الفقه والمسائل الطبيّة

الشيخ محمد آصف المحسني

الفقه والمسائل الطبيّة

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٣

التدريجي وقبول الانقسام والتجزي ـ لكان مادياً متغيراً وقابلاً للانقسام ، وليس كذلك ، فإنّ كل أحد إذا رجع الى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لنفسه وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أوّل شعوره بنفسه وجده معنىً مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدد وتغير كما يجد بدنه وأجزاء بدنه والخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة في مادتها وشكلها وسائر أحوالها وصورها ، وكذا وجده معنىً بسيطاً غير قابل للانقسام والتجزي كما يجد البدن وأجزائه وخواصه ـ وكل مادة وأمر مادي كذلك ـ ؛ فليست النفس هي البدن ولا جزءاً من أجزائه ولا خاصة من خواصه ، سواء أدركناه بشيء من الحواس أو بنحو من الاستدلال أو لم ندرك ، فإنها جميعاً مادية كيفما فرضت ، ومن حكم المادة التغير وقبول الانقسام ، والمفروض أنْ ليس في مشهودنا المسمّى بالنفس شيء من هذه الاَحكام؛ فليست النفس بمادية بوجه.

وأيضاً هذا الذي نشاهده نشاهده أمراً واحداً بسيطاً ليس فيه كثرة من الاجزاء ولا خليط من خارج بل هو واحد صرف ، فكل إنسان يشاهد ذلك من نفسه ويرى أنّه هو وليس بغيره ، فهذا المشهود أمرٌ مستقل في نفسه لا ينطبق عليه حد المادة ولا يوجد فيه شيء من أحكامها اللازمة ، فهو جوهر مجرد عن المادة متعلق بالبدن نحو تعلق يوجب اتحاداً ما له بالبدن ، وهو التعلق التدبيري؛ وهو المطلوب.

وقد أنكر تجرّد النفس جميع الماديين وجمع من الاِلهيين من المتكلمين والظاهريين من المحدثين ، واستدلوا على ذلك وردوا ما ذكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلف من غير طائل.

قال الماديون : إنّ الاَبحاث العلمية على تقدّمها وبلوغها اليوم إلى غاية

٤١

الدقّة في فحصها وتجسّسها لم تجد خاصة من الخواص البدنية إلاّ وجدت علّتها المادية ، ولم تجد أثراً روحياً لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتّى تحكم بسببها بوجود روح مجرّدة.

قالوا : وسلسلة الاَعصاب تؤدّي الاِدراكات الى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي على التوالي وفي نهاية السرعة ، ففيه مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزائها ولا يدرك بطلان بعضها وقيام الآخر مقامه ، وهذا الواحد المتحصّل هو نفسنا التي نشاهدها ونحكي عنها بـ : أنا.

فالذي نرى أنه غير جميع أعضائنا صحيح إلاّ أنّه لا يثبت أنّه غير البدن وغير خواصّه ، بل هو مجموعة متّحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه ، فإن لازم الغفلة عنه على ما تبين بطلان الاَعصاب ووقوفها عن أفعالها وهو الموت ، والذي نرى أنّه ثابت صحيح لكنه لا من جهة ثباته وعدم تغيره في نفسه بل الاَمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الاِدراكية وسرعة ورودها ، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوء دائماً ، فما فيه من الماء يجده الحس واحداً ثابتاً وهو بحسب الواقع لا واحدٌ ولا ثابت ، وكذا يجد عكس الاِنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحداً ثابتاً وليس واحداً ثابتاً بل هو كثيرٌ متغير تدريجاً بالجريان التدريجي الذي لاَجزاء الماء فيه ، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصية التي نرى في النفس.

قالوا : فالنفس التي يقام البرهان على تجرّدها من طريق المشاهدة الباطنية هي في الحقيقة مجموعة من خواص طبيعية ، وهي الاِدراكات العصبية التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية وجزء المركّب العصبي ، ووحدتها وحدة إجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية.

٤٢

أقول : أما قولهم : « إن الاَبحاث العلمية المبتنية على الحس والتجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح ولا وجدت حكماً من الاَحكام غير قابل التعليل إلاّ بها » فهو كلام حق لا ريب فيه لكنّه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي اقيم البرهان على وجودها ، فإنّ العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواص المادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة وإثبات ما هو من سنخها ، وكذا الخواص والاَدوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادية إنما لها أن تحكم في الاَُمور المادية ، وأما ما وراء المادة والطبيعة فليس لها أن تحكم فيها نفياً ولا إثباتاً ، وغاية ما يشعر البحث المادي به هو عدم الوجدان ، وعدم الوجدان غير عدم الوجود ، وليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هي موضوعها ولا بين أحكام المادة وخواصها التي هي نتائج بحثها أمراً مجرداً خارجاً عن سنخ المادة وحكم الطبيعة.

والذي جرأهم على هذا النفي زعمهم أنّ المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الاَعضاء ولم يقدروا على تعليلها العلمي ، فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعاً مبدئاً لهذه الاَفاعيل ، فلما حصل العلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجهٌ للقول بها. ونظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.

