الطبّ النبوي

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الطبّ النبوي

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : الطّب
المطبعة: دار إحياء الكتب العربية ـ قاهرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٤

من الاذكار والآيات والدعوات ، التي تبطل فعلها وتأثيرها. وكلما كانت أقوى وأشد : كانت أبلغ في النشرة. وذلك بمنزلة التقاء جيشين : مع كل واحد منهما عدته وسلاحه ، فأيهما غلب الاخر : قهره وكان الحكم له. فالقلب إذا كان ممتلئا من الله ، مغمورا بذكره ـ وله من التوجهات والدعوات ، والاذكار والتعوذات ، ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه ـ : كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له ، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه.

وعند السحرة : أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة ، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات. ولهذا غالب ما يؤثر : في النساء والصبيان ، والجهال وأهل البوادي ، ومن ضعف حظه من الدين والتوكل والتوحيد ، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية ، والدعوات والتعوذات النبوية. وبالجملة ، فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة ، التي يكون ميلها إلى السفليات.

قالوا : والمسحور هو الذي يعين على نفسه ، فإنا نجد قلبه متعلقا بشئ ، كثير الالتفات إليه ، فيتسلط على قلبه بما فيه : من الميل والالتفات. والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها ، بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة ، وبفراغها من القوة الإلهية ، وعدم أخذها للعدة التي تجاربها بها ، فتجدها فارغة لا عدة معها ، وفيها ميل إلى ما يناسبها ، فتتسلط عليها ، ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الاستفراغ بالقئ

روى الترمذي في جامعه ـ عن معدان بن أبي طلحة ، عن أبي الدرداء : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاء فتوضأ. فلقيت ثوبان في مسجد دمشق ، فذكرت له ذلك. فقال : صدق ، أنا صببت له وضوءه ». (١) قال الترمذي : وهذا أصح شئ في الباب.

__________________

(١) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم وابن الجارود والدار قطني والبيهقي والطحاوي. اه‍ ق

١٠١

القئ : أحد الاستفراغات الخمسة التي هي أصول الاستفراغ ، وهى الاسهال ، والقئ ، وإخراج الدم ، وخروج الأبخرة ، والعرق (١). وقد جاءت بها السنة.

أما (٢) الاسهال ، فقد مر في حديث : « خير ما تداويتم به المشئ » ، وفى حديث السناء.

وأما إخراج الدم ، فقد تقدم في أحاديث الحجامة.

وأما استفراغ الأبخرة ، فنذكره عقيب هذا الفصل إن شاء الله.

وأما الاستفراغ بالعرق (٣) ، فلا يكون غالبا بالقصد (٣) ، بل بدفع الطبيعة له إلى ظاهر الجسد ، فتصادف المسام مفتحة ، فيخرج منها.

والقئ : استفراغ من أعلى المعدة (٤) ، والحقنة من أسفلها ، والدواء من أعلاها وأسفلها. والقئ نوعان : نوع بالغلبة والهيجان ، ونوع بالاستدعاء والطلب. فأما الأول : فلا يسوغ حبسه ودفعه إلا إذا أفرط وخيف منه التلف ، فيقطع بالأشياء التي تمسكه. وأما الثاني : فأنفعه عند الحاجة : إذا روعي زمانه وشروطه التي تذكر.

وأسباب القئ عشرة. ( أحدها ) : غلبة المرة الصفراء ، وطفوها على رأس المعدة ، فتطلب الصعود.

( الثاني ) : من غلبة بلغم لزج قد تحرك في المعدة ، واحتاج إلى الخروج.

( الثالث ) : أن يكون من ضعف المعدة في ذاتها ، فلا تهضم الطعام ، فتقذفه إلى جهة فوق.

( الرابع ) : أن يخالطها خلط ردئ ينصب إليها ، فيسئ هضمها ، ويضعف فعلها.

( الخامس ) : أن يكون من زيادة المأكول أو المشروب على القدر الذي تحتمله المعدة ، فتعجز عن إمساكه ، فتطلب دفعه وقذفه.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٠٥ ، وهو الظاهر. وفى الأصل : « من العروق » وهو تحريف يجعل الكلام ناقصا. فتأمل.

(٢) بالزاد : « وأما ». والزيادة من الناسخ أو الطابع.

(٣) بالأصل « بالعروق .. في الفصد ». وبالزاد : « بالعرق .. بالفصد بل تدفع ». والظاهر ما أثبتناه.

(٤) القئ هو : استخراج محتويات المعدة ، وهى صفة طبيعية للجسم السليم عند وجود أحد الأسباب المرضية التي ذكرت في هذا الباب. اه‍ د.

١٠٢

( السادس ) : أن يكون من عدم موافقة المأكول والمشروب لها ، وكراهتها له ، فتطلب دفعه وقذفه.

( السابع ) : أن يحصل فيها ما يثور الطعام بكيفيته وطبيعته ، فتقذف به.

( الثامن ) : القرف. وهو موجب غثيان النفس وتهوعها.

( التاسع ) : من الاعراض النفسانية ، كالهم الشديد والغم والحزن ، وغلبة اشتغال الطبيعة والقوى الطبيعية به ، واهتمامها بوروده ، عن تدبير البدن وإصلاح الغذاء وإنضاجه وهضمه ، فتقذفه المعدة. وقد يكون لأجل تحرك الاخلاط عند تخبط النفس. فإن كل واحد من النفس والبدن ينفعل عن صاحبه ، ويؤثر كيفيته في كيفيته.

( العاشر ) : نقل الطبيعة : بأن يرى من يتقيأ فيغلبه هو (١) القئ من غير استدعاء. فإن الطبيعة نقالة.

وأخبرني بعض حذاق الأطباء ، قال : كان لي ابن أخت حذق في الكحل ، فجلس كحالا. فكان إذا فتح عين الرجل ، ورأى الرمد وكحله : رمد. وتكرر ذلك منه ، فترك الجلوس. قلت له : فما سبب ذلك؟ قال : نقل الطبيعة ، فإنها نقالة. قال : وأعرف آخر كان رأى خراجا في موضع من جسم رجل يحكه ، فحك هو ذلك الموضع ، فخرجت فيه خراجة.

