الفقه والمسائل الطبيّة

الشيخ محمد آصف المحسني

الفقه والمسائل الطبيّة

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٣

تدبيرية.

لا يستفاد من الآيات المتضمنة لبيان نفس الاِنسان شيء من تلك الخصوصيات على ما أفهم ـ وفهمي قاصر ـ وكذا من قوله تعالى : ( ثمّ أنشأناه خلقاً آخر ) (١) ، بناء على نظارته إلى الروح كما هو الاَظهر ـ وقد مرت الاِشارة إليه في مسألة بداية الحياة الاِنسانية ـ.

نعم ما ورد في آدم وعيسى عليهما السلام ربما يشير إلى موضوعنا هذا ، كقوله سبحانه وتعالى : ( ثمّ سوّيه ونفخ فيه من روحه ) ( السجدة ٩ ) وقوله تعالى : ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) ( الحجر ٢٩ ـ ص ٧٢ ) ، وقوله تعالى : ( والتي احصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا ) ( الاَنبياء ٩١ ) ، وقوله تعالى : ( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فَنَفخْنا فيه من روحنا ) ( التحريم ١٢ ).

أقول : أولاً أنّه لا فرق بين آدم وعيسى عليهما السلام وغيره من الآدميين في كيفية نفخ الروح (٢).

وثانياً أنّ هذه الروح هي روح الاِنسان لا شيء غيرها ، وإضافتها إلى الله سبحانه كاضافة البيت والكتاب والاَهل اليه ( بيت الله كتاب الله أهل الله ) ، وهي إضافة تشريفية فقط ، وتؤكد هذا جملة من الاَحاديث :

ففي صحيح الاَحول المروي في الكافي ( ج ١ ص ١٣٣ ) قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الروح التي في آدم عليه السلام قوله : فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي ، قال : هذه روح مخلوقة والروح في عيسى مخلوقة.

__________________

(١) المؤمنون آية ١٤.

(٢) نعم مقتضى الآية الاَخيرة ان نفخ الروح في الجنين من فرج اُمه ومقتضى بعض الروايات انه من فمها والعمدة هي الآية الكريمة.

١٦١

وفي حسنة حمران ( نفس المصدر ) : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : وروح منه ، قال : هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى.

وفي صحيح محمّد بن مسلم المروي عن معاني الاَخبار قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ( ونفخت فيه من روحي ) ، قال : روح اختاره الله واصطفاه وخَلقه واضافه إلى نفسه وفضله على جميع الاَرواح فنفخ منه في آدم ج ١٤ ص ١١ بحار الاَنوار.

وثالثاً : أنّ الآيات والاَحاديث لا تدلان على أنّ الله نفخ الروح في آدم وعيسى حتى يقال بمثله في جميع بني آدم فيصح القول الاَوّل ونحوه ، بل مدلولها أن الله نفخ من الروح فيهما فالروح منفوخ منها لا منفوخة ، وهذا يظهر بأدَنى تعمّق في الآيات الكريمة.

وأنا أظن ـ والله العالم العاصم الهادي ـ أنّ المراد بالنفخ هو الاحياء ، فمعنى الآيات على هذا أنّ الله أحيى آدم وعيسى من الروح ، فالروح مبدء الحياة لا نفسها ، والظاهر أنّ علاقة الروح بالبدن تدبيرية ، فليست بداخلة في البدن ولا راكبة ولا البدن ظرفها ، وإذا قلنا بتجرد الروح كما هو الظاهر فلا بد من اختيار هذا القول عقلاً.

فإنْ قال قائل : فما تقول في قوله تعالى : ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ) (١) الدال على دخول الروح في البدن؟ فقد أُجيب عنه بأنّ بلوغ النفس الحلقوم كناية عن الاَشراف التام للموت ، فليس المراد حركة الروح من الاَسفل إلى الحلقوم حركة مكانية ، وكذا الكلام في قوله تعالى : ( كلا إذا بلغت التراقي ) (٢).

__________________

(١) الواقعة آية ٣٦.

(٢) القيامة آية ٢٦.

١٦٢

والاَظهر عندي أنّه لا دليل على رجوع الضمير في قوله تعالى : (بلغت) إلى الروح ، ويحتمل قوياً رجوعه إلى الحياة الاِنسانية القائمة بجميع البدن والرأس الناشئة من الروح كما ذكرنا قبيل هذا ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مستمسك لمن يظن أنّ الروح داخلة في البدن وتخرج منه خروج جسم من جسم. وأما قوله تعالى في حق مجاهدي غزوة الخندق : ( وبلغت القلوب الحناجر ) (١) ، فلا تكون قرينة على أنّ الضمير في الآيتين المشار إليهما أيضاً يرجع إلى القلوب ، على أنّه أيضاً كناية جزماً ، والله أعلم وهو الهادي.