وهو اشتباه فاسد ، فإن المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك ولم يسندوا بعض الاَفاعيل البدنية إلى البدن فيما علله ظاهرة وبعضها الى النفس فيما علله مجهولة ، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنية بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها ، وإنما أسندوا الى النفس ما لا يمكن إسناده الى البدن ألبتة ، وهو علم الاِنسان بنفسه ومشاهدته ذاته كما مر.

٤٣

وأما قولهم : « إنّ الاِنية المشهودة للاِنسان على صفة الوحدة هي عدة من الاِدراكات العصبية الواردة على المركز على التوالي وفي نهاية السرعة ـ ولها وحدة اجتماعية ـ » فكلام لا محصل له ولا ينطبق عليه الشهود النفساني البتة ، وكأنهم ذهلوا عن شهودهم النفساني فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسية الى الدماغ واشتغلوا بالبحث عما يلزم ذلك من الاثار التالية ، وليت شعري إذا فرض أنّ هناك أُموراً كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ألبتة ، وهذه الاَُمور الكثيرة التي هي الادراكات أُمور مادية ليس ورائها شيء آخر إلاّ نفسها ، وأنّ الاَمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الادراكات الكثيرة ، فمن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره؟! ومن أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عياناً؟!

والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد ، فإن الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة وإنما وحدتها في الحس أو الخيال ـ كالدار الواحد والخط الواحد مثلاً ـ لا في نفسه ، والمفروض في محلّ كلامنا أنّ الاِدراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها ، فلازم قولهم : إنّ هذه الاِدراكات في نفسها كثيرة لا ترجع الى وحدة أصلاً ، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعاً ، وليس هناك أمر آخر له هذه الاِدراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة كما يدرك الحاسة أو الخيال المحسوسات أو المخيلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية ، فإنّ المفروض أنّ مجموع الاِدراكات الكثيرة في نفسها نفس الاِدراك النفساني الواحد في نفسه ، ولو قيل : إنّ المدرك هاهنا الجزء الدماغي يدرك الاِدراكات الكثيرة على نعت الوحدة. كان الاِشكال بحاله ، فإن المفروض أنّ إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الاِدراكات الكثيرة

٤٤

المتعاقبة بعينها لا أن للجزء الدماغي قوة إدراك تتعلق بهذه الاِدراكات كتعلق القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية وانتزاعها منها صوراً حسية ، فافهم ذلك.

والكلام في كيفية حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود الذي هو متغير متجزّئَ في نفسه كالكلام في حصول وحدته ، مع أنّ هذا الفرض أيضاً ـ أعني أن يكون الاِدراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورة بشعور دماغي على نعت الوحدة ـ نفسه فرض غير صحيح ، فما شأن الدماغ والقوة التي فيه والشعور الذي لها والمعلوم الذي عندها؟! وهي جميعاً أُمور مادية ، ومن شأن المادة والمادي الكثرة والتغير وقبول الانقسام ، وليس في هذه الصورة العلمية شيء من هذه الاَوصاف والنعوت ، وليس غير المادة والمادي هناك شيء.

وقولهم : « إنّ الاَمر يشتبه على الحس أو القوة المدركة ، فيدرك الكثير المتجزي المتغير واحداً بسيطاً ثابتاً » غلط واضح ، فإن الغلط والاشتباه من الاَُمور النسبية التي تحصل بالمقايسة والنسبة لا من الاَُمور النفسية ، مثال ذلك أنا نشاهد الاَجرام العظيمة السماوية صغيرة كالنقاط البيض ونغلط في مشاهدتنا هذه على ما تبينه البراهين العلمية وكثير من مشاهدات حواسنا ، إلاّ أنّ هذه الاَغلاط إنما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عند الحس مما في الخارج من واقع هذه المشهودات ، وأما ما عند الحس في نفسه فهو أمرٌ واقعي كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطاً ألبتة.

والاَمر فيما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ حواسّنا وقوانا المدركة إذا وجدت الاَُمور الكثيرة المتغيرة المتجزية على صفة الوحدة والثبات والبساطة كانت القوى المدركة غالطة في إدراكها مشتبهة في معلومها

٤٥

بالقياس الى المعلوم الذي في الخارج ، وأما هذه الصورة العلمية الموجودة عند القوة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها ألبتة ، ولا يمكن أن يقال للاَمر الذي هذا شأنه : إنه مادي لفقده أوصاف المادة العامة.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الحجة التي أوردها المادّيون من طريق الحس والتجربة إنما ينتج عدم الوجدان ، وقد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود (وهو مدَّعاهم) مكان عدم الوجدان ، وما صوّروه لتقرير الشهود النفساني المثبت لوجود أمر واحد بسيط ثابت تصوير فاسد لا يوافق لا الاُصول المادية المسلمة بالحس والتجربة ولا واقع الاَمر الذي هو عليه في نفسه.

