الفقه والمسائل الطبيّة

الشيخ محمد آصف المحسني

الفقه والمسائل الطبيّة

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٣

بل ظاهر المشهور ضمانه وان لم يتجاوز عن الحد المأذون فيه ، ولكنه مشكل ، فلو مات الولد بسبب الختان مع كون الختّان حاذقاً من غير أنْ يتعدّى عن محل القطع بأنْ كان أصل الختان مضراً به في ضمانه إشكال (١).

أقول : لم يظهر لي فرق بين المقام وبين الطبيب المباشر للعلاج إذا أفسده ، حيث أفتى صاحب العروة والسيّد الخوئي هناك بضمانه مطلقاً وفي المقام قيّد الضمان بتجاوز الحد المأذون (٢)؟.

وعلق السيّد الاُستاذ الخوئي رحمه الله على قوله ( لكنه مشكل ) : بل الاَقوى عدم الضمان (٣).

أقول : ولعلّه لعدم صدق إفساد الطبيب حينئذ (٤).

ثم قال السيّد الخوئي رحمه الله : ومع ذلك الظاهر هو الضمان في مسألة الختان إلاّ إذا كان المقتول به هو الذي سلم نفسه له مع استجماعه شرائط التكليف (٥).

وذكر في كتابه توضيح المسائل : إنْ مات الطفل بالختان يضمن الطبيب تجاوز الحد المعمول به في ختانه أم لم يتجاوز ، وان تضرر به الطفل فإنْ قطع أكثر من المعمول به يضمن وإلاّ ففي ضمانه إشكال ، والاحوط الرجوع إلى الصلح. ( كتاب الاِجارة المسألة ٢٢١٢ ).

وقال بعض أهل العصر في منهاج الصالحين : الختّان إنْ قصّر أو أخطأ

__________________

(١) العروة الوثقى ج ٢ ص ٣٩٣ ـ ٣٨٤.

(٢) نعم مفهوم كلام السيد الاستاذ الخوئي في منهاج الصالحين ( ١٠١ ج ٢ الطبعة الثامنة ) عدم الفرق بينهما في قيد التجاوز عن الحد وعدمه في الضمان وعدمه فلاحظ.

(٣) العروة الوثقى ج ٢ / ٣٩٤.

(٤) فيجري في حق الطبيب في المسألة الرابعة أيضاً بلا فرق.

(٥) نفس المصدر.

٢١

في عمله كأن تجاوز عن الحد المتعارف فتضرّر أو مات الطفل كان ضامناً ، وإنْ تضرّر أو مات بأصل الختان لم يكن عليه ضمان إذا لم يعهد إليه إلاّ إجراء عملية الختان دون تشخيص ما إذا كان الطفل يتضرر بها أم لا ولم يكن يعلم بتضرّره مسبقاً.

أقول : في غير ما انجز الامر إلى القتل ، المدار في الضمان هو صدق الافساد ، فإذا لم يصدق فلاموجب للضمان ، فالارجح عدم الضمان اذا كان حاذقاً ولم يتجاوز الحد المأذون طباً ، وفي القتل يرجع إلى اطلاق ما دلّ على لزوم الدية على من قتل خطأً أو شبه عمد ، نعم إذا لم يستند القتل إلى الطبيب لا وجه لضمانه؛ وما ذكره بعض أهل العصر كما نقلناه عنه آنفاً لا يخلو من وجه ، والله العالم.

وكل ما ذكرنا في هذا الاَمر جار في الاَمر الرابع فتأمل.

( السادس ) : إذا قال الطبيب من غير مباشرة : لو كنت مريضاً بمثل هذا المرض لشربت الدواء الفلاني ، فلا ضمان عليه لعدم موجبه. وان قال : الدواء الفلاني نافع للمرض الفلاني ، ففي العروة : فلا ينبغي الاشكال في عدم ضمانه (١).

أقول وقاعدة الغرور تشمل المقام ، وإذا كان أجيراً يشمله قوله عليه السلام : كل عامل أعطيته أجراً على أنْ يصلح فأفسد فهو ضامن (٢) ، إلاّ أنْ يدّعي انصراف الحديث إلى فرض المباشرة ، مع أنّه كسابقه ظاهراً.

وفي الجواهر ( ص ٤٩ ج ٤٣ ) : أمّا اذا قال ( الطبيب ) : أظنّ أنّ هذا الدواء نافع لهذا الداء ، أو لو كنت أنا لفعلت كذا ، مما لم تكن فيه مباشرة

__________________

(١) العروة الوثقى ٢ : ٣٩٤.

(٢) المصدر.

٢٢

منه وإنّ فعل المريض العاقل المختار أو وليه ذلك اعتماداً على القول المزبور فإن المتّجه فيه عدم الضمان للاَصل وغيره ، كما أنّ المتجه عدم شيء عليه حيث لم يعلم الحال لاحتمال الموت بغير العلاج.

أقول : ما ذكر صاحب الجواهر من فرض أخذ الظن في كلام الطبيب أوضح في نفي الضمان عنه من فرض صاحب العروة قدس سرهما.