قلت : وكل هذا لابد فيه من استعداد الطبيعة ، وتكون المادة ساكنة فيها غير متحركة ، فتتحرك لسبب من هذه الأسباب. فهذه أسباب لتحرك المادة ، لا أنها (٢) هي الموجبة لهذا العارض.

( فصل ) ولما كانت الاخلاط في البلاد الحارة والأزمنة الحارة ، ترق وتنجذب إلى فوق ـ : كان القئ فيها أنفع. ولما كانت في الأزمنة الباردة والبلاد الباردة ، تغلظ ويصعب جذبها إلى فوق ـ : كان استفراغها بالاسهال أنفع.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٠٦. وفى الأصل : « وهو ». والزيادة من الناسخ أو الطابع.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « لا لأنها » وهو تحريف

١٠٣

وإزالة الاخلاط ودفعها يكون (١) بالجذب والاستفراغ. والجذب يكون من أبعد الطرق ، والاستفراغ من أقربها. والفرق بينهما : أن المادة إذا كانت عاملة في الانصباب أو الترقي ، لم تستقر بعد ، فهي محتاجة إلى الجذب. فإن كانت متصاعدة : جذبت من أسفل ، وإن كانت منصبة : جذبت من فوق. وأما إذا استقرت في موضعها : استفرغت من أقرب الطرق إليها.

فمتى أضرت المادة بالأعضاء العليا : اجتذبت من أسفل ، ومتى أضرت بالأعضاء السفلى : اجتذبت من فوق ، ومتى استقرت : استفرغت من أقرب مكان إليها.

ولهذا احتجم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كاهله تارة ، وفى رأسه أخرى ، وعلى ظهر قدمه تارة. فكان يستفرغ مادة الدم المؤذى من أقرب مكان إليه. والله أعلم.

( فصل ) والقئ ينقى المعدة ويقويها ، ويحد البصر ، ويزيل ثقل الرأس ، وينفع قروح الكلى والمثانة ، والأمراض المزمنة : كالجذام والاستسقاء والفالج والرعشة. وينفع اليرقان.

وينبغي أن يستعمله الصحيح في الشهر مرتين متواليتين ، من غير حفظ دور ليتدارك الثاني ما قصر عنه الأول ، وينقى الفضلات التي انصبت بسببه. والاكثار منه يضر المعدة ويجعلها قابلة للفضول ، ويضر بالأسنان والبصر والسمع. وربما صدع عرقا. ويجب أن يجتنبه من به (٢) ورم في الحلق ، أو ضعف في الصدر ، أو دقيق الرقبة ، أو مستعد لنفث الدم ، أو عسر الإجابة له.

وأما ما يفعله كثير من سيئى (٣) التدبير ـ وهو أن يمتلئ من الطعام ، ثم يقذفه ـ : ففيه آفات عديدة ، منها : أنه يعجل الهرم ، ويوقع في أمراض رديئة ، ويجعل القئ له عادة.

والقئ مع اليبوسة وضعف الأحشاء ، وهزال المراق ، أو ضعف المستقئ ـ خطر. وأحمد أوقاته الصيف والربيع ، دون الشتاء والخريف. وينبغي عند القئ : أن

__________________

(١) بالزاد : « تكون ». وهو صحيح أيضا.

(٢) بالزاد ١٠٦ : « له ». ولعله تصحيف.

(٣) هذا هو الظاهر وبالأصل : « سيئ » وفى الزاد : « ممن نسى ».

١٠٤

يعصب العينين ، ويقمط البطن ، ويغسل الوجه بماء بارد عند الفراغ ، وأن يشرب عقبه شراب التفاح مع يسير من مصطكي. وماء الورد ينفعه نفعا بينا. والقئ يستفرغ من أعلى المعدة ، ويجذب من أسفل. والاسهال بالعكس. قال أبقراط : « وينبغي أن يكون الاستفراغ في الصيف من فوق ، أكثر من الاستفراغ بالدواء ، وفى الشتاء من أسفل ».

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الارشاد

إلى معالجة أحذق الطبيبين (١)

ذكر مالك في موطئه ـ عن زيد بن أسلم ـ : « أن رجلا في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جرح ، فاحتقن الدم. وأن الرجل دعا رجلين من بنى أنمار ، فنظرا إليه. فزعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لهما : أيكما أطب؟ فقالا : أوفى الطب خير يا رسول الله؟! فقال : أنزل (٢) الدواء الذي أنزل الداء ».

ففي هذا الحديث : أنه ينبغي الاستعانة ، في كل علم وصناعته ، بأحذق من فيها فالأحذق ، فإنه إلى الإصابة أقرب. وهكذا : يجب على المستفتى أن يستعين على ما نزل به ، بالأعلم فالأعلم. لأنه أقرب إصابة ممن هو دونه. وكذلك : من خفيت عليه القبلة ، فإنه يقلد أعلم من يجده. وعلى هذا فطر الله عباده. كما أن المسافر في البر والبحر : إنما سكون نفسه وطمأنينته إلى أحذق الدليلين وأخبرهما ، وله يقصد ، وعليه يعتمد. فقد اتفقت على هذا الشريعة والفطرة والعقل.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أنزل الدواء الذي أنزل الداء » ، قد جاء مثله عنه في أحاديث كثيرة. فمنها : ما رواه عمرو بن دينار عن هلال بن يساف ، قال : « دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على مريض يعوده ، فقال : أرسلوا إلى طبيب. فقال قاتل : وأنت تقول ذلك

__________________

(١) بالزاد : « الطبيين ». وهو تحريف.

(٢) كذا بالزاد ١٠٧ وهو الموافق لما سيأتي.

وفى الأصل : « الذي أنزل الدواء ».

١٠٥

يا رسول الله؟! قال : نعم ، إن الله عز وجل لم ينزل داء ، إلا أنزل له دواء » (١) وفى الصحيحين ـ من حديث أبي هريرة ، يرفعه ـ : « ما أنزل الله من داء ، إلا أنزل له شفاء » وقد تقدم هذا الحديث وغيره.

واختلف في معنى إنزال الداء والدواء ، فقالت طائفة : إنزاله إعلام العباد به. وليس بشيء. فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر بعموم الانزال لكل داء ودوائه ، وأكثر الخلق لا يعلمون ذلك. ولهذا قال : « علمه من علمه ، وجهله من جهله ».