وأما ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد في أمر النفس وهو أنه الحالة المتحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحية من الاِدراك والاِرادة والرضا والحب وغيرها المنتجة لحالة متحدة مؤلفة ، فلا كلام لنا فيه ، فإن لكلّ باحث أنّ يفترض موضوعاً ويضعه موضوعاً لبحثه ، وإنما الكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع مع قطع النظر عن فرض الفارض وعدمه ، وهو البحث الفلسفي كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.

وقال قوم آخرون من نفاة تجرد النفس من المليين : إنّ الذي يتحصل من الاَُمور المربوطة بحياة الاِنسان كالتشريح والفيزيولوجي إنّ هذه الخواص الروحية الحيوية تستند الى جراثيم الحياة والسلولات التي هي الاُصول في حياة الاِنسان وسائر الحيوان وتتعلق بها ، فالروح خاصة وأثر مخصوص فيها لكل واحد منها أرواح متعددة ، فالذي يسمّيه الاِنسان روحاً لنفسه ويحكي عنه بـ : أنا ، مجموعة متكونة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد

٤٦

والاجتماع ، ومن المعلوم أنّ هذه الكيفيات الحيوية والخواص الروحية تبطل بموت الجراثيم والسلّولات وتفسد بفسادها ، فلا معنى للروح الواحدة المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدني ، غاية الاَمر أنّ الاُصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي لما لم تف بكشف رموز الحياة كان لنا أن نقول : إنّ العلل الطبيعية لا تفي بإيجاد الروح ، فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة ، وأما الاستدلال على تجرد النفس من جهة العقل محضاً فشيء لا يقبله ولا يصغي إليه العلوم اليوم ، لعدم اعتمادها على غير الحس والتجربة ، هذا.

أقول : وأنت خبير بأنّ جميع ما أوردناه على حجّة الماديين وارد على هذه الحجة المختلقة من غير فرق ، ونزيدها أنها مخدوشة أولاً : بأنّ عدم وفاء الاُصول العلمية المكتشفة الى اليوم ببيان حقيقة الروح والحياة لا ينتج عدم وفائها أبداً ولا عدم انتهاء هذه الخواص الى العلل المادية في نفس الاَمر على جهل منا ، فهل هذا إلاّ مغالطة وضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم؟!

وثانياً : بأنّ استناد بعض حوادث العالم ـ وهي الحوادث المادية ـ الى المادة وبعضها الآخر ـ وهي الحوادث الحيوية ـ إلى أمر وراء المادة ـ وهو الصانع ـ قول بأصلين في الاِيجاد ، ولا يرتضيه المادي ولا الاِلهي ، وجميع أدلة التوحيد يبطله.

وهنا إشكالات أُخر أوردوها على تجرّد النفس مذكورة في الكتب الفلسفية والكلامية غير أنّ جميعها ناشئة عن عدم التأمل والاِمعان فيما مرّ من البرهان وعدم التثبت في تعقل الغرض منه ، ولذلك أضربنا عن إيرادها والكلام

٤٧

عليها ، فمن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع الى مظانها ، والله الهادي (١) انتهى كلامه.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية ـ وهي دلالة القرآن والسنة على أنّ للاِنسان روحاً ونفساً غير البدن فنقتصر فيه على نقل جملة من الآيات الكريمة :

١ ـ ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون فرحين بما آتيهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يحلقوا بهم من خلفهم الاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (آل عمران ١٦٩ ـ ١٧١ ).

٢ ـ ( ولا تقولوا لمن يُقتَلُ في سبيل الله أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون ) ( البقرة ١٥٤ ).

٣ ـ ( وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدْخِلُوا آل فروعون أشدّ العذاب ) ( المؤمن ٤٥ ـ ٤٦ ).

واعلم أنّ هذه الآيات الثلاث تدلّ على أمرين : أولهما الحياة البرزخية للشهداء وائمة الكفر فقط دون غيرهما ، أي لا يستفاد منها عموم الحياة البرزخية للجميع ، والاستدلال عليه بآيات أُخر لا يخلو عن منع واشكال. ثانيهما أنّ للاِنسان شيء آخر وراء البدن لا يموت بموت البدن وفنائه وهو المستحق للثواب والعذاب ، وهو الذي يسمى بالروح والنفس.

٤ ـ ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ) ( الواقعة ٨٣ ).

__________________

(١) ص ٣٦٤ الى ٣٧٠ ج ١ تفسير الميزان.

٤٨

٥ ـ ( كلا إذا بلغت التراقِيَ ) (القيامة ٢٦).

٦ ـ ( إءِذا ضَلَلنا في الارض أَءِنّا لفي خلقٍ جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفّاكم ملك الموت الذي وُكّل بكم ثمّ الى ربكم ترجعون ) ( السجدة ١٠ ).

أقول : ملك الموت لا يتوفى الجسم الذي يدفن في الاَرض ويضلّ فيها ، بل يتوفى النفس.