وأما ان كان الطبيب آمراً ففي العروة : ففي ضمانه إشكال ، الاّ ان يكون سبباً وكان أقوى من المباشر ، وأشكل منه إذا كان واصفاً للدواء من دون أن يكون آمراً ، كأنْ يقول : دوائك كذا وكذا ، بل الاَقوى فيه عدم الضمان (١).

أقول : وتبعه عليه سيّدنا الاُستاذ الخوئي قدس سره.

وقال بعض أهل العصر في منهاج الصالحين : لو عالج الطبيب المريض مباشرة أو وصف له الدواء حسب ما يراه فاستعمله المريض وتضرر أو مات كان ضمانه عليه وان لم يكن مقصّراً.

أقول : فلاحظ وتأمّل.

( السابع ) يحرم للصيدليات ايتاء الادوية المخالفة لنظر الاطباء وكتابتهم ، كما يحرم ايتاء الادوية التي مضت وقتها وهي غير نافعة للمرض.

وإذا علم البائع أنّ الطبيب خان المريض أو اشتبه وأنّ هذا الدواء مهلك أو قاتل له إن استعمله يجب عليه اعلام المريض بالحال ، ويحسن الاعلام إذا كان الضرر جزئياً أو كانّ الدواء غير مفيد له ، فإنّ الله سبحانه يقول : ( إنَّ الله يَامُرُ بِاْلعَدْلِ وَالاِحْسَان ) (٢). ويقول : ( وتَعَاونُوا عَلَى البِرِّ وَالتَقّوَى ) (٣).

__________________

(١) العروة الوثقى ٢ : ٣٩٤.

(٢) النمل آية ٩٠.

(٣) المائدة آية ٢.

٢٣

خاتمة

قال صاحب الجواهر بعد ذكر روايات أكثرها ضعاف سنداً وليست بحجة :

ولا يخفى عليك ما في هذه النصوص من الفوائد ، منها ... وجوب العلاج لمن كان له بصيرة فيه. ومنها عدم اعتبار الاجتهاد في علم الطب بل يكفي للمداوي المداوى بالتجربيات العادية ونحوها مما جرت السيرة والطريقة به وخصوصاً للعجائز والاَطفال (١).

أقول : هذا بالنسبة إلى التداوي بالعقاقير غير المضرة لا بأس به ، وأمّا التداوي بالاَدوية الكيمياوية المضرة أو القاتلة كما هي المتداولة اليوم فلا يجوز لغير الاختصاصي الحاذق الخبير ضرورة حرمة الاضرار بالناس وهلاكهم ، وهذا ظاهر ، فليتّق الله من يسمون انفسهم بالاطباء ويقتلون الناس أو ينقصونهم (٢) ، كما أنّه فليتّق الله مَن يسمون أنفسهم بالعلماء والفقهاء ويضلون المؤمنين عن سبيل الله ، وكأن الفتوى في عصرنا صار مباحاً مطلقاً للجميع.

__________________

(١) جواهر الكلام ٤٣ / ٥٠.

(٢) قال بعض الشعراء :

ملك الموت رفت پيش خدا

گفت سبحان ربي الاعلى

داكترى است در فلان كوچه

من يكى مى كشم واو صدتا

يا بفرما كه جان او گيرم

يا مرا كار ديگرى فرما

٢٤

المسألة الرابعة

أحكام المسّ والنظر

يجوز لكلّ من الجنسين النظر إلى بدن مماثله ومسّه من دون شهوة وريبة إلاّ العورتين فيحرم النظر إليهما ومسّهما وإنْ لم يكن عن تلذذ (١).

يحرم على الرجل النظر إلى المرأة ـ سوى وجهها وكفّيها ـ بتفصيل مذكور في الكتب المبسوطة الفقهية (٢) ، كما يحرم على المرأة النظر إلى الرجل أيضاً بتفصيل مقرر في محله.

ويحرم على كلّ من الجنسين مسّ بدن الآخر وإنْ لم يكن عن تلذّذ ، بل كان الماس أو الممسوس عجوزاً.

ولا ملازمة بين جواز النظر والمس ، فكم من امرأة جاز النظر إليها ويحرم مسّها ، وإنْ شئت فقل : إنّ حرمة مسّ غير المحارم لم يطرء عليها استثناء أصلاً كما طرء على حرمة النظر إلى غير المحارم.

فكلّ عملية طبية جراحية أو غير جراحية أو غير طبية إذا استلزمت النظر المحرم أو المس المحرم ، لا تجوز ، لا سيما النظر إلى العورة أو مسّها ، فإنّ الحرمة فيه آكد.

فجواز مباشرة الطبيب أو الطبيبة للعلاج وجواز تداوي المريض أو المريضة إذا اشتملتا على النظر والمس المحرمين موقوف على توفر شروط

__________________

(١) يظهر من بعض الروايات جواز النظر إلى عورة من ليس بمسلم وانها كعورة حمار وأفتى به بعض المحدثين لاحظ بحثه في كتابنا حدود الشريعة ج ٢ مادة النظر ..

(٢) لا حظ كتابنا حدود الشريعة ج ٢ مادة النظر.