(٨)

الروح مجرّدة أو جسم لطيف؟

ذهب جمع من المتكلّمين إلى أنها جسم لطيف ، وذهب جمع من الحكماء إلى أنّها مجردة عن المادة ولواحقها كالزمان والمكان ، بل مال الحكيم السبزواري رحمه الله تبعاً لشهاب الدين السهروردي شيخ الاِشراق إلى انها لا ماهية لها أيضاً (٢) ، وقبوله بل تصوّره مشكل.

فالروح على المشهور عند الحكماء جوهر مجرد له نحو اتصال وعلاقة بالبدن ، وقد اُقيمت عليه دلائل عقلية وعلمية ، ولا بأس بالاعتماد على مجموعها ومن شاء فليراجع إلى محالها فان نقلها وتفصيلها لا تناسب هذا الكتاب ، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الاُمور وبواطن الاَشياء.

__________________

(١) الاحزاب آية ١٠.

(٢) شرح المنظومة.

١٦٣

(٩)

القلب في القرآن

ذُكِرَتْ لفظتا القلب والقلوب في آيات كثيرة من القرآن واسندت إليه في تلك الآيات اُمور كثيرة ، كالاِثم ، والاطمئنان ، والغفلة ، والمرض ، والختم ، والهداية ، والرعب وعدم الفقه ، والزيغ ، والتقوى ، والتعقل وعدمه ، والعمى ، والتقلب ، والاشمئزاز ، والكظم ، والقفل ، وانزال السكينة ، وإنزال الوحي ، وجعل الرأفة ، والرحمة ، والكسب ، والاُلفة ، والخير ، والتعمد ، والطهارة ، وزينة الاِيمان ، وعدم دخول الاِيمان ، والطبع ، والحسرة ، والوجل ، والريب ، والغيظ ، واللهو ، والاِخبات ، وامتحان التقوى ، والخشوع ، وغير ذلك.

والقلب عضو عضلي أجوف يستقبل الدم من الاَوردة ويدفعه في الشرايين في الجهة اليسرى من التجويف الصدري.

نعم ذكر أهل اللغة له معان أُخرى ، كالعقل واللب والفؤاد ( عن مختار الصحاح ) ، ووسط الشيء ولبه ومحضه وخالص الشيء وخياره ( عن المعجم الوسيط ) ، ونفس الشيء وحقيقته ( عن لسان العرب ) ، وفي المنجد : القلب ... : العقل ، قلب الجيش وسطه ، قلب كل شيء لبه ومحضه ، ويقال : رجل قلب ، أي : خالص النسب.

فمعان القلب بعد معناه المعروف هو العقل ـ واليه يرجع اللب ظاهراً ـ وخالص الشيء ومحضه وخياره ونفس الشيء وحقيقته ، هذه المفاهيم الاَخيرة يصح انطباقها على الروح ، وعليه فالقلب هو العضو الخاص

١٦٤

المعروف والعقل والروح (١).

وحيث إنّ الاُمور المنسوبة إليه في القرآن كلها من صفات النفس والروح قطعاً ونسبتها إلى القلب العظمى كنسبتها إلى سائر الاعضاء من اليد والرجل ونحوهما في البطلان تعين حمل القلب على معنى الروح وحينئذٍ فلا إشكال.

لكن تأويل آيات القرآن بهذه السهولة غير ميسر ، بل هو غير جائز ما لم يدعمه دليل شرعي معتبر إذا لم يثبت أنّ النفس أو الروح معنى حقيقي أو منصرف اليه لفظ القلب كما هو كذلك عندنا ، إذ المفهوم المتبادر مايقصده الاَطباء ، فلاحظ. على أنّ في تأويل القرآن ـ وهو السند الاَصيل للاسلام والنبوة الخاتمية ـ مع الغض عن منعه الشرعي إشكالاً قوياً ليس هنا موضع بيانه ، والذي يمكن أنْ يركن إليه في فهم معنى القلب آيات نذكر بعضها.

١ ـ قوله سبحانه وتعالى : ( فانها لا تعمى الاَبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) (٢) ( الحج ٤٦ ).

٢ ـ ( وليبتلي الله ما في صدوركم وَليُمحّص ما في قلوبكم ) ( آل عمران ١٥٤ ).

٣ ـ ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) ( الاحزاب ٤ ).