٧ ـ ( ولو ترى اذ الظالمون في غمرات الموت ، والملائكة باسطوا ايديهم اَخرِجوا أنفسكم اليوم تُجزون عذاب الهون .. ) ( الانعام ٩٤ ).

٨ ـ ( الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمتْ في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ) ( الزمر ٤٢ ) (١).

__________________

(١) وقد يقال أن قوله تعالى ( هو الذي يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ) ( الانعام ٦٠ ) يدل على موت الانسان في المنام والحال أنه حي نائم. وقد يجاب عنه بأن الموت والنوم يشتركان في انقطاع تصرف النفس في البدن كما ان البعث بمعنى الايقاظ بعد النوم يشارك البعث بمعنى الاحياء بعد الموت في عود النفس الى تصرفها في البدن بعد الانقطاع فلاجله عدت الانامة توفيا وان شئت فقل ان التوفي على قسمين توفي مؤقت وهو الانامة وتوفي يستمر وهو الاماتة كما يستفاد من قوله تعالى : ( الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ، فيمسك التي قضى عليها ويرسل الاخرى .. ) ( الزمر آية ٤٠ ).

ويقول بعض الاطباء ان حياة النوم ليست بها حس ولا وعي ولا حركة. ويجب أن نعرف ان للنوم درجات ، والدرجات السطحية منه يخالطها بعض اليقظة وبعض الحس والحركة من تقليب وخلافه. وأما الدرجات العميقة فلا ، ونفس الشيء يحدث في التخدير وفقد الوعي المؤقت وفقد الوعي الدائم كتلف قشرة المخ الكامل ( ص ٣٤٤ الحياة الانسانية ).

أقول : وبعد فقد بقى الفرق العلمي بين الموت والنوم ، واخواته المشار اليها وكذا الجنون وبيانه على عهدة العلوم. وسيأتي في الفصل الثاني من المسألة التاسعة

٤٩

( البحث الرابع ) النفس والروح مفهومان لحقيقة واحدة فهما موجود واحد قطعاً ، ومهما قيل في الفرق بينهما فهو بلحاظ الاعتبارات والمراتب لا غير ، فإنّ كلّ انسان يدرك من ضميره أنّه واحد لا اثنان! ، وتخيل التعدد من أوهام العوام ومن بحكمهم من مدعي العلم المبتلين بالجهل المركب.

ويناسب هنا أنْ نرجع الى الكتاب والسنة لنرى رأيهما في حقهما وما يتعلّق بهما من خصوصياتهما.

أما الروح فقد استعملت في القرآن في معان مختلفة غير ما به حياة الانسان وشخصيته ، بل ليس فيه ان آدم عليه السلام اعطاه الله روحاً ، وإنّما فيه أنّه تعالى نفخ في آدم من روحه (الحجر ٢٩ ـ ص ٧٢) كما ورد ( مثله ) في حق عيسى عليه السلام ، فلعل المراد من النفخ هو الاحياء فقط لا ان آدم وعيسى صاحبا روح (١).

وأما قوله تعالى : ( ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) فالمراد بها مجهول ، ويحتمل أنها الروح الاَمين أو روح القدس (٢) ، أو أُريد به ما أُريد بقوله تعالى : ( تنزل الملائكة والروح ) ، وبقوله : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفاً ) ، أو روح الانسان. لكن في الاَحاديث أنّه خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل ... (٣).

وأما قوله تعالى : ( اُولئك كتب في قلوبهم الاِيمان وأيّدهم بروح منه ) ( المجادلة ٢٢ ) فهي الروح المؤيدة للمؤمنين ـ رزقنا الله بفضله ـ

__________________

عشرة حول النسيج الشبكي ما ينفع للمقام. وكذا في الفصل الرابع في جواب الاشكال السابع.

(١) نعم الاحاديث تدل على أن للانسان روحاً كما تأتي.

(٢) بناء على أنه غير الروح الاعلين أي جبرئيل وفيه بحث.

(٣) لاحظ ج ١٨ وغيره من بحار الانوار.

٥٠

وليست بروح تنشأ منها الحياة الاِنسانية كما لا يخفى.

وأما النفس والاَنفس فقد وردت في القرآن كثيراً ، وإليك بعض ما يتعلق بها :

١ ـ النفس هي المسؤولة عن أعمال الانسان كقوله تعالى : ( ثمّ توفّى كلّ نفس ما كسبت ) ( البقرة ١٢٨ ) ، وقوله ( ووفّيت كلّ نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون ) (١). والآيات الدالّة عليه كثيرة (٢).

٢ ـ أنها تذوق الموت وإليها أسند القتل ، كقوله تعالى : ( كلّ نفس ذائقة الموت ) ( آل عمران ١٨٠ ) ( الانبياء ٢٥ ) ( العنكبوت ٥٧ ).

٣ ـ أنّها تلهم فجورها وتقواها.

٤ ـ أنّها المكلّفة : ( لا يُكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ) ( البقرة ٢٨٦ ) ، ولاحظ سور الانعام ١٥٢ والاعراف ٤٢ والمؤمنون ٦٢ والطلاق ٧.