٢٥

ثلاثة :

١ ـ استلزام المرض مشقةً وحرجاً للمريض. وحرج المريض يكفي لجواز العملية المذكورة له وللطبيب كما سبق دليله في المسألة الثانية ، فليس كل مرض جزئي أو غرض تجملي يجوز التدخل للطبيب والتمكين للمريض أو المراجع فكما يحرم النظر والمس على الطبيب يحرم الكشف والتمكين على المريض والمراجع ، ومنه يظهر ان مجرد جواز منع الحمل من دون تحقق حرج وضرر لايزيل حرمة النظر والمس على الطبيب ومراجعه.

٢ ـ لا يحل مس العورة مطلقاً ، ولا مس بدن الجنس المخالف إذا كانت الحاجة ترتفع بلبس الساتر من أي نوع كان مما يمنع عن التماس المباشر.

٣ ـ إذا أمكن التداوي والعلاج عند المماثل لا يجوز الرجوع إلى المخالف. حتّى من جهة النظر الى العورة أو مسّها مع حرمتها على المماثل والمخالف ، وذلك فإنّ حرمتهما على المخالف أشدّ وآكد. وقيل بتقديم المحارم على غيرهم مع عدم إمكان المماثل ، إذا أمكن ، والله العالم.

ثمّ إنّه إذا حرمت العملية تبطل الاجارة ، فلا يملك الطبيب الاُجرة ، فيحرم عليه أخذها إلاّ إذا وهبها له المريض أو المريضة أو المراجع بقطع النظر عن بطلان الاِجارة ، والله اعلم.

وسيأتي في المسألة الثانية والعشرين والثالثة والعشرين ما يتعلّق بالمس والنظر وافشاء السر وغيره إنْ شاء الله تعالى.

فروع فقهية :

١ ـ عورة الانثى عبارة عن فرجها وحلقة دبرها ، وعورة الذكر عبارة

٢٦

عن حلقة دبره وآلته التناسلية لا غيرها ، وعورة الطفل غير المميز لا بأس بمسّها والنظر إليها لضرورة أو غير ضرورة.

٢ ـ ما اشتهر بين بعض العوام من أنّ الطبيب محرم للمريض كلام باطل لا أصل له ، والطبيب كغيره في حرمة النظر والمسّ ، كما أن المريض كغيره يجب عليه أنْ يحفظ نفسه عن نظر الطبيب ومسّه ، وإنما يجوز النظر والمس بمقدار الضرورة على ما عرفت.

٣ ـ إذا ترتفع الضرورة بالنظر أو المس في دقيقتين تحرم زيادة النظر والمس ولو بمقدار ثانية ، كما إذا ارتفعت الضرورة بمسّ ثلاث سانتمترات أو النظر إليها يحرم مس الزايد أو النظر إليه.

٤ ـ ما ذكرنا إليه في حقّ الاَطباء والمرضى يجري في حقّ المضمدين والمضمدات أيضاً ، ولا يجوز للمريض أو المريضة قبول الجنس المخالف للتضميد إذا استلزم النظر أو المس المحرّم ، الاّ مع توفر الشروط وإذا أمكن في المستشفيات الشخصية إشتراط المضمد المماثل وجب ذلك على المريض.

٥ ـ يحرم على مساعدات الاَطباء مسّ أيديهن لاَبدانهم وإن استلزمته المقررات الاَدارية والرسوم الحكومية.

٢٧

المسألة الخامسة

بِدءُ الحياة الاِنسانية

السؤال المقصود بالاِجابة هنا هو أنّه متى تبدء الحياة الاِنسانية ، وستعلم في الابحاث الآتية أنّ مطلق الحياة ثابتة في مني الرجل والمرأة وبعد التحامهما وصيرورتهما خلية ، ثمّ إلى كتلة خلايا ، ثمّ إلى حوصلة عالقة بالرحم ، ثمّ منغرسة فيه والروح لم تنفخ بعد في جنين ميّت.

وإليك عدّة من الآراء في المقام :

( القول الاَوّل ) : المشهور في ألسنة المسلمين وأذهانهم أنّ الحياة الاِنسانية تبدء بنفخ الروح في الجنين ، والمشهور عند أهل النظر منهم أنّه بعد أربعة أشهر من الحمل.

واعترضه بعض الاَطّباء الماهرين المتدينين بأنّ علم الطب لا يرى لاستقبال الروح أثر ، وقال : مسألة : إنّ الجنين آنذاك يكتسب الاِدراك أو الخيال أو تبدو عليه أمارات الرضاء والغضب ، هي للاَسف الشديد من باب الفولكلور أو من باب التحمس لوجهة نظر معينة ، ومحاولة تأييدها علمياً بغير سند علمي (١).

أقول : اعتراضه متين لكنه مقلوب عليه ، فكما لا يصل الطبيب إلى أثر للروح بعد أربعة أشهر من الحمل كذا لا يصل إلى نفيه أيضاً ، فلا يحق له انكاره أيضاً. والخلط بين حدود العلوم التجربية والفلسفة أو الدين أوجب

__________________

(١) ص ٥٧ الحياة الانسانية بدايتها ونهايتها.

٢٨

زلّة جماعات كثيرة من الماديين فضّلوا وأضّلوا ، وتوضيح المقام محتاج إلى بسط في الكلام لكنه لا يناسب هذا الكتاب.