٤ ـ ( وبلغت القلوب الحناجر ) ( الاحزاب ١٠ ).

أقول : الآية الاُوّلى ظاهرة بل صريحة على أنّ المراد بالقلب الذي وصف بالعمي هو العضو المعروف ، ضرورة أنّ العقل والروح ليسا في

__________________

(١) وهل هو في المعنيين الاَخيرين حقيقة لغوية أو مجاز أخذوه من الاستعمالات الخاصة فيه وجهان.

(٢) ومن عجيب التأويل فيه حمل الصدر على الجمجمة وحمل القلب على المخ!!!

١٦٥

الصدر.

والآية الثانية كالنص على تباين الصدر والقلب ان لم يحمل قوله تعالى : وليمحص ... على أنه عطف بيان كما هو الاَظهر حسب القاعدة وإلاّ لدلت على اتحاد الصدر والقلب ، وحينئذٍ لا بد من حملهما على معنى ثالث ضرورة تباين العضوان الماديان ، وعلى كل لا يستفاد منها المراد من القلب على فرض كون العطف لغير البيان.

والثالثة كالاُوّلى ظاهرة في إرادة العضو المشهور.

وأما الرابعة فتحمل على المعنى الكنائي كشدة حال الصحابة الحاضرين في غزوة الاَحزاب ، سواء اريد بالقلوب معناها المتبادر أو الارواح.

فان جعلنا الآيتين الاَُولى والثالثة قرينتين عامتين لجميع الموارد المستعملة فيها القلب فهو ، وإلاّ فيبقى معناه مجهولاً في محدودة تفسير الآيات الكريمة ، إلاّ أنّ يدّعى تبادره إلى العضو المشهور وأنّ الروح أو العقل معنى مجازي لا يحمل عليه لفظ القلب إلاّ مع القرينة ، فتأمل.

وجعل بعض المفسرين قوله تعالى : ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) ( البقرة ٢٢٥ ) من الشواهد على إرادة النفس والروح من القلب ، فإنّ التعقل والتفكّر والحب والبغض والخوف وأمثال ذلك وإنْ أمكن أنْ ينسبها أحد إلى القلب باعتقاد أنّه العضو المدرك في البدن على ما ربما يعتقده العامة كما ينسب السمع إلى الاِذن والابصار إلى العين والذوق إلى اللسان ، لكن الكسب والاكتساب مما لا ينسب إلاّ إلى الاِنسان ألبتة (١).

__________________

(١) ص ٢٢٤ ج ٢ تفسير الميزان ولمؤلفه رحمه الله بيان في معنى القلب في القرآن ، لم نر

١٦٦

أقول : الكسب المستتبع للمؤاخذة قد يكون بأعمال جوارحية وقد يكون بأفعال أو صفات قلبية كما يظهر مما ذكرناه في أوّل هذا البحث ، فما ذكره هذا القائل لا يعتمد عليه.

ثم إنّ المنقول عن ابن سينا أنّه رجّح كون الادراك للقلب بمعنى أنّ دخالة الدماغ فيه دخالة الآلة ، فللقلب الادراك وللدماغ الوساطة (١).

أقول : وضعفه ظاهر ، وكم للفلاسفة تخرصات بالغيب وحدسيات باطلة وتحكمات بغير حق فهمناها من العلم الحديث المبني على الحس ، نعم هو حق إنْ بدلنا القلب بالروح.

والمقام عندي من المشكلات ، ولا يهتدي فكري القاصر إلى فهم مراده تعالى من القلب ، فادعوه متضرعاً وراجياً ، ربّ زدني علماً وما كنا لنهتدي لولا أنْ هديتنا.

ولُبّ التحيّر أنّ نسبة الذوق والشم والسمع والبصر واللمس إلى الاَعضاء الخمسة ظاهرة لاَنّها محال هذه الاِدراكات وإنْ لم تكن مدركاتها ، ولكن نسبة الاَُمور المتقدمة في أوّل هذا البحث إلى القلب العضلي غير صحيحة إلاّ إذا وجد بينه وبين الروح رابطة مصححة لنسبة افعالها وصفاتها إليه ، وهذه الرابطة لم تثبتها العلوم التجريبية ولا البراهين العقلية لحد الآن ، والعلم في تطوره بعد ، والله العالم.

نعم لا شكّ في وجود رابطة لائقة بين الروح والمخ كرابطة المصور

__________________

فيه شيئاً مفيداً ومن شاء فليراجعه. واعلم ان نسبة السمع إلى الاذن والبصر إلى العين والذوق إلى اللسان مثلا نسبة صحيحة وان كان المدرك هو الروح على ما هو الحق ، لعلاقة شبه الحال والمحل واما نسبة الادراك إلى القلب كنسبته إلى اليد مثلاً غير صحيحة بعدما كشفت العلوم بطلان ما تزعمه العامة من كون القلب مدركاً. فاهماً.

