيوم ».

وفى سنن أبي داود ، عن أبي بكر الصديق ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : « دعوات المكروب : اللهم رحمتك أرجو ، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وأصلح لي شأني كله ، لا إله إلا أنت ». وفيها أيضا عن أسماء بنت عميس ، قالت : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب ـ أو في الكرب ـ : الله ربى لا أشرك به شيئا » ، وفى رواية : أنها تقال سبع مرات.

وفى مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : « ما أصاب عبدا هم ولا حزن ـ فقال : اللهم إني عبدك (ابن عبدك) (١) ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همى. ـ إلا أذهب الله حزنه وهمه ، وأبدله مكانه فرحا ».

وفى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « دعوة ذي النون إذا دعار به وهو في بطن الحوت ـ : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ). لم يدع بها رجل مسلم في شئ قط ، إلا استجيب له ». وفى رواية : « إني لاعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه ، كلمة أخي يونس ».

وفى سنن أبي داود (٢) ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : « (دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ذات يوم ـ في المسجد ، فإذا هو برجل من الأنصار ، يقال له : أبو أمامة. فقال) :

__________________

(١) زيادة عن الزاد.

(٢) بالأصل زيادة بعد ذلك : عن أبي داود. وهى من عبث الناسخ أو الطابع. أو مصحفة عن « عن أبي نضرة » وإن كانت لم ترد في الزاد ١٢٩. والزيادة الآتية عنه وعن سنن أبي داود : ٢ / ٩٣.

١٥٤

يا أبا أمامة مالي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة؟ فقال : هموم لزمتني وديون يا رسول الله. فقال : ألا أعلمك كلاما إذا أنت قلته ، أذهب الله عز وجل همك ، وقضى دينك؟ ( قال ) قلت : بلى يا رسول الله. قال : قل ـ إذا أصبحت ، وإذا أمسيت ـ : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين ، وقهر الرجال. ( قال ) : ففعلت ذلك ، فأذهب الله عز وجل همى ، وقضى عنى ديني ».

وفى سنن أبي داود ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من لزم الاستغفار : جعل الله له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب ».

وفى المسند : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا حزبه أمر : فزع إلى الصلاة ». وقد قال تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ).

وفى السنن : « عليكم بالجهاد : فإنه من أبواب الجنة ، يدفع الله به عن النفوس الهم والغم ».

ويذكر عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من كثرت همومه وغمومه : فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ». وثبت في الصحيحين : أنها كنز من كنوز الجنة. وفى الترمذي : أنها باب من أبواب الجنة.

هذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعا من الدواء ـ فإن لم تقو على إذهاب داء الهم والغم والحزن : فهو داء قد استحكم وتمكنت أسبابه ، ويحتاج إلى استفراغ كلي ـ :

( الأول ) : توحيد الربوبية. ( الثاني ) : توحيد الإلهية. ( الثالث ) : التوحيد العلمي الاعتقادي (١). ( الرابع ) : تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده ، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك. ( الخامس ) : اعتراف العبد بأنه هو الظالم.

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : الاعتقاد. وهو تحريف.

١٥٥

( السادس ) : التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء إليه ، وهو : أسماؤه وصفاته. ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات : الحي القيوم. ( السابع ) : الاستعانة به وحده.

( الثامن ) : إقرار العبد له بالرجاء. ( التاسع ) : تحقيق التوكل عليه ، والتفويض إليه ، والاعتراف له : بأن ناصيته في يده يصرفه كيف يشاء ، وأنه ماض فيه حكمه ، عدل فيه قضاؤه.

( العاشر ) : أن يرتع قلبه في رياض القرآن ، ويجعله لقلبه كالربيع للحيوان ، وأن يستضئ به في ( ظلمات ) (١) الشبهات والشهوات ، وأن يتسلى به عن كل فائت ، ويتعزى به عن كل مصيبة ، ويستشفى به من أدواء صدره : فيكون جلاء حزنه ، وشفاء همه وغمه.

( الحادي عشر ) : الاستغفار. ( الثاني عشر ) : التوبة. ( الثالث عشر ) : الجهاد. ( الرابع عشر ) : الصلاة. ( الخامس عشر ) : البراءة من الحول والقوة ، وتفويضهما إلى من هما بيده.

فصل في بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الامر أحد

خلق الله سبحانه ابن آدم وأعضاءه ، وجعل لكل عضو منها كمالا : إذا فقده أحس بالألم ، وجعل لملكها ـ وهو القلب ـ كمالا : إذا فقده حضرته أسقامه وآلامه : من الهموم والغموم والأحزان.