( القول الثاني ) : لحظة التحام الحيوان المنوي بالبويضة هي بداية الحياة الاِنسانية ، اختاره بعض الاَطباء المشار إليه آنفاً ، واستدلّ عليه بتحقّق كائن في هذا الدور تنطبق عليه جميع الشروط التالية :

١ ـ أنْ تكون له بداية واضحة معروفة.

٢ ـ أنْ يكون قادراً على النمو ما لم يحرم أسبابه.

٣ ـ أنْ يفضي نموه إلى الاِنسان جنيناً ووليداً وطفلاً وصبياً وشاباً وشيخاً وكهلاً إنْ نسأ الله له في الاَجل.

٤ ـ أنّ ما سبقه من دور لا يمكن أنْ ينمو فيفضي إلى إنسان.

٥ ـ أنْ تكتمل له الحصيلة الارثية لجنس الانسان عامة ، وكذلك له هو فرداً بذاته مختلفاً عن غيره من الاَفراد منذ بدء الخليقة وحتّى قيام الساعة.

وقال : هذه الشروط الخمسة تتوفّر جميعاً في البويضة ( البيضة ) الملقّحة ، وهي لا تتوفّر في غيرها ولا تنطبق على ما قبلها ولا ما بعدها.

واستشهد عليه أيضاً بتأجيل عقوبة الاعدام شرعاً إنْ كان المحكوم عليها حاملاً دون تقييد الحمل بزمان خاص ، كما استشهد بقوله تعالى : ( وإذْ أنْتُم أجِنَّةٌ في بُطُونِ اُمَّهاتِكم ) (١) ، قال مَن هؤلاء الاَجنّة؟ أنتم وانا الانسان (٢) وأنكر أن تكون حياة الجنين قبل تمام أربعة أشهر نباتية أو حيوانية ، فإنّ النبات ـ تعريفاً ـ ليس له جهاز حركي فعّال ، ولا جهاز عصبي ، وأُسلوبه الغذائي مختلف ، وهو يقتأت على الضوء ويستهلك ثاني

__________________

(١) النجم آية ٣٢.

(٢) ص ٣٠٣ الحياة الانسانية بدايتها ونهايتها.

٢٩

أُوكسيد الكربون ويفرز الاوَكسجين.

وأحجم أنْ يصفها بأنّها حياة حيوانية ، وقد يسعد جماعة داروين أنْ نقرر أنّ جنين الانسان بدور حيواني!!! (١).

أقول : الشرائط الخمسة لا تثبت أنّ حياة البييضة الملقّحة حياة انسانية لعدم الملازمة بينهما عرفاً وطباً وعقلاً وشرعاً ، فهي ليست شروطاً للحياة الاِنسانية ، حتّى تترتّب عليها ترتب المعلول على علّتها ، وتأجيل اعدام الحامل إنّما هو لاَجل أنّ حملها في مصيره إلى الاِنسانية لا أنّه إنسان بالفعل حتّى في شهره الاَول ، وهذا الاشتباه قد صدر من غير واحد من أعضاء الندوة كما يظهر من مطالعة الكتاب (أي كتاب بداية الحياة الانسانية ونهايتها ) وغيرها ، نعم حرمة الاِجهاض ولزوم تأخير إعدام الحامل وحكم الخروج عن العدّة وامثالها ، أحكام شرعية تتّبع موضوعاتها ولا معنى للتلاعب بعناوينها.

والاستدلال بقوله تعالى : ( وإذْ أنْتُم أجِنَّةٌ في بُطُونِ اُمَّهاتِكم ) (٢) ضعيف ، إذْ لا شك في أنْ المراد به : أنَّكم كنتم أجنّة. أو ما يؤدّي معناه ولا يراد به أنَّكم الآن أجنّة!! كما أنّ الاِنسان كان تراباً ولم يكن بإنسان.

على أنّ لازم هذا القول أنْ يكون نهايته الحياة الاِنسانية بموت خلاياه

__________________

(١) ادعى بعض الباحثين : ان ١٢٥ مليون خلية تموت في جسم الانسان كل دقيقة وتحل محلها خلايا جديدة ... وتتساقط الخلايا من الجسم كما تتساقط أوراق الشجر الميتة من اشجارها وان الذرات التي تكون جسم أي انسان منا غير موقوفة عليه ... فهي تأتي من مصادر شتى ... وبعد أن تغادر الجسم تذهب الى مصادر شتى. فجسم الانسان يموت ويحيى ثم يموت ويحيى في الحياة الدنيا والانسان نفسه حي يرزق ... اذن فسر الحياة غير معلق بموت الجسم أو حياته. ص ٣٦٥ نفس المصدر.

(٢) النجم آية ٣٢.

٣٠

لا بموت المخ كما ذهب إليه أطبّاء الاَعصار الاخيرة.

ثمّ المفهوم من الآية الخامسة في سورة الحجّ بطلان هذا القول ، فإنّ مدلولها أنّ الاِنسان خُلِق ونشأ من النطفة والعلقة والمضغة ، لا أنّه عينها. على هذا القائل اشكال آخر تعرض له ولم يقدر على حله ودفعه فلاحظ.

( القول الثالث ) : أنّ الحياة على أقسام :

١ ـ الحياة الخلية ، وهي حياة البويضة المخصبة.