وقالت طائفة : إنزالهما خلقهما ووضعهما في الأرض ، كما في الحديث الاخر : « إن الله لم يضع داء ، إلا وضع له دواء » وهذا ـ وإن كان أقرب من الذي قبله ـ فلفظة « الانزال » أخص من لفظة « الخلق » و « الوضع ». فلا ينبغي إسقاط خصوصية اللفظة ، بلا موجب.

وقالت طائفة : إنزالهما بواسطة الملائكة الموكلين بمباشرة الخلق : من داء ودواء ، وغير ذلك. فإن الملائكة موكلة بأمر هذا العالم ، وأمر النوع الإنساني ـ من حين سقوطه في رحم أمه إلى حين موته. فإنزال الداء والدواء مع الملائكة. وهذا أقرب من الوجهين قبله.

وقالت طائفة : إن عامة الأدواء والأدوية هي بواسطة إنزال الغيث من السماء الذي تتولد به الأغذية والأقوات ، والأدوية والأدواء ، وآلات ذلك كله ، وأسبابه ومكملاته ، وما كان منها من المعادن العلوية : فهي تنزل من الجبال ، وما كان منها ـ من الأدوية (٢) والأنهار والثمار ـ فداخل في اللفظ على طريق التغليب والاكتفاء عن الفعلين بفعل واحد يتضمنها. وهو معروف من لغة العرب بل وغيرها من الأمم. كقول الشاعر :

علفتها (٣) تبنا وماء باردا

حتى غدت همالة ، عيناها

وقال الآخر :

ورأيت زوجك : قد غدا

متقلدا سيفا ورمحا

وقال الآخر : * وزججن الحواجب والعيونا *. وهذا أحسن مما قبله من الوجوه والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه أحمد عن هلال عن ذكوان عن رجل من الأنصار ، ورجاله ثقات. اه‍ ق.

(٢) بالأصل : « الأدوية والبهار ». وبالزاد : « الأدوية والأنهار ». والظاهر أن الأصل ما أثبتناه.

(٣) بالزاد ١٠٧ : « وعلفتها ».

١٠٦

وهذا من تمام حكمة الرب عز وجل ، وتمام ربوبيته ، فإنه كما ابتلى عباده بالأدواء ، أعانهم عليها بما يسره لهم : من الأدوية. وكما ابتلاهم بالذنوب. أعانهم عليها بالتوبة ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة. وكما ابتلاهم بالأرواح الخبيثة ـ : من الشياطين. ـ أعانهم عليها بجند من الأرواح الطيبة ، وهم : الملائكة. وكما ابتلاهم بالشهوات ، أعانهم على قضائها بما يسره لهم شرعا وقدرا : من المشتهيات اللذيذة النافعة. فما ابتلاهم سبحانه بشئ ، إلا أعطاهم ما يستعينون به على ذلك البلاء ، ويدفعونه به. ويبقى التفاوت بينهم : في العلم بذلك ، والعلم بطريق حصوله ، والتوصل إليه. وبالله المستعان.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تضمين من طب الناس

وهو جاهل بالطب

روى أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ـ من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ـ من تطبب ـ ولم يعلم منه الطب قبل ذلك ـ : فهو ضامن » (١).

هذا الحديث يتعلق به ثلاثة أمور : أمر لغوى ، وأمر فقهي ، وأمر طبي.

فأما اللغوي ، فالطب ( بكسر الطاء ) في لغة العرب ، يقال على معان ( منها ) : الاصلاح. يقال : طببته ، إذا أصلحته. ويقال : له طب بالأمور ، أي : لطف وسياسة (٢).

قال الشاعر :

وإذا تغير من تميم أمرها :

كنت الطبيب لها برأي ثاقب

( ومنها ) : الحذق. قال الجوهري : كل حاذق طبيب عند العرب. قال أبو عبيد : أصل الطب : الحذق بالأشياء ، والمهارة بها. يقال للرجل : طب وطبيب ، إذا كان كذلك ،

__________________

(١) وأخرجه أيضا الحاكم. اه‍ ق.

(٢) كذا بالزاد ١٠٨. وفى الأصل : « وساس ». ولعله تصحيف.

١٠٧

وإن كان في غير علاج المريض. وقال غيره : رجل طبيب ، أي : حاذق. سمى طبيبا : لحذقه وفطنته. قال علقمة :

فإن تسألوني بالنساء : فإنني

خبير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب رأس المرء ، أو قل ماله :

فليس له في ودهن نصيب

وقال عنترة :

إن تغد في دوني (١) القناع : فإنني

طب بأخذ الفارس المستلئم

أي : إن ترخى عنى قناعك ، وتستري وجهك رغبة عنى ـ : فإني خبير حاذق بأخذ

الفارس الذي قد لبس لامة حربه.

( ومنها ) : العادة. يقال : ليس ذلك بطبي ، أي : عادتي. قال فروة بن مسيك :

فما إن طبنا جبن ، ولكن

منايانا ودولة آخرينا

وقال أحمد بن الحسين :

وما التيه (٢) طبي فيهم ، غير أنني

بغيض إلى الجاهل المتغافل

( ومنها ) : السحر. يقال : رجل مطبوب ، أي : مسحور.

وفى (٣) الصحيح ـ من حديث عائشة ـ : « لما سحرت يهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجلس الملكان عند رأسه وعند رجليه ، فقال أحدهما : ما بال الرجل؟ قال الآخر : مطبوب. قال : من طبه؟ قال : فلان اليهودي ».

قال أبو عبيد : إنما قالوا للمسحور : مطبوب ، لانهم كنوا بالطب عن السحر ، كما كنوا عند اللديغ (٤) فقالوا : سليم ، تفاؤلا بالسلامة. وكما كنوا بالمفازة عن الفلاة المهلكة التي لا ماء فيها ، فقالوا : مفازة ، تفاؤلا بالفوز من الهلاك.

ويقال الطب ، لنفس الدواء. قال ابن أبي الأسلت (٥) :

ألا من مبلغ حسان عنى :

أسحر كان طبك؟ أم جنون؟

__________________

(١) بالزاد ١٠٨ : « تعد في ذوي ». وهو تصحيف.