٥ ـ أنّها أمّارة بالسوء ، وأنّها لوامة ومطمئنة وترجع الى ربها راضية مرضية.

٦ ـ أنّها متنعمة في الجنة ، ( الزخرف ٧١ ـ فصلت ٣١ ) (٣).

وأما الاحاديث المعتبرة الواردة في المقام فقد استوفيناها في موسوعتنا الحديثية ( معجم الاحاديث المعتبرة ) وذكرنا بعضها في سائر كتبنا ( گوناگون ج ١ ـ عقايد براى همه وغيرها ) ، وإليك جملة منها :

١ ـ صحيح أبي ولاّد المروي في الكافي عن الاِمام الصادق عليه السلام قال : قلت له : جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر

__________________

(١) آل عمران أية ٢٥.

(٢) البقرة ٤٨ ، ١٢٣ ، ٢٨١ ، آل عمران ٢٥ ..

(٣) ونسب الى النفس أيضاً زائداً على ما في المتن الايمان والتفريط في جنب الله والوسوسة والتوسول والشح والاشتهاء والهوى والاكنان والحرج والاخفاء والاستيقان في آيات اُخر.

٥١

حول العرش ، فقال : لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ( و ) لكن في أبدان كأبدانهم (١).

٢ ـ صحيح محمّد بن قيس المروي في الخصال عن الاِمام الباقر عليه السلام قال : سأل الشامي ... عن العين التي تأوي إليها أرواح المشركين؟ فقال : هي عين يقال لها سلمى (٢).

٣ ـ صحيح الكناسي المروي في الكافي عن الباقر عليه السلام ... : إنّ لله جنّة خلقها الله في المغرب ... واليها تخرج أرواح المؤمنين من حفرهم عند كل مساء ... وإنّ لله ناراً في المشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفار ... (٣).

٤ ـ صحيح الاَحول المروي فيه قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الروح التي في آدم قوله : ( فاذا سويته ونفخت فيه من روحي ) (٤) ، قال : هذه روح مخلوقة ، والروح في عيسى مخلوقة (٥).

٥ ـ حسنة حمران قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ( وروح منه ) (٦) قال : هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى (٧).

٦ ـ صحيح أبي بصير المروي في الكافي قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ( ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمرِ ربي ) (٨) ،

__________________

(١) ص ٢٦٨ ج ٦ بحار الانوار.

(٢) ص ٢٧٤ نفس المصدر.

(٣) ص ٢٩٠ المصدر.

(٤) الحجر آية ٢٩.

(٥) ص ١٣٣ ج ١ الكافي.

(٦) النساء آية ١٧١.

(٧) الكافي ١ : ١٣٣.

(٨) الاسراء آية ٨٥.

٥٢

قال : خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل (١) ...

٧ ـ معتبرة ابن أبي يعفور المرويّة في العلل عن الصادق عليه السلام : إنّ الارواح جنود مجندة فما تعارف منها في الميثاق ائتلف ههنا ، وما تناكر منها في الميثاق اختلف ههنا (٢).

أقول : هذا المضمون وارد في عدة من الاحاديث لكن أكثرها ضعيفة سنداً فتكون مؤيدة لها.

٨ ـ موثّقة ابن بكير عن الباقر عليه السلام ... : وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفي عام (٣).

أقول : خلقة الاَرواح قبل الاَبدان بألفي عام وردت في جملة من الاَحاديث (٤) ولا يبعد حصول الاطمئنان بصدور بعضها عن الائمة عليهم السلام ، والظاهر أنها تنافي قول بعض الفلاسفة : إنّ الروح جسمانية الحدوث روحانية البقاء ، ولذا أوله في الاسفار تأويلاً باطلاً.

واعلم أنّ الروح لا تطلق على الانسان المركّب منها ومن البدن بل يطلق على نفسها فقط ، بخلاف النفس ، فإنها تطلق على خصوص معناها كما تطلق على معنى يعبر عنه بالفارسية بكلمة (خود ، خودتان ، خودما) ، أي : على مجموع الانسان ، كقوله تعالى : ( فسلّموا على أنفسكم ) (٥) ، بل ربما على ما استحال البدن والنفس فيه كما في حقّه تعالى : ( ويحذركم الله نفسه ) (٦).

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٧٣ ، نسخة الكومپيوتر.

(٢) ص ١٣٩ ص ٥٨ البحار.

(٣) ص ١٣٨ ج ١ الكافي.

(٤) النور آية ٦١.

(٥) لاحظ ج ٥٨ وغيره من بحار الانوار.

(٦) آل عمران آية ٢٨ و ٣٠.

٥٣

بقي شيء وهو أنّ عوام المسلمين يزعمون أنّ الروح لاتأمر بالشر بل تأمر بالخير دائماً وأما النفس فهي تأمر بالخير والشر ، ولعلّ وجه هذا الزعم أنّ القرآن اسند الشر الى النفس ولم يسنده الى الروح ، لكن القرآن لم يفصل القول في الروح الانسانية كما عرفت ، وما تقدم من الاحاديث المعتبرة يكفي في ضعف الزعم المذكور. وبالجملة : هما مفهومان لمصداق واحد كما عرفت.