٢ ـ الحياة النسيجية ، وهي انقسام الخلية المتكررة وانغراسها في جدار الرحم واستمرار نموّها.

٣ ـ الحياة الاِنسانية في الاِسبوع الثاني عشر من وقت تخصيب البويضة الذي أصبح فيه للجنين كيان أو وجود ، فهو يقفز ويلعب وينام ويصحو ويحس ويفزّع ، كلّ ذلك تزامناً مع اكتمال تكوين المخ وبداية قيامه بوظائفه من ظهور محركات التنفّس وإشارات المخ الكهربائية الدالّة على نشاط وعمل قشرة المخ والنصفين الكرويين ، وهذه المرحلة تقف كعلامة هامة على طريق نمو وتطور الجنين ، كما أنّ هذه العلامات والظواهر التي تحدث هي عكس العلامات التي توصف في مرحلة وفاة المخ عند موت الانسان. ومن هنا يمكننا أنْ نصفها بمرحلة ميلاد المخ أو بداية الحياة الاِنسانية.

وفي نهاية هذا الاسبوع يكون الجنين قد بلغ تسع سنتيمترات طولاً و ٤٥ جراماً وزناً. ومن السهل التعرّف على هذه المرحلة وتحديدها على وجه الدقة بالفحص بجهاز السونار لبيان الحركات التنفسية وانشطة الجنين المختلفة (١).

__________________

(١) ص ٦٩ نفس المصدر.

٣١

ويزيد هذا القائل : وفي أثناء الاسبوع الثاني عشر تظهر على الجنين خمسة مظاهر جديدة وهامة ، كلّها تشير إلى اكتمال تكوين مخ الجنين وبداية ظهور الكيان الاِنساني في الجنين ، ويبدو ذلك من :

١ ـ تتصور حركات الجنين حركات مركبة متوافقة ، لا انقباضات تشنجية مثل ثني الظهر ورفع الرأس والالتفات بالوجه إلى الجانبين ، وكذلك حركات مركبة للفم والشفتين واللسان والفكين شبه حركات الرضاعة.

٢ ـ ظهور الحركات التنفسية. وليس المقصود هنا أنّ الجنين يتنفّس الهواء ، فالرئتان لا تعملان في فترة الحمل ، إلاّ أنّ هذه الحركات التنفسيّة تؤدي إلى التنفّس بعد الولادة.

٣ ـ مرور الجنين في هذه المرحلة بفترات متتابعة ومنتظمة من النشاط والحركة ، بعضها فترات روحة وسكون ، وقد تكون فترات يقظة ونوم.

٤ ـ بدء عمل ونشاط قشرة المخ كما سبق ذكره.

٥ ـ بداية ظهور حركات بناء على تنبيهات من الخارج. وهذا يعني أنّ مراكز عليا في المخ قد تدخلت (١) في حدوث هذه الحركة ، وذلك بناءً على انفعالات حسية في مخ الجنين أدرك بها حدوث شيء غير مألوف ، ويستنتج من هذا وجود الحس كذلك الوعي بالمحيط الذي يوجد فيه الجنين (٢).

__________________

(١) ص ٦٧ وص ٦٨ نفس المصدر ، وقال في محل آخر : وكذلك التفاعل معه بالحركة الذاتية النابعة من ارادته. ص ٦٥ نفس المصدر.

(٢) وقال في محل آخر (ص ٢١٠ نفس المصدر) : وأي علمي جديد يعتمد على اعتبار اكتمال تكوين المخ ... ولا اقصد هنا بالطبع اكتمال نضوج المخ أقول :

٣٢

أقول : صحّ ما ذكره أولا فهو لا يدلّ على مدّعاه ، لاَنّ الحس والحركة الاِرادية تجامعان الحياة الحيوانية وتنفيان الحياة النباتية فقط ، ولا تتطلبان الحياة الانسانية بخصوصها حتّى يقال : إنّ مخه يدرك الكليات أو يحاول أنْ يثبت ملزوم إدراك الكليات وهو تعلق الروح الانسانية بالجنين ، فهذا القائل لم يقدر على إثبات مدّعاه هذا إذا فرضنا وجود نفس حيوانية في الانسان ، منحازة عن الروح الانسانية وكانت هي المصدر للحس والحركة الاِرادية ، وأمّا إذا لم يكن الاَمر كذلك وان الحس والحركة الاِرادية وان كانا في الحيوانات مستندين الى النفس الحيوانية لكنهما في الانسان مستندان إلى النفس الناطقة الانسانية فقط ، ولا روح حيوانية مستقلة في الانسان ، فصحة هذا القول يثبت مدعى قائله لا محالة ، فلا بدّ من بلوغ ما ادّعاه إلى درجة القطع ، فإنّه بالفعل مشكوك.

والمظنون أنّ ما تقدّم من إيراد بعض الاَطباء على القول الاَوّل ناظر الى ادّعاء هذا القائل ، حيث وصفه بأنّه من باب الفلكلور أو من باب التحمس لوجهة نظر معينة ومحاولة تأييدها علمياً بغير سند علمي.