(٢) بالزاد : « ألقيه » وهو تصحيف.

(٣) بالزاد : « في ». ولعله تحريف.

(٤) كذا بالزاد. وهو المراد. وفى الأصل : « اللذيع » وهو تصحيف.

(٥) بالأصل والزاد : « الاسلب » وهو تصحيف.

١٠٨

وأما قول الحماسي :

فإن كنت مطبوبا : فلا زلت هكذا

وإن كنت مسحورا : فلا برئ السحر

ـ فإنه أراد بالمطبوب : الذي قد سحر ، وأراد بالمسحور : العليل بالمرض. قال الجوهري : « ويقال للعليل : مسحور » ، وأنشد البيت. ومعناه : إن كان هذا الذي قد عراني ، منك ومن حبك ، أسأل الله دوامه ، ولا أريد زواله ، سواء كان سحرا أو مرضا.

« والطب » مثلث الطاء ، فالمفتوح الطاء هو : العالم بالأمور ، وكذلك الطبيب يقال له : طب ، أيضا. و « الطب » بكسر الطاء : فعل الطبيب. « والطب » بضم الطاء :

اسم موضع. قاله ابن السكيت. وأنشد :

فقلت : هل أنهلتم بطب ركابكم

بجائزة الماء التي طاب طيبها؟

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من تطبب » ـ ولم يقل : من طب ـ لان لفظ التفعل يدل على

تكلف الشئ والدخول فيه بعسر وكلفة ، وأنه ليس من أهله. كتحلم ، وتشجع ، وتصبر ، ونظائرها. وكذلك بنوا « تكلف » على هذا الوزن. قال الشاعر.

* وقيس عيلان (١) ومن تقيسا *

وأما الامر الشرعي : فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل. فإذا تعاطى علم الطب وعمله ، ولم يتقدم له به معرفة ـ : فقد هجم بجهله على إتلاف الأنفس ، وأقدم بالتهور على ما لم يعلمه. فيكون قد غرر بالعليل. فيلزمه الضمان لذلك. وهذا إجماع من أهل العلم.

قال الخطابي : لا أعلم خلافا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض : كان ضامنا ، والمتعاطى علما أو عملا لا يعرفه ، متعد. فإذا تولد من فعله التلف : ضمن الدية ، وسقط عنه القود. ( لأنه ) (٢) لا يستبد بذلك بدون إذن المريض. وجناية المتطبب ـ في قول عامة الفقهاء ـ على عاقلته.

قلت : الأقسام خمسة ، ( أحدها ) : طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ، ولم تجن يده ،

__________________

(١) بالأصل والزاد ١٠٨ : « غيلان » بالغين المعجمة. وهو تصحيف ظاهر.

(٢) زيادة متعينة عن الزاد ١٠٩.

١٠٩

فتولد من فعله ـ المأذون من جهة الشارع ، ومن جهة من يطبه ـ تلف العضو أو النفس ، أو ذهاب صفة. فهذا لا ضمان عليه اتفاقا : فإنها سراية مأذون فيه. وهذا (١) كما إذا ختن الصبى في وقت ، وسنه قابل للختان ، وأعطى الصنعة حقها ، فتلف العضو أو الصبى ـ : لم يضمن. وكذلك : إذا بط من عاقل أو غيره ما ينبغي بطه في وقته ، على الوجه الذي ينبغي ، فتلف به ـ : لم يضمن. وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببها : كسراية الحد بالاتفاق ، وسراية القصاص عند الجمهور ، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله : في إيجابه للضمان بها. وسراية التعزير ، وضرب الرجل امرأته ، والمعلم الصبى ، والمستأجر الدابة ، خلافا لأبي حنيفة والشافعي رحمهما الله : في إيجابهما الضمان في ذلك. واستثنى الشافعي رحمه الله ضرب الدابة.

وقاعدة الباب ـ إجماعا ، ونزاعا ـ : أن سراية الجناية مضمونة بالاتفاق ، وسراية الواجب مهدرة بالاتفاق. وما بينهما ففيه النزاع : فأبو حنيفة رحمه الله أوجب ضمانه مطلقا ، وأحمد ومالك رحمهما الله أهدرا ضمانه ، وفرق الشافعي رحمه الله بين المقدر : فأهدر ضمانه ، وبين غير المقدر : فأوجب ضمانه. فأبو حنيفة رحمه الله : نظر إلى أن الاذن في الفعل إنما وقع مشروطا بالسلامة. وأحمد ومالك رحمهما الله : نظرا إلى أن الاذن أسقط الضمان. والشافعي رحمه الله : نظر إلى أن المقدر لا يمكن النقصان منه ، فهو بمنزلة النص. وأما ( غير ) (٢) المقدر ـ كالتعزيرات ، والتأديبات ـ : فاجتهادية ، فإذا تلف بهما : ضمن. لأنه في مظنة العدوان.

( فصل ) القسم الثاني : متطبب جاهل باشرت يده من يطبه ، فتلف به. فهذا إن علم المجنى عليه أنه جاهل لا علم له ، وأذن له في طبه ـ : لم يضمن. ولا يخالف هذه الصورة ظاهر الحديث. فإن السياق وقوة الكلام يدل على أنه غر العليل ، وأوهمه أنه طبيب ، وليس كذلك.

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل « وهكذا » وهو تحريف.

(٢) زيادة متعينة عن الزاد ١٠٩

١١٠

وإن ظن المريض أنه طبيب ، وأذن له في طبه لأجل معرفته ـ : ضمن الطبيب ما جنت يده. وكذلك : إن وصف له دواء يستعمله ، والعليل يظن أنه وصفه لمعرفته وحذقه فتلف به ـ : ضمنه. والحديث ظاهر فيه أو صريح.

( فصل ) القسم الثالث : طبيب حاذق أذن له ، وأعطى الصنعة حقها ، لكنه أخطأت يده ، وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه ، مثل : أن سبقت يد الخاتن إلى الكمرة. فهذا يضمن : لأنها جناية خطأ. ثم إن كانت الثلث (١) فما زاد : فهو على عاقلته. فإن لم يكن عاقلة (٢) : فهل تكون الدية في ماله؟ أو في بيت المال؟ على قولين هما روايتان عن أحمد.