(١) تفسير الميزان ج ٢ ص ٢٢٥.

١٦٧

وجهاز التصوير ، لكن حتّى اليوم إذا قلت لاَحد : حُبّك في مخي ، لربما ضحك الناس ، بخلاف ما لو قلت ، حُبّك في قلبي! لكن المتبع هو العقل أو العلم دون حسبان العوام وإنْ كان الحكم ببطلان حسبانهم في المقام لا يخلو عن زيادة جرأة.

فان قلت : إنّ حسبان العوام ذلك نشأ من ظاهر القرآن المجيد بعدما فسر المفسّرون آياته أو ترجمها المترجمون وذكرها المبلغون والمرشدون ، فإذا أوجبنا تأويلها للقرينة الخارجية لا تبقى مشكلة في رد اعتقاد العوام بدرك القلب وفهمه.

قلت : أوّلاً إنّ المراد بالعوام ليس خصوص المسلمين كما زعمت بل مطلق الناس أو غالبهم ، فان نسبة العلم والفهم والحب والبغض وغير ذلك الى القلب موجودة مستعملة في لغات غير المسلمين ممن لم يسمعوا استعمالات القرآن المجيد ، فكان معظم العقلاء من الآدميين اعتقدوا ذلك ، وإلى هذا ينظر قولنا ان رد حسبانهم في المقام لا يخلو عن زيادة جرأة.

وثانياً انا لم نوجب تأويل الآيات القرآنية بل منعنا منه وانتظرنا تطور العلم حتّى يتوصل إلى الحلقة المفقودة المتوسطة بين الصفات النفسية والقلب.

(١٠)

الصدر في القرآن

في القرآن آيات تدلّ على نسبة جملة من الاُمور إلى الصدر : ( بل

١٦٨

هو آيات بينات في صدور الذين أُوتوا العلم ) (١) ، ( يعلم خائنة الاَعين وما تُخفي الصدور ) (٢) ، ( يوسوس في صدور الناس ) (٣) ، ( إنْ تخفوا ما في صُدُوركم أو تبدوه ) (٤) ، ( وليبتلي الله ما في صدوركم وليُمحّص ما في قلوبكم ) (٥) ، ( مما يكبر في صدوركم ) (٦) ، ( حاجة في صدوركم ) (٧) ، ( ونزعنا ما في صدورهم من غل ) (٨) ، ( ألم نشرح لك صدرك ) (٩) ، وغيرها.

وفي المنجد : الصدر ج الصدور : ما دون العنق إلى فضاء الجوف ، وله معان أُخر :

(١) أعلى مقدم كل شيء. (٢) أوّل كل شيء كالنهار. (٣) الطائفة من الشيء. (٤) الوزير الاَكبر. ولاحظ مختار الصحاح ولسان العرب والمعجم الصحيح وغيرها. ولا يبعد إطلاقه على هذه المعاني بعناية معناه الاَوّل فيكون استعماله فيها مجازياً ، فلاحظ.

والمتبادر من لفظ الصدر ـ ولو في مثل أعصارنا ـ هو المعنى الاَوّل إلاّ إذا قامت القرينة على غيره ، ومن حسن الاتفاق أنّ أهل اللغة الفارسية أيضاً ينسبون إلى الصدر ( سينه ) بعض ما ينسبه اليه في العربية.

__________________

(١) العنكبوت آية ٤٩.

(٢) غافر آية ١١.

(٣) الناس آية ٥.

(٤) آل عمران آية ٢٩.

(٥) آل عمران آية ١٤٥.

(٦) الاسراء آية ٥١.

(٧) الغافر آية ٨٠.

(٨) الاعراف آية ٤٣.

(٩) الشرح آية ١.

١٦٩

وعلى كل يجري فيه السؤال المذكور في القلب بتفاوت ما كما لا يخفى.

تتمة :

القرآن يسند بعض الصفات والافعال التابعة للادراك أو الدالة عليه إلى أشياء ثلاثة : النفس والقلب والصدر ، وربما يسند شيء واحد كالاخفاء والحاجة والوسوسة إلى النفس والصدر ، والاطمئنان إلى القلب والنفس ، أليس هذا مشعراً بوحدة هذه الاشياء مصداقاً ولو في عدة من الآيات لا في جميعها؟ تأمل ثم اقض ، فإنه أمر مهم في المقام ولا اعلم من ذكره.