( القول الرابع ) : أنّ بدء الحياة الانسانية ليس لحظة الالتحام بل وقت العلوق ، إذ ليست كلّ بويضة ( بييضة ) ملقّحة هي لا بدّ أنْ تنغرس في الرحم ، يمكن أن يتسبّب اللولب لتصريفها ، لانّه لا تبدأ الحياة فعلاً إلاّ حين تصبح ملتصقة بالاُم وبالرحم ، أي : إذا انغرست في الرحم ، وهو ما عبّر عنه بعض الاَطباء بالاندغام ، مأخوذاً من كلمة العلوق (١).

__________________

اكتمال تكوين المخ في الاسبوع الثاني عشر محتاج الى آراء حسية للاطباء فلا بد من الفحص والرجوع.

(١) ص ٣٢٤ نفس المصدر.

٣٣

( القول الخامس ) : إنّه تستغرق رحلة الانسان من خلية واحدة إلى ١٦ خليّة في المعمل حوالي ٤ ـ ٥ أيام ( ومن خلية إلى ٦ بلايين خلية ـ فترة الحمل ـ حوالي ٢٨٣ يوماً ).

ولقد اصطلح طبياً ( علمياً ) على أنّ تسمّى مرحلة نمو الانسان داخل الرحم منذ أنْ تأخذ الخلية الملحقة في الاِنقسام إلى الثمانية (٨) أسابيع الاَُولى من الحياة بالجنين ، ويسمّى الجنين في الفترة الباقية من الحمل بالمولود!

والسبب في هذه التسمية هو أنّ الجنين في مرحلة نموّه داخل الرحم يمرّ بمرحلتين هامّتين من التكوين :

الاَُولى والتي تمتد ثمانية أسابيع يكون الجنين فيها في حالة تكوين وتشكيل ونمو مضطرد في الخلايا .. والناظر اليه في تلك المرحلة يجد كتلة من الخلايا التجاويفية والقنوات .. ( على شكل علقة ثم مضغة ) ليس لها سمة الاِنسان السوي ، وأهم ما يميّز هذه المرحلة من الناحية التشريحية هو ظهور ( الميزاب العصبي ) وهو بداية تكوين الجهاز العصبي ( الحسّي ) عند الجنين ، وبعد هذه المرحلة يأخذ الجنين داخل الرحم مظهراً آخر في النمو ، ويمكن للناظر إليه ( أي بعد مرحلة الثمانية الاَسابيع الاَُولى ) أنْ يميّز شكل إنسان آخذ في النمو ... وقد وصف ذلك في آية الخلق والتطور داخل الرحم : ... ( ثُمَّ أنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أحْسَنُ الخَالِقِين ).

اذا يمكن القول بان الجنين هو انسان في الاَسابع ٦ ـ ٨ الاَولى في حياته داخل الرحم أو في انبوبة اختبار في محمل طفل الانابيب (١).

__________________

ص ١٤٤ الرؤية الاسلامية لبعض الممارسات الطبية (١).

٣٤

أقول : هذه الاَقوال الاَربّعة لعلماء الطب الذي هو في حال تطوّره وطريق تكامله ، وقد عرفت أنها ضعيفة غير قابلة للاعتماد ، وقبل الانتقال إلى القول الحق لا بدّ من بيان أمر هام يجب الالتفات إليه ومراعاته في كلّ باب ، وهو أنّ ما ذكره أهل الطب وساير العلوم التجربية على أقسام :

منها ما ثبت بالحس والتجربة بحيث لا يقبل الترديد ، وهذا مما لا شك في قبوله بحكم العقل والفطرة ، فإنْ وجد في القرآن المجيد أو الاَحاديث المعتبرة ما يخالفه بظاهره وجب ردّ علم هذا الظاهر من الكتاب والسنة إلى الله سبحانه وتعالى ، ولا معنى للتعبد به على خلاف الحس كما بيّن ذلك في علم الكلام بأوضح برهان.

ومنها ما هو استنباطات وآراء ظنية من هؤلاء العلماء الاختصاصيين ، ولا عبرة بها كما لا قيمة بآراء الفقهاء والاُصوليين والمجتهدين من علماء الدين ، بل وآراء الصحابة العدول والسلف الصالح ( رض ) في مقابل الاَدلة الشرعية من ظواهر الكتاب والسنة ، ولا يجوز لنا تقليدهم بحال ، فإنّ قداسة أحدٍ ، أمرٌ وتقليده أمرٌ آخرٍ ولا ملازمة بينهما.

ومنها ما هو مبني على الاحصائيات المحدودة محلاً ووقتاً ، وهذا أيضاً لا اعتبار به ، فليس كلّ ما ذكر أو بني عليه في العلوم أمراً حسياً وحقيقة واقعية يجب قبوله كما ربما يتخيّل من لا فهم له ، كما أنه لا يجوز ردّ ما ثبت بطريق حسّي أو قطعي كالحس لاَجل فتوى سلف أو حديث ضعيف بل معتبر ، فإنّ الاَحاديث كظواهر الكتاب ظنية ، والظن يضمحل عند العلم بخلافه ، اللّهم إلاّ عند من لا عقل له.

إذا تقرر هذا فاعلم أنّ البحث هنا عن عدّه أُمورٍ تناسب المقام على نحو الاختصار :

٣٥

١ ـ أقسام الحياة وحقيقتها ، ومعنى حياة الجنين في أدواره وأطواره.