وقيل : إن كان الطبيب ذميا : ففي ماله ، وإن كان مسلما : ففيه الروايتان.

فإن لم يكن بيت المال ، أو تعذر تحميله : فهل تسقط الدية؟ أو تجب في مال الجاني؟ فيه وجهان ، أشهرهما : سقوطها.

( فصل ) القسم الرابع : الطبيب الحاذق الماهر بصناعته ، اجتهد فوصف للمريض دواء ، فأخطأ في اجتهاده فقتله. فهذا يخرج على روايتين : ( إحداهما ) : أن دية المريض في بيت المال. ( والثانية ) : أنها على عاقلة الطبيب. وقد نص عليهما (٣) الإمام أحمد في خطأ الامام والحاكم.

( فصل ) القسم الخامس : طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ، فقطع سلعة ، من رجل أو صبي أو مجنون ، بغير إذنه أو إذن وليه ، أو ختن صبيا بغير إذن وليه ، فتلف. فقال بعض أصحابنا : يضمن ، لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه.

وإن أذن له البالغ أو ولى الصبى والمجنون : لم يضمن.

ويحتمل : أن لا يضمن مطلقا ، لأنه محسن ، وما على المحسنين من سبيل. وأيضا : فإنه إن كان متعديا : فلا أثر لاذن الولي في إسقاط الضمان ، وإن لم يكن متعديا : فلا وجه لضمانه.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٠٩. وفى الأصل : « الثلاث ». وهو تحريف.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « عاقلته ». وهو تحريف.

(٣) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : « عليها ». ولعله تحريف.

١١١

فإن قلت : هو متعد عند عدم الإذن ، غير متعد عند الاذن.

قلت : العدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو ، فلا أثر للاذن وعدمه فيه. وهذا موضع نظر.

( فصل ) والطبيب ـ في هذا الحديث ـ يتناول : من يطبه بوصفه وقوله ، وهو الذي يخص : باسم الطبائعي. وبمروده ، وهو : الكحال. وبمبضعه ومراهمه ، وهو : الجرائحي. وبموساه ، وهو : الخاتن. وبريشته ، وهو : الفاصد. وبمحاجمه ومشرطه ، وهو : الحجام. وبخلعه ووصله ورباطه ، وهو : المجبر. وبمكواته وناره ، وهو : الكواء. وبقربته ، وهو : الحاقن. وسواء كان طبه لحيوان بهيم أو إنسان ، فاسم الطبيب يطلق لغة على هؤلاء كلهم ، كما تقدم. وتخصيص الناس له ببعض أنواع الأطباء ، عرف حادث كتخصيص لفظ الدابة بما يخصها به كل قوم.

( فصل ) والطبيب الحاذق هو : الذي يراعى في علاجه عشرين أمرا :

( أحدها ) : النظر في نوع المرض : من أي الأمراض هو؟.

( الثاني ) : النظر في سببه : من أي شئ حدث؟ والعلة الفاعلة التي كانت سبب حدوثه ، ما هي؟.

( الثالث ) : قوة المريض ، وهل هي مقاومة للمرض ، أو أضعف منه؟ فإن كانت مقاومة للمرض مستظهرة عليه : تركها والمرض ، ولم يحرك بالدواء ساكنا.

( الرابع ) : مزاج البدن الطبيعي ما هو؟. ( الخامس ) : المزاج الحادث على غير المجرى الطبيعي. ( السادس ) : سن المريض. ( السابع ) : عادته. ( الثامن ) : الوقت الحاضر من فصول السنة ، وما يليق به. ( التاسع ) : بلد المريض وتربته. ( العاشر ) : حال الهواء في وقت المرض. ( الحادي عشر ) : النظر في الدواء المضاد لتلك العلة.

( الثاني عشر ) : النظر في قوة الدواء ودرجته ، والموازنة بينها (١) وبين قوة المريض.

__________________

(١) كذا بالزاد ١١٠. وفى الأصل : « بينهما » والظاهر أنه تحريف.

١١٢

( الثالث عشر ) : أن لا يكون كل قصده إزالة تلك العلة فقط ، بل إزالتها على وجه يأمن معه حدوث أصعب منها. فمتى كان إزالتها لا يؤمن (١) معها حدوث علة أخرى أصعب منها : أبقاها على حالها ، وتلطيفها هو الواجب. وهذا كمرض أفواه العروق : فإنه متى عولج بقطعه وحبسه ، خيف حدوث ما هو أصعب منه.

( الرابع عشر ) : أن يعالج (٢) بالأسهل فالأسهل ، فلا ينتقل من العلاج بالغذاء إلى الدواء ، إلا عند تعذره ، ولا ينتقل إلى الدواء المركب ، إلا عند تعذر الدواء البسيط. فمن سعادة الطبيب : علاجه بالأغذية بدل الأدوية ، وبالأدوية البسيطة بدل المركبة.

( الخامس عشر ) : أن ينظر في العلة : هل هي مما يمكن علاجها ، أولا؟ فإن لم يمكن علاجها : حفظ صناعته وحرمته ، ولا يحمله الطمع على علاج لا يفيد شيئا.

وإن أمكن علاجها ، نظر : هل يمكن زوالها ، أم لا؟ فإن علم أنه لا يمكن زوالها ، نظر : هل يمكن تخفيفها وتقليلها؟ أم لا؟ فإن لم يمكن تقليلها ، ورأى أن غاية الامكان إيقافها وقطع زيادتها ـ : قصد بالعلاج ذلك ، وأعان القوة ، وأضعف المادة.

( السادس عشر ) : أن لا يتعرض للخلط قبل نضجه باستفراغ ، بل يقصد إنضاجه ، فإذا تم نضجه : بادر إلى استفراغه.

( السابع عشر ) : أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها ، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان. فإن انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمر مشهود. والطبيب إذا كان عارفا بأمراض القلب والروح وعلاجهما ، كان هو الطبيب الكامل. والذي لا خبرة له بذلك ـ وإن كان حاذقا في علاج الطبيعة وأحوال البدن ـ نصف طبيب. وكل طبيب لا يداوى العليل : بتفقد (٣) قلبه وصلاحه ، وتقوية أرواحه وقواه بالصدقة وفعل الخير والاحسان ، والاقبال على الله والدار الآخرة ـ فليس بطبيب ، بل متطبب

__________________

(١) بالزاد : « يأمن » ، وهو أنسب. (٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « تعالج » وهو تصحيف.