(١١)

علامات الموت والحياة

يقول الشهيد الاَول رحمه الله في مبحث احتضار اللمعة : ... إلاّ مع الاشتباه فيصبر عليه ثلاثة أيام.

ويقول : الشهيد الثاني رحمه الله في شرحها : إلاّ أنْ يعلم قبلها ( أي قبل ثلاثة أيام ) لتغير وغيره من أمارات الموت ، كانخساف صدغيه ، وميل أنفه ، وامتداد جلدة وجهه ، وانخلاع كفه من ذراعيه ، واسترخاء قدميه ، وتقلّص انثييه إلى فوق مع تدلي الجلدة ، ونحو ذلك (١). وعن بعضهم أنّ علامته : زوال النور من بياض العين وسوادها ، وذهاب التنفس وزوال النبض ، وعن جالينوس الاستبراء بنبض عروق بين الانثيين أو عروق يلي الحالب والذكر

__________________

(١) ص ٢٤ وص ٢٥ ج ٤ جواهر الكلام.

١٧٠

بعد الغمز الشديد أو عرق في باطن الآلية أو تحت اللسان أو في بطن المنخر.

أقول وقد أحسن صاحب الجواهر رحمه الله حيث قال بعد نقل تلك العلامات : إنّ المدار على العلم الذي تطمئن به النفس ... فاحتمال إناطة الحكم بهذه العلامات وان لم تفده ـ أي العلم ـ في غاية الضعف ، لظهور الاَخبار ... في كون المدار على العلم كما صرّح به في الموثق ، وأنّ تعليق الحكم على التغيير إنما هو لافادته ذلك غالباً.

وعن المحقّق رحمه الله في المعتبر ويجب التربّص مع الاشتباه حتّى تظهر علامات الموت وحده العلم ، وهو إجماع ، وعن تذكرة العلامة أنّه لا يجوز التعجيل مع الاشتباه حتّى تظهر علامات الموت ويتحقّق العلم به بالاجماع (١).

أقول : فإنْ علم المكلف به فهو وإلاّ فلا بد من الرجوع إلى الاختصاصيين حتّى يطمئن بقولهم بالموت.

وأمّا الاَحاديث المتعلقة بالمقام فإليك بعضها :

١ ـ موثّق عمار عن الصادق عليه السلام المروي في الكافي وغيره : الغريق يحبس حتى يتغير ويعلم أنّه قد مات ثم يغسل ويكفن. وسَئل عن المصعوق؟ قال : إذا صعق حبس يومين ثم يغسل ويكفن.

٢ ـ صحيح هشام بن الحكم عنه عليه السلام : خمس ينتظر بهم إلاّ أن يتغيروا : الغريق ، المصعوق ، والمبطون ، والمهدوم ، والمدخن.

٣ ـ وفي حديث عن الكاظم عليه السلام في المصعوق والغريق ينتظر به

__________________

(١) ص ٢٥ نفس المصدر.

١٧١

ثلاثة أيام إلاّ أنْ يتغير قبل ذلك (١).

ولا يبعد حمل الاخبار على حصول العلم بالموت ، ولا شكّ أنه أحوط.

وأمّا علامة الحياة فالمذكور في الاحاديث الاستهلال والتحرك ، كصحيح ربعي قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول في سقط إذا سقط من ( في يب ) بطن أُمّه فتحرك تحركاً بيناً : يرث ويورث فانه ربما كان أخرس. وقريب منه حديثه الآخر وصحيح الفضيل وموثّقة أبي بصير وغيرها.

وفي رواية عمر بن يزيد : ... فشهدت المرأة التي قبلتها أنه استهل وصاح حين وقع إلى الاَرض ثم مات ، قال ( الصادق عليه السلام ) : على الاِمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام.

وفي رواية ابن سنان عنه عليه السلام : لا يصلى على المنفوس ـ وهو المولود الذي لم يستهل ولم يصح ولم يورث من الدية ولا من غيرها. (من والديه ولا من غيرهما في يب) ، وإذا استهل فصل عليه وورثه. ص ٣٥٠ وص ٣٥١ ج ٢٤ جامع الاَحاديث. ويدل عليه غيرها أيضاً.

أقول : وجدير بالذكر أنّ هذه الاَحاديث لم تذكر نبض القلب علامة للحياة ، فهل هو تلميح إلى عدم دلالته عليها؟

(١٢)

لا يجب تحريك القلب على كلّ حال

إذا تحقّق جذع المخ وتوقّف عمله بكامله وعلم بتوقف القلب توقفاً

__________________

(١) ص ٤٧٥ و ٤٧٦ ج ٢ الوسائل نسخة الكومبپوتر.