٢ ـ الفوارق الرئيسية بين الحيوان والانسان عند الفلاسفة.

٣ ـ تركّب الانسان من البدن والنفس.

٤ ـ الروح والنفس تتحّدان أو تتعدّدان.

٥ ـ متى تبدء الحياة الاِنسانية.

فأقول مستعيناً بالله تعالى ومتوكّلاً عليه في أصابة الحق :

( البحث الاَوّل ) : من الخير والحقّ أنْ نعترف صريحاً بأنّه لا علم بحقيقة الحياة كما لا علم لنا بحقيقة منبعها وهو الروح ، وانما نعرف الحياة بآثارها المذكورة في البيولوجيا ، من التغذية والتنمية والتنفس وتوليد المثل والحس والحركة ونحوها.

ومن المشهور بل المحسوس أنّ الحياة ثلاثة أقسام : نباتية وحيوانية وإنسانية ، فإنْ دلّ دليل عقلي أو علمي على انحصار الحياة بهذه الاَقسام فنقول : إنّ حياة الجنين ما لم يكن له حس وحركة إرادية حياة نباتية (١) ، وحينما وجد له الحس والحركة الارادية فحياته حيوانية (٢) ، ولا محذور فيه ، ولا تعلّق لهذا القول بقول داروين وأصحابه بوجه ، ولا تتحقّق الحياة الانسانية دون تعلق الروح الانسانية به كما ستعرف.

وإنْ لم يدلّ دليل عليه فلا مانع من جعل حياة الخلايا المذكورة المسمّاة بالجنين قسماً رابعاً.

والاِنسان في سيره العلمي ربما يصل إلى أقسام اُخر من الحياة ، وهذا هو الاَظهر ، إذْ لنا أنْ نقول بأنّ حياته تعالى وحياة الملائكة نوعان آخران

__________________

(١) وإن ثبت ان حياة كل خلية حياة حيوانية فتأمل.

(٢) ذكرنا ما يتعلق بالمقام في آخر القول الثالث عن قريب فلا تغفل منه.

٣٦

من الحياة.

( البحث الثاني ) : ذكر بعض الحكماء المتعمّقين أُموراً من خواص الاِنسان :

١ ـ النطق والبيان (١).

٢ ـ استنباط الصنائع العملية الغريبة. وأمّا ما يصدر من الحيوانات سيما من النحل في بناء البيوت المسدسة فهو ليس من تدبير نفسها الشخصية الجزئية عن استنباط وإلاّ لم يكن على وتيرة واحدة بل صدورها عن الهام وتسخير من مدبرات أمرها!

٣ ـ الحالة الانفعالية المسماة بالتعجّب وما يتبعه من الضحك التابعة لاِدراكه للاَشياء النادرة ، ويتبع إدراكه للاَشياء المؤذيّة انفعال يسمّى الضجرة ويتبعه البكاء.

٤ ـ أنّ المشاركة المصلحية تقتضي المنع من بعض الاَفعال والحث على بعضها الآخر ، ثمّ إنّ الانسان يعتقد ذلك من حين صغره ويستمر نشوؤه عليه ، فحينئذ يتأكد فيه اعتقاد وجوب الامتناع من أحدهما والاقدام على الآخر ، فيسمى الاَول قبيحاً والثاني حسناً جميلاً.

وأمّا مثل أنّ الاَسد المعلّم لا يأكل صاحبه ، والفرس العتيق النجيب لا يسافح أُمه ، فليس ذلك من جهة اعتقاد في النفس بل لهيئة نفسانية اُخرى.

٥ ـ الخجالة ، فإنّها حالة انفعالية تحصل عند ادراكه بان الغير اطّلع على أنّه ارتكب قبيحاً.

__________________

(١) الصغار والخرس لا يتكلمون. والقرآن يخبر عن نطق الهدهد والنملة ، والعلم الحديث أيضاً ربما يبحث عن نطق بعض الحيوانات كما اشرنا في كتابنا مقالات. وفي المقام بحث.

٣٧

٦ ـ ٧ ـ الخوف والرجاء ، فإنّ الانسان إذا ظنّ أنّ أمراً يحدث في المستقبل يضره فيعرض له الخوف أو ينفعه فيعرض له الرجاء ، وأمّا سائر الحيوانات فإنّهما يحصلان لها بالفعل لا لاَجل الظن بحدوث موجبيهما في المستقبل ، كنقل النمل البر بالسرعة إلى حجرها منذرة بالمطر ، فإنها أما ان يتخيل أن هناك مؤذ يكون ، أو مطر ينزل ...

وبالجملة : إنّ الاَفعال الحكمية والعقلية إنّما تصدر من الانسان من جهة نفسه الشخصية ، ومن سائر الحيوانات من جهة عقلها النوعية تدبيراً كليّاً.

٨ ـ ما يتّصل بما ذكر من أنّ الانسان له أنْ يروي في أُمور مستقبلة هل ينبغي أنْ يفعلها أو لا ينبغي؟ فحينئذٍ يفعل وقتاً ما حكمت به رؤيته وتدبيره أنْ يفعله ، ولا يفعل هذا وقتاً آخر بحسب ما يقتضي رؤيته إلاّ يفعله ، ما كان يصح ان يفعله في الوقت الاَوّل ، وكذا العكس ، وأمّا الحيوانات الاُخرى فليس لها ذلك وإنّما لها من الاعدادات ما يكون على ضرب واحد مطبوع فيها وافقت عاقبتها أو خالفت.