(٣) بالزاد ١١٠ : يتفقد. وهو تصحيف.

(٨ ـ الطب النبوي)

١١٣

قاصر. ومن أعظم علاجات المرض : فعل الخير والاحسان ، والذكر والدعاء ، والتضرع والابتهال إلى الله ، والتوبة. ولهذه الأمور تأثير في دفع العلل وحصول الشفاء ، أعظم من الأدوية الطبيعية. ولكن : بحسب استعداد النفس وقبولها ، وعقيدتها في ذلك ونفعه.

( الثامن عشر ) : التلطف بالمريض والرفق به ، كالتلطف بالصبى.

( التاسع عشر ) : أن يستعمل أنواع العلاجات الطبيعية والإلهية ، والعلاج بالتخييل. فإن لحذاق الأطباء في التخييل أمورا عجيبة لا يصل إليها الدواء. فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل معين.

( العشرون ) ـ وهو ملاك أمر الطبيب ـ : أن يجعل علاجه وتدبيره دائرا على ستة أركان : حفظ الصحة الموجودة ، ورد الصحة المفقودة بحسب الامكان ، وإزالة العلة أو تقليلها بحسب الامكان ، واحتمال أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما ، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما. فعلى هذه الأصول الستة مدار العلاج. وكل طبيب لا تكون هذه أخيته (١) التي يرجع إليها ، فليس بطبيب. والله أعلم.

( فصل ) ولما كان للمرض أربعة أحوال : ابتداء وصعود وانتهاء وانحطاط ، تعين على الطبيب مراعاة كل حال من أحوال المرض بما يناسبها ويليق بها ، ويستعمل في كل حال ما يجب استعماله فيها. فإذا رأى في ابتداء المرض أن الطبيعة محتاجة إلى ما يحرك الفضلات ويستفرغها لنضجها ، بادر إليه. فإن فاته تحريك الطبيعة في ابتداء المرض ـ لعائق منع من ذلك ، أو لضعف القوة وعدم احتمالها للاستفراغ ، أو لبرودة الفصل ، أو لتفريط وقع ـ : فينبغي أن يحذر كل الحذر أن يفعل ذلك في صعود المرض ، لأنه إن فعله : تحيرت الطبيعة لاشتغالها بالدواء ، وتخلت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية. ومثاله : أن يجئ إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه ، فيشغله عنه بأمر آخر. ولكن الواجب في هذه الحال : أن يعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه.

__________________

(١) الأخية بزنة أبيه : الحرمة والذمة. وهى أيضا مشهورة فيما تربط فيه الدابة. وإرادة الأول أظهر اه‍ ق. بل هو المتعين.

١١٤

فإذا انتهى المرض ووقف وسكن ، أخذ في استفراغه واستئصال أسبابه. فإذا أخذ في الانحطاط كان أولى بذلك. ومثال هذا : مثال العدو إذا انتهت قوته ، وفرغ سلاحه : كان أخذه سهلا ، فإذا ولى وأخذ في الهرب : كان أسهل أخذا. وحدته وشوكته إنما هي في ابتدائه وحال استفراغه ، وسعة قوته. فهكذا الداء والدواء سواء.

( فصل ) ومن حذق الطبيب : أنه حيث أمكن التدبير بالأسهل (١) ، فلا يعدل إلى الأصعب ، ويتدرج من الأضعف إلى الأقوى. إلا أن يخاف فوت القوة حينئذ : فيجب أن يبتدئ بالأقوى. ولا يقيم في المعالجة على حال واحدة : فتألفها الطبيعة ويقل انفعالها عنه ، ولا تجسر على الأدوية القوية في الفصول القوية. وقد تقدم أنه إذا أمكنه العلاج بالغذاء ، فلا يعالج بالدواء. وإذا أشكل عليه المرض : أحار هو؟ أم بارد؟ فلا يقدم حتى يتبين له ، ولا يجربه بما يخاف عاقبته. ولا بأس بتجربته بما لا يضر أثره.

وإذا اجتمعت أمراض : بدأ بما تخصه واحدة من ثلاث خصال. ( أحدها ) : أن يكون برء الآخر موقوفا على برئه ، كالورم والقرحة. فإنه يبدأ بالورم.

( الثاني ) : أن يكون أحدهما سببا للآخر ، كالسدة والحمى العفنة. فإنه يبدأ بإزالة السبب.

( الثالث ) : أن يكون أحدهما أهم من الآخر ، كالحاد والمزمن. فيبدأ بالحاد. ومع هذا فلا يغفل عن الآخر.

وإذا اجتمع المرض والعرض : بدأ بالمرض ، إلا أن يكون العرض أقوى كالقولنج ، فيسكن الوجع أولا ، ثم يعالج السدة. وإذا أمكنه أن يعتاض عن المعالجة بالاستفراغ بالجوع أو الصوم أو النوم ، لم يستفرغه. وكل صحة أراد حفظها ، حفظها بالمثل أو الشبه. وإن أراد نقلها إلى ما هو أفضل منها ، نقلها بالضد.

__________________

(١) بالزاد ١١١ : الأسهل. ولعله تحريف.

١١٥

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التحرز من الأدواء المعدية

بطبعها ، وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها

ثبت في صحيح مسلم ـ من حديث جابر بن عبد الله ـ : « أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم ، فأرسل إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع فقد بايعناك (١) ».

وروى البخاري في صحيحه تعليقا ـ من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « فر من المجذوم ، كما تفر من الأسد (٢) ».

وفى سنن ابن ماجة ، من حديث ابن عباس ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « لا تديموا النظر إلى المجذومين (٣) ».

وفى الصحيحين ، من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لا يوردن ممرض على مصح (٤) ».

ويذكر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين (٥) ».