وأما الكلام في الجهة الثالثة ـ وهي دلالة العلم على وجود الروح ـ فهو طويل نقتصر فيه هنا على كلام بعض الفضلاء فقط حتى لا يطول بنا المقام :

والمادة التي يتكون منها الدماغ هي عين المادة التي تنشأ منها بقية اعضاء الجسد ونوع الحياة الذي يتسبب في نشؤ الجميع واحد ، فان اصل الجنين خلية واحدة ثم تتكثر ، وعليه يلزم ان تكون الوظائف التي تقوم بها مختلف اعضاء الجسم من جنس واحد دون اختلاف تخصصاتها ، وهي وظائف غير إرادية ولا فكرية ، لاَنها اللارادة ، ويستحيل بحسب سنن الكون وموجوداته ان يتولد ـ بصورة آليةـ المريد غير المريد والمفكر من غير المفكر. وماقيل من ان الارادة والفكر والشعور وغيرها من الاَنشطة الانسانية الاختيارية انما تنشأ من الدماغ نتيجة تفاعلات كيميائية وفيزيائية ، غير صحيح ، فان كل تفاعل لابد له من عامل فهو ان كان خارجياً يلزم استناد إرادته وافكاره ومشاعره المختلفه غير اختيارية له ، مع ان الماديين لم يستطيعوا ـ ولن يستطيعواـ ولا مرة واحدة ان يضعوا العناصر والمركبات في انابيب الاختبار ثم يدفعونها بالتأشيرات المعنوية بدلاً من العوامل المادية المعهودة.

٥٤

وان كان داخلياً فما هو؟ هل هو مجرد احتكاك الخلايا والاَعصاب أم هو مجرد وصول الدماء الى عروق الدماغ أم هو شي آخر؟ فليكن أي شيء فلماذا تتحدد ، وتختلف نتائج ذلك التفاعل الكيميائي المزعوم باختلاف الاشخاص من جهة ، وباختلاف الاَزمان والساعات والاحوال في الشخص الواحد من جهة اخرى؟.

ان محتويات الاَدمغة واحدة في الاَشخاص والاَزمان وانشطتهما المادية واحدة فلماذا تتعدد اذن نتائج التفاعلات التي تحدث فيها؟ فتتعدد الافكار وتتعدد المشاعر والاحاسيس وتعدد الاكتشافات وتتعدد المواهب عند الاشخاص بل وتعدد عند الشخص الواحد في ساعتين ... ، اقول : ولا تفسير له سوى الاقرار بوجود الروح ... (١) انتهى ما أردنا نقله.

واعلم ان الاعتقاد بوجود الروح لا ينقص من اهمية المخ وعظم عمله فلا تغفل ، ويقول طبيب مسلم ان كثيراً من العلماء ذكروا ان المظاهر النفسية كالوعي والادراك والانفعال والذاكرة والقدرة على التعلم والاحساس النهائي للذة والاَلم وكل هذه المظاهر النفسية لم يثبت علمياً الى الآن ان مراكزها النهائية موجودة في خلايا المخ. والحقيقة اننا نتعلم الطب حسب المدرسة الغربية التي ينفصل عندها العلم عن الدين ، فهي ترى ان المظاهر النفسية عبارة عن تفاعلات كيمياوية معقدة تحدث داخل خلايا المخ وهذا أمر لم يثبت علمياً للآن (٢).

أقول ولتأثير الروح والمخ وأهميته كلتيهما لنضرب مثلاً ونشبه

__________________

(١) ص ١٢٧ الى ص ١٣١ رؤية اسلامية لزراعة بعض الأعضاء البشرية نقلنا عنها بعض القليل مع الاختصار.

(٢) ص ٨٦ نفس المصدر.

٥٥

الروح بالمصور وخلايا المخ بجهاز التصوير والصورة كما تحتاج الى المصور تحتاج الى آلة التصوير ولايغني احدهما عن الآخر في انتاج الصورة.

( البحث الخامس ) في بدء حياة الانسان.

المتدبّر في البحثين الاَخيرين يقتنع بسهولة أنّ الحياة الانسانية إنما هي بتعلق الروح بالبدن كما أن موت الانسان بانقطاع هذا التعلق نهائياً ، ولا ربط لحياة الخلايا بحياة الانسان ولا موته بموتها ، وهذا الذي اعتقده علماء الاسلام هو الصحيح المطابق للبراهين العقلية أيضاً. وإنْ شئت فقل : إنّ قوام انسانية الانسان بروحه لا ببدنه وان فرض موجوداً تاماً في الخارج وكان جميع خلاياه حية ، فالجنين مهما تكامل وتنامى فهو ـ قبل تعلق الروح ـ جنين الانسان وما يؤل الى الانسان وليس بانسان نفسه.