٩ ـ تذكر أُمور غابت عن ذهن الانسان ، والحيوانات الاُخرى لا تقدر على مثله.

١٠ ـ أخصّ خواصّ الانسان تصور المعاني الكلية المجرّدة عن المادة والاهتداء الى التصديقات والتصورات المجهولة ، وأخصّ من هذا اتصال النفوس الانسانية بالعالم الالهي بحيث تفنى عن ذاتها وتبقى ببقائه ، وحينئذٍ يكون الحق سمعه وبصره ورجله ويده ، وهناك التخلق باخلاق الله تعالى (١).

__________________

(١) لا حظ ص ٧٨ الى ص ٨٢ ج ٩ من اسفار الشيرازي.

٣٨

أقول : لم يكن للقدماء من الفلاسفة وغيرهم علم تجربي دقيق بخصوصيات الحيوانات وانما يعرفون منها أُمور كلية عامة لا غير ، فلا اعتماد بآرائهم في جميع الموضوعات التي لا تعرف بمجرد العقل ، ولذا أخطأوا خطأ كثيراً في الاجسام العلوية والافلاك والنجوم ، وأصبح اليوم معرفة الشباب المتعلمين بالسماويات أكثر من معرفة الفارابي وابن سينا والسهروردي وصدر الدين الشيرازي وسائر مشاهير الفلسفة ، ولعله لا لوم على أحد إذا ادّعى أنّه لا معرفة صحيحة لهؤلاء الحدسيين من الفلاسفة بالسماء وكواكبها ونجومها وما يتعلق بها أصلاً!!! وعلة الاشتباه أنهم غلطوا في تمييزهم بين حدود الفلسفة والعلوم فحاولوا اثبات ما يحتاج اثباته الى الحس والتجربة بالعقل المجرد وظنوا أنّ لهم الصلاحية في جميع أقسام العلوم؛ كما أنّ المادّيّين اليوم مشوا على عكس ذلك ، فإذا لم يجدوا شيئاً في حقلهم العلمي نفوه مطلقاً تخيلاً منهم انّه لا حقائق خارج الحس. والحق أنّ للحس مداراً خاصاً وللعقل مركزاً خاصاً ، ولا بد من مراعاة ذلك حتى لا يضل الباحث ولا يطمث معالم الحق ، وتفصيل البحث في محله.

وعلى كلّ مجموع هذه الخواص يكفي لتمييز الانسان عن الحيوان ، ولا نستطيع أنْ ندّعي أنّ شيئاً من تلك الخواص لا يوجد في الحيوانات ، بل البحوث الحديثة تثبت خلاف ذلك ، وربما تثبت التجربة العلمية في المستقبل حقائق أهم وأكثر وأعجب للحيوانات مما أكتشفته لحد الآن.

والذي أراه مميزاً جوهرياً بين الانسان والحيوان بعد اشتراكهما في الاحساس والحركة الارادية وجملة من الاَُمور الاُخر هو تعلق الروح بالانسان المستتبع لقدرته على الادراكات الكلية الكثيرة التي أوجبت تحول حياة الانسان من المرحلة الابتدائية المظلمة الشبيهة بحياة الحيوانات إلى

٣٩

هذه المرحلة ثمّ في المستقبل الى المراحل التي لا تقع في ذهننا اليوم ، ومن المحسوس عجز الحيوانات عن هذا التحول.

( البحث الثالث ) في حقيقة الانسان :

إنّ الاِنسان له بدن مادي محسوس وله نفس انسانية سوى البدن ، والكلام فيه تارة من جهة العقل ، واُخرى من جهة دلالة القرآن ، وثالثة من جهة العلم.

ونحن نذكر في الجهة الاُولى ، كلام بعض المفسرين من أهل المعقول ، وإنْ كان لنا نقاش أو ايراد على بعض كلامه. ثم إنّ بحثه وان كان في تجرد النفس لكنه يفي بالمقام ، قال :

هل النفس مجرّدة عن المادة؟ ( ونعني بالنفس ما يحكى عنه كلّ واحد منا بقوله : أنا؛ وبتجرّدها عدم كونها أمراً مادياً ذا انقسام وزمان ومكان ).

إنا لا نشك في أنا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه : بـ : أنا ، ولا نشك أنّ كلّ إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حيناً من أحيان حياتنا وشعورنا ، وليس هو شيئاً من أعضائنا وأجزاء بدننا التي نشعر بها بالحس أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصر واللمس ونحو ذلك وأعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحس والتجربة ، فإنا ربما نغفل عن كل واحد منها وعن كلّ مجموع منها حتى عن مجموعها التام الذي نسميه بالبدن ولا نغفل قط عن المشهود الذي نعبر عنه : بـ : أنا ، فهو غير البدن وغير أجزائه.

وأيضاً : لو كان هو البدن أو شيئاً من أعضائه أو أجزائه أو خاصة من الخواص الموجودة فيها ـ وهي جميعاً مادية ، ومن حكم المادة التغير

٤٠