( الجذام ) : علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله ، فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها ، وربما فسد في آخره أوصالها (٦) حتى تتأكل الأعضاء وتسقط. ويسمى : داء الأسد. وفى هذه التسمية ثلاثة أقوال للأطباء : (أحدها) : أنها لكثرة ما يعترى

__________________

(١) وأخرجه أيضا ابن ماجة وأحمد وابن خزيمة وابن جرير ، عن عمرو بن الشريد عن أبيه اه‍ ق.

(٢) الحديث على طريقة ابن الصلاح يعد موصولا! وأخرجه موصولا أبو نعيم في مستخرجه ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. ووصله البخاري في التاريخ بمعناه. وأخرجه أبو نعيم من طريق آخر عن أبي هريرة بلفظ : « اتقوا المجذوم كما يتقى الأسد ». وأخرج أبو نعيم وابن خزيمة عن عائشة مرفوعا : « وإذا رأيت المجذوم ففر منه فرارك من الأسد ». وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن جعفر بمعناه اه‍ ق.

(٣) وأخرجه أيضا أحمد والطيالسي والطبراني والبيهقي وابن خزيمة في التوكل اه‍ ق.

(٤) وأخرجه أيضا أبو داود وابن ماجة وأحمد والبيهقي وابن جرير اه‍ ق.

(٥) أخرجه ابن السنى وأبو نعيم في الطب وضعف. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند بزيادة : « لا تديموا النظر إلى المجذومين » قبله. وفيه الفرج بن فضالة. وثقه أحمد وضعفه النسائي. وأخرجه أبو علي والطبراني. وفى إسناد أبى يعلى الفرج بن فضالة ، وفى إسناد الطبراني يحيى الحماني. ضعيف أيضا اه‍ ق.

(٦) بالزاد ١١٢ : اتصالها

١١٦

الأسد. ( والثاني ) : لأن هذه العلة تجهم وجه صاحبها ، وتجعله في سحنة (١) الأسد (٢). ( والثالث ) : أنه يفترس من يقربه أو يدنو منه بدائه ، افتراس الأسد.

وهذه العلة ـ عند الأطباء ـ من العلل المعدية المتوارثة. ومقارب المجذوم وصاحب السل ، يسقم برائحته. فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : لكمال شفقته على الأمة ونصحه لهم. ـ نهاهم عن الأسباب التي تعرضهم لوصول العيب (٣) والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم. ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء ، وقد تكون الطبيعة سريعة الانفعال ، قابلة للاكتساب من أبدان من تجاوره وتخالطه. فإنها نقالة. وقد يكون خوفها من ذلك ووهمها ، من أكثر أسباب إصابة تلك العلة لها. فإن الوهم فعال مستول على القوى والطبائع. وقد تصل رائحة العليل إلى الصحيح ، فتسقمه. وهذا معاين في بعض الأمراض. والرائحة أحد أسباب العدوي. ومع هذا كله ، فلا بد من وجود استعداد البدن وقبوله لذلك الداء. وقد تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة ، فلما أراد الدخول بها : وجد بكشحها بياضا ، فقال : « الحقي بأهلك ».

وقد ظن طائفة من الناس : أن هذه الأحاديث معارضة بأحاديث أخر تبطلها وتناقضها. فمنها ما رواه الترمذي ـ من حديث عبد الله بن عمر ـ : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخذ بيد رجل مجذوم ، فأدخلها معه في القصعة ، وقال : كل باسم الله ، ثقة بالله ، وتوكلا عليه » (٤). ورواه ابن ماجة من حديث جابر بن عبد الله (٥). وبما ثبت في الصحيح

__________________

(١) بالزاد : سجية. ولعله تصحيف.

(٢) هذا المرض سمى بداء الأسد : لأنه يحول وجه المريض بما يجعله يشبه الأسد ، لكثرة وجود أورام صغيرة وتجعدات في الوجه. وخطورة هذا المرض في إتلاف الأعصاب المتطرفة ، فيفقد المريض حساسية الأطراف أولا ، ثم تتساقط الأصابع تدريجيا. وهو من الأمراض المعدية التي تجئ عدواها من التنفس مع المخالطة الطويلة. ويعزل الآن جميع مرضى الجذام ، في مستعمرات خاصة لهم ، لمنع انتشار المرض اه‍ د.

(٣) كذا بالزاد ١١٢. وفى الأصل. بالغيب. وهو تصحيف.

(٤) وأخرجه أيضا أبو داود وابن ماجة وابن خزيمة وابن أبي عاصم وابن السنى. وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث المفضل بن فضالة. والمفضل قال فيه ابن معين : ليس بذاك. أي ضعيف اه‍ ق.

(٥) وأخرجه أيضا الحاكم وابن حبان في صحيحيهما ، وأبو يعلى والبيهقي في السنن ، والضياء في المختارة. وسيأتى للمصنف تضعيفه أيضا بنفي صحته وثبوته اه‍ ق.

١١٧

ـ عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « لا عدوى ، ولا طيرة » (١).

ونحن نقول : لا تعارض ـ بحمد الله ـ بين أحاديثه الصحيحة ، فإذا وقع التعارض : فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتا. فالثقة يغلط أو يكون أحد الحديثين ناسخا للآخر. فإذا (٢) كان مما يقبل النسخ أو التعارض في فهم السامع ، لا ( في ) نفس كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : فلا بد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة. وأما حديثان صحيحان صريحان ، متناقضان من كل وجه ، ليس أحدهما ناسخا للآخر ـ فهذا لا يوجد أصلا. ومعاذ الله : أن يوجد في كلام الصادق المصدوق (٣) ، الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق. والآفة من التقصير في معرفة المنقول والتمييز بين صحيحه ومعلوله ، أو من القصور في فهم مراده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحمل كلامه على غير ما عناه به ، أو منهما معا. ومن ههنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع. وبالله التوفيق.