متى تتعلّق الروح بالبدن؟

هذا هو السؤال المهم في المقام ، ولا يصلح علم الطب وعلم الاجنة وسائر العلوم للاجابة عليه لحد الآن ، ولا أظن اهتداء العقل اليه أيضاً ، فلا بد من الرجوع الى الدين فيه ، لكن القرآن الكريم ـ وحسب فهمي ـ ليس فيه ما يدلّ على توقيت تعلق الروح بالبدن ، سوى قوله تعالى : ( ثم أنشاناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) (١) ، ولا بعد في إرادة تعلق الروح بالجنين من هذه الآية ، إذ انشاء الجنين مخلوقاً آخر لا يناسب إلاّ صيرورته ذات روح ، ويؤكده قوله : ( فتبارك الله ... ) ، بل يدلّ على إرادة التعلق المذكور بعض الروايات المعتبرة الآتية ، لكن لا يستفاد أنّ تعلق الروح

__________________

(١) المؤمنون آية ١٤.

٥٦

بالجنين في أي شهر من شهور الحمل ، وإنما يستفاد من الآية المذكورة أنه بعد كسوة العظام لحماً. وان قدّر الطب بشكل دقيق محسوس على تعيين زمن كسوتها لحماً لم يقدر على زمان تعلق الروح بالجنين ، إذ لا دليل على أنّه بعدها بلا فصل ، بل ظاهر قوله : ( ثم انشاناه ) ، الفصل بينهما ، فلا يبقى أمامنا للحصول على جواب السؤال المذكور سوى الاحاديث فنقول :

١ ـ الصحيح المرويّ في التهذيب عن أمير المؤمنين عليه السلام ... : فإذا انشيء فيه خلق آخر وهو الروح فهو حينئذٍ نفس ، ألف دينار كاملة ان كان ذكراً وان كان اُنثى فخمسمائة دينار (١).

٢ ـ صحيح محمّد بن مسلم المرويّ في الكافي قال : سألت أبا جعفر عليه السلام ... قلت : فما صفة النطفة التي تعرف بها؟ فقال : النطفة تكون بيضاء مثل النخامة الغليظة فتمكث في الرحم إذا صارت أربعين يوماً ، ثمّ تصير الى علقة ، قلت : فما صفة خلقة العلقة التي تعرف بها؟ فقال : هي علقة كعلقة الدم المحجمة الجامدة تمكث في الرحم بعد تحويلها عن النطفة أربعين يوماً. ثم تصير مضغة ، قلت : فما صفة المضغة وخلقتها التي تعرف بها؟ قال : هي مضغة لحم حمراء فيها عروق خضر مشتبكة ، ثم تصير الى عظم ، قلت : فما صفة خلقته إذا كان عظماً؟ فقال : إذا كان عظماً شق له السمع والبصر ورتبت جوارحه ، فاذا كان كذلك فان فيه الدية كاملة (٢) ورواه الشيخ في تهذيبه بتفاوت (٣).

أقول : لم يذكر في هذا الصحيح توقيت المضغة بأربعين يوماً ، ولا

__________________

(١) ص ٢٨٥ ج ١٠ نسخة الكومپيوتر.

(٢) ص ٣٤٥ ج ٧ الكافي.

(٣) ص ٤٧٥ ج ٢٦ جامع الاحاديث.

٥٧

يضر ، فإنه مذكور في صحيح زرارة وغيره الآتية في مسألة الاجهاض (١). ولم يذكر تعلق الروح بالجنين أيضاً.

أقول لايفهم من هذه الاَحاديث مع الآية أنّ بدء الحياة الانسانية ، في أوّل الشهر الخامس من الحمل ، أي في اليوم ١٢١ من الحمل ، بل يحتمل نفخ الروح بأطول من ذلك كما لا يخفى ، بل في رواية أبي شبل : هيهات يا أبا شبل إذا مضت الخمسة الاَشهر فقد صارت فيه الحياة وقد استوجب الدية (٢) ، ولعله اشتباه ومحرف الاَربعة الاشهر ، لكنه محتمل ، إذ لا يخالفه نص معتبر ، سوى معتبرة ابن الجهم الآتية (٣) ، ولا بد لك أن تلاحظ ما يأتي من الآية والاحاديث في المسألة الآتية مع هذه الاحاديث جمعاً.

ومقتضى النظر الدقيق أنّ جميع الاحاديث لا تدلّ على ان نفخ الروح يكون في أول الشهر الخامس من الحمل ، حتى معتبرة ابن الجهم في المطلب الاوّل من المسألة الآتية وإنْ كانت مشعرة بها ، نعم مدلولها نفخ الروح في الجنين بعد أربعة أشهر ، فلاحظ وتأمل جيداً والله العالم.

ولعله لاَجل ما ذكرنا قال صاحب الجواهر قدس سره في باب الدية ( ص ٣٦٥ ج ٤٣ ) : بل عن ظاهر الاَصحاب عدم اعتبار مضي الاَربعة أشهر في الحكم بحياته على وجه يترتب عليه الدية. وان قال الصادق عليه السلام في خبر زرارة : السقط إذا تم له أربعة أشهر غسل (٤). وافتى الاَصحاب بمضمونه ، إلاّ ان ذلك لا يقتضي تحقق العنوان في المقام.