١٧٢

تاماً فهو ميت على قول جميع الاَطباء ، وعليه فلا يجب اتصال الآلة الصناعية المحركة لقلبه به ، إذ مع العلم في عدم تأثيرها في إعادة الحياة لا أثر لحركة القلب ، وهذا واضح ، بل مؤنة الاتصال في المستشفى نوع من الاسراف ، بل ربما تحرم جزماً كما إذا كانت للميت ورثة صغار أو عليه دين للناس أو لله تعالى ، وتركته على فرض صرفها في اتصال الآلة لا تفي بالدين المذكور.

وأما إذا مات قسم من المخ كقشرته ففي وجوب وصول الآلة مع الامكان وجهان ، من كونه حياً في الجملة ـ ولو احتمالاً ـ فيستصحب حياته فيجب حفظها ، ومن أنّ فوت القشرة فوت للمميزات الانسانية كما قال بعض الاَطباء ولا تجب حفظ مطلق الحياة بل حياة الاِنسان ، فتأمّل.

وعلى كلّ إنّ قتل النفس غير حفظها ، وهما أمران متمايزان ، والاَول حرام عقلاً وشرعاً ـ كتاباً وسنةً وإجماعاً ـ وأما الثاني فليس على وجوبه دليل لفظي واضح؛ وقوله تعالى : ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ) (١) ، يدلّ على الفضل دون اللزوم ، وقد ذكرنا بحثه في الجزء الثالث من كتابنا حدود الشريعة في مادة الحفظ ، وان الدليل عليه لُبّي ، والمتيقن هو وجوبه في غير هذا الفرض ، والمقام محتاج إلى مزيد تأمّل.

(١٣)

الاَحكام الفقهية للموت

١ ـ انتقال الاَموال إلى الورثة.

__________________

(١) المائدة آية ٣٢.

١٧٣

٢ ـ عدم استحقاق من مات قبله من الورثة.

٣ ـ الجناية على الميت تختلف حكما عن الجناية على الحي ، فقطع رأس الحي يوجب القصاص دون رأس الميت.

٤ ـ صحّة قضاء صلاته وصومه ووجوبهما على الولي وعدمهما في حياته.

٥ ـ وجوب العمل بوصاياه.

٦ ـ انتقال ما وصي به إلى الموصي له.

٧ ـ استقلال البنت في تزويجه إذا لم يكن لها جد عن أبيها.

٨ ـ وجوب تجهيزه.

٩ ـ عدم وجوب نفقة من تجب عليه نفقته بعد الموت.

١٠ ـ بطلان إذنه وتوكيله على ما فصّل في الفقه.

١١ ـ حلول ديونه.

١٢ ـ وجوب آداء ديونه على الورثة.

١٣ ـ بدء العدة على نسائه.

١٤ ـ جواز نكاح الخامسة بعد موت الزوجة أو نكاح اُختها.

١٥ ـ لزوم أداء ديونه وحقوق الله على الورثة.

١٦ ـ صحة تولية خليفة أو تنصيب قاض بدلاً عن الميت.

١٧ ـ صيرورة بعض الورثة غنياً.

١٨ ـ عزل الولاة بناء على ترتبه على موت الاِمام.

١٩ حرمة التصرف في أمواله إذا كان الوارث صغيراً أو غير راض به.

٢٠ ـ عدم ارثه من مورثه إذا مات قبله.

٢١ ـ وجوب الغسل بمسه في الجملة.

١٧٤

ولعل المتتبع يجد جملة أُخرى من هذه الاَحكام.

فالبحث في تعيين الموت وأنه بموت جذع المخ أو توقف القلب ذو ثمرات كبيرة كثيرة كما عرفت ومن أهمها عند الاَطباء جواز قطع أعضائه ـ خصوصاً قلبه ـ إذ التأخير ولو يسيراً ربما افسده ولم يصلح لزرعه في بدن المحتاج كما قالوا ، وستعرف حكمه في المسألة الآتية إنْ شاء الله تعالى.

واعلم ان الله سبحانه وفقنا بعد تأليف هذا الكتاب ، لتأليف كتاب آخر حول ما يتعلق بالروح باسم ( روح از نظر دين وعقل وعلم روحي جديد ) وذكرنا فيه المباحث بتفصيل اكثر مما ذكرنا في هذه المسألة وسوف يطبع ان شاء الله في قريب عاجل ، ومن شاء مزيد التفصيل حول الروح فعليه بمطالعة ذلك الكتاب.