قال ابن قتيبة في كتاب « اختلاف الحديث » (٤) له ـ حكاية عن (٥) أعداء الحديث وأهله ـ : « قالوا : حديثان متناقضان ، رويتم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : لا عدوى ولا طيرة. وقيل له : إن النقبة تقع بمشفر البعير ، فيجرب لذلك الإبل. قال : فما أعدى الأول.؟ ثم رويتم : لا يورد ذو عاهة على مصح ، وفر من المجذوم فرارك من الأسد. وأتاه رجل مجذوم ليبايعه على الاسلام ، فأرسل إليه البيعة ، وأمره بالانصراف ولم يأذن له. وقال : الشؤم في المرأة والدار والدابة. قالوا : وهذا كله مختلف لا يشبه بعضه بعضا. قال أبو محمد : ونحن نقول : إنه ليس في هذا اختلاف ، ولكل معنى منها وقت وموضع. فإذا وضع موضعه زال الاختلاف. والعدوي جنسان : (أحدهما) : عدوى

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. وسيأتى للمصنف كلام في هذا الحديث يتضمن التشكيك في صحته!!. اه‍ ق.

(٢) بالزاد : إذا. ولعله تحريف فتأمل. والزيادة الآتية عنه.

٣ ـ كذا بالزاد. وفي الأصل : والمصدوق.

٤ ـ المطبوع باسم تأويل مختلف الحديث. والنص فيه ١٢٣ ـ ١٢٦ بزيادة واختلاف قد ننبه على بعضه.

(٥) كذا بالزاد. وفى الأصل : من. وهو تصحيف.

١١٨

الجذام ، فإن المحذوم يشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته. وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم ، فتضاجعه في شعار واحد ، فيوصل إليها الأذى ، وربما جذمت. وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه. وكذلك من كان به سل ودق ونقب. والأطباء تأمر : أن لا يجالس المسلول ولا المجذوم ، ولا يريدون بذلك معنى العدوي ، وإنما يريدون به معنى تغير الرائحة وأنها قد تسقم من أطال اشتمامها. والأطباء أبعد الناس عن الايمان بيمن وشؤم. وكذلك النقبة تكون بالبعير ـ وهو جرب رطب ـ فإذا خالط الإبل أو حاكها وأوى في مباركها : وصل إليها بالماء الذي يسيل منه وبالنطف ، نحو ما به. فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يورد ذو عاهة على مصح. كره أن يخالط المعيوه (١) الصحيح لئلا يناله من نطفه وحكته نحو ما به (٢). قال : وأما الجنس الآخر من العدوي ، فهو : الطاعون ينزل ببلد ، فيخرج منه خوف العدوي. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا وقع ببلد وأنتم به ، فلا تخرجوا منه ، وإذا كان ببلد : فلا تدخلوه. يريد بقوله : لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه ، كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم من الله. ويريد ( بقوله : و ) إذا كان ببلد فلا تدخلوه ، أن (٣) مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه ، أسكن لقلوبكم ، وأطيب لعيشكم. ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم (٤) أو الدار ، فينال الرجل مكروه أو جائحة ، فيقول : أعدتني بشؤمها. فهذا هو العدوي الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا عدوى ».

وقالت فرقة أخرى : بل الامر باجتناب المجذوم والفرار منه على الاستحباب والاختيار والارشاد. وأما الاكل معه ، ففعله لبيان الجواز وأن هذا ليس بحرام.

وقالت فرقة أخرى : بل الخطاب بهذين الخطابين جزئي ، لا كلي. فكل واحد

__________________

(١) بالأصل والزاد : « المعتوة ... نطقه وخلقه ». والظاهر أنه مصحف. وما أثبتناه إنما هو مأخوذ من عبارة اختلاف الحديث.

(٢) بالاختلاف والزاد ١١٣ : مما.

(٣) كذا بالاختلاف. والزيادة السابقة عنه. وفى الأصل والزاد : أي.

(٤) بالزاد : الشؤم. وهو تحريف.

١١٩

خاطبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يليق بحاله : فبعض الناس يكون قوى الايمان قوى التوكل ، يدفع قوة توكله قوة العدوي ، كما تدفع قوة الطبيعة قوة العلة ، فتبطلها. وبعض الناس لا يقوى على ذلك ، فخاطبه بالاحتياط والاخذ بالتحفظ. وكذلك (هو) (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل الحالتين معا : لتقدى به الأمة فيهما ، فيأخذ من قوى من أمته بطريقة التوكل (٢) والثقة بالله ، ويأخذ من ضعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط. وهما طريقان صحيحان : أحدهما للمؤمن القوى ، والآخر للمؤمن الضعيف. فتكون لكل واحد من الطائفتين حجة وقدوة بحسب حالهم وما يناسبهم. وهذا : كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كوى ، وأثنى على تارك الكي وقرن تركه بالتوكل وترك الطيرة. ولهذا نظائر كثيرة. وهذه طريقة لطيفة حسنة جدا ، من أعطاها حقها ، ورزق فقه نفس فيها ـ : أزالت عنه تعارضا كثيرا يظنه بالسنة الصحيحة.

وذهبت فرقة أخرى : إلى أن الامر بالفرار (٣) منه ومجانبته ، لأمر طبيعي ، وهو : انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة ، إلى الصحيح. وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة ( له ) (٤). وأما أكله معه مقدارا يسيرا من الزمان ، لمصلحة راجحة ، فلا بأس به ، ولا تحصل العدوي من مرة واحدة ولحظة واحدة. فنهى سدا للذريعة (٤) ، وحماية للصحة ، وخالطه مخالطة ما : للحاجة والمصلحة. فلا تعارض بين الامرين.

وقالت طائفة أخرى : يجوز أن يكون هذا المجذوم الذي أكل معه ، به من الجذام أمر يسير لا بعدي مثله. وليس الجذمي (٥) كلهم سواء ولا العدوي حاصلة من جميعهم. بل منهم : من لا تضر مخالطته ولا تعدى ، وهو : من أصابه من ذلك شئ يسير ، ثم وقف واستمر على حاله ، ولم يعد بقية جسمه. فهو أن لا يعدى غيره أولى وأحرى.

وقالت فرقة أخرى : إن الجاهلية كانت تعتقد : أن الأمراض المعدية تعدى بطبعها ، من غير إضافة إلى الله سبحانه. فأبطل (٥) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم

__________________

(١) زيادة متعينة عن الزاد.

(٢) بالزاد زيادة : والقوة.

(٣) بالزاد : الفرار. وهو تحريف.

(٤) الزيادة عن الزاد ١١٣.

(٥) كذا بالزاد. وفى الأصل : أبطل. ولعله تحريف.

١٢٠