أقول : أي حياة الجنين لوجوب الدية الكاملة.

__________________

(١) لاحظ ص ٦٤ هذا الكتاب.

(٢) جامع الاحاديث ٢٦ / ٤٨١.

(٣) الكافي ٧ : ٣٤٦ ، نسخة الكومپيوتر.

(٤) الكافي ٣ : ٢٠٦.

٥٨

المسألة السادسة

حول إجهاض الجنين (١)

الاِجهاض إلقاء حمل ناقص الخلق بغير تمام ، سواء من المرأة أو من غيرها ، وكثيراً ما يعبر عن الاِجهاض بالاسقاط أو الطرح أو الالقاء ، وفي المقام مطالب ننقلها عن الاَطباء :

١ ـ الثابت في علم الاجنّة أنّ الحياة موجودة في الحيوان المنوي قبل التلقيح وموجودة في البويضة قبل الالتقاء ، وقد يلتقي الحيوان المنوي والبويضة ويسفر عن ذلك حمل عنقود وليس إنساناً ، والحمل العنقودي ليس جنيناً ، وانما مجرد خلايا لا تكون في مجموعها أي شكل من الاَشكال وانما شكلها شكل عنقود العنب ، وبعد فترة من الزمن يتقلص الرحم ويطرد هذا المحتوى ، ولكن ليس فيه ما يدلّ على الاِنسان أو على صورة الاِنسان أو على الحياة ، وهو أيضاً نتيجة التقاء الحيوان المنوي بالبويضة (٢).

٢ ـ فترة الانشاء ـ يعني به قوله تعالى : ( ثم انشاناه خلقاً آخر ) (٣) ـ

__________________

(١) الاِجهاض ـ كما في معاجم اللغة واستعمال الفقهاء ـ هو القاء الحمل ناقص الخلق أو ناقص المدة وقد أطلق مجمع اللغة العربية كلمة الاِجهاض على خروج الجنين قبل الشهر الرابع وكلمة الاسقاط على القائه ما بين الشهر الرابع والسابع. هكذا قيل.

(٢) قال بعض الاَطباء ان البويضة المخصبة من ناحية خلوية بالتأكيد هي ليست الجنين ، ان جزء يسيراً منها يتكون منه الجنين وهذا يحدث في اليوم العاشر بعد العلوق وقد لا يحدث فتكون بويضة فاسدة لا ينتج عنها جنين ، وقد يحدث منها حمل عنقودي وقد يحدث توأم ... ص ٦٧٧ الرؤية الاِسلامية لبعض الممارسات الطبية.

(٣) المؤمنون آية ١٤.

٥٩

حسبما رأيناه في الفيلم أنّه في الاسبوع السادس أو السابع بعد الفترة من الاسبوع الاَوّل إلى الاسبوع السادس كانت مجموعة من الانسجة لم تظهر بالفيلم وإنما ظهر لنا من بعد الاُسبوع السادس ، وبعد الاَربعين يوماً بدأ يتخلق ، بدأ يظهر الرأس وتظهر الاَطراف ، بدء خلق آخر ... ( و ) من بعد الاُسبوع السادس ما هو إلاّ نمو وليس تكويناً جديداً (١).

٣ ـ إنّ الجنين يتحرّك ويتحرك من قبل نهاية الشهر الرابع بزمن طويل ولكن السيدة لا تحس به لاَنّ الكيس المائي الذي يسبح فيه يكون في البداية كبيراً فسيحاً بالنسبة لجسمه الصغير ، ويمر زمن حتى يكبر الجنين فيستطيع لكماته وركلاته أنْ تطال جدار الرحم فتشعر بها السيدة بعد أربعة أشهر حمليته ، بل إنّ لدينا الآن من الاجهزة ما نسمع به دقات قلب الجنين وهو في الاُسبوع الخامس ، ولدينا من الاجهزة مانرصد به حركة الجنين حتى من قبل ذلك ... (٢).

وقيل : إنّ الحركة متصلة قبل ذلك ، لاَنّ الخلايا منذ المراحل الاُولى في حركة ، حتى إنْ لم ترها الاجهزة لاَن الخلايا تتحرك وترتب نفسها إلى آخره (٣).

٤ ـ مبررات الاجهاض في الغرب قد اتسعت حتى بلغت خاتمة المطاف بالاجهاض حسب الطلب!!! ومن المبررات الدواعي الطبية ، لكن وسع في بعض البلاد مدلولها فبدأت بالخطر على حياة الاُمّ ان استمر الحمل ، ثم الخطر على صحتها ، ثم على صحتها الجسمية أو النفسية ثم عليها في الحاضر وفي المستقبل المنظور ، ثم على الصحة الجسمية أو

__________________

(١) ص ٢٣٤ وص ٢٣٥ الانجاب في ضوء الاسلام.

(٢) ص ٢٥٤ وص ٢٥٥ نفس المصدر.

(٣) ص ٢٨٢ نفس المصدر.

٦٠