١٧٥

المسألة العشرون

حكم قطع أعضاء الميت

( الجهة الاَُوّلى ) : في نقل الاَحاديث المتعلقة بالموضوع.

١ ـ صحيح جميل عن غير واحد عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال : قطع رأس الميت أشد من قطع رأس الحي.

٢ ـ صحيح مسمع كردين قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجل كسر عظم ميت؟ فقال : حرمته ميتاً أعظم من حرمته وهو حي.

٣ ـ صحيح صفوان ( عن رجالهم صا ) قال : قال أبو عبدالله عليه السلام : أبى الله أنْ يظن بالمؤمن إلاّ خيراً ، وكسرك عظامه حياً وميتاً سواء (١).

٤ ـ صحيح ابن سنان عن الصادق عليه السلام في رجل قطع رأس الميت؟ قال : عليه الدية لاَن حرمته ميتاً كحرمته وهو حي (٢).

( الجهة الثانية ) : مقتضى إطلاق هذه الاحاديث حرمة قطع أعضاء الميت مطلقاً ، سواء كان عن قصد سوء وعداوة أو عن عبث أو لاَغراض إنسانية مهمة ، كما هو المتداول اليوم عند الاَطباء ، وقد افتى بذلك جمع من الفقهاء (٣).

__________________

(١) ص ٤٨٩ إلى ص ٤٩٧ ج ٢٦ جامع الاحاديث.

(٢) ص ٢٤٨ ج ١٩ الوسائل هذه الاحاديث تدلّ على ان توهين المؤمن الحي والميت حرام ويحرم على المؤمن توهين نفسه أيضاً بالملاك والظاهر ان الموضوع في الاحاديث مطلق المسلم وان لم يكن مؤمناً.

(٣) لاحظ كتب أهل الفتوى المسماة بـ : توضيح المسائل.

١٧٦

نعم إذا توقّف حياة مسلم على قطع عضوٍ من الميت بالفعل أجازه بعضهم لتقديم وجوب حفظها على حرمة قطع عضو الميت ، فإنّه أهم منها.

يقول سيدنا الاُستاذ الخوئي قدس الله سره : لا يجوز قطع عضو من أعضاء بدن المسلم الميت كالعين أو العضو الآخر للزرع في بدن الحي وإنما يجوز ذلك فيما إذا توقف حياة الحي عليه ، وحينئذٍ يجوز ولكن يجب الدية على القاطع ، وفي الصورتين لا بأس بزرعه في بدن الحي ، وبعد الزرع يعد جزأً من بدن الحي فيترتب عليه أحكام الحي.

وقال أيضاً : يجوز قطع عضو من بدن الكافر الميت أو مَن شك في إسلامه لزرعه في بدن المسلم الحي وبعد الزرع يعد جزءاً من بدنه فيجري عليه حكمه ، وكذا إذا زرع عضواً من الحيوان نجس العين فيكون بعد الزرع ظاهراً.

أقول : في صيرورة الجزء النجس بعد الزرع طاهراً بتبع البدن عندي إشكال ، وبقية كلامه رحمه الله صحيح ، فافهم.

ويمكن أنْ يقال : إنّ هذه الاَحاديث لا تثبت حكماً جديداً للميت سوى ما ثبت في حق الحي ، فإذا قلنا بجواز إهداء المؤمن كليته مثلاً لاَخيه المؤمن (١) ولا ضرر له ولاهو هتك لحرمته عرفاً فأي مانع من جواز أخذها منه بعد موته بوصية منه؟ لا لحفظ الحياة فقط بل لدفع الحرج عنه ، ولعله لاَجل ما ذكرنا ذهب السيدان الاُستاذان العلمان الحكيم والخوئي ـ رضوان الله تعالى عليهما ـ إلى الجواز في فرض الوصية (٢).

__________________

(١) للمؤلف الفقير كلية واحدة مأخوذة من أخيه الحاج محمّد عارف جزاه الله خير الجزاء واطال عمره وقد فسدت كليتاي فأجرى طبيب في لندن عملية ناجحة قبل سنوات.

(٢) لاحظ منهاج الصالحين وتوضيح المسائل ص ٥٦٠.

١٧٧

وهذا هو الاَظهر إنْ شاء الله تعالى ـ سواء كانت الوصية تبرعية أو بأخذ عوض ـ خلافاً لما ذكرناه في الجزء الاَوّل والثاني من كتابنا حدود الشريعة قبل سنوات ، وأمّا في غير الوصية ففيه إشكال أو منع (١) ، بل ربما يشكل القطع في فرض توقف حياة أحد بالفعل عليه ، لاَنّ وجوب حفظ نفس محترمة بهذا النحو لم يثبت في حقّ الاَحياء حتّى يجوز أو يجب في المقام ، فتأمل ، والله العالم.