فإذا فقدت العين ما خلقت له من قوة الابصار ، وفقدت الاذن ما خلقت له : من قوة السمع ، و ( فقد ) (٢) اللسان ما خلق له : من قوة الكلام ـ : فقدت كمالها.

والقلب خلق : لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده ، والسرور به ، والابتهاج بحبه ، والرضا عنه ، والتوكل عليه ، والحب فيه ، والبغض فيه ، والموالاة فيه ، والمعاداة فيه ، ودوام

__________________

(١) الزيادة عن الزاد ١٢٩.

(٢) زيادة حسنة لم ترد في الزاد أيضا.

١٥٦

ذكره ، وأن (١) يكون أحب إليه من كل ما سواه ، وأرجى عنده من كل ما سواه ، وأجل في قلبه من كل ما سواه ، ولا نعيم له ولا سرور ولا لذة ـ بل ولا حياة ـ إلا بذلك. وهذا له بمنزلة الغذاء والصحة والحياة. فإذا فقد غذاءه وصحته وحياته : فالهموم والغموم والأحزان مسارعة من كل صوب إليه ، ورهن مقيم عليه.

ومن أعظم أدوائه : الشرك والذنوب والغفلة ، والاستهانة بمحابه ومراضيه ، وترك التفويض إليه ، وقلة الاعتماد عليه ، والركون إلى ما سواه ، والسخط بمقدوره ، والشك في وعده ووعيده.

وإذا تأملت أمراض القلب : وجدت هذه الأمور وأمثالها ، هي أسبابها ، لا سبب لها سواها. فدواؤه ـ الذي لا دواء له سواه ـ ما تضمنته هذه العلاجات النبوية : من الأمور المضادة لهذه الأدواء. فإن المرض يزال بالضد ، والصحة تحفظ بالمثل. فصحته تحفظ بهذه الأمور النبوية ، وأمراضه بأضدادها.

فالتوحيد يفتح للعبد باب الخير والسرور واللذة والفرح والابتهاج. والتوبة استفراغ للاخلاط والمواد الفاسدة التي هي سبب أسقامه ، وحمية له من التخليط ، فهي تغلق عنه باب الشرور. فيفتح له باب السعادة والخير بالتوحيد ، ويغلق باب الشرور بالتوبة والاستغفار.

قال بعض المتقدمين من أئمة الطب : « من أراد عافية الجسم : فليقلل من الطعام والشراب ، ومن أراد عافية القلب : فليترك الآثام ». وقال ثابت بن قرة : « راحة الجسم في قلة الطعام ، وراحة الروح في قلة الآثام ، وراحة اللسان في قلة الكلام ».

والذنوب للقلب بمنزلة السموم : إن لم تهلكه أضعفته ولا بد. وإذا أضعفت (٢) قوته : لم يقدر على مقاومة الأمراض. قال طبيب القلوب عبد الله بن المبارك :

__________________

(١) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : أن.

(٢) بالزاد ١٣٠ : ضعفت.

١٥٧

رأيت الذنوب تميت القلوب ،

وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب ،

وخير لنفسك عصيانها

فالهوى أكبر أدوائها ، ومخالفته أعظم أدويتها. والنفس في الأصل خلقت جاهلة ظالمة ، ( فهي ) (١) لجهلها تظن شفاءها في اتباع هواها ، وإنما فيه تلفها وعطبها. ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح. بل يضع (٢) الداء موضع الدواء فتعتمده ، ويضع الدواء موضع الداء فتجتنبه ، فيتولد ـ من بين إيثارها للداء ، واجتنابها للدواء ـ أنواع من الأسقام والعلل التي تعيى الأطباء ، ويتعذر معها الشفاء. والمصيبة العظمى : أنها تركب (٣) ذلك على القدر ، فتبرئ نفسها ، وتلوم ربها بلسان الحال دائما ، ويقوى اللوم حتى يصرح به اللسان.

وإذا وصل العليل إلى هذه الحال : فلا يطمع (٤) في برئه ، إلا أن تتداركه رحمة من ربه : فيحييه حياة جديدة ، ويرزقه طريقة حميدة. فلهذا كان حديث ابن عباس في دعاء الكرب ، مشتملا على توحيد الإلهية والربوبية ، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم. وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة والاحسان والتجاوز ، ووصفه بكمال ربوبيته للعالم العلوي والسفلى ، والعرش الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها. والربوبية التامة تستلزم توحيده ، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والاجلال والطاعة ، إلا له. وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له ، وسلب كل نقص وتمثيل عنه. وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه.

فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده ، فيحصل له ـ من الابتهاج واللذة والسرور ـ ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم. وأنت تجد المريض : إذا ورد عليه

__________________

(١) الزيادة عن الزاد.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : تضع. وهو تصحيف

(٣) كذا بالزاد : وفى الأصل : تركت. ولعله مصحف عنه ، فتأمل.

(٤) كذا بالزاد. وفى الأصل : يطمح. وهو تصحيف.

١٥٨

ما يسره ويفرحه ويقوى نفسه ، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسى. فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى.

ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف ـ التي تضمنها دعاء الكرب ـ : وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق ، وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور. وهذه الأمور إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها ، وباشر قلبه حقائقها.

وفى تأثير قوله : « يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث » ـ في دفع هذا الداء ـ مناسبة بديعة. فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها ، وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الافعال. ولهذا كان اسم الله الأعظم ـ الذي إذا دعى به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ـ هو : اسم الحي القيوم. والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام. ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة : لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ، ولا شئ من الآفات. ونقصان الحياة ـ يضر (١) بالافعال ، وينافى (١) القيومية. فكمال القيومية لكمال الحياة. فالحي المطلق التام لا يفوته ( صفة ) (٢) الكمال البتة ، والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة. فالتوسل بصفة الحياة والقومية ، له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة ، ويضر بالافعال.

ونظير هذا توسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ربه ـ بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل ـ : أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه. فإن حياة القلب بالهداية ، وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الاملاك الثلاثة بالحياة : فجبريل موكل بالوحي الذي هو حياة القلوب ، وميكائيل بالقطر الذي هو حياة الأبدان والحيوان ، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها. فالتوسل إليه سبحانه ، بربوبيته (٣) هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة ، له تأثير في حصول المطلوب.

والمقصود : أن لاسم الحي القيوم تأثيرا خاصا في إجابة الدعوات ، وكشف الكربات.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٣٠. وفى الأصل : « تضر .. وتنافى » ، وهو تصحيف.

(٢) زيادة عن الزاد.

(٣) كذا بالأصل. وهو الظاهر أو الأولى. وفى الزاد : بربوبية.

١٥٩

وفى السنن وصحيح أبى حاتم مرفوعا : « اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : ( وإلهكم إله واحد ، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) ، وفاتحة آل عمران : ( ألم. الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) ». قال الترمذي : حديث صحيح.

وفى السنن وصحيح ابن حبان أيضا ـ من حديث أنس ـ : « أن رجلا دعا ، فقال اللهم ، إني أسألك بأن لك الحمد ، لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والاكرام ، يا حي يا قيوم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد دعا الله باسمه الأعظم : الذي إذا دعى به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ».

ولهذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا اجتهد في الدعاء ، قال : يا حي يا قيوم.

وفى قوله : « اللهم رحمتك أرجو ، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وأصلح لي شأني كله ، لا إله إلا أنت » ـ : من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيديه ، والاعتماد عليه وحده ، وتفويض الامر إليه ، والتضرع إليه : أن يتولى إصلاح شأنه ، ولا يكله إلى نفسه ، والتوسل إليه بتوحيده. ـ ما (١) له تأثير قوى في دفع هذا الداء. وكذلك قوله : « الله ربى لا أشرك به شيئا ».

وأما حديث ابن مسعود : « اللهم إني عبدك ابن (٢) عبدك ». ففيه : من المعارف الإلهية ، وأسرار العبودية ، مالا يتسع له كتاب. فإنه يتضمن الاعتراف بعبوديته وعبودية آبائه وأمهاته ، وأن ناصيته بيده يصرفها كيف يشاء ، فلا يملك العبد دونه لنفسه ، نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا. لان من ناصيته بيد غيره : فليس إليه شئ من أمره ، بل هو عان في قبضته ، ذليل تحت سلطان قهره.

وقوله : « ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ». متضمن لأصلين عظيمين ، عليهما مدار التوحيد : ( أحدهما ) إثبات القدر وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ، ماضية فيه ، لا انفكاك له عنها ، ولا حيلة له في دفعها.

__________________

(١) بالأصل والزاد : مما!

(٢) كذا بالأصل. وهو موافق لما تقدم (ص ١٥٤). وفى الزاد : وابن.

١٦٠