ولكن غير واحد من فقهائنا المعاصرين اجازوا قطع أعضاء الميت ، عند حفظ النفس المحترمة عن الهلاك (٢).

وأما جواز القطع بإذن أولياء الميت في فرض عدم وصيته به ففيه نظر أو منع لعدم شمول ولايتهم لمثل ذلك فلا عبرة باذنهم.

فإن قلت : مقتضى انصراف الاَحاديث المتقدمة هو عدم حرمة القطع على القاطعين ان صح الوصية لا جواز الوصية أي صحتها.

قلت : إنّ سلطة الانسان على ماله وبدنه ثابتة ببناء العقلاء وانما منعنا جواز قطع بعض الاَعضاء وترددنا في جواز قطع بعض الاعضاء الآخر في حال الحياة لدليل خارجي مفقود في حال الموت ، فإنه فرق كثير بين الحالتين ولا موضوع للضرر بعد الموت ، فلاحظ وتدبر ، وسيأتي ما يتعلق به في المسألة الخامسة والعشرين.

وعلى كل صرح السيّد الاُستاذ الخوئي قدس سره بعدم وجوب الدية على من قطع عضو الميت بوصية منه (٣).

__________________

(١) ان كثير من الناس يحتاجون إلى زرع القرنية واعطائهم النور. فلو جاز قطعه بلا وصية لاستفاد منها المحتاجون.

(٢) لاحظ فتاويهم في كتبهم الفتوائية.

(٣) توضيح المسائل ص ٥٦٠.

١٧٨

( الجهة الثالثة ) : إذا كان العضو المطلوب قطعه من الداخل كالكلية والقلب والرئة والكبد مثلاً جاز قطعه قبل غسل الميت وبعده ، وإذا كان من الظاهر كاليد مثلاً فلابد من أخذه ونزعه بعد الغسل جمعاً بين الحكمين ، إلاّ إذا كان تأخير قطعه إلى ما بعد الغسل مفسداً لزرعه في الحي ، فإنْ كان لحفظ حياته فلا شكّ في وجوبه فضلاً عن جوازه : ( ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعاً ) (١).

وان كان لدفع مشقة وحرج فلا يبعد الجواز إن شاء الله ، فيغسل بعد الزرع ، إنْ قيل بوجوب غسل المبان من الميت.

( الجهة الرابعة ) : هل يجب على القاطع أو الآمر في فرض جواز القطع أو وجوبه الدية؟

فيه احتمالات : الوجوب مطلقاً ، عدمه مطلقاً بناء على عدم اعتبار الوصية في جواز القطع أو وجوبه ، وجوبها في فرض عدم الوصية وعدمها في فرض الوصية. ولعلّ الاَخير أوجه ، فلاحظ وتأمّل.

( الجهة الخامسة ) : هل يجوز قطع أعضاء الميت للتشريح وتعليم طلاب كلية الطب بناء على وجوب تعلّم الطب بل وتعليمه وجوباً كفائياً؟

لا شكّ في جوازه من ميت غير مسلم وهو يوجد في أكثر بلاد المسلمين اليوم أو في جميعها ، ويلحق به من شُكّ في إسلامه ، وان فرض عدم تيسره في بلد فيمكن استيراده من بلد آخر ، فلا ملزم لاطالة البحث ، ومع وجود جثة غير مسلم لا إشكال في حرمة قطع أعضاء المسلم الميت (٢).

__________________

(١) المائدة ٣٢.

(٢) وفي جوازه مع وصية الميت وجه بالجواز في بعض الاعضاء وأما في جميعها بحيث استلزمت ترك الدفن الواجب أو النبش المحرم ففيه نظر.

١٧٩

( الجهة السادسة ) : يجب غسل مس الميت على مَن مسه بشروطه لاَي غرض طبي أو عاطفي ، وفي وجوبه بمس قطعة مبانة منه تفصيل بل خلاف ، وإذا شكّ الماس في أنّ الميت الممسوس قد غسل سابقاً حتّى لا يجب الغسل بمسه أم لم يغسل فيجب الغسل بمسه ، فإن جاؤا به من مقابر المسلمين يبنى على أنّه قد غسل وإلاّ ففيه نظر ، ولعل الاَظهر وجوب الغسل بمسه ، نعم إذا مسه مع ستر بلاستيكي أو غيره لم يجب الغسل بلا شكّ.

١٨٠